ضوابط المنهج العلمي الصحيح في الدعوة إلى الله، في الرد على والشبهات والافتراءات… د. ناجي بن وقدان

 

 

 

 

قبل أن أبدأ الحديث عن ضوابط المنهج العلمي الصحيح في الدعوة إلى الله، أود التعريف بكلمة( ضوابط ) في اللغة والاصطلاح، حتى تتضح الرؤيا

حولها وحول ما ترمي إليه في هذا المبحث.

الضوابط في اللغة:

قال ابن منظور: الضبط: لزوم الشيء وحبسه، ضبط عليه وضبطه يضبط ، قوله يضبط شكل في الأصل في غير موضع بضم الباء، وهو مقتضى اطلاق المجد وضبط هامش نسخة من النهاية يوثق بها، لكن الذي في المصباح والمختار أَنه من باب ضرب.) ضبطا وضباطة، وقال الليث: الضبط لزوم شيء لا يفارقه في كل شيء، وضبط الشيء حفظه بالحزم، والرجل ضابط أَي حازِمٌ.[1]

وقال ابن فارس: الضاد والباء والطاء أصلٌ صحيحٌ. ضَبَطَ الشَّيء ضَبْطاً، والأضبط الذي يَعمل بيديه جميعاً.[2]

وقال الجوهري: ضَبْطُ الشيءِ: حفظُه بالحزم، والرجلُ ضابطٌ، أي حازمٌ، والأَضْبَطُ الذي يعمل بكِلْتا يديه، تقول منه: ضَبِطَ الرجل بالكسر يَضْبَطُ، والأنثى ضَبْطاءُ.[3]

الضوابط في الاصطلاح:

قال الجرجاني: إسماع الكلام كما يحق سماعه ثم فهم معناه الذي أريد به ثم حفظه ببذل مجهوده والثبات عليه بمذكرته إلى حين أدائه إلى غيره.[4]

بعد أن تم التعريف بهذه الكلمة في اللغة والاصطلاح، واتضح لنا مدلولها، نبين تلك الضوابط التي ينضبط بها المنهج الدعوي ، والتي تصحح مساره، وتسبر طرقه، وتحقق له النتائج المرجوة، ومن هذه الضوابط ما يلي:

أولا: من المتفق عليه بين العلماء أن الدعوة إلى الله تعالى عبادة يرجو بها الداعية الأجر والمثوبة من الله، وهي مأمور بها شرعا، كما قال عز وجل (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)  آل عمران: ١٠٤  ، وقوله عز وجل( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل: ١٢٥، فلا بد فيها من تحقق شرطين أساسيين، وهما:

1) الإخلاص لله، وهذا المطلب يدخل في كل ما يتقرب به العبد إلى الله من الطاعات والعبادات، كما قال عز وجل (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) البينة: ٥ ، و كما في حديث عمر بن الخطاب t على المنبر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ” إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما جاهر إليه”[5]، ولا تصح عبادة أو طاعة أو عمل ما لم يكن العبد فيها مخلصا لله تعالى ، كما قال عز وجل (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) الفرقان: ٢٣ قال ابن كثير –رحمه الله- ” فكل عمل لا يكون خالصا، وعلى الشريعة المرضية فهو باطل”[6].

2) المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، وقد أمر الله بمتابعته وطاعته فقال عز وجل( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ)الأنفال: ٢٠ ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) آل عمران: ٣١ وعن عائشة رضي الله عنها تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد”[7].

إذا فالإخلاص والمتابعة شرطان وضابطان أساسيان في قبول الأعمال ولا غنى لمسلم عامل منها، ويوم القيامة تقبل بهما الأعمال أو ترد.

ثانيا: لا يلتفت الداعية إلى الله المخلص والمتابع لكثرة القابلين لدعوته، وإنما يلتفت إلى أن تكون دعوته موافقة للصواب والسنة، فقد كان النبي معه الإثنان والنبي معه الثلاثة وهكذا ، لهذا يقول الله جل وعلا (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) يوسف: ١٠٣، وقوله عز وجل (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)القصص: ٥٦  ، إن الداعية قد يلتفت إلى الكثرة، وإذا التفت إلى الكثرة فإنه خالف أصل الدعوة، فالموافقة للصواب والسنة هو الأولى، سواء قَبِل الناس أم لم يقبلوا، ولهذا الأنبياء والمرسلون كان المستجيبون لهم قليلا، فذاك نوح عليه السلام كمثال حي لبث في قومه تسعمائة وخمسون سنة ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل كما حكى الله عنه بقوله ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) هود: ٤٠.

ثالثا: من الأمور المهمة في حياة الداعية إلى الله تعالى العناية بأن يبدأ بالأهم ثم المهم من أمور الدعوة ومضمونها ، ومن ذلك البدء بعقيدة التوحيد وترسيخها في قلوب الناس، فإنها القاعدة المهمة التي ترتكز عليها بقية الأعمال، وهذا القاعدة ظاهرة في حديث معاذ رضي الله عنه المشهور لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن قال ” إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس “[8] فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتدرج في دعوة أولئك القوم، وليبدأ بقاعدة الدين وهي التوحيد، ثم يتدرج فيما بعدها من أمور العبادات،  وهذا أصل مهم في أن الداعية لا بد له أن يرعى البداءة بالأهم فالمهم.

رابعا: من ضوابط المنهج الدعوي الصحيح أيضا  أن يكون الداعية صاحب علم، وعالما بما يدعو إليه، فالداعية إلى الله يدعو إلى الله جل وعلا على بصيرة وعلم كما قال عز وجل (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)يوسف: ١٠٨ ، وكذلك يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عالما بما يأمر به وبما ينهى عنه ، إذ لا بد للداعية من العلم الصحيح من الكتاب والسنة، متفقا على أيدي من سبقوه من العلماء والدعاة الذين يبصرونه بما يتوجب عليه حال تصديه للدعوة إلى الله.

خامسا: من ضوابط المنهج الدعوي الصحيح ، أن يقوم الداعية إلى الله تعالى بالتعاون مع إخوانه في ميدان الدعوة على البر والتقوى، والتواصي بالحق ، واستشارة أهل العلم والخبرة فيما يعرض له من أمور تلتبس عليه، وهذا أصل جاء به القرآن الكريم والسنة الشريفة، كما قال تعالى ﭽ ﯭ  ﯮ  ﯯ  ﯰﯱ  ﯲ  ﯳ   ﯴ  ﯵ     ﯶﯷ  ﭼ المائدة: ٢ ، عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن وقال ” يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا”[9]

سادسا: ومن ضوابط المنهج الدعوي أيضا  أن يراعي الداعية إلى الله في دعوته الناس ، الأمور الاجتهادية والخلافية، حتى لا يصطدم بأهواء الناس وما جبلوا عليه من الجدال والخلاف والخصام، الذي قد يفضي إلى إفساد دعوته ومنهجه، وصدود الناس عنه، فلا يحصل له المقصود من دعوته وهداية الناس، وليرجع إلى أهل العلم في مثل هذه المسائل الخلافية والاجتهادية، وليحرص على جمع الكلمة، ولم شعث الأمة، ولا سيما في هذه الأزمنة الحالكة، التي يتربص فيها أعداء الإسلام لمثل هذه الفجوات الخطيرة. ولكن الذي يجب التنبه إليه هو أن بعض الناس، يجعل القاعدة لا إنكار في مسائل الخلاف، عامة في كل خلاف، وهذا غلط، فمسائل الخلاف كثيرة والمسائل المجمع عليها قليلة، فما ثَم مسألة إلا والخلاف قائم فيها إلا ما أُجمع عليه وهو قليل بالنسبة إلى كثرة المسائل المختلف فيها، فلو قيل لا إنكار في كل مسألة اُختلف فيها، صار المجال واسعا ولا ينكر إلا ما خولف فيه الإجماع، وهذا باطل، بل ينكر على من خالف الكتاب والسنة، لأن من ذهب إلى قول من الأقوال، قد يكون هذا القول مخالف للسنة، وقد يكون صاحب القول ما فقه الدليل، أو قد يكون له عذر، ولكن المتوجب إذا اتضحت السنة وجب اتباعها ولم يُعذر أحد بمخالفتها، وإذا خالفها فإنه ينكر عليه ويبين لأن حماية دين الله أعز من احترام الناس أو احترام شخصياتهم و أقوالهم وآرائهم.

سابعا: من ضوابط المنهج الدعوي العلمي الصحيح أيضا، أن يكون الداعية إلى الله تعالى مصلحا لنفسه قبل أن يصلح الآخرين، فإنه هو المطالَب بأن يستقيم ثم من تاب معه، كما قال عز وجل(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) هود: ١١٢، وأن يكون أسوة وقدوة حسنة للناس فيما يدعو إليه، فبقدر ما يكون الداعية قدوة حسنة للناس، بقدر ما يكون تأثيره أقوى في نفوسهم، وقد ذم الله قوما خالفوا هذا المنهج القويم فقال سبحانه( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) البقرة: ٤٤.

ثامنا: ومن ضوابط المنهج الدعوي العلمي الصحيح، التزام الداعية إلى الله تعالى بمنهج سلف هذه الأمة المتمثل في منهج أهل السنة والجماعة وتعميقه، والمعروف بوسطيته، وشموليته، واعتداله، وبعده عن الإفراط والتفريط.

       فهذه بعضا من الضوابط التي ينبغي لكل داعية إلى الله الالتزام بها، والعمل بمقتضاها، ضمانا لنجاح دعوته، وقبول الناس لها، وبعدا عن كل ما قد يضر به وبها، وهي مما استنبطه العلماء والدعاة إلى الله من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعمال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن سار على منهجم، واقتفى أثرهم. بل هي ثمرة وزبدة تجارب لكثير من العلماء والدعاة إلى الله تعالى، ولنعلم يقينا أن الدعاة إلى الله لو فقهوا هذه الضوابط وعملوا بها لكان في ذلك خير كثير لمسيرة الدعوة، وخصوصا فيما يتصل بالرد على شبهات أهل الأهواء من المستشرقين وغيرهم، ودحر أباطيلهم وشبههم، وما على الداعية إلا البذل والعمل والعطاء، وأما النتائج فهي بيد الله سبحانه، فهو من بيده الهداية، وهو الذي يقلب القلوب كيف يشاء.

[1] لسان العرب لابن منظور مادة ضبط.

[2] مقاييس اللغة لابن فارس مادة ضبط.

[3] الصحاح في اللغة للجوهري مادة ضبط.

[4] التعريفات، علي بن محمد بن علي الجرجاني، تحقيق ، إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي ، بيروت،1405، باب الضاد، 1/179.

[5] رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب مقدمة الشارح، 1/1، الحديث رقم 1.

[6] تفسير ابن كثير 3/0295

[7] رواه أحمد 6/180 الحديث رقم 25511 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/247 الحديث رقم 248.

[8] متفق عليه، رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس، 2/529، الحديث رقم 1389 ومسلم ، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين، 1/50 الحديث رقم 31.

[9] رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف، 3/1104، الحديث رقم 2873.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *