(فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد)…. د. ناجي بن وقدان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

القرآن كلام الله عز وجل على وجه الحقيقة خير ما يُذَكر به ويليه ما صح من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ )[1]قال الإمام الطبري رحمه الله( يقول تعالى ذكره: فذكر يا محمد بهذا القرآن الذي أنـزلته إليه من يخاف الوعيد الذي أوعدته من عصاني وخالف أمري)[2]،وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:قالوا يا رسول الله لو خوّفتنا؟ فنـزلت ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ )[3].

والعبد في غفلة عن النهاية الكبرى واللقاء الأعظم ,التي يغادر بها الدنيا ويلقى بها ربه جل وعلا في اللقاء العظيم الذي به يسعد وينجوا أو يبأس ويهلك.

ومن المفترض على العبد أن يعمل ويجتهد ويبذل أسباب النجاة ويُعد لذلك اليوم الذي فيه تنكشف الحقائق،وتظهر الخفايا، وينكشف الغطاء، وعندها يكون الناس ما بين رابح وخاسر، فالرابح يفرح بربحه، والخاسر يندم ويتحسر على تفريطه وإضاعته لعمره،كما قال عز وجل ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا )[4]، قال بن كثير رحمه الله(يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول وما جاء به من عند الله من الحق المبين ، الذي لا مرية فيه ، وسلك طريقا أخرى غير سبيل الرسول ، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم ، وعض على يديه حسرة وأسفا ،وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط أو غيره من الأشقياء ، فإنها عامة في كل ظالم ، كما قال تعالى ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ) (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ) ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا )[5] فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم ، ويعض على يديه قائلا ( يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا )[6].

والله عز وجل يُسدل على عبده ثوب ستره في الدنيا إذا تاب وأناب ورجع واستغفر وحقق التوبة الصحيحة بشروطها، واستقام على هديه وشرعه ومات على ذلك، كما قال تعالى(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )[7]،فإن ستر الله يناله يوم القيامة فيستره ويدخله برحمته جنته، أما إذا تمادى العبد في غيه ولم يتب وداهمه الموت على هذه الحال،فإنه في خطر عظيم ،ومات على غفلة شديدة، وبهذا يكشف الله غطاءه ويُظهر خفاياه، ويواجه غفلته وأعماله عيانا أمامه لا يستطيع إنكار أيا منها، ويقال له (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[8] ،قال ابن كثير رحمه الله(أن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر لأن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة والدنيا كالمنام ،وهذا اختيار ابن جرير ، ونقله عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، والظاهر من السياق خلاف هذا ، بل الخطاب مع الإنسان من حيث هو ، والمراد بقوله : ( لقد كنت في غفلة من هذا ) يعني من هذا اليوم ، ( فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) أي : قوي لأن كل واحد يوم القيامة يكون مستبصرا حتى الكفار في الدنيا يكونون يوم القيامة على الاستقامة ، لكن لا ينفعهم ذلك كما قال الله تعالى ( أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا )[9] ، وقال تعالى( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون )[10].

والعبد في الدنيا لا يبصر حقيقة الأمر والمعاينة في الآخرة،لما للدنيا من تأثير قوي على العقول والقلوب،فيزداد نومه،ويكثر إعراضه، ويركن إلى المتاع الزائل،والبهرج الفاني، فتتعاظم في قلبه الغفلة والظلمة والران، فينسى ذلك اليوم العظيم،قال الإمام السعدي رحمه الله(فكشفنا عنك غطاءك) الذي غطى قلبك فكثر نومك واستمر إعراضك   فبصرك اليوم حديد   ينظر ما يزعجه ويروعه من أنواع العذاب والنكال أو هذا خطاب من الله للعبد فإنه في الدنيا في غفلة عما خلق له ولكنه يوم القيامة ينتبه ويزول عنه وسنه في وقت لا يمكنه أن يتدارك الفارط ولا يستدرك الفائت وهذا كله تخويف من الله للعباد وترهيب بذكر ما يكون على المكذبين في ذلك اليوم العظيم )[11].

وجاء في أنوار التنزيل للبيضاوي ما نصه( لقد كنت في غفلة من هذا) على إضمار القول والخطاب   لكل نفس   إذ ما من أحد إلا وله اشتغال ما عن الآخرة أو للكافر   فكشفنا عنك غطاءك   الغطاء الحاجب لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والإلف بها وقصور النظر عليها   فبصرك اليوم حديد   نافذ لزوال المانع للأبصار وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى كنت في غفلة من أمر الديانة فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن   فبصرك اليوم حديد   ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون ويؤيد الأول قراءة من كسر التاء والكافات على خطاب النفس)[12].

وخلاصة القول أن على العاقل الحصيف أن يتدارك أمره، ويستدرك عمره،ويستحضر عظمة ذلك اليوم الذي تشيب لهوله الرؤوس، وتتفطر الأبدان،وتنكشف الأغطية،وتظهر الحقائق، ولا ينتظر ساعة الندم والحسرة في ذلك اليوم، بل يجد ويجتهد،ولا يألوا جهدا في القربة والعمل الصالح،وليحذر الغفلة داء القلوب، وليكن بينه وبين ربه خبيئة تنفعه،ومندوحة تستره( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[13] .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] سورة ق 45.

[2] تفسير الطبري ص 520.

[3] المرجع الذي قبله.

[4] سورة الفرقان آية 27.

[5] سورة الأحزاب 66-68.

[6] تفسير بن كثير ص 362.

[7] سورة الزمر 53.

 [8] سورة ق 22.

[9] سورة مريم 38.

[10] سورة السجدة 12.

[11] تفسير السعدي ج1/ص805.

[12] أنوار التنزيل وأسرار التأويل ج5/ص228.

[13] سورة البقرة 281.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *