الشرح الممتع على زاد المستقنع للشيخ ابن عثيمين رحمه الله- باب نواقض الوضوء …. د. ناجي بن وقدان

بابُ نَواقِضِ الوُضُوءِ:

يَنْقُضُ ما خَرَجَ من سَبِيلٍ ……….

النَّواقض: جمعُ ناقض؛ لأن «ناقض» اسم فاعل لغير العاقل، وجمعُ اسمِ الفَاعل لغير العاقل على «فواعل».

والوُضُوء بالضَّمِّ: الطَّهارة التي يرتفع بها الحَدَث، وبالفتح: الماءُ الذي يُتَوَضَّأُ به كما يُقال: طَهُور بالفتح: لما يُتَطَهَّرُ به، بالضَّمِّ لنفس الفعل، وسَحور بالفتح: لما يُتَسَحَّرُ به، وبالضَّمِّ لنفس الفعل الذي هو الأكل.

ونواقض الوُضُوء: مفسداتُه، أي: التي إِذا طرأت عليه أفسدته.

والنَّواقض نوعان:

الأول: مجمع عليه، وهو المستند إلى كتاب الله وسُنَّةِ رسوله .

الثاني: فيه خلافٌ، وهو المبنيُّ على اجتهادات أهل العلم .

وعند النِّزاع يجب الردُّ إلى كتاب الله وسُنَّةِ رسوله .

قوله: «ينقضُ ما خَرَجَ من سَبيلٍ»، هذا هو النَّاقض الأوَّل من نواقض الوُضُوء.

وقوله: «ما خرج من سبيل»، ما: اسم موصول بمعنى الذي، وهو للعموم، وكلُّ أسماء الموصولات للعموم؛ سواء

كانت خاصَّة، أم مشتركة، فالخاصة: هي التي تدلُّ على المفرد، والمثنى، والجمع مثل: الذي، اللَّذَيْنِ، الذين.

والمشتركة: هي الصَّالحة للمفرد وغيره مثل: «مَنْ»، «ما»، فقوله: «ما خرج من سبيل» يشمل كلَّ خارج.

و «من سبيل» مطلق يتناول القُبُل، والدُّبر، وسُمِّيَ «سبيلاً»، لأنَّه طريق يخرج منه الخارج.

وقوله: «ما خرج» عام يشمل المعتاد وغير المعتاد؛ ويشمل الطَّاهر والنَّجس (المغني 1/230)، فالمعتاد كالبول، والغائط، والرِّيح من الدُّبر، قال الله تعالى: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ [المائدة: ٦].

وفي حديث صفوان بن عَسَّال: «ولكن من بول، وغائط، ونوم» .

وفي حديث أبي هريرة، وعبد الله بن زيد : «لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً» 

وغير المعتاد: كالرِّيح من القُبُل.

واختلف الفقهاء  فيما إذا خرجت الرِّيحُ من القُبُل؟

فقال بعضهم: تنقض وهو المذهب (الإقناع 1/57).

وقال آخرون: لا تنقض (الإنصاف 2/5).

وهذه الرِّيح تخرج أحياناً من فُروج النساء، ولا أظنُّها تخرج من الرِّجَال، اللهم إلا نادراً جداً.

وتنقضُ الحصاةُ إِذا خرجت من القُبُل، أو الدُّبُر؛ لأنه قد يُصابُ بحصوة في الكِلى، ثم تنزلُ حتى تخرجَ من ذكره بدون بول.

ولو ابتلع خرزة، فخرجت من دبره، فإِنه ينتقض وضوءُه لدخوله في قوله: «ينقض ما خرج من سبيل».

ويشمل الطَّاهر: كالمنيِّ.

والنَّجس ما عداه من بولٍ، ومذيٍ، ووَدْيٍ، ودَمٍ.

وهذا هو النَّاقض الأوَّل، وهو ثابت بالنَّصِّ، والإِجماع، إِلا ما لم يكن معتاداً، ففيه الخلاف (المغني 1/230).

وخَارجٌ مِنْ بَقيَّةِ البَدَنِ إِنْ كَان بَوْلاً، أو غَائِطاً، ……….

قوله: «وخارج من بقية البدن إن كان بولاً، أو غائطاً»، هذا هو النَّاقض الثَّاني من نواقض الوُضُوء.

وهو معطوف على «ما»، أي: وينقضُ خارجٌ من بقيَّة البَدن، إن كان بولاً، أو غائطاً، وهذا ممكن ولا سيَّما في العصور المتأخِّرة، كأن يُجرى للإِنسان عمليَّةٌ جراحيَّةٌ حتى يخرج الخارج من جهة أخرى.

فإِذا خرج بول، أو غائط من أيِّ مكان فهو ناقض، قلَّ أو كَثُرَ.

وقال بعض أهل العلم: إن كان المخرج من فوق المعدة

فهو كالقيء، وإن كان من تحتها فهو كالغائط، وهذا اختيار ابن عقيل  (الإنصاف١/ ٢١٨)، (٢/ ١١، ١٢). وهذا قولٌ جيد، بدليل: أنه إِذا تقيَّأ من المعدة، فإنه لا ينتقض وضوءُه على القول الرَّاجح، أو ينتقض إِن كان كثيراً على المشهور من المذهب.

ويُستثنى مما سبق مَنْ حَدَثُه دائمٌ، فإِنَّه لا ينتقضُ وضوءهُ بخروجه؛ كَمَنْ به سلسُ بول، أو ريح، أو غائط، وله حال خاصَّةٌ في التطهُّر تأتي إن شاء الله ،وظاهر قوله: «إن كان بولاً، أو غائطاً»، أن الرِّيح لا تنقض إِذا خرجت من هذا المكان الذي فُتِحَ عوضاً عن المخرج، ولو كانت ذات رائحة كريهة، وهذا ما مشى عليه المؤلِّف، وهو المذهب.

وقال بعضُ العلماء: إِنها تنقضُ الوُضُوء (الإنصاف (٢/ ١٣)، لأن المخرج إِذا انسدَّ وانفتح غيره كان له حكمُ الفَرج في الخارج، لا في المسِّ، لأنَّ مسَّه لا ينقض الوُضُوء كما سيأتي إن شاء الله .

أو كثيراً نَجساً غَيْرَهُما …………

قوله: «أو كثيراً نجساً غيرَهُما»، أي: أو كان كثيراً نجساً غير البول والغائط، فقيَّد المؤلِّفُ غير البول، والغائط بقيدين.

الأول: كونُه كثيراً.

الثاني: أن يكون نجساً.

ولم يقيِّد البولَ والغائط بالكثير النَّجس؛ لأن كليهما نجس، ولأنَّ قليلَهُما وكثيرَهُما ينقض الوُضُوء.

وقوله: «أو كثيراً»، أطلق المؤلِّف الكثير، والقاعدة المعروفة: أنَّ ما أتى، ولم يُحدَّدْ بالشَّرع فمرجعُه إلى العُرف، كما قيل:

وكلُّ ما أتى ولم يحدَّدِ

بالشَّرع كالحِرْزِ فبالعُرف احدُدِ (منظومة في أصول الفقه وقواعد فقهية ص (١٦)، فالكثير: بحسب عُرف النَّاس، فإن قالوا: هذا كثيرٌ، صار كثيراً، وإن قالوا: هذا قليلٌ، صار قليلاً.

وقال بعض العلماء: إِن المعتبر عند كلِّ أحد بحسبه (الإنصاف 2/16)، فكلُّ من رأى أنَّه كثيرٌ صار كثيراً، وكلُّ من رأى أنه قليلٌ صار قليلاً.

وهذا القول فيه نظر؛ لأنَّ من النَّاس من عنده وسواس، فالنُّقطَةُ الواحدة عنده كثيرة، ومنهم من عنده تهاون فإِذا خرج منه دم كثير قال: هذا قليل.

والصَّحيح الأول: أن المعتبر ما اعتبره أوساط النَّاس، فما اعتبروه كثيراً فهو كثير، وما اعتبروه قليلاً فهو قليل.

وقوله: «نجساً غيرَهُما»، نجساً: احترازاً من الطَّاهر، فإِذا خرج من بقية البدن شيء طاهر، ولو كَثُرَ فإِنه غيرُ ناقض كالعَرَق، واللُّعاب ودمع العين.

وقوله: «غيرَهُما» أي: غير البول والغائط، فدخل في هذا الدَّمُ، والقيءُ، ودَمُ الجروح، وماءُ الجروحِ وكلُّ ما يمكن أن يخرج مما ليس بطاهر.

فالمشهور من المذهب أنَّه إذا كان كثيراً إِما عُرفاً، أو كل إِنسان بحسب نفسه ـ على حسب الخلاف السابق ـ أنَّه ينقض الوُضُوء، وإن كان قليلاً لم ينقض.

واستدلُّوا على ذلك بما يلي:

١ – أن النبيَّ  قَاءَ، فأفطرَ، فتوضَّأ (رواه أبو داود والترمذي). وقد قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]، فلما توضَّأ بعد أن قاء فالأُسوة الحسنة أن نفعل كفعله.

٢ – أنها فضلات خرجت من البدن فأشبهت البول والغائط، لكن لم تأخذْ حكمهما من كلِّ وجهٍ؛ لاختلاف المخرج، فتُعطى حكمهما من وجه دون وجه، فالبول والغائطُ ينقض قليلهُ وكثيرُه؛ لخروجه من المخرج، وغيرهما لا ينقض إلا الكثير.

وذهب الشافعيُّ، والفقهاءُ السَّبعةُ (المغني 1/247) وهم المجموعون في قول بعضهم:إِذا قيل مَنْ في العلم سبعة أبْحُرٍ روايتهم ليست عن العلم خَارِجَه.

فقل: هم عُبَيدُ الله، عروة، قاسمٌ

سعيدٌ، أبو بكرٍ، سليمانُ، خارجه (إعلام الموقعين (١/ ٢٣) ،إلى أنَّ الخارج من غير السَّبيلين لا ينقض الوُضُوء قلَّ أو كثُر إلا البول والغائط، وهذا هو القول الثاني في المذهب (الإنصاف 2/13)، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى 20/526)، واستدلُّوا بما يلي:

١ ـ أن الأصل عدم النَّقض، فمن ادَّعى خلاف الأصل فعليه الدَّليل.

٢ ـ أن طهارته ثبتت بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي، فإنه لا يمكن رفعه إِلا بدليل شرعي.

ونحن لا نخرجُ عمّا دلَّ عليه كتاب الله، وسُنَّة رسوله ، لأننا متعبَّدون بشرع الله، فلا يسوغ لنا أن نلزم عباد الله بطهارةٍ لم تجبْ، ولا أن نرفَعَ عنهم طهارةً واجبة.

وأما الحديث الذي استدلُّوا به على نقض الوُضُوء فقد ضعَّفه كثيرٌ من أهل العلم. وأيضاً: هو مجرد فعل، ومجرد الفعل لا يدلُّ على الوجوب؛ لأنه خالٍ من الأمر. وأيضاً: هو مقابل بحديث ـ وإِن كان ضعيفاً ـ أنَّ النبيَّ  احتجم، وصلَّى، ولم يتوضَّأ (رواه البيهقي). وهذا يدلُّ على أن الوُضُوء ليس على سبيل الوجوب، وهذا هوالقول الرَّاجح.  1/274

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *