في الجاهلية، كان أسيد بن الحُضير بن سماك الأوسي من أشـراف العـرب وزعماء المدينة ورماتها الأفذاذ، ورث عن أبيه حضير الكتائب زعيم الأوس مكانته وشجاعته وجـوده.
بدأت قصة إسلام أسيد بن الحُضير، عندما أرسل رسول الله – عليه الصلاة والسلام – مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار، وليدعو غيرهم إلى دين الله، وعلم سعد بن معاذ، وكان صديقاً لأسيد، فأراد أن يحرضه على مصعب، فقال: انطلق إلى هذا الرجل فازجره، فحمل أسيد حربته، وذهب إلى مصعب الذي كان في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا إلى الإسلام، وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في اهتمام للكلمات التي يدعوهم بها مصعب إلى الله. وفاجأهم أسيد بغضبه وثورته، فقال له مصعب: هل لك في أن تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرنا قبلته وإن كرهته كففنا عنك ما تكره. فقال أسيد: هات ما عندك، وراح مصعب يقرأ القرآن ويشرح مبادئ الإسلام.
وبدأ قلب أسيد يرق ووجهه يســتشرق. فقال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله، كـيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟. فقال مصعب: تطهر بدنك، وثوبك، وتشهد شهادة الحق، ثم تصلي. فقام ليستقبل الإسلام فاغتسل وتطهر، ثم سجد لله رب العالمين معلناً إسلامه.
كان هذا الصحابي الكريم مولعًا بالقرآن .. وله مع قراءة القرآن قصة عجيبة .. ففي إحدى الليالي أراد أن يحييها بقراءة القرآن وبجانبه صغيره “يحيي” وفرسة التي أعدها للجهاد مربوطة بجانبه، وبدأ في قراءة سورة البقرة، فما أن قال: {الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}. حتى هاجت فرسه وجالت حتى كادت تقطع الحبل الذي يربطها، فخاف على ولده يحيى أن تدوسه الفرس فسكت أسيد .. فسكنت الفرس.
ثم عاود القراءة: {أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .. فهاجت الفرس مرة أخرى وجالت أكثر من ذي قبل، فخاف على ولده يحيى فتوقف عن القراءة، فسكنت الفرس.
وجرب القراءة مرة ثالثة فحدث مثلما حدث، فذهب إلى ابنه الراقد بجانبه وحمله وحينها رفع بصره إلى السماء فرأى غمامة كالمظلة لم تر العين أروع ولا أبهى منها قط وقد عُلِق بها ما يشبه المصابيح، فملأت الآفاق ضياءً وسناءً، وظلت تصعد إلى الأعلى حتى غابت عن ناظريه.
وفي الصباح ذهب مسرعًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقص عليه ما حدث، فطمأنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: “وتدري ما ذاك؟”. قال أُسيد: لا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم”.
توفي أُسَيد في شهر شعبان سنة 20 من الهجرة، ودفن في البقيع، وحملة نعشه خليفة المسلمين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عليه دين أربعة آلاف درهم فبيعت أرضه، فقال عمر: لا أترك بني أخي عالة. فردَّ الأرض وباع ثمرها من الغُرماء أربع سنين بأربعة آلاف، كل سنة ألف درهم.