الشرح الممتع على زاد المستقنع للشيخ محمد بن عثيمين

في الغالب إلاَّ في آخر النَّهار، لكن لما كان ناشئاً عن طاعة الله صار أطيبَ عند الله من ريح المسك، وإِذا كان أطيبَ عند الله من ريح المسك فإِنَّه لا ينبغي أن يُزالَ، بدليل أنَّ دمَ الشَّهيد الذي عليه لا يُزالُ، بل يجب أن يبقى عليه وأن يُدفن في ثيابه وبدمائه، كما أمر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك في شُهداء أحد (رواه البخاري)، قالوا: فكلُّ ما كان ناشئاً عن طاعة الله فإِنه لا ينبغي إِزالتُه، ولذلك كُرِه للصَّائم التَّسوُّك بعد الزَّوال، وأما قبل الزَّوال فقالوا: يُستحب بيابس ويُباح برطب. فجعلوا السِّواك للصَّائم على ثلاثة أوجه: مباح برطب قبل الزَّوال، ومسنون بيابس قبل الزَّوال، ومكروه بعد الزَّوال مطلقاً (المغني 1/138).

واستدلُّوا على أنَّه مسنون للصَّائم قبل الزَّوال: بعموم الأدلة.

وعلى أنَّه مباح برطْبٍ: أنَّه لرطُوبته يُخشى أن يتسرَّب منه طعمٌ يصل إلى الحلق فيُخِلَّ بصيامه؛ ولهذا قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم للقيط بن صَبِرة: «وبالغْ في الاستنشاقِ إِلا أن تكونَ صائماً» رواه أحمد.

وأما كونه مكروهاً بعد الزَّوال فاستدلُّوا: بالأثر والنَّظر السابقين؛ الدَّالين على الكراهة.

وقال بعض العلماء: إِنه لا يُكرَهُ للصَّائم مطلقاً، بل هو سُنَّةٌ في حَقِّه كغيره (الإنصاف 1/242).

قال في «الإِقناع» ـ وهو من كتب الحنابلة المتأخِّرين؛ وهو غالباً على المذهب ـ: «وهو أظهر دليلاً» (الإقناع 1/31). وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (مجموع الفتاوى25/266).

واستدلُّوا: بعموم الأدلة الدَّالَّة على سُنِّيَّة السِّواك؛ كحديث عائشة رضي الله عنها السابق، فإن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يستثنِ شيئاً، والعام يجب إِبقاؤه على عمومه، إلا أن يَرِدَ مخصِّص له، وليس لهذا العموم مخصِّصٌ قائم.

وأما حديث عليٍّ فضعيف  لا يَقْوَى على تخصيص العموم؛ لأنَّ الضَّعيف ليس بحُجَّة، فلا يَقْوَى على إِثبات الحكم، وتخصيص العموم حكم؛ لأنه إِخراج لهذا المخصَّصِ عن الحكم العام؛ وإِثبات حكم خاصٍّ به، فيحتاج إلى ثبوت الدَّليل المخصِّصِ، وإِلا فلا يُقْبَلُ.

وأما التَّعليل فعليل من وجوه:

الوجه الأول: أن الذين قتلوا في سبيل الله، أُمِرْنا بأن نُبقيَ

دماءهم؛ لأنهم يُبْعثونَ يوم القيامة، الجرح يَثْعُبُ دماً، اللونُ لونُ الدَّمِ، والرِّيحُ ريحُ المسكِ، فلا ينبغي أن يُزالَ هذا الشَّيءُ الذي سيوجدُ يوم القيامة.

ونظير هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم في الذي مات في عرفة «كَفِّنُوه في ثَوبيه» (رواه البخاري)، ولهذا ينبغي فيمن مات محرماً أن لا نطلب له خِرْقَة جديدة، بل نكفِّنُه في ثياب إحرامه التي عليه؛ لأنه كما قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «يُبعث يوم القيامة ملبِّياً» (260).

الوجه الثاني: أنَّ ربط الحُكم بالزَّوال مُنتقضٌ؛ لأنه قد تحصُل هذه الرَّائحة قبل الزَّوال؛ لأن سبَبَها خلوُّ المعدة من الطَّعام، وإِذا لم يتسحَّر الإِنسان آخر الليل فإِنَّ معدته ستخلو مبكِّرة؛ وهم لا يقولون: متى وُجِدت الرَّائحة الكريهة كُرِه السِّواك؟!

الوجه الثالث: أنَّ من النَّاس من لا توجد عنده هذه الرَّائحة الكريهة، إِما لصفاء معدته، أو لأنَّه معدته لا تهضم بسرعة، فتكون هذه العِلَّة منتقضة، وإِذا انتقضت العِلَّة انتقض المعلول؛ لأن العِلَّة أصلٌ والمعلول فرعٌ.

والرَّاجح أن السِّواك سُنَّةٌ حتى للصَّائم قبل الزَّوال وبعده، ويؤيِّده حديث عامر بن ربيعة ـ والذي ذَكَره البخاريُّ تعليقاً ـ: «رأيت النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَسْتَاك وهو صائمٌ، ما لا أُحصي أو أَعُدُّ» (رواه البخاري).

متأكِّدٌ عِنْدَ صلاةٍ، ………..

قوله: «مُتَأكّدٌ»، خبرٌ ثان، لقوله: «التَّسوُّك» وتعدُّد الأخبار جائز، قال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ *} [البروج] فالودودُ خبرٌ ثانٍ، ولا يجوزُ أن يكونَ صفةً للغفور؛ لأن «الغفور» نفسه صفة بالمعنى العام، لا بالمعنى النَّحْوي.

قوله: «عِنْدَ صَلاة»، والدَّليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتهم بالسِّواك عند كلِّ صلاة» . وكلمة «عند» في الحديث وفي كلام المؤلِّف تقتضي القُرْبَ، لأن العندية تقتضي قرب الشيء من الشيء، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206]، وكما قال في الكتاب الذي كتبه فهو عنده فوقَ العرش (رواه البخاري).

فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «عند كُلِّ صلاة» أي قُربها، وكُلَّما قَرُبَ منها فهو أفضل، وأما قول بعضهم: «عند الصَّلاة»: إِن المراد به الوُضُوء، فغير صحيح؛ لأن الوُضُوء قد يتقدَّمُ على الصَّلاة كثيراً،

ثم إِنَّ للوُضُوء استياكاً خاصًّا، وليس من شروط التَّسوُّك عند الصَّلاة أن يكون الفمُ وسخاً.

وقوله: «عند صلاةٍ» يشمل الفرضَ والنفلَ، وصلاةَ الجنازة لعموم الحديث ، أما سجود التِّلاوة فيُبنى على الخلاف:

فإِن قلنا: إِنَّه صلاة ـ كما هو المشهور من المذهب ـ سُنَّ السِّواك له، وإلا فلا، وكذلك سجود الشُّكر.

ولكن نقول: إِذا لم يكن مُتَأكّداً عند سجود التِّلاوة، فإِنه داخل في أنه مسنون كُلَّ وقت، لكن لا نعتقد أنَّه مسنونٌ من أجل هذا الشيء إِذا قلنا: إن سجود التلاوة ليس بصلاة.

وانْتِبَاهٍ، ………..

قوله: «وانتباهٍ»، أي يَتَأكَّدُ السِّواكُ عند الانتباه من النَّوم، والدَّليلُ قولُ حُذيفةَ بنِ اليمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِذا قامَ من الليل يَشُوصُ فاهُ بالسِّواك (رواه البخاري).

قال العلماء: معنى يشوص: يغسله ويدلكه بالسِّواك (المصباح المنير 1/327).

وظاهر كلام المؤلِّف: أنه يَتَأَكَّدُ عند الانتباه من نوم الليل، ومن نوم النَّهار؛ لأنه قال: «وانتباهٍ» ولم يخصَّ بالليل.

ولا يصحُّ أن يُستدلَّ بحديث حذيفة على تأكُّد السِّواك عند الانتباه من نوم النَّهار؛ لأن الدَّليل أخصُّ، ولا يمكن أن يُستَدَلَّ

بالأخصِّ على الأعمِّ. لكن يُقالُ: إِن حذيفة رأى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم عند الانتباه من نوم الليل، ولا يمنع أن يكون ذلك أيضاً عند الانتباه من نوم النهار؛ لأنّ العِلَّة واحدة، وهي تغيُّر الفَم بالنَّوم. فعلى هذا يتأكَّد كما قال المؤلِّف عند الانتباه من النَّوم مطلقاً، بالدَّليل في نوم الليل، وبالقياس في نوم النَّهار.

واعلم أن القياس الواضح الجليَّ يُعبِّر عنه بعضُ أهل العلم، كشيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله بالعموم المعنوي ، لأنَّ العموم يكون بالألفاظ، وقد يكون بالمعاني، بمعنى أنَّا إِذا تيقَّنَّا أو غلب على ظنِّنا أن هذا المعنى الذي جاء به النَّصُّ يشمل هذا المعنى الذي لم يدخل في النَّصِّ لفظاً؛ فإِننا نقول: دخل فيه بالعموم المعنوي. وإِذا قلنا: إِنَّه ثبت بالقياس الجليِّ فالأمر واضح؛ لأن الشَّريعة لا تفرِّق بين متماثلين.

وتَغَيُّرِ فَمٍ، ويَسْتَاكُ عَرْضاً، ………

قوله: «وتغيُّر فَم»، أي: يَتَأكَّد عندَ تغيُّر الفَمِ، والدَّليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «السِّواك مطهرة للفَمِ» (مجموع الفتاوى 6/439)، فمقتضى ذلك أنَّه متى احتاج الفَمُ إِلى تطهير كان مُتَأكّداً.

قوله: «ويستاكُ عَرضاً»، أي: عرضاً بالنِّسبة للأسنان، وطولاً بالنِّسبة للفَمِ، وقال بعض العلماء: يستاك طولاً بالنِّسبة للأسنان، لأنه أبلغ في التنظيف.

ويحتمل أن يُقال: يرجع إلى ما تقتضيه الحال، فإِذا اقتضت الحالُ أن يستاكَ طولاً، استاك طولاً، وإِذا اقتضت أن يستاكَ

عرضاً استاك عرضاً؛ لعدم ثبوت سُنَّة بيِّنَةٍ في ذلك.

مُبْتَدِئاً بِجَانِبِ فَمِهِ الأيْمَنِ، ……….

قوله: «مبتدِئاً بجانب فَمِه الأيمن»، والدَّليل أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم «كان يُعجبُه التيمُّن في تنعُّله، وترجُّله، وطُهوره، وفي شأنه كلِّه» (رواه البخاري).

واختلف العلماء هل يستاك باليد اليُمنى أو اليُسرى (مجموع الفتاوى21/108-113)؟

فقال بعضهم: باليمنى؛ لأن السِّواك سُنَّةٌ، والسُّنَّةُ طاعةٌ وقُربةٌ لله تعالى، فلا يكونُ باليُسرى؛ لأنَّ اليسرى تُقدَّم للأذى، بناءً على قاعدةٍ وهي: أن اليسرى تقدَّم للأذى، واليُمنى لما عداه.

وإذا كان عبادة فالأفضل أن يكون باليمين.

وقال آخرون: باليسار أفضل، وهو المشهور من المذهب؛ لأنَّه لإِزالة الأذى، وإِزالة الأذى تكون باليُسرى كالاستنجاء، والاستجمار.

وقال بعض المالكية: بالتَّفصيل، وهو إِنْ تسوَّك لتطهير الفَمِ كما لو استيقظ من نومه، أو لإزالة أثر الأكل والشُّرب فيكون باليسار؛ لأنه لإزالة الأذى (شرح الزرقاني 1/72).

وإِنْ تسوَّك لتحصيل السُّنَّة

فباليمين؛ لأنه مجرد قُربة، كما لو توضَّأ واستاك عند الوُضُوء، ثم حضر إِلى الصَّلاة قريباً فإِنَّه يستاك لتحصيل السُّنَّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *