الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .وبعد:
فضل العشر الأواخر من رمضان:
إن الله تعالى بحكمته فضل بعض الأزمنة على بعض، وجعل منها مواسم للتجارة الرابحة مع الله عز وجل، فكما فضل شهر رمضان على شهور السنة، فقد جعل العشر الأواخر منه أفضل لياليه، وزبدة أعماله، وجعل أيامها أكمل أيامه، وخصها بخصائص عن بقية أيام وليالي الشهر، وجعل فيها ليلة هي خير من ألف شهر، ولا يخفى على ذي لب ما تحمله هذه العشر المباركة من خير كثير ،وأجر كبير، ولا سيما أنها تضم ليلة العمر ،أزكى ليلة من ليالي هذا الشهر المبارك التي خصها الله بأجر وثواب مستقل.
الثلث الأخير :
فمن فضائل هذه العشر المباركة ،أنها ختام مبارك لشهر مبارك ،وهي الثلث الأخير منه، وهي نهاية الحصاد لشهر كامل، وخاتمة العمل والأعمال بالخواتيم.
ومن فضائلها، أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يعظم من شأنها ،ويجتهد فيها مالا يجتهد فيما قبلها من الليالي ،فيقوم ليله مجتهدا متفانيا بأنواع العبادات من صلاة وقيام وتلاوة قرآن وتسبيح وتهليل وتكبير واستغفار وصدقة وقربة، بقلبه وجوارحه مقبلا على الله، راجيا فضله وكرمه وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فعن عائشة رضي الله عنها قالت(كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا دخَل العشرُ شدَّ مِئزَرَه، وأحيى ليلَه، وأيقَظَ أهلَه)[1] ،وشد المئزر كناية عن الاجتهاد واعتزال النساء ومضاعفة العمل، ويحي ليله بأنواع العبادة والدعاء والتضرع.
ومن المؤسف جدا أن تَفْتُر العزائم وتضعف الهمم عند كثير من المسلمين اليوم عند دخول العشر ،فيتساوى العمل عندهم في أول الشهر وآخره ،وقد يضعف أكثر في آخره وختامه ،والعشر زبدة الشهر ولُبُّه، بل الأنكى من ذلك أن تجد من الناس من يتتبع الأوتار من العشر ويترك بقية الليالي، ظنا منه أن الأوتار هي محط ظهور ليلة القدر، وما يدري فقد يجعلها الله في الشفع لظاهر الأدلة فيها.
الاعتكاف :
ومن فضائل العشر المباركة، فضيلة الاعتكاف لمن قَدُر عليه وتوافرت له أسبابه ،من غروب الشمس يوم عشرين إلى غروب الشمس من آخر يوم في رمضان ،فيقضي المعتكف وقته بالمسجد في خلوة وانقطاع مع الله، يجول ما بين ذكر وعبادة وطاعة وقربة ، لا يشغل نفسه بشيء من أمور الدنيا وأهلها.
ليلة العمر :
ومن فضائل العشر المباركة، أنها تضم زهرتها ولبها وخير لياليها ،ليلة القدر التي قال الله فيها(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[2] وقال فيها نبينا صلى الله عليه وسلم(من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه)[3] ،وقد أخفى الله أمرها حتى يجتهد الناس في العشر في طلبها، وليعلم الصادق من الكاذب في طلبها، وقد قال بعض العلماء أنها تُرْجى في الأوتار من العشر، إما في الواحد والعشرين أو الثالث والعشرين أو الخامس والعشرين أو السابع والعشرين أو التاسع والعشرين، قال ابن عثيمين رحمه الله(ويجوز أن تكون في الليلة الثانية والعشرين والرابعة والعشرين والسادسة والعشرين والثامن والعشرين والثلاثين)[4] ، وآكد الكلام في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم(تَحَرَّوا ليلةَ القَدْرِ في العشرِ الأواخِرِ مِن رَمضانَ)[5] ،ولكي يضمن المسلم بحول الله مصادفتها فعليه العمل والقيام والاجتهاد في كل ليلة من العشر ،والعمل فيها أرجى من العمل في ألف شهر، كما قال عز وجل( ليلة القدر خير من ألف شهر )[6] وألف شهر تقارب 83 سنة وأربعة أشهر تقريبا فلو قسمنا 1000شهر على 12 لوجدنا الناتج 83 سنة وزيادة نحو ما قلنا، وهذا فضل من الله على عباده ،فقد لا يبلغ المسلم من العمر 83 سنة ولذلك يعطيه الله هذا الفضل في ليلة واحدة.
وأود أن أنبه إلى أمر يرتكبه الكثير من المسلمين في تخصيص ليلة القدر، كليلة سبع وعشرين مثلا، بصدقة أو عمرة أو زيادة عمل عما شرعه نبينا صلى الله عليه وسلم ،وكل ذلك من البدع المستحدثة التي لا نص عليها من كتاب ولا سنة ،وبهذا تكون مردودة على أصحابها ولا يقبلها الله، كما قال صلى الله عليه وسلم(من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد) أي مردود عليه، وفي رواية (من أحدث في أمرنا هذا(أي الإسلام) ما ليس منه فهو رد)[7] ،ولزوم هدي النبي عليه الصلاة والسلام أولى وأقرب إلى حصول الأجر ،وأسلم من الوقوع في المحدثات التي من شأنها إحباط العمل، ولم يرد في شأن ليلة القدر من العمل سوى القيام والتهجد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم(من قام ليلة القَدْر إيمَانا واحْتِسَابًا غُفِر له ما تَقدم من ذَنْبِه)[8].
ليلة القدر وكثرة الرؤى :
يُحكى عن ابن سيرين مفسر الرؤى أنه كانت تُعْرض عليه أربعين رؤيا فيفسر منها واحدة ويُعرض عن الباقي تورعا، بينما في زمننا هذا يظهر لنا بين الفينة والأخرى من أسرفوا في تفسير الأحلام والرؤى، وأصبح لهم منابر ومواقع في اليوتيوب وغيره، خطأهم أكثر من صوابهم يشوشون على الناس ويَلبسوا عليهم دينهم مما حدا بالناس إلى التعلق بهم وبالرؤى والأحلام خصوصا في صفوف النساء، ويظهر هذا الأمر في رمضان وفي عشره الأواخر بالذات، حيث يكثر تناقل الرؤى عن ليلة القدر وأنها في ليلة كذا ويوم كذا مما يسبب إرباكاً للناس فيتهافتون على تلك الليلة ولربما كانت الرؤيا أو تعبيرها خطأ، وقد استغل ضعاف النفوس عاطفة الناس الدينية فينشروا مثل هذه الأمور بهدف التشويش على الناس ، والسلامة لا يعدلها شيء ، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاجتهاد في العشر كلها خير وبركة وفيه أجر عظيم وزيادة في العمل الصالح ، فيُختم للمجتهد فيها بالخاتمة الطيبة، ويرزق ليلة القدر وما فيها من الخير العظيم.
ألا فليتقي الله أصحاب الرؤى ومعبريها في إخوانهم، وليتركوهم يعبدوا الله على هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويلتمسوا الخير في أيام معدودات قد لا تعود عليهم مرة أخرى، فإن الثابت في هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر، والله عز وجل قد أخفى أمرها ليعلم المجتهد من غيره، فعنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عنْهَا، قَالَتْ: كانَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجاوِرُ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رمضَانَ، ويَقُول(تحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في العشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضانَ)[9]،وَعَنْها رَضِيَ اللَّه عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ( تَحرّوْا لَيْلةَ القَدْرِ في الوتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَواخِرِ منْ رمَضَانَ)[10] ،وعَنْهَا رَضَيَ اللَّه عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذا دَخَلَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رمَضَانَ، أَحْيا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَه، وجَدَّ وَشَدَّ المِئزرَ)[11] ،وفي هذا دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام يجمع ما بين الاجتهاد في الطاعة، وبين تلمس ليلة القدر في هذه العشر المباركة.
وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي رَمضانَ مَالا يَجْتَهِدُ في غَيْرِهِ، وَفِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ منْه مَالا يَجْتَهدُ في غَيْرِهِ)[12] ،وَعَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِن عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولي( اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العفْوَ فاعْفُ عنِّي)[13].
قد يكون هناك بعض الروايات تشير إلى بعض الليالي كليلة سبع وعشرين ، إلا أن الصحيح أنها تبقى متنقلة في ليالي العشر فقد ظهرت عهد النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة إحدى وعشرين، وظهرت أعواما مضت في ليال أخرى.
النساء والعشر الأواخر:!!!!!!!!
خروج النساء إلى المساجد وخصوصا في هذه الأزمنة التي كثرت فيها الفتن وضَعْف الدين والإيمان وتساهل كثير من النساء بأمر الحجاب ،وكثرة الألبسة التي تحصل معها الفتنة وتأثم بها المرأة، في ذلك كله فتنة وأذية للمصلين، وخير لها صلاتها في بيتها، وليس هناك من البشر من هو أعلم بالخير والأجر للعباد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فقد قال (أفضل صلاة المرأة في بيتها)[14]، قال العلامة ابن باز رحمه الله(يقول النبي صلى الله عليه وسلم( أفضل صلاة المرأة في بيتها) فلها فضل عظيم، قد يكون مثل المسجد، وقد يكون أفضل ، والمقصود: أن أفضل صلاتها في البيت، فإذا كان فضلها في البيت أفضل من المسجد معناه أنه يحصل لها مثل أجر المسجد، أو أكثر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أفضل صلاة المرأة في بيتها فدل على أن الأجر الذي يحصل للرجل في المسجد يحصل لها، أو ما هو أكثر منه لطاعتها لله ورسوله، وخضوعها لأمر الله ورسوله، هي على خير عظيم، ولأن بيتها أصون لها، وأبعد عن الفتنة، فإذا أطاعت الرسول صلى الله عليه وسلم وصلت في البيت، يرجى لها مثل أجر المصلي في المسجد، أو أكثر)[15] وقال عليه الصلاة والسلام( صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حُجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها)[16]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت ( لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل قلت لعمرة أو منعن قالت نعم)[17]، تقوله عائشة رضي الله عنها هذا في زمنها، فكيف بزمننا هذا الذي خرجت فيه كثير من النساء عن الحشمة والحياء، واتبعن الهوى، وضَعُفت عندهن طاعة الله ورسوله والانقياد لأمره؟ قال عبد العظيم آبادي (ووجه كون صلاتهن في البيوت أفضل الأمن من الفتنة ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة ومن ثم قالت عائشة ما قالت)[18]، وقال الشيخ عبد الله الجبرين رحمه الله(فأما المرأة فبيتها خير لها ، فإن احتاجت للصلاة في السوق ، وكان هناك سترٌ وسترة : فلا مانع من ذلك إن شاء الله)[19]، وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله مفصلا في المسألة ومبينا أفضلية الأمر للمرأة(إن النبي صلى الله عليه وسلم قال(صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)[20] وهذا المسجد هو الذي قال فيه(لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن)[21] فأخبر أن صلاة المرأة في بيتها في المدينة خير من صلاتها في المسجد النبوي مع المضاعفة، مع أن الصلاة في المسجد النبوي مضاعفة، كذلك في مكة صلاتها في بيتها خير من صلاتها في المسجد الحرام، ولكن قد يقول قائل: كيف يكون خيراً وهذه مائة ألف صلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي بألف أو خير من ألف؟ نقول: هناك كمية وهناك كيفية، فالأجر في كيفيته وضخامته في بيتها يقابل العدد الحاصل بالكثرة، ثم إنه قد يقول قائل: إن المرأة إذا صلت في المسجد الحرام لا يحصل لها مئة ألف صلاة أو في المسجد النبوي لا يحصل لها أن تكون صلاتها خيراً من ألف صلاة، لأن المخاطب بذلك أهل المساجد، ومن أهل المساجد؟ الرجال دون النساء، ولذلك يقع في النفس شك لو صلت المرأة في المسجد الحرام هل تنال مائة ألف؟ ولو صلت في المسجد النبوي هل صلاتها خير من ألف صلاة؟ هذا محل نظر ومحل تأمل، لأن المخاطب في فضل المساجد هم أهل المساجد وهم الرجال،( في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)[22] أما المرأة فبيتها خير لها من المسجد حتى من المسجد الحرام ومن المسجد النبوي)[23].
والمقصود : أن صلاة المرأة في بيتها خير لها وأفضل من المسجد، وفي ذلك صيانة لها وحفظ وبُعْد لها عن الفتنة ومصادمة الرجال في الطرقات
، وإذا أبت إلا الخروج فالتتقي الله عز وجل ولتلتزم بلباس الحشمة والستر والبعد عن التطيب ، وتبتعد في دخول المساجد والخروج منها عن مصادمة الرجال، حتى لا تعود محملة بالآثام والأوزار بدلا من الأجور.
وعلى أولياء أمور النساء تقع مسئولية عظيمة ، وأمانة جسيمة في الحفاظ على نسائهم، وإبعادهن عن الفتن والمخالفات الشرعية( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)[24].
وختاما أقول إن ليلة القدر تكون في ليلة من ليال العشر سواء كانت وترا أو شفعا فعلمها عند الله عز وجل يظهرها في الليلة التي يقدرها، وما على المسلم إلا الاجتهاد والعمل في طلبها.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا لاغتنام الأوقات الفاضلة والفوز بما في طياتها من الفضل العظيم والخير الكريم إنه جواد كريم .وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] (رواه البخاري ومسلم.
[2] سورة القدر 3.
[3] رواه البخاري ومسلم.
[4] اللقاء المفتوح رقم 74.
[5] مُتَّفقٌ عليه.
[6] سورة القدر 3.
[7] رواه البخاري ومسلم.
[8] متفق عليه.
[9] متفقٌ عَلَيْهِ.
[10] رواهُ البخاريُّ.
[11] متفقٌ عَلَيهِ.
[12] رواهُ مسلمٌ.
[13] رواهُ التِرْمذيُّ بسند حسنٌ صحيحٌ.
[14] رواه أبو داود بسند صحيح.
[15] الموقع الرسمي لسماحته.
[16] رواه أبو داود والترمذي.
[17] رواه البخاري ومسلم.
[18] عون المعبود 2/193.
[19] فتاوى المرأة المسلمة 1/333.
[20] رواه أحمد وصححه ابن حبان.
[21] صحيح الجامع للألباني.
[22] سورة النور 36-37.
[23] الموقع الرسمي للشيخ رحمه الله.
[24] متفق عليه.