القول على الله بغير علم بين التهور والتعقل…. د. ناجي بن وقدان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . وبعد:

من الظلم البين، والبهتان العظيم، أن يقول ابن آدم على الله ورسوله بغير علم،فذاك هو التهور بعينه الذي تمجه العقول وتنفر منه الطباع، وتشمئز منه النفوس ، بل هو قرين الشرك بالله والبغي والعدوان ،ولقد انبرى في هذه الأزمنة خَلْف تجرءوا على الله ورسوله ولووا أعناق الآيات والنصوص لتوافق مآربهم وأهواءهم،وقالوا بما لم يقل به أحد ممن سبقهم، تجاسروا على الفتيا،وحوروها وضعفوا الأحاديث الصحيحة وصححوا الضعيفة والموضوعة ،أحلوا الحرام وهونوا أمره في النفوس،قد ضلوا وأضلوا كثيرا من الناس،ولذلك حَرَّم الله القول عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم،كما قال عز وجل( (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) الأعراف 33 ،وفي الآية بدأ جل وعلا بذكر أصول المحرمات بالتدرج،فبدأ من الأدنى خطرا إلى الأعلى خطرا، فحرم الفواحش بكل أنواعها من قول أو عمل ، الظاهر منها والباطن، وحرم الإثم وهو المعاصي بأنواعها،والبغي على الناس وظلمهم بغير حق،وحرم الشرك بالله قليله وكثيره بأي نوع من أنواع الشرك أو الطرق الموصلة إليه،وحرم القول عليه بغير علم ولا دليل وهو شاهد الموضوع ،قال الشيخ السعدي رحمه الله(في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه، فكل هذه قد حرمها اللّه، ونهى العباد عن تعاطيها، لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة، ولما فيها من الظلم والتجري على اللّه، والاستطالة على عباد اللّه، وتغيير دين اللّه وشرعه)[تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 154]، فالقول على الله تعالى بغير علم أخطر من الشرك بالله تعالى وذلك لأن مفسدة القول على الله تعالى بغير علم أعظم من مفسدة الشرك بالله تعالى فإن الشرك ضرره قاصر على صاحبه أما القول على الله تعالى بغير علم فإن ضرره متعد إلى الغير فقد أحدث مسيلمة الكذاب من الفتنة عندما ادعى النبوة فَضَلَّ بقوله فئام عظيمة من الناس، ولا شك أن من ضل في نفسه أقل شراً وأثراً وإثماً ممن ضل في نفسه وأضل غيره، كما قال سبحانه( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) العنكبوت 12-13 ،والتدرج في التحريم سمة عالية في القرآن لبيان الأعظم ضررا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند قوله عز وجل( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) فحصر التحريم في هذه الأربعة فإنها محرمة في كل ملة لا تباح بحال إلا عند الضرورة وبدأ بالأخف تحريما ثم بما هو أشد منه فإن تحريم الميتة دون تحريم الدم فإنه أخبث منها ولحم الخنزير أخبث منها وما أهل به لغير الله أخبث الأربعة)[أحكام أهل الذمة لابن القيم الجوزية ص 527].

والقول على الله بغير علم ولا دليل محرم في أي جانب من جوانب الدين،وإذا كان التقول على فلان من البشر أمر محرم ولا يجوز،فكيف بالقول على الله ورسوله بلا علم وهو أشد،قال الإمام بن الجوزي رحمه الله في قول الله تعالى( وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) عامٌّ في تحريم القول في الدين من غير يقين)[تفسير الواحدي النيسابوري الوسيط في تفسير القرآن المجيد ص 364] ،وقد أفتى سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ عندما سُئل عن خطورة القول على الله بغير علم فقال(القول على الله بلا علم، كبيرة من كبائر الذنوب، ومصيبة من المصائب، وهي من أعظم الكبائر والجرائم، قال الله تعالى( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون)َ فتدرج بالتحريم من الأدنى إلى الأعلى، فقال سبحانه( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) ، ثم قال عز وجل( وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ) ، ثم قال تعالى( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)  فجعل القول عليه بغير علم، أعظم من الشرك، ومن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ومن البغي، لأن كل هذه الشرور، أصلها من القول على الله بغير علم، قال تعالى( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الرئاسة العامة للبحوث والإفتاء الثلاثاء 12/6/1442هـ]،وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله(الإفتاء بغير علم من أعظم الكبائر والذنوب العظيمة، فيجب على المسلم أن يتقي الله وأن لا يفتي إلا عن علم وعن بصيرة، يقول الله جل وعلا( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون) الأعراف33 ، جعل القول على الله بغير علم في المرتبة العليا فوق الشرك، لعظم خطره وعظم فساده، قال تعالى في وصف الشيطان( إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) البقرة169، فالواجب على كل مسلم أن يتقي الله وأن لا يقول إلا عن علم)[موقع سماحة الشيخ رحمه الله].

وعَلَّق سبحانه الفلاح والإفلاح بتجنب الكذب والافتراء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم،وأن الحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله،فقال عز وجل (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) النحل 116 ،قال ابن كثير رحمه الله(نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين ، الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وضعوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم ، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وغير ذلك مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم ، فقال  ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ) ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس [ له ] فيها مستند شرعي ، أو حلل شيئا مما حرم الله ، أو حرم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه)[تفسير ابن كثير ص 280].

ألا وإنه بذهاب العلماء ، وقبض الفقهاء،ينبري للناس رءوس جهال يقولون على الله بغير علم،ويفسرون كلام الله بغير مراده،ويأولون النصوص لما يوافق أهوءهم ورغباتهم، فيضلون ويُضلون،وهذا ما نراه الآن على الساحة،من تطويع أمور الشرع لمتطلبات العصر،ولوي أعناق النصوص لما يحقق ذلك،دون النظر إلى المصالح والمفاسد، وهذا الأمر قد أخبرنا بحدوثه نبينا صلى الله عليه وسلم،فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)[رواه البخاري ومسلم].

والقول على الله بغير علم مرض وآفة قد غَشِيت الكثير من المجالس اليوم، واجتراء كثير من جالسيها عل الفتيا والتوقيع عن الله بغير هدى ولا علم، وغياب كلمة(الله أعلم) أو(لا أعلم)ومن قالها فقد أفتى، مما يوقع الناس في دوامة المتناقضات، والأخذ بالفتيا وإن كانت خاطئة ولا توافق النصوص،وذلك لأنها توافق اهواءهم وما تميل إليه نفوسهم،وبالتالي يندرس الشرع،ويعم الجهل،ويهلك الناس،ويغيب العلماء في بحر هؤلاء المتهورون.

والواجب على كل ذي عقل أن يكون أكثر ورعا،وأعظم خوفا من الجرأة على الله ورسوله والقول بغير علم، ورحم الله امرئ عرف قدر نفسه، يقف عند حدود الله ولا يقل إلا بما استقر في نفسه من العلم المدعم بالدليل من الكتاب والسنة، قال الإمام ابن القيم رحمه الله (وأشدُّ التحريمً (في آية الأعراف) القول على الله بغير علم، وهذا يَعُم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه)[إعلام الموقعين 1/38] ،وقال رحمه الله في موضع آخر (وإذا كان مَنصِب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنْكر فضلُه ولا يُجهل قَدْرُه وهو من أعلى المراتب السَّنيَّات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟ فحقيقٌ بمن أُقِيم في هذا المنصب أن يعِدَّ له عدته، وأن يتأهب له أُهْبَتَهُ وأن يعلم قدر المقام الذي أُقيم فيه، ولا يكون في صدره حَرَجٌ من قول الحق والصّدع به فإن الله ناصره وهاديه وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه ربُّ الأرباب فقال تعالى(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ) النساء 127، وكفى بما تولاه اللهُ بنفسه شَرفاً وجَلالةً إذ يقول في كتابه(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) النساء 176، وليَعلم المفتي عمَنْ يَنوب في فَتواه وليُوقِن أنه مسئولٌ غداً وموقوفٌ بين يدي الله)[إعلام الموقعين 1/11] ،وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى(أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول)[كتاب العلم لزهير بن حرب ص 10] ،وقال سفيان بن عيينة(أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا)[ المجموع للنووي (1/73]،وقال البراء(لقد رأيت ثلاثمائة من أصحاب بدر ما منهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيَهُ صاحِبُهُ الْفُتْيَا)[الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/349]، ورأى رجل ربيعة بن عبد الرحمن يبكي فقال: (ما يبكيك؟ فقال: استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق)[الموسوعة الشاملة 9/511].

وقد عَلَّق الإمام أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي رحمه الله على كلام ربيعة بن عبدالرحمن قائلا (فكيف لو رأى زماننا وإقْدَام من لا علم عنده على الْفُتْيَا مع قلة خبرته وسوء سيرته وشُؤمِ سريرته، وإنما قَصْده السُّمعة وممُاَثلة الفُضلاء والنُّبلاء والمشهورين المستورين والعلماء الراسخين والمتجردين السابقين، ومع هذا فهم يُنْهَون فلا ينتهون، ويُنَبّهون فلا ينتبهون قد أملى لهم بانعكاف الجهال عليهم وتركوا ما لهم في ذلك وما عليهم فمن أقدم على ما ليس له أهلاً من فتيا أو قضاء أو تدريس أَثِم فإن أكثر منه وأصرّ واستمرّ فسق فإنا لله وإنا إليه راجعون)[الموسوعة الشاملة 9/511]، ونحن نقول وقد استشرى الأمر وتفشى في زمننا وأصبح الكثير من الناس يفتي ويفسر ويجادل ويماري وليس عنده من الله برهان ولا دليل على ما يقول،وخصوصا ممن أتاحت لهم القنوات الفضائية الفرصة والظهور أمام الملايين من البشر،فيتقولون على الله ورسوله بلا علم،ويتصدرون الفتيا ويُنَادُّون العلماء ويقولون بأقوال لم يتجرأ عليها جهابذة العلم من السلف والخلف،فما أبقوا للعلماء مكانا في الساحة،فَيَضِلون ويُضِلون الناس بغير علم، وقد صدق من قال:

تَصَدَّرَ لِلتَّدْرِيسِ كُلُّ مُهَوَّسِ ** جَهُولٌ يُسَمَّى بِالْفَقيهِ الْمُدَرِّسِ

فَحُقَّ لأَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِبَيْتٍ ** قَدِيمٍ شَاعَ فِي كُلِّ مَجْلِسِ

لَقَدْ هَزُلَتْ حَتَّى بَدَا مِنْ هُزَالِهَا** كُلاهَا وَحَتَّى سَامَهَا كُلُّ مُفْلِسِ

إن الناظر إلى من يتصدرون الفتيا أو الكلام في دين لله وشريعته،يرى قلة الاستشهاد عندهم بنصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح ، و يتضح له ضحالة بضاعتهم من العلم والفقه، وإنما يتقولون بمنطق العقل،وفكر الفلسفة التي لا تتكئ عل أساس صحيح،وينطقون بآراءهم المجردة التي لا تستند على دليل تقبله القلوب والنفوس والعقول وتُسلم به،وعندما يُطالب أحدهم بدليل الكتاب والسنة يقول لا داعي لذلك بل يكفي منطق العقل والرأي، ولا يَعْتدون بآراء العلماء العارفين بالله وشريعته، وهؤلاء ينطبق عليهم قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه(إِيَّاكُمْ وَالرَّأْيَ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَعُوهَا وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ)[شرح العقيد الطحاوية  2/498-500].

سُئِل الشعبي رحمه الله عن شيء فقال(لا أدري)، فقيل له: ألا تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه أهل العراق؟! فقال: (لكن الملائكة لم تستحِ حين قالت: لا علم لنا إلا ما علمتنا)[إعلام الموقعين 4/167-168].

إن من يتصدر العلم والفتيا لا بد له من خمس خصال يتصف بها ذكرها الإمام أحمد رحمه الله في وصف العالم المفتي فقال:

أولا: الإخلاص لله تعالى في القول والعمل، فلا يهدف إلى التصدر ولا حب الظهور والشهرة ولا المدح والثناء،بل يهدف إلى تبليغ دين الله للناس وتعليمهم ورفع الجهل عنهم.

ثانيا: أن يكون ذا حِلم ووقار وروية فلا يتعجل الجواب ولا يتسرع في الحكم حتى يستبين له الأمر جليا، قال أبوبكر الخطيب رحمه الله(قلَّ من حرص على الفتوى وسابق إليها وثابَر عليها إلا قَلَّ توفيقُه واضطرب في أمره)[الفقيه والمتفقه2/350].

ثالثا: أن يكون على علم ومعرفة لما سُئِل عنه وإلا عرّض نفسه لخطر عظيم، وإذا سُئِل عن مسألة لا يعلمها فليتذكر الحصن الحصين: (لا أدري) ولا يستحي من قولها فقد أتى رجل إلى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْبُلْدَانِ شَرٌّ؟ فَقَالَ(لَا أَدْرِي)، فَلَمَّا أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ(يَا جِبْرِيلُ، أَيُّ الْبُلْدَانِ شَرٌّ؟) قَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي فَانْطَلَقَ جِبْرِيلُ فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ سَأَلْتَنِي أَيُّ الْبُلْدَانِ شَرٌّ وَإِنِّي قُلْتُ لَا أَدْرِي، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي فَقُلْتُ(أَيُّ الْبُلْدَانِ شَرٌّ؟ فَقَالَ: أَسْوَاقُهَا)[رواه أحمد وله شواهد أخرى]،وقال الشعبي(لا أدري هي نصف العلم).

رابعا: الكفاية، وهي أن لا يَسأل الناس ما في أيديهم.

 

خامسا: معرفته بالناس، وأن يكون بصيراً بمكرهم وخداعهم ومجاملاتهم لئلا يوقعوه في مكروه.

وخلاصة القول ،أن القول على الله ورسوله والإفتاء بغير علم منعطف خطير جدا يجد حلاوته في أول وهلة ثم يبوء بنكدته وآلامه وتعاسته آخره،وأن على المسلم أن يكون أكثر وعيا وإدراكا لعواقب الأمور ،فالناس يسعون للحلول السريعة لأمورهم الدينية والدنيوية ولا يبالون بمن يسألون،فتكون هنا هلكة السائل والمسئول،والإمساك عن الكلام عند عدم العلم واليقين مطلب لا يحسنه إلا القليل من العارفين والسلامة لا يعدلها شيء.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *