الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
فإن العدل ميزان تنشده الفِطَر الإنسانية السليمة على اختلاف دياناتها ومللها ونِحَلها،وذلك لتسير الحياة بشكلها الطبيعي بأمن واستقرار وطمأنينة وسكينة،وتسلم القلوب والنفوس من التألب على بعضها البعض ،بعيدا عن مراكب الظلم التي بها يختل الأمن ويسود الخوف وتتعثر مسيرة الحياة ويصبح الناس كما لو كانوا في غابة موحشة ومظلمة يأكل القوي منهم الضعيف.
وقد جاء الإسلام ليقيم هذا الصرح الشامخ ،ويرتقي به وبأهله لأرقى درجات الرقي والتقدم، وهذا مالا يقيمه أي دين آخر غير الإسلام.
وجاء القرآن الكريم لإقامة العدل ،وحَمل في طياته دليلا إرشاديا يوجه العباد إلى كيفية إقامة العدل بينهم لتسودهم المحبة والوئام والأخوة الإيمانية الصادقة، وبعث الله للأمة إمام العادلين،وقدوة المنصفين عليه الصلاة والسلام،ليقيم العدل ويُقصي الظلم،وسار على سيره خيرة البشر من بعده،خلفاءه وأصحابه،ثم التابعين والأئمة المهديين ومن سار على طريقهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
وكيف لا يكون العدل كذلك وقد أخذ من اسم الله نصيبا،فهو سبحانه الحكم العدل،فقد حَرَّم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما،كما جاء في الحديث القدسي(يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا،يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) .
ولذلك أقام العدل سبحانه في عباده ومخلوقاته في حياتهم ومعايشهم، كما قال تعالى (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ،ويوم يمثلون بين يديه يوم القيامة للحساب،فينصف المظلوم من الظالم،والجلحاء من القرناء،ويقال (الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ،قال ابن كثير رحمه الله(يخبر تعالى عن عدله في حكمه بين خلقه ، أنه لا يظلم مثقال ذرة من خير ولا من شر، بل يجزي بالحسنة عشر أمثالها ، وبالسيئة واحدة ، ولهذا قال( لا ظلم اليوم ) .
ويقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى(يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله يوم القيامة حين يبعث خلقه من قبورهم لموقف الحساب: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يقول: اليوم يثاب كلّ عامل بعمله، فيوفى أجر عمله، فعامل الخير يجزى الخير، وعامل الشر يجزى جزاءه) .
( لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ) كلمة تهز القلوب،وتقشعر منها الأبدان على مسمع ومرأى من أهل المحشر، تبلغ العرصات كلها،يقشعر منها بدن الظالم،ويتفطر قلبه حسرة وندامة، ويفرح بها المظلوم لما يجد من العدل والإنصاف،( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) .
(إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ،قال ابن عاشور رحمه الله (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، عُدِّدَتْ آثَارُ التَّصَرُّفِ بِذَلِكَ الْمُلْكِ وَهِيَ الْحُكْمُ عَلَى الْعِبَادِ بِنَتَائِجِ أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّهُ حُكْمٌ عَادِلٌ لَا يَشُوبُهُ ظُلْمٌ، وَأَنَّهُ عَاجل لَا يبطئ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَشْغَلُهُ عَنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ شَاغِلٌ وَلَا هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي طُرُقِ قَضَائِهِ، وَعَلَى هَذِهِ النَّتَائِجِ جَاءَ تَرْتِيبُ (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ)، ثُمَّ (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ)، ثُمَّ (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ،حكم عادل ومنصف لا تأخير فيه ولا استئناف ولا اعتراض،ينال فيه المظلوم حقه كامل لا بخس فيه ولا نقص، وينال الظالم عقابه الذي يستحقه جزاء وفاقا.
ولذلك كان على المسلم أن يجتنب الظلم قليله وكثيره، ويفر منه لشناعة عاقبته، وسوء منقلبه،قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حينما بعثه إلى اليمن (واتَّقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله المعنى: تجنَّبِ الظلم، لئلا يدعو عليك المظلوم، وفي هذا تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم) ومن عدل الله تعالى أنه ينصف المظلوم وإن كان كافرا .
والظلم عاقبته وخيمة وإن طال بها المدى،إذ يأتي النصر من الله على الظالم وهو في غفلة معتز بغلبته وظلمه، فيأخذه أخذ عزيز مقتدر.
لا تَظلِمَنَّ إِذا ما كُنتَ مُقتَدِراً..فَالظُلمُ مَرتَعُهُ يُفضي إِلى النَدَمِ
تَنامُ عَينُكَ وَالمَظلومُ مُنتَبِهٌ…يَدعو عَلَيكَ وَعَينُ اللَهِ لَم تَنَمِ
قال أحد الفضلاء:( لا يظنّنَّ أحد أنّ ظلمه للعباد بضرب، أو سب أو شتم، أو تزوير، أو أكل مال بالباطل، أو سفك دم، أو غيبة أو نميمة، أو استهزاء أو سخرية، أو جرح كرامة، – لا يظننَّ أحد – أنّ شيئاً من ذلك الظلم سيضيع ويذهب دون حساب ولا عقاب، كلا، كلا، فلابُدّ للظالم والمظلوم من الوقوف بين يدي الله عز وجل ليَحكم بينهما بالعدل الذي لا ظلم فيه ولا جاه ولا رشوة ولا شهادة زور،( اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقادَ للشاة الجلحاءِ من الشاة القرناء) ، وعن وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(دعوة المظلوم تحمل على الغمام، وتفتح لها أبواب السماوات، ويقول الرب تبارك وتعالى: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين) .
فالظلم سبب للعذاب والخسران في الدنيا والآخرة، ويكفي في التحذير من ذلك قول الله تبارك وتعالى( وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) ، قال ابن كثير رحمه الله(أي لا تحسب أنّ الله تعالى يغفل عما يفعله الظالمون من أعمال، بل هو سبحانه يمهلهم وينظرهم ويحصي لهم أعمالهم ويعدها عليهم عدّاً، ويؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، وهذا اليوم هو يوم الأهوال الشديدة وهو يوم القيامة) .
ولقد ورد من القصص في الظلم وعواقب الظالمين ما يقرع القلوب ويردها عن مراتع الظلم وأهله،وإن دعوة المظلوم لهي أسرع نفاذا بين الغمام ، فتفتح لها أبواب السماء ،وتبلغ عرش الرحمن جل وعلا، فعن جابر بن سمرة، قال (شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر، رضي الله عنه،فعزله،واستعمل عليهم عمارًا، فشكوا، حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه, فقال: يا أبا إسحاق، إنَّ هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي؟ قال أبو إسحاق: أما أنا والله،فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء، فأركد في الأوليين،وأخف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق, فأرسل معه، رجلًا، أو رجالًا, إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجدًا إلا سأل عنه، ويثنون معروفًا، حتى دخل مسجدًا لبني عبس، فقام رجل منهم, يقال له: أسامة بن قتادة، يكنى أبا سعدة، قال: أما إذ نشدتنا، فإنَّ سعدًا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية, قال سعد: أما والله لأدعونَّ بثلاث، اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياءً وسمعةً،فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد, قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكِبَر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن) .
ومنها أيضًا: قصة سعيد بن زيد رضي الله عنه فقد روى مسلم في صحيحه(أن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئًا من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم،فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئًا بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه إلى سبع أرضين،فقال له مروان لا أسألك بينة بعد هذا، فقال اللهم إن كانت كاذبة فعم بصرها واقتلها في أرضها، قال فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينا هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت) .
أما والله إن الظلم شؤم…ولازال المسيء هو الظلومُ
ستعلم يا ظلوم إذا التقينا…غداً عند المليك مَنِ الملومُ
وقصص الظلم وعاقبة الظالمين من قديم وحديث لا زالت قائمة بين الناس لتنبه الغافل وتذكر المُعرض ،وتحيي في النفوس مكامن الخوف والعظة والاعتبار، وفيه إشارة إلى تفشي الظلم بين الناس بشكل كبير، وخصوصا في هذه الأزمنة المتأخرة،التي انتشر الظلم فيها بشكل كبير،ظلم في الأموال والأنفس والأعراض،واستهانة كثير من الناس واستخفافة بعواقب الظلم،واستقوائه على إخوانه وعلى الضعفاء بمال أو جاه أو منصب .
فتجنب أيها المسلم الظلم فإنه يجر إلى دهاليس مظلمة ينعكس ظلامها على حياة الظالم وعيشه ،وتحجب عنه أنوار الهدى،وتورده موارد الردى،وتورثه الخوف والهم والقلق،وضيق الصدر،وعدم الراحة والاستقرار،وتُسد في وجهه أبواب السعادة والتوفيق والرزق،وتُحل عليه العقوبة والنقمة ،وتورثه الكراهية والمقت في قلوب العباد وإن ابتسموا في وجهه اتقاء شره.
نسأل الله تعالى أن يجنبنا الظلم وطرقه،وأن يرزقنا تقواه والعدل في القول والعمل،وأن يطهر قلوبنا من براثن الظلم والحسد،والبغضاء والإحن،وأن يقنعنا بما كتب لنا ورزقنا، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.