الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
أولى الإسلام القلب كل عناية ورعاية، وجعله موطن الصلاح والفساد، والسلامة والمرض، وأبان لصاحبه طريق الصلاح والفساد، وجعل النجاة يوم القيامة لصاحب القلب السليم(يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[1]، قال سعيد بن المسيب ( القلب السليم هو القلب الصحيح ، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض ، قال الله ( في قلوبهم مرض) ، وقال أبو عثمان النيسابوري ( هو القلب الخالي من البدعة ، المطمئن إلى السنة ، وربط سعادة المرء بمدى صلاح قلبه، ولا يكون صلاحه إلا بمقتضى الكتاب والسُنة)[2].
وقد كَثُرت أقوال العلماء، وأراء الحكماء، وقرائح الشعراء حول ماهية القلب السليم، وأسباب نجاته وصلاحه، قال العلامة ابن القيم رحمه الله( القلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرئاسة، فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله، ولا تتم له سلامته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص، وهذه الخمسة حجب عن الله، وتحت كل واحدة منها أنواع كثيرة، تتضمن أفراداً لا تنحصر، ولذلك اشتدت حاجة العبد، بل ضرورته، إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، فليس العبد أحوج منه إلى هذه الدعوة، وليس شيء أنفع له منها)[3].
وقال رحمه الله في موضع آخر(الْقلبُ السَّلِيمُ الَّذِي ينجو من عَذَاب الله هُوَ الْقلبُ الَّذِي قد سَلِمَ لرَبه وَسلم لأمره وَلم تبْق فِيهِ مُنَازعَة لأمره وَلَا مُعَارضَة لخبره فَهُوَ سليم مِمَّا سوى الله وَأمره لَا يُرِيد الا الله وَلَا يفعل إِلَّا مَا أمره الله فَالله وَحده غَايَته وأمره وشرعه وسيلته وطريقته لَا تعترضه شُبْهَة تحول بَينه وَبَين تَصْدِيق خَبره)[4].
وصلاح العبد وسلامته في صلاح قلبه وسلامته، فعنِ النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال( إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)[5]، قال الإمام النووي( في هذا الحديث تأكيد على السعي في صلاح القلب وحمايته من الفساد)[6].
وقيل لمحمد بن سيرين( ما القلب السليم؟ قال: الناصح لله عز وجل في خلقه)[7]، وقال ابن العربي رحمه الله( ولا يكون القلب سليمًا إذا كان حقودًا حسودًا مُتكبِّرًا)[8]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله( القلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشرَّ)[9]، وقال العلامة ابن القيم رحمه الله( القلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة)[10]، و قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله قوله تعالى( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) ومن سلامته: أنه سليم من غش الخلق وحسدهم)[11].
وللقلب السليم علامات يتميز بها عن القلب الأسود المريض، فإذا توافرت للمرء كان من أسعد الناس وأحسنهم طبعاً، ومن هذه العلامات :
أولاً : أنه قلب كثير التوبة والأوبة إلى الله تعالى، لا يحمل خلقاً ذميماً ولا يحمل بغضاً وحقداً دفيناً.
ثانياً : أن يكون قلب دائم الرضا والقناعة بما كتبه الله وقدره لصاحبه، فلا ضجر ولا تبرم ولا اعتراض.
ثالثاً : أن يكون القلب معلقاً بالآخرة، ويعلم أن الدنيا ماهي إلا محطة عبور.
رابعاً : أن يكون قلباً محباً لخلقه، متوكلاً عليه، مطمئناً بقربه.
خامساً : القلب السليم دائم الذكر لله تبارك وتعالى، لا يفتر عن ذكره ساعة.
سادساً : القلب السليم صاحبه يُديم المحافظة على الورد اليومي الصباحي والمسائي.
سابعاً : القلب السليم يلتمس دائماً رضاء مولاه تبارك وتعالى، لا رضا الناس.
ثامناً : القلب السليم يفرح بالإقبال على الطاعة والعبادة ، وخصوصاً الصلاة، يمتلئ بها سعادة وطمأنينة.
تاسعاً : القلب السليم يتألم من حرارة وألم الذنب والمعصية ويبادر بالأوبة والتوبة.
عاشراً : القلب السليم هو الذي يؤمن بوجود يوم القيامة، وأنَّه حقٌّ وهو آتٍ لا محالةٍ.
وإذا كانت هذه هي علامات القلب السليم ،فحري بالمسلم أن يسعى لتحصيلها والتلبس بها، ليحظى بقلب سليم مبارك خالياً من الأمراض والآفات ينجوا به يوم القيامة عند ربه.
والسعادة منوطة بصاحب القلب السليم، الذي لا يُضمر شراً ولا يُكِن كرهاً ولا بغضاً ولا حسداً لأحد من المسلمين، وكما قيل ثلاثية المال السعادة والقلب السليم، وبقدر ما يكون القلب سليماً، يكون صاحبه سعيداً، فتنتشر سعادته على من حوله من أهله وأصحابه وجيرانه.
والتعاسة ملازمة للقلب الأسود المظلم المرباد، الذي لا يُحق حقاً ولا يُبطل باطلاً ولا يرى إلا السواد والظلام ، ولا يرى السعادة تلوح في سمائه، يحمل في طياته كل حسد وبغضاء وحقد وإحن لمن حوله من المسلمين، صاحبه في عذاب سرمدي، لا هم له سوى ماذا قالوا؟! وأين ذهبوا؟! وماذا فعلوا؟! قد أشعل فتيل الحسد، وأوقد نار الحقد، ساهر لذلك الليل، وكابد لأجله النهار، يستمع إلى شاردة منهم ويتلقط كل واردة عنهم، لقد أمضى جزءًا من حياته في الترقب والترصد، فأشقاه تتبع أخبارهم، وأرهقه التجسس على حياتهم !! .
وسواد القلب من أبشع الأمراض، وأشنع الآفات التي تفتك بالمجتمع والأسرة والأخوة والترابط والمحبة والألفة، ولهو أشد ألماً وفتكاً من الأمراض الجسدية الخطيرة، ويعتبر عاهة في جبين صاحبه يمتاز بها بين الناس، فأعماله تفضح بواطنه، لديه القدرة على التلون والتبدل، متذبذب في أحواله لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، له مراوغات ودسائس، لا كرامة له ولا شهامة، فَتَّان مغتاب هماز لماز، يزرع البغضاء، ويُشعل فتيل الأحقاد والشر بين العباد، لا يحب الخير ولا البر والإحسان، يؤجج نار الفتنة والمشاكل والخراب في البيوت، ويبث السموم والفُرقة بين الأزواج، صورته صورة المنافق ذا الوجهين، يميل مع مصالحه الشخصية، وميوله العدواني البغيض، شيطان في هيئة إنسان، معسول الكلام وقلبه مُر، ينخدع الناس بحلاوة لسانه، وزخرف قوله(وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)[12]، بائس مخذول، ومريض معلول، مفتون بدنياه، قد ماجت به الفتن، والفشل ملازمه، ، لا يستطيع الانتصار على ذاته، وصف النبي صلى الله عليه وسلم قلب ذلك البائس بأبشع الأوصاف، وأردأ الصفات، فقال عليه الصلاة والسلام( تُعرضُ الفتنُ على القلوبِ كالحصيرِ عودًا عودًا ، فأيُّ قلبٍ أُشربَها نكتَتْ فيه نكتةٌ سوداءُ فيصيرُ أسودَ مربادًّا كالكوزِ مُجَخِّيًا[13] ، لا يعرفُ معروفًا ولا ينكرُ إلا ما أُشرِبَ من هَواه)[14] .
ولأهمية هذا الجهاز الحيوي المعقد في جسد الإنسان ذكره الله في القرآن الكريم مفرداً وجمعاً ومسنداً إلى الضمائر في 132 موضعاً، وذكرت كلمة( الفؤاد ) باشتقاقاتها 18 مرة، وجاءت كلمة ( صدر ) بالإفراد والجمع ومع الإسناد إلى الضمائر بمعنى القلب 44 مرة، بما مجموعه 194 مرة، وأكثرها تحذر من القلوب الزائغة الجاحدة اللاهية عن الله تعالى.
وسُمي القلب بهذه التسمية لتقلبه وعدم ثباته، وتأثره بمجموع المؤثرات حوله، وبقدر قوة المؤثر يتغير القلب، فإن كان المؤثر خيراً، انقلب إلى الخير، وإن كان شراً انقلب إلى الشر واتباع الهوى، ولذلك قيل: سمي القلب قلباً لكثرة تقلبه[15]. وقال الزمخشري: مشتق من التقلُّب الذي هو المصدر، لفرط تقلبه[16]. وقال الزرقاني: وسُمِّيَ به لتقلبه بالخواطر والعزوم. وقال الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ *** ولا القلبُ إلا إنه يتقلب[17].
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو الله في سجوده وخلواته بالتثبيت على الدين، ويلجأ إلى الله من تقلب القلوب ، فعن شهر بن حوشب قال: قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه(يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك). قالت: فقلت: يا رسول الله، ما أكثرَ دعاءَك: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك). قال(يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ) فتلا معاذ(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا)[18]، وقال عليه الصلاة والسلام(بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا)[19]، وقال عليه الصلاة والسلام(مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة تُقَلِّبُها الريح ظهراً لبطن)[20]، وفي رواية أخرى(إنما القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن)[21].
فاللجوء إلى الله في الثبات على الدين وهدي سيد المرسلين أمر مطلوب، فإن المرء لا يأمن على نفسه الزيغ والانتكاسة مما يلوح له من الفتن والأهواء ومنغصات العيش.
طَهَارَةُ القَلْب أَم طَهَارَة الجَوارِح ؟؟ :
إن طهارة القلب أشد وأعظم أهمية من طهارة الجوارح، فمن الناس من يهتم بطهارة ونظافة بدنه وجوارحه، وهو غافل عن طهارة قلبه وهي أشد، وطهارة القلب ليست بالماء، والثيابِ النظيفةِ كطهارة البدن، إنما بالتخلص من الأوصافِ الذميمةِ، والاتصافِ بالأوصافِ الجميلةِ، ومن ذلك التخلصُ من دغلِ الشرك وغلِّه، قال أحد الفضلاء: فأعمالُ طاهرِ القلبِ كلُّها لله، لا يطلب من المخلوقين مدحًا، ولا تقديرًا وإجلالاً، بل هو يستسرُّ في العبادة، يَودُّ لو لم يطلع عليه أحدٌ، ومع ذلك هو خائفٌ وَجِلٌ من أن يكون لأحدٍ نصيبٌ في أعماله، فإذا عَمِل عملاً، سأل نفسه: لماذا هذا العملُ؟ وإن ترك شيئًا، سأل نفسه: لماذا تركتِ هذا العملَ؟ فإنْ أحبَّ أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن مَنع مَنع لله، وإن تقدَّم تقدم لله، وإن تأخر تأخر لله.
وطهارة القلب تكون باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بهديه وسنته، واتخاذه قدوة دون غيره في الأقوال والأفعال، وما تحمله القلوب من العقائد والإرادة والمحبة والكراهة وغيرها، وأقوال اللسان الدالة على ما تحويه القلوب، فيكون متابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم غير مخالف له، كما قال تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[22]، قال الامام ابن كثير رحمه الله(أي كونوا تبعاً له في جميع الأمور ، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه ، ( إذ) قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن ( بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله . قال ( فإن لم تجد ؟ ) قال : بسنة رسول الله ، قال : ( فإن لم تجد ؟ ) قال : أجتهد رأيي ، فضرب في صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله ، لما يرضي رسول الله )[23] .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله(هذا متضمن للأدب، مع الله تعالى، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعظيم له ، واحترامه، وإكرامه، فأمر الله عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان، بالله وبرسوله، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين، خلف أوامر الله، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جميع أمورهم، و أن لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا يقولوا، حتى يقول، ولا يأمروا، حتى يأمر، فإن هذا، حقيقة الأدب الواجب، مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته، تفوته السعادة الأبدية، والنعيم السرمدي، وفي هذا، النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم، على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها، كائنا ما كان)[24] .
قد يكون الإنسان يصوم ويصلي ويتصدق ويصل الرحم ويقوم الليل ويبكي بين يدي الله، ولكن قلبه والعياذ بالله فاسد ومظلم بالسواد والشر، وانظر يا رعاك الله إلى الخوارج يُصلون ويصومون ويتصدقون ويقرؤون القرآن ويقومون الليل ويبكون ويحجون ويعتمرون، ويحقر الصحابي صلاته عند صلاتهم، ولكن قلوبهم والعياذ بالله مظلمة فاسدة، قال عنهم النبي صلى الله عليهم وسلم إن إسلامهم لا يتجاوز حناجرهم، ولا يدخل الإيمان قلوبهم، مع أن ظاهرهم الصلاح، ولكن ذلك لم ينفعهم، فَعَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا) قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)[25]، وقال عليه الصلاة والسلام(سَيَخْرُجُ قَوْمٌ في آخِرِ الزَّمانِ، أحْداثُ الأسْنانِ، سُفَهاءُ الأحْلامِ، يقولونَ مِن خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لا يُجاوِزُ إيمانُهُمْ حَناجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)[26].
فاحذر أيها المسلم ولا تغتر بصلاح ظاهرك، واعمل على إصلاح قلبك وباطنك، فإن ذلك هو الأهم، فإذا صَلُح القلب والباطن، فإن الظاهر سيصلح على وجه الحقيقة.
التَقْوَى مِن أَعْلى مَصَادِر السَّعَادَة :
وهذا مقرر بالشرع ، أن التقوى سبب قوي لصلاح القلب وحصول السعادة، كما قال عز وجل(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[27]، وقال سبحانه(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[28] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله( الإيمان بالله ورسوله هو جماع السعادة وأصلها)[29]، وقال ابن كثير رحمه الله(والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت)[30]، وقال ابن تيمية رحمه الله(السعادة في معاملة الخلق: أن تعاملهم لله فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم وتكف عن ظلمهم خوفاً من الله لا منهم)[31].
ومن ذاق طعم الإيمان ذاق حلاوة السعادة، وعاش منشرح الصدر مطمئن القلب ساكن الجوارح، قال ابن القيم رحمه الله ( وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، وقال لي مرة ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري إن رحت فهي معي لا تفارقني)[32]، فمن تلبس بالتقوى وصارت كالقوت لا تفارقه، فقد حاز سعادة الدارين.
وَلَستُ أَرى السَعادَةَ جَمعَ مالٍ***وَلَكِنَّ التَقيَّ هُوَ السَعيدُ
وَتَقوى اللَهِ خَيرُ الزادِ ذُخراً***وَعِندَ اللَهِ لِلأَتقى مَزيدُ
ولو كانت السعادة تُباع وتُشترى في الأسواق لاشتراها الناس بمثاقيل الذهب، ولكنها جوهرة تُلتمس في بحار التقوى والإيمان والعقيدة الصحيحة.
وكل الناس يبحثون عن السعادة، فهي الجنة التي يحلمون بها، ويؤملون في تحصيلها، ولكن القليل من يدركها، ومع اختلاف معايشهم وأجناسهم، إلا أنهم متفقون على طلب السعادة وتحصيلها، للهروب من آلامهم وشدتهم.
ولكنها منحة من الله عز وجل يهبها لمن يشاء من عباده، ولكن الموفق من هدي إليها فسلكها، وخطى إليها، وسعى في أسباب تحصيلها، وعمل لها، وجانب ما يضادها مما يجلب له الشقاء.
واعلم يا رعاك الله أنه من المُحال أن تساير السعادة من قلبه أسود قد أظلم بالضغائن والحسد والبغضاء والإحن لمن حوله من أهله وعشيرته وإخوانه، بل يعيش عيشة الشقاء، وهموم التعساء، يبحث عن ضالته ( السعادة) فلا يجدها، يكابد مرارة الحرمان، فمن جراء ذلك يُفرغ شحنات الغضب، وعصارة القلب المظلم، والنفس التعيسة في أذية الخلق، والوقوع في أعراضهم، وبث سموم الحسد والكراهية تجاههم، ولو مات على هذه الحال، كَثُر يوم القيامة غُرَماءه، وتكالب عليه خُصَماءه، كل يريد مظلمته، فيا لله أي حسنات عنده توفي بحقوق هؤلاء، وأي نجاة يؤملها، إنها والله مرارة الحرمان.
والموفق من سعى بالصلاح والإصلاح، وعاد إلى الله، قبل فوات الأوان، وكابد في إصلاح قلبه ونفسه، وعِم يقينا أن لا أحد من العباد برهم وفاجرهم ، مؤمنهم وكافرهم، يغادر هذه الحياة وله فيها مثقال حبة من خردل قد كُتِبت له(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[33]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] سورة الشعراء 88-89.
[2] تفسير ابن كثير ص 371.
[3] الجواب الكافي ص151.
[4] مفتاح دار السعادة ص 54.
[5] رواه البخاري ومسلم.
[6] رواه مسلم بشرح النووي.
[7] المكتبة الشاملة السُنية ص 334.
[8] هكذا كان الصالحون ص 23.
[9] المرجع السابق.
[10] الجواب الكافي ص 282.
[11] تفسير السعدي ص 449.
[12] سورة محمد 30.
[13] والمجخي: المائل عن الاستقامة والاعتدال (النهاية في غريب الحديث والأثر )696.
[14] رواه مسلم.
[15] ظاهرة ضعف الإيمان ص 6.
[16] المواهب اللدنية بالمنح المحمدية 2/62.
[17] المرجع السابق.
[18] رواه الترمذي وأحمد بسند صحيح.
[19] رواه مسلم.
[20] رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
[21] رواه أحمد وصححه الألباني.
[22] سورة الحجرات 1.
[23] تفسير ابن كثير ص 515.
[24] تفسير السعدي ص 515.
[25] رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
[26] رواه البخاري ومسلم.
[27] سورة الأحزاب 70-71.
[28] سورة النحل 97.
[29] فتاوى شيخ الإسلام ٢٠/ ١٩٣.
[30] تفسير ابن كثير ص 278.
[31] المكتبة الشاملة 5/3.
[32] الوابل الصيب ص 48.
[33] سورة البقرة 281.