الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
أَهْلاً بِشَهْرِ التُّقَى وَالْجُـوْدِ وَالْكَرَمِ * شَهْـرِ الصِّيَامِ رَفِيْعِ الْقَدْرِ فِي الأُمَمِ
أَقْبَلْتَ فِيْ حُلَّـةٍ حَفَّ الْبَهَـاءُ بِهَا * وَمِـنْ ضِيَائِكَ غَابَتْ بَصْمَـةُ الظُّلَمِ
أَهْلاً بِصَوْمَعَةِ الْعُبَّادِ – مُـذْ بَزَغَتْ * شَمْسٌ – وَمَجْمَعِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْقِيَمِ
أَهْلاً بِمَصْقَلَـةِ الأَوَّابِ مِـنْ زَلَلٍ * وَمُنْتَـدَى مَنْ نَأَى عَنْ بُـؤْرَةِ اللَّمَمِ
حان لقاء الضيف الذي طالما تاقت إليه النفوس،واستبشرت بقدومه القلوب ، شهر الصيام والقيام،وغسل الذنوب والآثام، من قَدَرَهُ حق قدره أفلح وفاز،ومن فاته وانسلخ منه بلا عمل ولا اجتهاد فقد خاب وخسر،ضيف له حق الضيافة وضيافته مراعاة حرمته،واستغلال نسماته ،والتعرض لنفحاته،فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
جميل الإستقبال بجميل الإستهلال:
من نعم الله على عباده أن يُدركوا شهر رمضان وما فيه من الخير،فإن أقواما حال الموت بينهم وبين ما يشتهون من لقائه،ولذلك الفرحة بلقاءه لا توازيها فرحة،فكان الاستبشار والفرح بقدومه سمة تلازم المؤمن فيستقبله ويُهنئ بقدومه إخوانه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ( أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم)[1] ، قال بعض أهل العلم: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بشهر رمضان.
ففي هذا الحديث إشارة في مشروعية التهنئة برمضان وغيره كالعيدين وتجدد النعم على العباد.فيقال في التهنئة شهر مبارك ،أو شهركم مبارك،أو عيدكم مبارك،أو تقبل الله منا ومنكم، وما شابه ذلك.
واستقبال الضيف يكون بالروح وحب الطاعة وزيادة القربة وتلمس مواسم الخير،ونفحات الأجور.أما ما يفعله الناس اليوم من الانهماك في تخزين ألوان المطائب والمآكل والمشارب وشغل جل أوقاتهم بها في ليلهم ونهارهم وتضييع الأوقات الثمينة في الولائم والعزائم فهذا من الخسار والبوار.
والمقصود أن المطلوب من المسلم أن يُحسن استقبال هذا الضيف بما يليق به،وتهنئة إخوانه بدخوله والدعاء لهم بالقبول وإحسان العمل،فالتهنئة بدخوله مشروعة والحمد لله، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم،ووصفه وسماه شهر مبارك،وما يتداوله الناس اليوم بقولهم رمضان كريم،أو كل سنة وأنت طيب، فليس لهذه العبارات أصل في السُنَّة.
لماذا نصوم؟
الحكمة والغاية الكبرى من الصيام، حصول التقوى،وحقيقة التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل،فهي رأس الأمر كله،وهي بمثابة الرأس من الجسد، والتقوى وصيةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍّ، عندما قال للرسول: أَوصِني، فقال صلى الله عليه وسلم: (أُوصِيك بتقوى الله، فإنها رأس الأمر كله)[2]،ولذلك بين الله العلة من الصيام في قوله تعالى(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[3] ،قال الشيخ السعدي رحمه الله(فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى, لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه)[4]، فبالتقوى تسموا النفس وتتعالى على متع الدنيا وترتقي إلى مراتب المتقين،ومآل الصالحين،( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ)[5]،وهذه من ثمرات التقوى التي كان سببها الصيام،والمقصود أن فرضية الصيام من أجل تحقق التقوى،ولذلك نلاحظ أن الصائم أكثر سكونا وطمأنينة وتقوى منه في غيره.
فرضية الصيام:
فرض الله الصيام على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ،كما فرضه على الأمم السابقة بالهيئة والصفة والكيفية التي يعلمها وبما يناسب كل أمة،كما قال تعالى(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)[6]،فالإسلام واحد منذ آدم عليه السلام،ولكن الشرائع تختلف من أمة لأخرى، كما قال عز وجل(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[7]،أي لعل الصيام يكون سببا في حصول التقوى لكم،ولا شك فإن من صام كما أمره الله ورسوله،حصلت له التقوى لتكون له زادا فيما بعد رمضان.
الأيام المعدودات:
وصف الله شهر رمضان بأيام معدودات فقال(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ)،وذلك لسرعة انقضائه وانتهائه ،وقِصر مكوثه بين أيدي الناس،وفيه إشارة إلى حث الناس على استثماره واستغلاله قبل الرحيل،فقد لا يدركه الكثيرون في عام قادم.
المريض والمسافر:
جعل الله لهما مخرجا لرفع المشقة والحرج،بالإفطار أيام قيام العذر والقضاء بعد رمضان،وهذا في الحالات العادية،أما الحالات التي يُفَصل فيها فهي:
المريض:
هناك نوعان من المرضى،مريض يُرجى له مع العلاج من الله شفاء،وآخر مرضه عضال لا يفيد معه العلاج إلا كمهدئ فقط ولا يُرجى له شفاء من الجانب الطبي، فلكل واحد منهما حُكمه:
المريض الذي يُرجى له شفاء يفطر عدد الأيام التي يحتاجها ويقضي بعد رمضان كما قال عز وجل في الآية(فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
صفة القضاء:
المتوقع من المسلم أن يبادر بقضاء ما عليه من رمضان فذلك دين في ذمته كدَين المال وأشد،بل هو أحق بالقضاء من دَين الآدميين،لأنه حق لله تعالى رتب على كماله أجرا لا حصر له،ولا يأمن مباغتة الأجل والخروج من الدنيا.ولو أن معه وقتا طويلا إلى ما قبل رمضان للقضاء ولكن الأجل لا يمهل فالمبادرة أولى،ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم القضاء على ولي الصائم فيما لو مات قبل القضاء،وذلك لأهمية المبادرة،فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم(من مات وعليه صيام صام عنه وليه)[8] ،وهذا عام في صوم رمضان أو النذور أو الكفارات وغيرها،فقد سأل رجل النبي ﷺ: قال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفاصوم عنها؟ قال( أرأيت لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيه؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)[9] وسألته امرأة عن ذلك قالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها قال(أرأيتِ لو كان على أمكِ دين أكنتِ قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)[10]،وإذا لم يكن له ولي جاز أن يصوم عنه متبرعا من المسلمين،والمرأة والرجل سواء في ذلك.
وأما المريض الذي توقف الطب في علاجه واستحال شفائه إلا إذا شاء الله تعالى فهو القادر على ذلك،وعجز الطب في العلاج وإنما يبقى تحت مهدئات ومقويات خلال الليل والنهار كمرضى السرطان وغيره،ولا بد من أخذ العلاج في نهار رمضان وإلا هلك،فهنا يكون عجز عن الصيام فيفطر ويخرج عن كل يوم طعام مسكين.وكذلك العاجز عن الصيام لِكِبَر سن وهرم فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا.وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما قول الله عز وجل(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)بقوله (ليست منسوخة ، هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما ، فيطعمان مكان كل يوم مسكينا)[11]،وهذا بعد فرضية الصيام،فصار الصيام فرضا على صحيح البدن،ورخص للمريض والمسافر مع القضاء،ووضعه عن كبير السن والعاجز وجعل مكانه الإطعام، وقد أطعم الصحابي الجليل أنس بن مالك لما كَبُر وعجز عن الصيام أطعم عن كل يوم مسكيناً .
مقدارالإطعام:
يُخْرج عن كل يوم طعام مسكين مقدار نصف صاع أي ما يعادل كيلو ونصف تقريبا من قوت البلد من الأرز أو الحنطة أو التمر،أي بمقدار 45 كيلو لكامل الشهر،ويجوز جمع يومين أو ثلاثة وإخراجها مرة واحدة، كما يجوز جمع عشرة أيام وإخراجها مرة واحدة،ويجوز أيضا إخراجها دفعة واحدة في آخر يوم من رمضان بمقدار 45 كيلو،ولكن الممنوع ألا يخرجها إلا بعد إتمام الصيام،ولا يخرج فدية اليوم إلا بعد إتمام صيامه.
القضاء والست من شوال:
دأب الكثير من الناس تقديم الست من شوال على قضاء الفائت من رمضان ،وهذا بلا شك من الخطأ ،لأن صيام الست من شوال سنة مستحبة للقادر على صيامها،وأما القضاء للفائت فهو فرض ودَين ومقدم على السنة المستحبة وتطوع النافلة،فيجب المبادرة بالقضاء ثم بعد ذلك تؤدى النافلة،ومن جانب آخر،فإن الذي يقدم صيام الست على قضاء الفرض لا يَصْدُق عليه أنه قد أتم صيام شهر رمضان ،فلا يحصل له الفضل من صيام الست من شوال وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم(من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر)[12]،قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله(جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر) يعني: صيام سنة كاملة،وينبغي أن يتنبه الإنسان إلى أن هذه الفضيلة لا تتحقق إلا إذا انتهى رمضان كله، ولهذا إذا كان على الإنسان قضاء من رمضان صامه أولاً ثم صام ستاً من شوال، وإن صام الأيام الستة من شوال ولم يقض ما عليه من رمضان فلا يحصل هذا الثواب سواء قلنا بصحة صوم التطوع قبل القضاء أم لم نقل، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من صام رمضان ثم أتبعه…) والذي عليه قضاء من رمضان يقال صام بعض رمضان ولا يقال صام رمضان، ويجوز أن تكون متفرقة أو متتابعة، لكن التتابع أفضل، لما فيه من المبادرة إلى الخير وعدم الوقوع في التسويف الذي قد يؤدي إلى عدم الصيام)[13].
المسافر:
المسافر مازال في حكم السفر فله الترخص برخص السفر ومنها الإفطار في رمضان لرفع المشقة عنه،ويقضي بعد رمضان كما بينا في أحوال القضاء.ولكن من المسافرين من يرى ومع تقارب الزمن وكثرة المواصلات الحديثة،وسهولة السفر والتنقل،مما يجعل المسافر لا يعاني من مشقة السفر ولا يحتاج إلى الترخص بالإفطار.فنقول يفعل الأرفق به وبحاله،فإن كان الصيام لا يشق عليه فليصم،وإذا كان فيه مشقة راجحة قد تسبب له ما يضره،فليفطر وليأخذ برخصة الله له كما يحب الله ويرضى ،ولا يعرض نفسه للتهلكة وقد جعله الله في سعة من أمره.
ليس من البِرْ:
هذه العبارة مقتطفة من الحديث الشريف الذي رواه جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ ، فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : صَائِمٌ، فَقَالَ (لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ)[14]، ومعناه: أي ليس من الطاعة والعبادة الصيام في السفر،قال النووي رحمه الله (مَعْنَاهُ : إِذَا شَقَّ عَلَيْكُمْ وَخِفْتُمْ الضَّرَر , وَسِيَاق الْحَدِيث يَقْتَضِي هَذَا التَّأْوِيل ، فالْحَدِيث فِيمَنْ تَضَرَّرَ بِالصَّوْمِ)، وقال ابن القيم رحمه الله (وَأَمَّا قَوْله : “لَيْسَ مِنْ الْبِرّ الصِّيَام فِي السَّفَر” , فَهَذَا خَرَجَ عَلَى شَخْص مُعَيَّنٍ , رَآهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ , وَجَهِده الصَّوْم , فَقَالَ هَذَا الْقَوْل , أَيْ : لَيْسَ الْبِرّ أَنْ يُجْهِد الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ حَتَّى يَبْلُغ بِهَا هَذَا الْمَبْلَغ , وَقَدْ فَسَّحَ اللَّه لَهُ فِي الْفِطْر)[15].
ونقول هذا الحديث وقع لسبب وحدث وقع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لشخص أشرف على الهلاك،فلا يُسقط على كل الأحوال.فلذلك إذا كان السفر لا يُلحق بالمسافر مشقة تضر به وأراد الصيام بدل الفطر فلا بأس بذلك ولا يلزمه تطبيق ما جاء في الحديث لانتفاء السبب،وإذا أفطر وأخذ بالرخصة فلا بأس،والمهم أن المسافر أدرى بحاله وقدرته،وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام في السفر كما في حديث جابر الآنف الذكر، قال الخطابي رحمه الله (هَذَا كَلَام خَرَجَ عَلَى سَبَب فَهُوَ مَقْصُور عَلَى مَنْ كَانَ فِي مِثْل حَاله كَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ مِنْ الْبِرّ أَنْ يَصُوم الْمُسَافِر إِذَا كَانَ الصَّوْم يُؤَدِّيه إِلَى مِثْل هَذِهِ الْحَال , بِدَلِيلِ صِيَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَره عَام الْفَتْح )[16].
الحامل والمُرْضِعْ والصيام:
الراجح من أقوال أهل العلم أن الحامل والمرضع حكمهما حكم المريض والمسافر ،إذا خافتا على نفسيهما وولديهما ،أفطرتا وتقضيان ما فاتهما بعد رمضان،قال العلامة ابن باز رحمه الله(الحامل والمرضع حكمهما حكم المريض ، إذا شق عليهما الصوم شُرِع لهما الفطر ، وعليهما القضاء عند القدرة على ذلك ، كالمريض ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يكفيهما الإطعام عن كل يوم : إطعام مسكين ، وهو قول ضعيف مرجوح ، والصواب أن عليهما القضاء كالمسافر والمريض لقول الله عز وجل ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )[17].
ولا شك أن الصيام للمسلم القادر أفضل كما قال عز وجل(وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
الِإبَر الطبية والصيام:
هناك نوعان من الإبر الطبية:
النوع الأول: الإبر المغذية التي تقوم مقام الطعام والشراب فهذه بلا شك تُفَطر،ولذلك يتفاداها المسلم وهو صائم ما استطاع،وإذا اضطر لها لمرض ونحوه فإنه يقضي الأيام التي أفطرها بسببها.
النوع الثاني:
الإبر الغير مغذية ولا تقوم مقام الطعام والشراب،كالتي تؤخذ في الوريد أو العضل لتهدئة الآلام،أو لخفض السكر ونحوها فهذه لا تفطر الصائم،ولا تؤثر في صيامه، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله(لا يفطر الصائم بأخذ الإبر في الوريد ولا في غيره، إلا أن تكون هذه الإبرة قائمة مقام الطعام بحيث يستغني بها الإنسان عن الأكل والشرب، فأما ما ليس كذلك فإنها لا تفطر مطلقاً، سواء أخذت من الوريد أو من غيره، وذلك لأن الأصل صحة الصوم حتى يقوم دليل على فساده، وهذه الإبر ليست أكلاً ولا شرباً، ولا بمعنى الأكل والشرب، وعلى هذا فينتفي عنها أن تكون في حكم الأكل والشرب)[18].
القطرة في العين والأذن والأنف والصيام:
القطرة في الأذن والعين لا تفطر على القول الراجح ولو وجد أثرها في حلقه لأنها ليست منفذا للتغذية إلى المعدة،أما قطرة الأنف فلا يجوز تعاطيها أثناء الصيام لأن الأنف منفذا للتغذية ،فإن اضطر لها فعليه القضاء،قال الإمام ابن باز رحمه الله(قطرة العين والأذن لا يفطر بهما الصائم في أصح قولي العلماء، فإن وجد طعم القطور في حلقه، فالقضاء أحوط ولا يجب، لأنهما ليسا منفذين للطعام والشراب،
أما القطرة في الأنف فلا تجوز لأن الأنف منفذ، ولهذا قال النبي ﷺ: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا)، وعلى من فعل ذلك القضاء لهذا الحديث، وما جاء في معناه إن وجد طعمها في حلقه)[19].
الصيام والسواك ومعجون الأسنان:
لا حرج باستخدام معجون الأسنان والسواك أثناء الصيام شريطة أن لا ينزل شيء من ذلك في الحلق.
التقيء والصيام:
من تعمد التقيء أثناء الصيام فقد أفطر وعليه القضاء، ومن غلبه القيء وخرج عن إرادته فلا قضاء عليه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ – أي : غلبه- فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ )[20].
الحجامة والصيام:
الخلاف فيها قائم ولكن الأولى بالمسلم أن يبتعد عن كل ما يُضْعف بدنه ويضطره إلى الإفطار وخدش الصيام،وإبقاءها إلى الليل أولى،وكذلك التبرع بالدم يُترك إلى الليل لإن المتبرع يضطر إلى شرب ما يعوض الدم ويسترد به صحته.وأما تحليل الدم اليسير فلا يضر الصائم ولا يُفطر فلا بأس به.
البخور والعودة والعطور والكحل أثناء الصيام:
لا بأس بها كلها أثناء الصيام،إلا أن ينبغي التنبه للعودة أو البخور لأنها تكون أحجاما تدخل إلى الجوف وتؤثر على الصائم،فالأولى تركها أثناء الصيام،لكن لو شمها الصائم من بعيد دون استنشاقها فلا تؤثر،قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله(وأما البخور فلا بأس أن يتطيب به الإنسان، ويطيب به ثوبه ويطيب به رأسه، ولكن لا يستنشقه، لأنه إذا استنشقه تصاعد إلى جوفه شيء من الدخان، والدخان ذو جرم، فيكون مثل الماء، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام للقيط: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، ثم إنه ثبت من الناحية الطبية أن استنشاق الدخان مضر على القصبات الهوائية، سواء كان بخوراً أو غير بخور، وبناء على ذلك لا ينبغي استنشاقه لا في حال الصيام ولا في حال الفطر)[21].
الإحتلام أثناء الصيام:
الإحتلام لا يُفسد الصوم لأنه بغير اختيار الصائم،ولكن عليه الغسل من الجنابة،ولا تصحمنه الصلاة إلا بالغسل،قال العلامة ابن باز رحمه الله(الاحتلام لا يفسد الصوم؛ لأنه ليس باختيار العبد، ولكن عليه غسل الجنابة إذا خرج منه مني؛ لأن النبي ﷺ لما سئل عن ذلك أجاب بأن على المحتلم الغسل إذا وجد الماء يعني المني)[22].
أكل أوشرب ناسيا أنه صائم:
من أكل أوشرب ناسيا فَلْيُتم صيامه ولا قضاء عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم(من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)[23]، قال العلامة ابن باز رحمه الله(والصواب أنه إذا أكل ناسيًا أو شرب ناسيًا فصومه صحيح ولا فطر عليه بل صومه صحيح، لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح لما سئل عن ذلك قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) ، وقال الله سبحانه: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)[24] ، ذكر عن عباده المؤمنين أنهم يدعونه ويقولون: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) فقال الله: قد فعلت هكذا ثبت عن رسول الله ﷺ أن الله جل وعلا قال: نعم، يعني: عفا عنهم إذا فعلوا شيئًا نسيانًا أو خطأً.
ومن ذلك إذا أكل ناسيًا في الصوم في رمضان أو في غيره في التطوع أو في القضاء أو في النذور إذا أكل ناسيًا أو شرب ناسيًا فلا شيء عليه،
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم( من أفطر في رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ولا كفارة وهذا يعم الفطر بالأكل والشرب )[25].
بخاخ الربو وبخاخ الأكسوجين والصيام:
بخاخ الربو والأكسوجين لا يؤثران على الصيام وهما من الضرورات التي يحتاجها مرضى الربو وضيق النفس وليسا بطعام ولا شراب ولا يقومان مقامهما،وإنما تفتيح لعروق الهواء،قال ابن باز رحمه الله(الفتوى صادرة في هذا بأنه لا يضر، لأنهم مضطرون إليه وهو ليس بأكل ولا شرب ولا يشبه الأكل والشرب وإنما هواء يعطيهم شيئاً من الراحة، هواء فيه شيء من دواء خفيف يعطيهم شيئاً من الراحة).
والمقصود أن شهر رمضان شهر مبارك يأتي في ثناياه كل خير ورفعة للمسلم في الدنيا والآخرة ،فهو منحة ومنة من الله على عباده.فعلى المسلم أن يُحسن استقباله بما يليق به،وأن يجتهد فيه بأنواع الطاعات،وأن يحيي ليله ونهاره بالذكر والعبادة،وليحذر من إماتة نهاره بالنوم وتضييع الصلوات،وإحياء ليله باللهو واللعب وتضييع الأوقات الفاضلة بالمناسبات والموائد والعزائم التي تفسد روحانيته وتوهن النفوس والأبدان عن نفحاته،فإن المحروم من حُرم فضل الله فيه ،والصَّلِفُ من فارقه رمضان ولم يُغفر له،فعن جابر ابن سمرة رضي الله عنه قال(صعِد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المنبرَ ، فقال : آمين ، آمين ، آمين ، فلمَّا نزل سُئل عن ذلك ، فقال : أتاني جبريلُ ، فقال : رغِم أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغفرْ له ، قُلْ : آمين ، فقلتُ : آمين ، ورغِم أنفُ امرئٍ ذُكِرتَ عنده فلم يُصلِّ عليك ، قُلْ : آمين ، فقلتُ : آمين ، ورغِم أنفُ رجلٍ أدرك والدَيْه أو أحدَهما فلم يُغفرْ له ، قُلْ : آمين ، فقلتُ : آمين)[26].هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] أخرجه النسائي وأحمد، وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط.
[2] رواه الحاكم بسند حسن.
[3] سورة البقرة 183.
[4] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان سورة البقرة 183.
[5] سورةالحجر 45-46.
[6] سورة المائدة 48.
[7] سورة البقرة 183.
[8] رواه البخاري ومسلم.
[9] رواه مسلم.
[10] رواه مسلم.
[11] تفسير ابن كثير ص 28.
[12] رواه مسلم.
[13] الموقع الرسمي للشيخ رحمه الله.
[14] رواه البخاري ومسلم.
[15] تهذيب السُنن لابن القيم.
[16] ينظر عون المعبود للخطابي.
[17] الموقع الرسمي لسماحته.
[18] الموقع الرسمي لسماحته.
[19] فتاوى ابن باز رحمه الله.
[20] رواه الترمذي وصححه الألباني.
[21] الموقع الرسمي لسماحته.
[22] الموقع الرسمي.
[23] رواه البخاري ومسلم.
[24] البقرة 286.
[25] الموقع الرسمي لسماحته.
[26] رواه الطبراني بسند حسن.