تفسير القرآن الكريم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله- تفسير سورة البقرة آية 119– 121 د. ناجي بن وقدان

   ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) (البقرة: ١١٩)

التفسير:

{١١٩} قوله تعالى: {إنا أرسلناك}؛ «إن» للتوكيد؛ اسمها «نا» لكن حذفت النون لتوالي الأمثال؛ مع أن الأصل أنها لا تحذف: «إننا»؛ لكن لا نقول اسمها الألف؛ إذ إن الألف لا تكون ضميراً إلا إذا اتصلت بفعل، مثل: قالا، قاما، وما أشبه ذلك؛ وحذف المرسل إليه لإفادة العموم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العالمين؛ وغيره من الرسل إلى قومهم خاصة.

قوله تعالى: {بالحق}؛ الباء هنا للمصاحبة، أو الملابسة؛ يعني أرسلناك متلبساً بالحق؛ أو أن المعنى: حاملاً الحق في هذه الرسالة؛ والآية تحتمل المعنيين؛ أحدهما: أن إرسالك حق؛ والثاني: أن ما أرسلت به حق؛ والمعنيان كلاهما صحيح؛

فتحمل الآية عليهما؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم رسالته حق؛ وعليه فالباء للملابسة؛ والرسول صلى الله عليه وسلم ما أرسل به فهو حق؛ وعلى هذا فالباء للمصاحبة ــ يعني أن رسالتك مصحوبة بالحق ــ؛ لأن ما جئت به حق؛ والحق هو الثابت المستقر؛ وهو ضد الباطل؛ والحق بالنسبة للأخبار الصدق؛ وبالنسبة للأحكام العدل.

قوله تعالى: {بشيراً} من البشارة؛ وهي الإخبار بما يسر؛ وقد تقع فيما يسوء، كقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: ٢١].

قوله تعالى: {ونذيراً} من الإنذار؛ وهو الإعلام بالمكروه؛ أي بما يخاف منه.

والرسول صلى الله عليه وسلم لا شك أنه مبشر بما يسر ــ وهو الجنة ــ؛ ومنذر بما يخاف منه ــ وهو النار و {بشيراً} حال من الكاف في {أرسلناك}؛ و {نذيراً} حال أخرى بواسطة حرف العطف؛ فجمع الله له بين كونه مبشراً، ومنذراً؛ لأن ما جاء به أمر، ونهي؛ والمناسب للأمر: البشارة؛ وللنهي: الإنذار؛ فعليه تكون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم جامعة بين البشرى، وبين الإنذار؛ والأمر، والنهي؛ إذاً فالرسول مبشر للمتقين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبداً؛ ومنذر للكافرين أن لهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.

قوله تعالى: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}؛ في {تسأل} قراءتان؛ إحداهما بالرفع على أن {لا} نافية؛ والفعل مبني لما لم يسم فاعله؛ يعني: ولا تُسأل أنت عن أصحاب الجحيم؛ أي لا يسألك الله عنهم؛ لأنك بلَّغت؛ والحساب

على الله؛ والقراءة الثانية: بالجزم على أن {لا} ناهية؛ و {تَسألْ}: فعل مضارع مبني للفاعل مجزوم بها؛ والمعنى: لا تَسأل عن أصحاب الجحيم بما هم عليه من العذاب؛ فإنهم في حال لا يتصورها الإنسان؛ وهذا غاية ما يكون من الإنذار لهؤلاء المكذبين المخالفين الذين هم أصحاب الجحيم؛ فالنهي هنا للتهويل؛ والقراءتان سبعيتان جامعتان للمعنيين؛ و {أصحاب} جمع صاحب؛ وهو الملازم؛ و {الجحيم} النار العظيمة؛ وهي لها أسماء كثيرة منها: النار، والسعير، وجهنم، والجحيم؛ كل ذلك لاختلاف أوصافها؛ وإلا فهي واحدة.

الفوائد:

١ ــ من فوائد الآية: الرد على هؤلاء الذين قالوا: {لولا يكلمنا الله … }؛ لقوله تعالى: {إنا أرسلناك بالحق}.

٢ ــ ومنها: ثبوت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {إنا أرسلناك}.

٣ ــ ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول صادق؛ وليس برب؛ لأن الرسول لا يمكن أن يكون له مقام المرسِل.

٤ ــ ومنها: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم متضمنة لأمر، ونهي، وتبشير، وإنذار؛ لقوله تعالى: {بشيراً ونذيراً}؛ والحكمة من ذلك ظاهرة؛ وذلك لأن الإنسان قد يهون عليه فعل الأوامر، ويشق عليه ترك المنهيات؛ أو بالعكس؛ فلو كانت الشريعة كلها أوامر ما تبين الابتلاء في كفّ الإنسان نفسه عن المحارم، ولو كانت كلها نواهي ما تبين ابتلاء الإنسان بحمل نفسه على الأوامر؛ فكان الابتلاء بالأمر، والنهي غاية الحكمة؛ فالشيخ

الكبير يهون عليه ترك الزنى؛ ولذلك كانت عقوبته على الزنى أشد من عقوبة الشاب؛ المهم أن الابتلاء لا يتم إلا بتنويع التكليف؛ فمثلاً الصلاة تكليف بدني؛ والزكاة بذل للمحبوب؛ والصيام ترك محبوب؛ والحج تكليف بدني، ومالي.

٥ ــ ومن فوائد الآية: أن وظيفة الرسل الإبلاغ؛ وليسوا مكلفين بعمل الناس؛ لقوله تعالى: {ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم}.

وعلى القراءة الثانية نستفيد فائدة ثانية؛ وهي شدة عذاب أصحاب الجحيم ــ والعياذ بالله ــ؛ لقوله تعالى: {ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم}.

( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة: ١٢٠)

التفسير:

{١٢٠} قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يتألف اليهود، والنصارى؛ والذي يحب أن يتألفهم يحب أن يرضوا عنه؛ فبين الله عزّ وجلّ أن هؤلاء اليهود والنصارى قوم ذوو عناد؛ لا يمكن أن يرضوا عنك مهما تألفتهم؛ ومهما ركنت إليهم بالتألف ــ لا بالمودة ــ فإنهم لن يرضوا عنك حتى تتبع ملتهم؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنهَ عنه؛ ثم بعد ذلك

كان يأمر بمخالفتهم؛ و {لا} هنا للتوكيد؛ وليست مستقلة؛ فإنها لو حذفت، وقيل: «ولن ترضى عنك اليهود والنصارى» لاستقام الكلام؛ لكنها زيدت للتوكيد؛ لأجل ألا يظن الظان أن المراد أن الجميع لا يرضون مجتمعين؛ مع أن الواقع أن كل طائفة لن ترضى؛ ونظير ذلك في زيادة «لا»: قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: ٧]: فإنها تفيد ما أفادته «لا» في قوله تعالى: {ولا النصارى و {حتى}: حرف غاية؛ وهي تنصب المضارع بنفسها عند الكوفيين؛ وبـ «أن» المقدرة عند البصريين؛ و {ملتهم} أي دينهم الذي كانوا عليه؛ فاليهود لن يرضوا عنك حتى تكون يهودياً، والنصارى لن ترضى عنك حتى تكون نصرانياً؛ ولكن الجواب الوحيد لهؤلاء الذين يقولون: «لا نرضى عنك حتى تتبع ملتنا»، قوله تعالى: {قل أي مجيباً لهم في عدم اتباع ملتهم {إن هدى الله هو الهدى} أي ليس الهدى ما أنتم عليه؛ بل إن هدى الله وحده هو الهدى؛ و {هو} ضمير فصل لا محل له من الإعراب؛ وقوله تعالى: {الهدى} خبر {إن}؛ أما اسمها فهو قوله تعالى: {هدى الله}.

قوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم}: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم؛ أو لكل من يتأتى خطابه؛ ولكن الأقرب أنه للرسول صلى الله عليه وسلم؛ و {لئن اتبعت} جملة فيها شرط، وقسم؛ وإذا اجتمعا ــ أي الشرط، والقسم فإنه يحذف جواب المؤخر منهما؛ قال ابن مالك في الألفية:

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم والقسَم دلت عليه اللام في قوله تعالى: {ولئن اتبعت}؛ إذ إن التقدير: «والله لئن اتبعت»؛ والشرط «إن». والجواب: {ما

لك من الله … }؛ وهو جواب القسم بناءً على القاعدة التي أشار إليها ابن مالك؛ ولأنه لو كان جواب الشرط لوجب اقترانه بالفاء؛ لأنه نُفي بـ {ما}؛ وجواب الشرط قيل: إنه محذوف دل عليه جواب القسم؛ وقيل: إنه لا يحتاج إليه لتمام الكلام بدونه؛ وهذا القول هو الراجح ــ أنه لا يحتاج إليه لتمام الكلام بدونه ــ؛ والدليل على ذلك؛ أنه لم يأت ذكره في أي أسلوب من أساليب اللغة العربية؛ فإذا لم يأت في أي أسلوب من أساليب اللغة العربية دل على أن الكلام مستغن عنه.

قوله تعالى: {بعد الذي جاءك من العلم} يشير إلى الوحي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان القرآن، أو السنة؛ فالذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عِلم.

قوله تعالى: {ما لك من الله من ولي ولا نصير}{ما} نافية؛ و {لك} جار ومجرور خبر مقدم؛ و {وليّ} مجرور لفظاً مرفوع محلاً على أنه مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد إعراباً؛ وأصلها: «ما لك من الله وليٌّ»؛ وجملة: {ما لك من الله} لا محل لها من الإعراب؛ لأنها جواب القسم؛ و «الولي» هو الذي يتولى غيره بحفظه، وصيانته؛ فالمعنى: ما أحد يتولى حفظك سوى الله عزّ وجلّ؛ و «النصير» هو الذي يدفع الشر؛ أي: ولا أحد يتولى نصرك، فيدفع عنك الشر سوى الله عزّ وجلّ.

الفوائد:

١ ــ من فوائد الآية: بيان عناد اليهود، والنصارى، حيث لا يرضون عن أحد إلا إذا اتبع دينهم.

٢ ــ ومنها: أن من كان لا يرضى إلا بذلك فسيحاول إدخال غير اليهود، والنصارى في اليهودية، والنصرانية.

٣ ــ ومنها: الحذر من اليهود، والنصارى؛ إذ لا يرضون لأحد حتى يكون يهودياً؛ أو نصرانياً.

٤ ــ ومنها: أن الكفر ملة واحدة؛ لقوله تعالى: {ملتهم}؛ وهو باعتبار مضادة الإسلام ملة واحدة؛ أما باعتبار أنواعه فإنه ملل: اليهودية ملة؛ والنصرانية ملة؛ والبوذية ملة؛ وهكذا بقية الملل؛ ولكن كل هذه الملل باعتبار مضادة الإسلام تعتبر ملة واحدة؛ لأنه يصدق عليها اسم الكفر؛ فتكون جنساً، والملل أنواعاً.

٥ ــ ومنها: الرد على أهل الكفر بهذه الكلمة: {هدى الله هو الهدى}؛ والمعنى: إن كان معكم هدى الله فأنتم مهتدون؛ وإلا فأنتم ضالون.

٦ ــ ومنها: أن ما عدا هدى الله ضلال؛ قال الله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} [يونس: ٣٢]؛ فكل ما لا يوافق هدى الله فإنه ضلال؛ وليس ثمة واسطة بين هدى الله، والضلال.

٧ ــ ومنها: أن البدع ضلالة؛ لقوله تعالى: {قل إن هدى الله هو الهدى}؛ وقوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: ٢٤]؛ فليس بعد الهدى إلا الضلال؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة» .

٨ ــ ومنها: تحريم اتباع أهواء اليهود، والنصارى؛ لقوله

تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من وليّ ولا نصير}.

٩ ــ ومنها: أن ما عليه اليهود والنصارى ليس ديناً؛ بل هو هوى؛ لقوله تعالى: {أهواءهم}؛ ولم يقل ملتهم كما في الأول؛ ففي الأول قال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}؛ لأنهم يعتقدون أنهم على ملة، ودين؛ ولكن بيَّن الله تعالى أن هذا ليس بدين، ولا ملة؛ بل هوى؛ وليسوا على هدًى؛ إذ لو كانوا على هدى لوجب على اليهود أن يؤمنوا بالمسيح عيسى بن مريم؛ ولوجب عليهم جميعاً أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لكن دينهم هوى، وليس هدًى؛ وهكذا كل إنسان يتبع غير ما جاءت به الرسل ــ عليهم الصلوات والسلام ــ، ويتعصب له؛ فإن ملته هوى، وليست هدًى.

١٠ ــ ومن فوائد الآية: أن من اتبع الهوى بعد العلم فهو أشد ضلالة؛ لقوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم … } الآية.

١١ ــ ومنها: أن ما جاء إلى الرسول سواء كان القرآن، أو السنة فهو علم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً ــ لا يقرأ، ولا يكتب ــ، كما قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} [العنكبوت: ٤٨]؛ ولكن الله تعالى أنزل عليه هذا الكتاب حتى صار بذلك نبياً جاء بالعلم النافع، والعمل الصالح.

١٢ ــ ومنها: أن من أراد الله به سوءاً فلا مرد له؛ لقوله تعالى: {ما لك من الله من ولي ولا نصير}.

١٣ ــ ومنها: أنك إذا اتبعت غير شريعة الله فلا أحد

يحفظك من الله؛ ولا أحد ينصرك من دونه ــ حتى لو كثر الجنود عندك؛ ولو كثرت الشُرَط؛ ولو اشتدت القوة ــ؛ لأن النصر والولاية تكون بالهداية باتباع هدى الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: ٨٢] فالأمن إنما يكون بالإيمان، وعدم الظلم.

١٤ ــ ومنها: أنه يجب تعلق القلب بالله خوفاً، ورجاءً؛ لأنك متى علمت أنه ليس لك وليّ، ولا نصير فلا تتعلق إلا بالله؛ فلا تعلق قلبك أيها المسلم إلا بربك.

( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة: ١٢١)

التفسير:

{١٢١} قوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب} مبتدأ؛ وجملة؛ {يتلونه حق تلاوته} قيل: إنها خبر المبتدأ؛ وعلى هذا فتكون الجملة الثانية: {أولئك يؤمنون به} استئنافية؛ وقيل: إن قوله تعالى: {يتلونه حق تلاوته} جملة حالية، وأن جملة: {أولئك يؤمنون به} خبر المبتدأ؛ والأقرب الإعراب الثاني؛ لأن الكلام هنا عن الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: لا يؤمنون به إلا من يتلو الكتاب حق تلاوته سواء التوراة، أو الإنجيل، أو القرآن؛ وعلى هذا فقيد الذي آتيناه الكتاب بكونهم يتلونه حق التلاوة أحسن ــ يعني: أن من أوتي الكتاب، وصار على هذا الوصف ــ يتلوه حق تلاوته ــ فهو الذي يؤمن به ــ.

وقوله تعالى: {آتيناهم الكتاب} أي أعطيناهم الكتاب؛ والإيتاء هنا إيتاء شرعي، وكوني؛ لأن الله تعالى قدر أن يعطيهم الكتاب، فأعطاهم إياه؛ وهو أيضاً إيتاء شرعي؛ لأنه فيه الشرائع، والبيان؛ والمراد بمن آتاهم الكتاب: إما هذه الأمة؛ أو هي، وغيرها؛ وهذا هو الأرجح ــ أنه شامل لكل من آتاه الله الكتاب ــ؛ و {الكتاب} المراد به الجنس؛ فيشمل القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وغيرها من كتب الله عزّ وجلّ.

قوله تعالى: {يتلونه حق تلاوته}؛ «التلاوة» تطلق على تلاوة اللفظ ــ وهي القراءة ــ؛ وعلى تلاوة المعنى وهي التفسير ــ؛ وعلى تلاوة الحكم ــ وهي الاتِّباع ــ؛ هذه المعاني الثلاثة للتلاوة داخلة في قوله تعالى: {يتلونه حق تلاوته}؛ فـ «التلاوة اللفظية» قراءة القرآن باللفظ الذي يجب أن يكون عليه معرباً كما جاء لا يغير؛ و «التلاوة المعنوية» أن يفسره على ما أراد الله؛ ونحن نعلم مراد الله بهذا القرآن؛ لأنه جاء باللغة العربية، كما قال لله تعالى: {بلسان عربي مبين} [الشعراء: ١٩٥]؛ وهذا المعنى في اللغة العربية هو ما يقتضيه هذا اللفظ؛ فنكون بذلك قد علمنا معنى كلام الله عزّ وجلّ؛ و «تلاوة الحكم» امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتصديق الأخبار.

وقوله تعالى: {حق تلاوته} هذا من باب إضافة الوصف إلى موصوفه ــ يعني: التلاوة الحق ــ؛ أي التلاوة الجِد، والثبات، وعدم الانحراف يميناً، أو شمالاً؛ وهو من حيث الإعراب: مفعول مطلق؛

لأنه مضاف إلى مصدر، كما قال ابن مالك في الألفية:

(كجِدَّ كل الجِدِّ) قوله تعالى: {ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون}؛ {من} شرطية جازمة؛ {يكفر} مجزوم على أنه فعل الشرط؛ {به} أي بالكتاب؛ وجملة: {فأولئك هم الخاسرون} هي جواب الشرط؛ واقترنت بالفاء؛ لأنها جملة اسمية؛ والجملة الاسمية إذا كانت جواباً للشرط وجب اقترانها بالفاء؛ وأتى بالجملة الاسمية المفيدة للثبوت، والاستمرار؛ وأتى بضمير الفصل {هم} لإفادة الحصر، والتوكيد؛ يعني: فأولئك الذين كفروا به هم الخاسرون لا غيرهم؛ وأصل «الخسران» النقص؛ ولهذا يقال: ربح؛ ويقال في مقابله: خسر؛ فهؤلاء هم الذي حصل عليهم النقص لا غيرهم؛ لأنهم مهما أوتوا من الدنيا فإنها زائلة، وفانية، فلا تنفعهم.

الفوائد:

١ ــ من فوائد الآية: منة الله عزّ وجلّ على من آتاه الله تعالى الكتاب، فتلاه حق تلاوته.

٢ ــ ومنها: أنه ليس مجرد إتيان الكتاب فضيلة للإنسان؛ بل الفضيلة بتلاوته حق تلاوته.

٣ ــ ومنها: أن للإيمان علامة؛ وعلامته العمل؛ لقوله تعالى: {أولئك يؤمنون به} بعد قوله عزّ وجلّ: {يتلونه حق تلاوته}.

٤ ــ ومنها: أن من خالف القرآن في شيء كان ذلك دليلاً على نقص إيمانه؛ لقوله تعالى: {يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به}؛ فمعنى ذلك: إذا لم يتلوه حق تلاوته فإنهم لم يؤمنوا به؛ بل نقص من إيمانهم بقدر ما نقص من تلاوتهم له.

٥ ــ ومنها: أن تلاوة القرآن نوعان؛ تلاوة حق؛ وتلاوة ناقصة ليست تامة؛ فالتلاوة الحق أن يكون الإنسان تالياً للفظه، ولمعناه عاملاً بأحكامه مصدقاً بأخباره؛ فمن استكبر أو جحد فإنه لم يتله حق تلاوته.

٦ ــ ومنها: أن الكافر بالقرآن مهما أصاب من الدنيا فهو خاسر؛ لقوله تعالى: {ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون}؛ يكون خاسراً ــ ولو نال من الدنيا من أموال، وبنين، ومراكب فخمة، وقصور مشيدة ــ؛ لأن هذه كلها سوف تذهب، وتزول؛ أو هو يزول عنها، ولا تنفعه؛ واذكر قصة قارون، واتل قول الله تعالى: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} [الزمر: ١٥]؛ فإذاً يصدق عليهم أنهم هم الخاسرون، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} [المنافقون: ٩]؛ ولما كان الذي يتلهى بذلك عن ذكر الله يظن أنه يربح قال تعالى: {ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} [المنافقون: ٩] يعني: ولو ربحوا في دنياهم.

٧ ــ ومن فوائد الآية: علوّ مرتبة من يتلون الكتاب حق تلاوته؛ للإشارة إليهم بلفظ البعيد: {أولئك يؤمنون به}.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *