(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (البقرة:84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:85)( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:86)
التفسير:
.{ 84 . 85 } قوله تعالى: { وإذ أخذنا ميثاقكم }: يذَكِّرهم الله سبحانه وتعالى بالميثاق الذي أخذه عليهم؛ وبين الله تعالى الميثاق هنا بأمرين:.
الأول: قوله تعالى: { لا تسفكون دماءكم } أي لا تريقونها؛ و”السفك”، و”السفح” بمعنى واحد؛ والمراد بسفك الدم: القتل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة: “لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً”(1) أي يقتل نفساً بغير حق؛ و{ دماءكم } أي دماء بعضكم؛ لكن الأمة الواحدة كالجسد الواحد؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم”(2) ، وقال: “ويجير عليهم أقصاهم(3)” ..
الأمر الثاني: قوله تعالى: { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم }؛ المراد: لا يخرج بعضكم بعضاً من دياركم؛ ولا شك أن الإخراج من الوطن شاق على النفوس؛ وربما يكون أشق من القتل..
قوله تعالى: { ثم أقررتم وأنتم تشهدون } أي ثم بعد هذا الميثاق بقيتم عليه، وأقررتم به، وشهدتم عليه، ولم يكن الإقرار غائباً عنكم، أو منسياً لديكم؛ بل هو باق لا زائل؛ ثم بعد هذا الميثاق، والإقرار به، والشهادة عليه { أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم }؛ و{ هؤلاء } منادى حذف منه حرف النداء . أي: يا هؤلاء؛ وليست خبر المبتدأ؛ و{ أنتم }: مبتدأ خبره جملة: { تقتلون }؛ والخطاب لمن كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإنما وجه إليهم؛ لأنهم من الأمة التي فعلت ذلك، ورضوا به..
وقوله تعالى: { تقتلون أنفسكم } أي يقتل بعضكم بعضاً؛ { وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم } أي تجلونهم عن الديار؛ وهذا وقع بين طوائف اليهود قرب بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قتل بعضهم بعضاً، وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم..
قوله تعالى: { تظاهرون } بتخفيف الظاء؛ وفيها قراءة أخرى: { تظّاهرون } بتشديد الظاء؛ وأصله: تتظاهرون؛ ولكن أبدلت التاء ظاءً، ثم أدغمت بالظاء الأصلية؛ و{ تظاهرون } أي تعالَون؛ لأن الظهور معناه العلوّ، كما قال الله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } [الصف: 9] يعني ليعليه؛ وسمي العلوّ ظهوراً: من الظهر؛ لأن ظهر الحيوان أعلاه؛ وقيل: { تظاهرون } أي تعينون من يعتدي على بعضكم في عدوانه..
قوله تعالى: { بالإثم } أي بالمعصية؛ { والعدوان } أي الاعتداء على الغير بغير حق؛ فكل عدوان معصية؛ وليست كل معصية عدواناً . إلا على النفس: فالرجل الذي يشرب الخمر عاصٍ، وآثم؛ والرجل الذي يقتل معصوماً هذا آثم، ومعتد؛ والذي يخرجه من بلده آثم، ومعتد؛ ولهذا قال تعالى: { تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان }؛ فهؤلاء بعد ما أخذ عليهم الميثاق مع الإقرار، والشهادة لم يقوموا به؛ أخرجوا أنفسهم من ديارهم، وتظاهروا عليهم بالإثم، والعدوان..
قوله تعالى: { وإن يأتوكم } أي يجيئون إليكم؛ { أسارى }: جمع أسير؛ وتجمع أيضاً على أسرى، كما في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى} [الأنفال: 70] ؛ والأسير هو الذي استولى عليه عدوه؛ ولا يلزم أن يأسره بالحبل؛ لكن الغالب أنه يؤسر به؛ لئلا يهرب؛ و{ تفادوهم } أي تفكوهم من الأسر بفداء؛ وفي قراءة( تفدوهم )
قوله تعالى: { وهو محرم عليكم إخراجهم } يعني: تفدون المأسورين وهو محرم عليكم إخراجهم من ديارهم؛ فأنتم لم تقوموا بالإيمان بالكتاب كله؛ ولهذا قال الله تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }؛ والاستفهام هنا للإنكار، والتوبيخ؛ والفاء في قوله تعالى: { أفتؤمنون } عاطفة؛ وسبق الكلام على مثل ذلك؛ أعني وقوع العاطف بعد همزة الاستفهام(4) ؛ ووجه كونهم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض: أنهم كفروا بما نهوا عنه من سفك الدماء، وإخراج أنفسهم من ديارهم؛ وآمنوا بفدائهم الأسرى؛ والذي يعبد الله على هذه الطريق لم يعبد الله حقيقة؛ وإنما عبد هواه؛ فإذا صار الحكم الشرعي يناسبه قال: آخذ به؛ وإذا كان لا يناسبه راوغ عنه بأنواع التحريف، والتماس الأعذار..
قوله تعالى: { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة }؛ “ما” نافية؛ والجزاء، والمجازاة، والمعاقبة معناها واحد؛ أو متقارب؛ ومعنى “الجزاء” : إثابة العامل على عمله؛ والمعنى: ما ثوابكم على عملكم هذا إلا خزي في الحياة الدنيا؛ و “الخزي” معناه الذلّ..
قوله تعالى: { ويوم القيامة } أي يوم البعث؛ وسمي بذلك؛ لأن الناس يقومون فيه من قبورهم لرب العالمين؛ ولأنه يقوم فيه الأشهاد؛ ولأنه يقام فيه العدل؛ و{ يوم القيامة } ظرف متعلق بـ{ يردون } أي يرجعون من ذلّ الدنيا، وخزيها؛ { إلى أشد العذاب } أي أعظمه؛ و{ العذاب }: العقوبة..
قوله تعالى: { وما الله بغافل }: هذه صفة سلبية . أي نفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه صفة الغفلة؛ وذلك لكمال علمه، ومراقبته؛ و{ عما تعملون }: بالتاء؛ وفيها قراءة: { يعملون }: بالياء..
.{ 86 } قوله تعالى: { أولئك }: المشار إليه هؤلاء اليهود الذين نقضوا العهد؛ { اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } أي اختاروا الدنيا على الآخرة؛ فالآخرة عندهم مزهود فيها مبيعة؛ والدنيا مرغوب فيها مشتراة؛ ووصفت هذه الحياة بالدنيا لدنوها زمناً . لأنها سابقة على الآخرة؛ ولدنوها منْزلة . لأنها دون الآخرة؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها(5)” ..
وقوله تعالى: { بالآخرة }: الباء هنا للبدل؛ وهي تدخل دائماً على الثمن، كقولهم: “اشتريت الثوب بدينار”: فالدينار هو الثمن؛ ويقال: “اشتريت الدينار بثوب”: فالثوب هو الثمن..
قوله تعالى: { فلا يخفف عنهم العذاب } أي لا يهوَّن عنهم لا زمناً، ولا شدة، ولا قوة؛ { ولا هم ينصرون } أي ولا أحد يمنع عنهم عذاب الله؛ لقوله تعالى: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب * قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} [غافر: 49، 50] ؛ فهم يائسون من الخروج؛ فلم يقولوا: “أخرجنا من النار”، ولم يقولوا: “يخفف عنا دائماً”؛ بل قالوا: {يخفف عنا يوماً من العذاب} : يتمنون أن العذاب يخفف عنهم يوماً واحداً من الأبدي السرمدي؛ ولكن ذلك لا يحصل لهم؛ فيقال لهم توبيخاً، وتقريعاً، وتنديماً: { أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا }؛ ولا ينفعهم الدعاء، كما قال تعالى: { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال }، أي ضياع..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن بني إسرائيل أُخذ عليهم تحريم قتال بعضهم بعضاً؛ لقوله تعالى: ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم )
.2 ومنها: تحريم إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم..
.3 ومنها: أن الأمة كالنفس الواحدة؛ لقوله تعالى: ( لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم ).
.4 ومنها: الأسلوب البليغ في قوله تعالى: { لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم }؛ وذلك أن مثل هذا التعبير فيه الحث البليغ على اجتناب ما نُهي عنه، وكأن الذي اعتدى على غيره قد اعتدى على نفسه
.5 ومنها: أن بني إسرائيل قد أقروا على أنفسهم بهذا الميثاق، وشهد بعضهم على بعض؛ لقوله تعالى: { ثم أقررتم وأنتم تشهدون..
.6 ومنها: بيان تمرد بني إسرائيل؛ حيث إنهم نقضوا العهد الذي أخذه الله عليهم، فصار بعضهم يقتل بعضاً، ويخرج بعضهم بعضاً من ديارهم..
.7 ومنها: أن بعضهم يتعالى على بعض بالإثم، والعدوان..
.8 ومنها: تحريم التظاهر على الغير بغير حق؛ لقوله تعالى: { تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان }؛ وأما إذا علا عليه بحق فإن هذا لا بأس به؛ فإن الله سبحانه وتعالى فضل العباد بعضهم على بعض، كما قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] ، وقال تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} [محمد: 35] ..
.9 ومنها: تناقض بني إسرائيل في دينهم، وقبولهم للشريعة؛ حيث إنه يقتل بعضهم بعضاً، ويخرج فريقاً من ديارهم؛ ثم إذ أتى بعضهم أسيراً فاداه . أي دفع فدية لفك أسره؛ لأنه واجب عليهم في شريعتهم أن يفدي بعضهم بعضاً؛ وهذا من الإيمان ببعض الكتاب، والكفر ببعضه؛ ولهذا قال الله تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }..
.10 ومنها: أن الكفر ببعض الشريعة كفر بجميعها؛ وجه ذلك أن الله توعد هؤلاء الذين يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض؛ ومثل ذلك إذا آمن ببعض الرسل دون بعض فإنه كفر بالجميع؛ ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى: { كذبت قوم نوح المرسلين } [الشعراء: 105] . ونوح هو أول الرسل لم يسبقه رسول؛ ومع ذلك جعل الله المكذبين له مكذبين لجميع الرسل؛ ولقوله تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلًا * أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} [النساء: 150، 151] ..
.11 ومن فوائد الآية: مضاعفة العقوبة على بني إسرائيل؛ لقوله تعالى: ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب )
.12 ومنها: إثبات يوم القيامة؛ وهو اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين مبعوثين من قبورهم..
.13 ومنها: تهديد الذين نقضوا العهد؛ لقوله تعالى: ( وما الله بغافل عما تعملون )
.14 ومنها: كمال علم الله سبحانه وتعالى، ومراقبته لخلقه..
.15 ومنها: إثبات أن صفات الله تعالى ثبوتية، ومنفية؛ لكن يجب أن نعلم أن النفي المحض لا يوجد في صفات الله تعالى؛ وإنما النفي الواقع في صفاته لبيان كمال ضد ذلك المنفي؛ ففي قوله تبارك وتعالى: {ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49] إثبات كمال العدل مع نفي الظلم عنه؛ وفي قوله تعالى: {وما مسَّنا من لغوب} [ق: 38] إثبات كمال القوة مع نفي اللغوب عنه؛ وعلى هذا فقس؛ فالضابط في الصفات التي نفاها الله تعالى عن نفسه أنها تدل على نفي تلك الصفة، وعلى ثبوت كمال ضدها..
.16 ومن فوائد الآية: توبيخ من اختار الدنيا على الآخرة؛ وهو مع كونه ضلالاً في الدين سفه في العقل؛ إذ إن الدنيا متاع قليل، ثم يزول؛ والآخرة خير، وأبقى..
.17 ومنها: أن هؤلاء القوم خالدون في العذاب أبد الآبدين؛ لقوله تعالى: { فلا يخفف عنهم العذاب }..
.18ومنها: أن المجرم لا يجد ناصراً له يمنعه من عذاب الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { ولا هم ينصرون }..
مسألة :-
هذا الذي قصه الله تعالى علينا من أخبار بني إسرائيل مضمونه التحذير من الوقوع فيما وقعوا فيه ولكن مع الأسف أن بعض هذه الأمة وقعوا في جنس ما وقع فيه بنو إسرائيل؛ وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم “لتركبن سنن من كان قبلكم(1)” ..
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة:87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:88)
التفسير:
.{ 87 . 88 } قوله تعالى: { ولقد }: اللام موطئة للقسم؛ و “قد” للتحقيق؛ وعليه فتكون هذه الجملة مؤكّدة بثلاثة مؤكّدات . وهي: القسم المقدَّر، واللام الموطئة للقسم، و “قد” ؛ و{ آتينا } أي أعطينا؛ و{ موسى } هو ابن عمران أفضل أنبياء بني إسرائيل؛ و{ الكتاب }: المراد به هنا التوراة..
قوله تعالى: { وقفينا من بعده بالرسل } أي أتبعنا من بعده بالرسل؛ لأن التابع يأتي في قفا المتبوع..
قوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم } أي أعطيناه { البينات }: صفة لموصوف محذوف؛ والتقدير: الآية البينات . أي الظاهرات في الدلالة على صدقه، وصحة رسالته؛ وهذه الآية البينات تشمل الآية الشرعية، كالشريعة التي جاء بها؛ والآية القدرية الكونية، كإحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله..
قوله تعالى: { وأيدناه } أي قويناه، كقوله تعالى: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14] أي قويناهم عليهم؛ وهو معروف اشتقاقه؛ لأنه من “الأيد” بمعنى القوة، كما قال الله تعالى: { والسماء بنيناها بأيد } [الذاريات: 47] أي بقوة..
قوله تعالى: { بروح القدس } من باب إضافة الموصوف إلى صفته . أي بالروح المقدس؛ و”القُدُس”، و”القُدْس” بمعنى الطاهر؛ واختلف المفسرون في المراد بـ “روح القدس”:.
القول الأول : أن المراد روح عيسى؛ لأنها روح قدسية طاهرة؛ فيكون معنى: {أيدناه بروح القدس } أي أيدناه بروح طيبة طاهرة تريد الخير، ولا تريد الشر..
والقول الثاني : أن المراد بـ “روح القدس” : الإنجيل؛ لأن الإنجيل وحي؛ والوحي يسمى روحاً، كما قال الله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] ..
و القول الثالث: أن المراد بـ “روح القدس” جبريل . عليه الصلاة والسلام . كما قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك} [النحل: 102] : وهو جبريل؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت وهو يهجو المشركين: “اللهم أيده بروح القدس”(2) أي جبريل؛ وهذا أصح الأقوال . وهو أن المراد بـ “روح القدس” : جبريل . عليه الصلاة والسلام . يكون قريناً له يؤيده، ويقويه، ويلقنه الحجة على أعدائه؛ وهذا الذي رجحناه هو الذي رجحه ابن جرير، وابن كثير . أن المراد بـ “روح القدس” : جبريل عليه الصلاة والسلام..
قوله تعالى: { أفكلما }: الهمزة للاستفهام الإنكاري، والتوبيخ؛ والفاء عاطفة؛ و “كلما” أداة شرط تفيد التكرار؛ ولا بد فيها من شرط، وجواب؛ والشرط هنا: قوله تعالى: { جاءكم }؛ والجواب: { استكبرتم }..
وقوله تعالى: { أفكلما جاءكم رسول } أي من الله؛ { بما } أي بشرع؛ { لا تهوى أنفسكم } أي لا تريد؛ { استكبرتم } أي سلكتم طريق الكبرياء، والعلوّ على ما جاءت به الرسل؛ { ففريقاً } أي طائفة؛ ونصب على أنه مفعول مقدم لـ{ كذبتم }؛ { وفريقاً تقتلون } أي وطائفة أخرى تقتلونهم؛ وقدم المفعول على عامله؛ لإفادة الحصر مع مراعاة رؤوس الآي؛ والحصر هنا في أحد شيئين لا ثالث لهما: إما التكذيب؛ وإما القتل . يعني مع التكذيب..
وهنا قال تعالى: { كذبتم } . فعل ماضٍ؛ وقال تعالى: { تقتلون } . فعل مضارع؛ فأما كون الأول فعلاً ماضياً فالأمر فيه ظاهر؛ لأنه وقع منهم التكذيب؛ وأما الإتيان بفعل مضارع بالنسبة للقتل فهو أولاً مراعاة لفواصل الآية؛ لأنه لو قال: “فريقاً قتلتم” لم تتناسب مع التي قبلها، والتي بعدها؛ ثم إن بعض العلماء أبدى فيها نكتة: وهي أن هؤلاء اليهود استمر قتلهم الرسل حتى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم قتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالسم الذي وضعوه له في خيبر؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ما زال يتأثر منه حتى إنه صلى الله عليه وسلم في مرض موته قال: “ما زالت أكلة خيبر تعاودني، وهذا أوان انقطاع الأبهر مني”(1) ؛ قال الزهري: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيداً؛ لأن اليهود تسببوا في قتله؛ وهذا ليس ببعيد أن يكون هذا من أسرار التعبير بالمضارع في القتل؛ وإن كان قد يَرِدُ عليه أن التكذيب استمر حتى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فلماذا لم يقل: “فريقاً تكذبون وفريقاً تقتلون”؟! والجواب عن هذا أن القتل أشد من التكذيب؛ فعبر عنه بالمضارع المستمر إلى آخر الرسل..
فإن قيل: كيف يصح قول الزهري: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيداً؛ لأن اليهود كانوا سبباً في قتله، وقد قال الله تعالى: { والله يعصمك من الناس }؟
فالجواب: المراد بقوله تعالى: { يعصمك من الناس }: حال التبليغ؛ أي بلغ وأنت في حال تبليغك معصوم، ولهذا لم يعتد عليه أحد أبداً في حال تبليغه، فقتله..
قوله تعالى: { وقالوا } أي بنو إسرائيل معتذرين عن ردهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ { قلوبنا غلف } جمع أغلف؛ و”الأغلف” هو الذي عليه غلاف يمنع من وصول الحق إليه . يعني مغلفة لا تصل إليها دعوة الرسل؛ وهذه حجة باطلة؛ ولهذا قال تعالى: { بل لعنهم الله بكفرهم }؛ و{ بل } للإضراب الإبطالي . أي أن الله تعالى أبطل حجتهم هذه، وبيَّن أنه تعالى: { لعنهم } . أي طردهم، وأبعدهم عن رحمته؛ { بكفرهم } أي بسبب كفرهم، حيث اختاروا الكفر على الإيمان؛ و “كُفْر” مصدر مضاف إلى فاعله؛ ولم يذكر مفعوله ليعم الكفرَ بكل ما يجب الإيمان به..
قوله تعالى: { فقليلاً ما يؤمنون } أي قليلاً إيمانهم؛ وعلى هذا تكون { ما } إما مصدرية؛ وإما زائدة لتوكيد القلة؛ وهل المراد بالقلة العدم، أو هي على ظاهرها؟ المعنى الأول أقرب؛ لأن الظاهر من حالهم عدم الإيمان بالكلية؛ ولا يمتنع أن يراد بالقلة العدم إذا دلت عليه القرائن الحالية، أو اللفظية..
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: إثبات رسالة موسى؛ لقوله تعالى: ( ولقد آتينا موسى الكتاب )
.2 ومنها: تأكيد الخبر ذي الشأن . وإن لم ينكر المخاطب؛ لقوله تعالى: { ولقد آتينا }؛ فإنها مؤكدة بثلاث مؤكدات مع أنه لم يخاطب بها من ينكر؛ وتأكيد الكلام يكون في ثلاثة مواضع:.
أولاً: إذا خوطب به المنكِر، وقد قال علماء البلاغة: إنه في هذه الحال يؤكد وجوباً..
ثانياً: إذا خوطب به المتردد؛ وقد قال علماء البلاغة: إنه في هذه الحال يؤكد استحساناً..
ثالثاً: إذا كان الخبر ذا أهمية بالغة فإنه يحسن توكيده . وإن خوطب به من لم ينكر، أو يتردد..
3 . ومن فوائد الآيتين: أن من بعد موسى من الرسل من بني إسرائيل تبع له؛ لقوله تعالى: { وقفينا من بعده بالرسل }؛ ويشهد لهذا قوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار} (المائدة: 44)
.4 ومنها: ثبوت رسالة عيسى؛ لقوله تعالى: ( وآتينا عيسى بن مريم البينات )
.5 ومنها: أن من ليس له أب فإنه ينسب إلى أمه؛ لأن عيسى عليه السلام نسب إلى أمه..
وبهذا نعرف أن القول الراجح من أقوال أهل العلم أن أم من ليس له أب شرعاً هي عصبته؛ فإن عدمت فعصبتها . خلافاً لمن قال: إن أمه ليس لها تعصيب؛ ويظهر أثر ذلك بالمثال: فلو مات من ليس له أب عن أمه، وخاله: فلأمه الثلث والباقي لخاله . على قول من يقول: إن الأم لا تعصيب لها؛ أما على القول الراجح: فلأمه الثلث فرضاً، والباقي تعصيباً..
.6 ومن فوائد الآيتين: أن عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم أعطاه الله سبحانه وتعالى آيات كونية، وشرعية؛ مثال الشرعية: الإنجيل؛ ومثال الكونية: إحياء الموتى، وإخراجهم من القبور، وإبراء الأكمه، والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيراً يطير بإذن الله؛ وكذلك أيضاً يخبرهم بما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم؛ قال العلماء: إنما أعطي هذه الآية الكونية؛ لأن الطب في عهده ارتقى إلى درجة عالية، فأتاهم بآيات لا يقدر الأطباء على مثلها؛ كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم ترقى في عهده الكلام إلى منْزلة عالية في البلاغة، والفصاحة؛ فآتاه الله سبحانه وتعالى القرآن العظيم الذي عجزوا أن يأتوا بمثله..
.7 ومن فوائد الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى أيد عيسى بجبرائيل؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس.
.8 ومنها: أن الملائكة من جملة تسخيرهم للخلق أنهم يؤيدون من أمَرَهم الله بتأييده؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: “اللهم أيده بروح القدس(6)” ..
.9 ومنها: بيان عتوّ بني إسرائيل، وأنهم لا يريدون الحق؛ لقوله تعالى: ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون )
.10 ومنها: أن بني إسرائيل يبادرون بالاستكبار عند مجيء الرسل إليهم، ولا يتأنون؛ لقوله تعالى: { أفكلما جاءكم }، ثم قال تعالى: { استكبرتم }؛ لأن مقتضى ترتب الجزاء على الشرط أن يكون الجزاء عقيباً للشرط: كلما وجد الشرط وجد الجزاء فوراً..
.11 ومنها: توبيخ ولوم بني إسرائيل، وبيان مناهجهم بالنسبة للشرائع، وبالنسبة لمن جاء بالشرائع؛ ففي الشرائع: لا يقبلون إلا ما وافق أهواءهم، وبالنسبة لمن جاء بالشرائع بما لا تهوى أنفسهم: انقسموا إلى قسمين: فريقاً يكذبون؛ وفريقاً يقتلون مع التكذيب..
.12 ومنها: أن من استكبر عن الحق إذا كان لا يوافق هواه من هذه الأمة فهو شبيه ببني إسرائيل؛ فإذا استكبر عن الحق . سواء تحيل على ذلك بالتحريف؛ أو أقر بأن هذا الحق، ولكنه استكبر عنه . فإنه مشابه ببني إسرائيل..
والخارجون عن الحق ينقسمون إلى قسمين: قسم يقرُّ به، ويعترف بأنه عاصٍ؛ وهذا أمره واضح، وسبيله بين، وقسم آخر يستكبر عن الحق، ويحاول أن يحرف النصوص إلى هواه؛ وهذا الأخير أشد على الإسلام من الأول؛ لأنه يتظاهر بالاتباع وهو ليس من أهله..
.13 ومن فوائد الآيتين: أن بعض الناس يستكبر عن الحق؛ لأنه مخالف لهواه..
.14 ومنها: أن بني إسرائيل انقسموا في الرسل الذين جاءوا بما لا تهوى أنفسهم إلى قسمين: قسم كذبوهم؛ وقسم آخر قتلوهم مع التكذيب..
.15ومنها: أن هؤلاء الذين لم يقبلوا الحق احتجوا بما ليس بحجة؛ فقالوا: قلوبنا غلف..
.16 ومنها: أن من صنع مثل صنيعهم فهو شبيه بهم؛ يوجد أناس نسمع عنهم أنهم إذا نُصِحوا، ودُعوا إلى الحق قالوا: “ما هدانا الله”؛ وهؤلاء مشابهون لليهود الذين قالوا: ( قلوبنا غلف )
.17 ومنها: أن القلوب بفطرتها ليست غلفاء؛ لقوله تعالى: { بل لعنهم الله }؛ وهذا الإضراب للإبطال . يعني ليست القلوب غَلفاء لا تقبل الحق، لكن هناك شيء آخر هو الذي منع من وصل الحق؛ وهو لَعْن الله إياهم بسبب كفرهم..
.18 ومنها: أن الفطرة من حيث هي فطرة تقبل الحق، ولكن يوجد لها موانع..
.19 منها: بيان أن الأسباب مهما قويت إذا غلب عليها المانع لم تؤثر شيئاً؛ فالقلوب وإن كانت مفطورة على الدين القيم لكن إذا وجد موانع لم تتمكن من الهدى؛ وقد قيل: إن الأمور لا تتم إلا بوجود أسبابها، وانتفاء موانعها..
.20 ومنها: إثبات الأسباب، وأن لها تأثيراً في مسبباتها بإذن الله؛ لقوله تعالى: ( بل لعنهم الله بكفرهم ).
.21 ومنها: أن الإيمان في هؤلاء اليهود قليل، أو معدوم؛ لقوله تعالى: ( فقليلاً ما يؤمنون ).
(1) أخرجه البخاري ص12، كتاب العلم، باب 37: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، حديث رقم 104؛ وأخرجه مسلم ص903 – 904، كتاب الحج، باب 82: تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها…، حديث رقم 3304 [446] 1354.
(2) أخرجه البخاري ص257، كتاب الجزية والموادعة، باب 17: إثم من عاهد ثم غدر، حديث رقم 3179؛ وأخرجه مسلم ص905، كتاب الحج، باب 85: فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة…، حديث رقم 3327 [467] 1370.
(3) اخرجه أبو داود ص1428، كتاب الجهاد، باب 147: في السرية ترد على أهل العسكر، حديث رقم 2751؛ وأخرجه ابن ماجه ص2638، كتاب الديات، باب 31: المسلمون تتكافأ دماؤهم، حديث رقم 2685، قال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح 2/170.
(4) أخرجه أحمد 5/218، حديث رقم 22242؛ وأخرجه الترمذي ص1871، كتاب الفتن، باب 18: ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، حديث رقم 2180؛ وأخرجه ابن حبان في صحيحه 8/248، باب: ذكر الأخبار عن اتباع هذه الأمة سنن من قبلهم من الأمم، حديث رقم 6667، وقال الألباني في صحيح الترمذي: صحيح 2/235، حديث رقم 1771.
(5) أخرجه البخاري ص38، كتاب الصلاة، باب 68: الشعر في المسجد، حديث رقم 453؛ وأخرجه مسلم ص1114 – 1115، كتاب فضائل الصحابة، باب 34: فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه، حديث رقم 6384 [151] 2485.
(6) أخرجه البخاري معلقاً ص322، كتاب المغازي، باب 84: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته…، حديث رقم 4428؛ وأخرجه الحاكم موصولاً 3/58، كتاب المغازي، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي؛ وأخرجه أبو داود ص1554، كتاب الديات، باب 6: فيمن سقى رجلاً سماً أو اطعمه فمات، حديث رقم 4512، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح 3/91.