هذه مقتطفاتٌ من سيرة عَلَمٍ من أعلام هذه الأمَّة، وبطلٍ من أبطالها، وفارسٍ من فرسانها، صحابي جليل من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم نقتبس من سيرته العطرةِ الدروسَ والعِبَر.
هذا الصحابي شهِد المشاهد كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد بدرًا وأُحُدًا والخندق، وغيرها من معارك المسلمين الفاصلة، أسلم وعمرُه لم يتجاوز السابعةَ عشرَ عامًا، وكان من السابقين إلى الإسلام، يقول عن نفسه: “ما أسلم أحدٌ إلا في اليوم الذي أسلمتُ فيه، ولقد مكثتُ سبعةَ أيامٍ وإنِّي لَثُلُثُ الإسلام”رواه البخاري
وكان قائدًا لجيش المسلمين في معركة القادسية الشهيرة، وعلى يديه فُتِحَتْ مدائنُ كِسْرى، وهو أوَّل مَن أراق دمًا في سبيل الله، وأوَّل مَن رمَى بسهمٍ في الإسلام، وقد فداه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بأبوَيْه يوم أُحُدٍ، عندما رأى شجاعته واستبساله في الدِّفاع عنه – صلى الله عليه وسلم – وهو أحدُ العشرة المبشَّرين بالجَنَّة، وهو أحد السِّتَّة الذين توفيَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – وهو عنهم راضٍٍ.
قال عنه الذَّهبيُّ: “الأمير أبو إسحاق سعد بن أبي وقَّاص، واسم أبي وقَّاص: مالك بن أُهَيْب القرشي الزُّهْري المكِّي، وله قرابةٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهو من بني زُهْرَة، وأم النبيِّ صلى الله عليه وسلم آمِنة بنت وهبٍ زُهريَّة، وهي ابنة عمِّ أبي وقَّاص”سير أعلام النبلاء.
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((هذا خالي، فَلْيُرِني امرؤٌ خالَه))رواه الترمذي.
قالت عائشة بنت سعد: “كان أبي قصيرًا، دَحْداحًا، غليظًا، ذا هامَةٍ”، وجاء في بعض الروايات: أنه كان يميل إلى السُّمْرة.
عن مصعب بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه أنه نزلت فيه آياتٌ من القرآن؛ قال: “حَلَفَتْ أمُّ سعدٍ أن لا تكلِّمه أبدًا حتى يَكْفُرَ بدِينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: “زَعَمْتَ أنَّ اللهَ وصَّاك بوالدَيْك، وأنا أمُّكَ، وأنا آمُرُكَ بهذا”، قال: مَكَثَتْ ثلاثًا، حتى غُشِيَ عليها من الجَهْد، فقام ابنٌ لها يقال له: عُمارة، فسقاها، فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عزَّ وجلَّ في القرآن هذه الآية: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]”رواه مسلم.
وفي روايةٍ أنه قال: “يا أُمَّهْ، تعلمين واللهِ لو كانت لك مِائةُ نَفْسٍ، فخرجتْ نَفْسًا نَفْسًا؛ ما تركتُ ديني هذا؛ فإن شئتِ فَكُلي، وإن شئتِ لا تأكلي، فأَكَلَتْ”رواه ابن أبي حاتم.
وقد كانت لسعد مواقفُ عظيمةٌ، تدلُّ على شجاعته ونُصْرَته لهذا الدِّين، فمن ذلك ما رَوَتْهُ عائشةُ رضي الله عنها قالت: “سَهِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَقْدِمَه المدينة، فقال: ((ليت رجلًا صالحًا مِن أصحابي يحرسني الليلة))، قالت: فبَيْنَا نحن كذلك، سمعنا خَشْخَشَةَ سلاحٍ، فقال: ((مَنْ هذا؟))، قال: “سعد بن أبي وقَّاص”، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما جاء بكَ؟))، قال: “وَقَعَ في نفسي خوفٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئتُ أحرسهُ”، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام، قالت عائشةُ: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعتُ غَطِيطَهُأي صوت النائم المرتفع”رواه البخاري.
ومنها ما رواه قيسٌ، قال: سمعتُ سعدًا رضي الله عنه يقول: “إني لأوَّل العرب رمَى بسهمٍ في سبيل الله، وكنَّا نغزو مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وما لنا طعامٌ إلا ورق الشَّجَر، حتى إنَّ أحدنا لَيَضَعُ كما يضع البعير أو الشاة، ما له خلطٌ”رواه البخاري ومسلم، قال الشُّرَّاح: أيْ لجفافه ويُبْسِه.
وقد أبلَى سعدٌ في موقعة أُحُدٍ بلاءً عظيمًا؛ فقد جاء عن أبي عثمان أنه قال: “لم يَبْقَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بعض الأيام التي قاتلَ فيهنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غيرُ طلحة وسعد، عن حديثهما”؛ ا هرواه البخاري. وكانا يقاتِلان عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أشدَّ القتال، وكان ذلك في موقعة أُحُد، وكان سعد مِن أمهر رُماةِ العرب.
عن عبد الله بن شدَّاد رضي الله عنه قال: سمعتُ عليًّا يقول: “ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبوَيْه لأحدٍ غير سعد بن مالك؛ فإنه جعل يقول له يوم أُحُدٍ: ((ارْمِ فِداكَ أبي وأمِّي))رواه البخاري، وهذا الحديث يدلُّ على كفاءته العظيمة، ومنزلته عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ومِن المواقف التي تَدُلُّ على وَرَعِهِ وتقواه: أنه اعتزل الفتنة التي حدثت بين الصحابة، وجاء إليه أصحابه، وقالوا: “يا سعد، ألا تُشارك معنا في القتال؟”، قال: “لا، حتى تأتوني بسيفٍ له عينان ولسان، يقول: هذا مؤمنٌ، وهذا كافرٌ، وأنشد يقول:
لَا تَخْلِطَنَّ خَبِيثَاتٍ بِطَيِّبَةٍ ♦♦♦ وَاخْلَعْ ثِيَابَكَ مِنْهَا وَانْجُ عُرْيَانَا
ومنها ما رواه عامر بن سعد، قال: “كان سعد بن أبي وقاص في إبِلِهِ، فجاء ابنه عُمر، فلما رآه سعد قال: “أعوذ بالله من شَرِّ هذا الرَّاكب”، فنزل فقال له: “أَنَزَلْتَ في إِبِلِكَ وغَنَمِكَ، وتركتَ الناس يتنازعون المُلْكَ بينهم؟”، فضَرب سعدٌ في صدره فقال: “اسكتْ، سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يُحِبُّ العبدَ التَّقِيَّ الغَنِيَّ الخَفِيَّ))رواه مسلم.
والمراد بالغني: غنيُّ النفس، والخفي: المنقطع إلى العبادة، والاشتغال بأمور نفسه، لا يبغي منصبًا ولا شُهرة.
وذكر الذَّهبي في “سِيَرِه”: “إنَّه لما احتُضِرَ، قال ابنُه مصعب بن سعد: كان رأسه في حِجْري، فبكيتُ، فرفع رأسه إليَّ، فقال: أيْ بُنيَّ، ما يُبكيكَ؟، قلتُ: لِمكانِكَ، وما أرى بكَ، قال: لا تبكِ؛ فإن الله لا يُعَذِّبُني أبدًا، وإني مِن أهل الجَنَّة؛ قال الذهبي: صَدَقَ والله؛ فهنيئًا له”سير أعلام النبلاء.
وكانت وفاته سَنة خمسٍ وخمسين من الهجرة، في قصره بالعقيق، وأوصى أن يُدْفَنَ في جُبَّة صوفٍ، وقال: “لقيتُ المشركين فيها يوم بدرٍِ، وإنَّما خبأتُها لهذا اليوم”، وعُمره آنذاك ثمانٍ وسبعون سنةً، ودُفِنَ بالبقيع، رضي الله عن سعد، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعَنا به في دار كرامته.