الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلماً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه؛ ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً أما بعد:
فإنَّ من المهم في كل فن أن يتعلمَ المرءُ من أصوله ما يكون عوناً له على فهمه وتخريجه على تلك الأصول؛ ليكونَ علمه مبنيًّا على أسس قوية ودعائم راسخة، وقد قيل: من حُرِمَ الأصول؛ حرم الوصول.
ومن أجلِّ فنون العلمِ، بل هو أجلها وأشرفها: علم التفسير الذي هو تبيين معاني كلام الله عز وجل، وقد وَضَعَ أهلُ العلمِ له أصولاً، كما وضعوا لعلم الحديث أصولاً، ولعلم الفقه أصولاً.
وقد كنتُ كتبتُ من هذا العلمِ ما تيسَّرَ لطلابِ المعاهد العلمية في جامعة الإِمام محمد صلى الله عليه وسلم بن سعود الإِسلامية، فطلب مني بعض الناس أن أفردها في رسالة، ليكون ذلك أيسر وأجمع فأجبته إلى ذلك.
وأسأل الله تعالى أن ينفع بها.
ويتلخص ذلك فيما يأتي:
* القرآن الكريم:
1 -متى نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن نزل به عليه من الملائكة.
2 -أول ما نزل من القرآن.
3 -نزول القرآن على نوعين: سببي وابتدائي
4 -القرآن مكي ومدني، وبيان الحكمة من نزوله مفرَّقاً، وترتيب القرآن.
5 -كتابة القرآن وحفظه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
6 -جمع القرآن في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم.
* التفسير:
1 -معنى التفسير لغة واصطلاحاً، وبيان حكمه، والغرض منه.
2 -الواجب على المسلم في تفسير القرآن.
3 -المرجع في التفسير إلى ما يأتي:
- أ – كلام الله تعالى بحيث يفسر القرآن بالقرآن.
- ب – سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه مبلغ عن الله تعالى، وهو أعلم الناس بمراد الله تعالى في كتاب الله.
- جـ – كلام الصحابة رضي الله عنهم لا سيما ذوو العلم منهم والعناية بالتفسير؛ لأن القرآن نزل بلغتهم وفي عصرهم.
- د – كلام كبار التابعين الذين اعتنوا بأخذ التفسير عن الصحابة رضي الله عنهم.
- هـ – ما تقتضيه الكلمات من المعاني الشرعية أو اللغوية حسب السياق، فإن اختلف الشرعي واللغوي؛ أخذ بالمعنى الشرعي إلا بدليل يرجح اللغوي.
- 4 -أنواع الاختلاف الوارد في التفسير المأثور.
- 5 -ترجمة القرآن: تعريفها – أنواعها – حكم كلِّ نوع.
* خمس تراجم مختصرة للمشهورين بالتفسير ثلاث للصحابة واثنتان للتابعين.
* أقسام القرآن من حيث الإحكام والتشابه:
-موقف الراسخين في العلم، والزائغين من المتشابه.
-التشابه: حقيقي ونسبي.
-الحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه.
*موهم التعارض من القرآن والجواب عنه وأمثلة من ذلك.
الْقَسَم:
تعريفه – أداته – فائدته.
القصص:
تعريفها – الغرض منها – الحكمة من تكرارها واختلافها في الطول والقصر والأسلوب
*الإسرائيليات التي أُقحمت في التفسير وموقف العلماء منها.
*الضمير:
تعريفه – مرجعه – الإِظهار في موضع الإِضمار وفائدته – الالتفات وفائدته – ضمير الفصل وفائدته.
القـرآن الكريم
القرآن في اللغة: مَصْدَرُ قرأَ بمعنى تَلا، أو بمعنى جَمع، تقول: قَرَأ قَرْءاً وقُرْآناً، كما تقول: غفر غَفْراً وغُفْراناً فعلى المعنى الأول (تلا) يكون مصدراً بمعنى اسم المفعول؛ أي بمعنى متلوّ وعلى المعنى الثاني (جَمَعَ) يكون مصدراً بمعنى اسم الفاعل؛ أي بمعنى جامع لجمعه الأخبار والأحكام.
والقرآن في الشرع: كلامُ الله تعالى المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم ، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس قال الله تعالى: )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً).
[الإنسان: 23] ، وقال: { )إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2).
وقد حَمَى الله تعالى هذا القرآن العظيم من التغيير والزيادة والنقص والتبديل، حيث تكفَّل عز وجل بحفظه فقال: )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ولذلك مضت القرون الكثيرة ولم يحاول أحدٌ من أعدائه أن يغيرَ فيه، أو يزيد، أو ينقص، أو يبدل إلا هتك الله تعالى ستره، وفضح أمره.
وقد وصفه الله تعالى بأوصاف كثيرة، تدلُّ على عظمته وبركته وتأثيره وشموله، وأنه حاكم على ما قبله من الكتب.
قال الله تعالى: { )وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر:87)(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (قّ:1)
وقال تعالى: { )كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29
{ )وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام:155) } ، )إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة:77) }، {)إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (الاسراء:9).
وقال تعالى: { )لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (التوبة:124 )وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:)( 125).
{)وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ)(الأنعام: من الآية19) }، )فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52).
وقال تعالى:{)َنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)(النحل: من الآية89) }
وقال تعالى: {)وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ )(المائدة: من الآية48).
والقرآنُ الكريمُ مصدرُ الشريعةِ الإِسلامية التي بُعِثَ بها محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافَّة، قال الله تعالى:{)تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان:1) }، {)الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (ابراهيم:1) )اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (ابراهيم:2).
وسنةُ النبي صلى الله عليه وسلم مصدرُ تشريعٍ أيضاً كما قرره القرآن، قال الله تعالى: {)نْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء:80) }{ ) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(الأحزاب: من الآية36) } ، { )وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7) } ، { )قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31)
1 – نزول القـرآن
نزول القرآن نَزل القرآنُ أوَّل ما نزل على رسول الله في ليلة القدر في رمضان، قال الله تعالى: {)إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) } ، )إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (الدخان:3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان:4) {)شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)(البقرة: من الآية185)}
وكان عُمْرُ النبي صلى الله عليه وسلم أول ما نزل عليه أربعين سنة على المشهور عند أهل العلم، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء وسعيد بن المسيِّب وغيرهم وهذه السِّنُّ هي التي يكون بها بلوغ الرشد وكمال العقل وتمام الإِدراك
والذي نزل بالقرآن من عند الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، جبريلُ أحدُ الملائكة المقربين الكرام، قال الله تعالى عن القرآن: {)وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:192)( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء:193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء: 194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء:195)
وقد كان لجبريل عليه السلام من الصفات الحميدة العظيمة، من الكرم والقوة والقرب من الله تعالى والمكانة والاحترام بين الملائكة والأمانة والحسن والطهارة؛ ما جعله أهلاً لأن يكون رسول الله تعالى بوحيه إلى رسله قال الله تعالى: { )إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (التكوير:19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (التكوير:20)( ُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التكوير:21))عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (لنجم:5) (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) (لنجم:6)( وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) (لنجم:7)
) وقال: )قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:102)
وقد بيَّن الله تعالى لنا أوصاف جبريل، الذي نزل بالقرآن من عنده، وتدل على عظم القرآن، وعنايته تعالى به؛ فإنه لا يرسل من كان عظيماً إلا بالأمور العظيمة
2 – أول ما نزل من القـرآن
أول ما نزل من القرآن على وجه الإِطلاق قطعاً الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، وهي قوله تعالى: { )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق:2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (العلق:3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (العلق:4)( عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:5) ثم فتر الوحي مدة، ثم نزلت الآياتُ الخمسُ الأولى من سورة المدثر، وهي قوله تعالى: {)يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (المدثر:1) )قُمْ فَأَنْذِرْ) (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (المدثر:3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (المدثر:4) ))وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (المدثر:5) ففي “الصحيحين”: “صحيح البخاري ومسلم” عن عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي قالت: حتى جاءه الحقُّ، وهو في غار حراء، فجاءه المَلَكُ فقال: اقرأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أنا بقارئ (يعني لستُ أعرف القراءة) فذكر الحديث، وفيه ثم قال: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)} إلى قوله: )(عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) } [العلق: 1 – 5] وفيهما عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث عن فترة الوحي: “بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء” فذكر الحديث، وفيه: فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر:2))وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) } إلى ( المدثر: 1 – 5).
وثمت آيات يقال فيها: أول ما نزل، والمراد أوّل ما نزل باعتبار شيء معين، فتكون أوليّة مقيدة مثل: حديث جابر رضي الله عنه في “الصحيحين”أن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله: أي القرآن أنزل أول؟ قال جابر: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) } [المدثر: 1] قال أبو سلمة: أنبئت أنه {)اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) } [العلق: 1] فقال جابر: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله : قال رسول الله : “جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت” فذكر الحديث وفيه: “فأتيت خديجة، فقلت: دثروني، وصبَّوا عليّ ماءً بارداً، وأنزل عليّ: {)يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) } إلى قوله:))وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) } [المدثر: 1 – 5] “
فهذه الأوَّلية التي ذكرها جابر رضي الله عنه باعتبار أول ما نزل بعد فترة الوحي، أو أول ما نزل في شأن الرسالة؛ لأن ما نزل من سورة اقرأ ثبتت به نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وما نزل من سورة المدثر ثبتت به الرسالة في قوله: )قُمْ فَأَنْذِرْ } [المدثر: 2] ولهذا قال أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم نُبِّئ بـ: { اقْرَأْ } [العلق: 1] وأرسل بـ (المدثر) [المدثر: 1]
3 – نزول القـرآن ابتدائي وسببي
ينقسم نزول القرآن إلى قسمين:
القسم الأول: ابتدائي: وهو ما لم يتقدم نزوله سبب يقتضيه، وهو غالب آيات القرآن، ومنه قوله تعالى: )وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (التوبة:75) } الآيات، فإنها نزلت ابتداء في بيان حال بعض المنافقين، وأما ما اشتهر من أنها نزلت في ثعلبة بن حاطب في قصة طويلة، ذكرها كثير من المفسرين، وروجها كثير من الوعاظ، فضعيف لا صحة له.
القسم الثاني: سببي: وهو ما تقدم نزوله سبب يقتضيه
والسبب:
أ -إما سؤال يجيب الله عنه مثل:{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ)(البقرة: من الآية189}
ب – أو حادثة وقعت تحتاج إلى بيان وتحذير مثل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)(التوبة: من الآية65) } الآيتين نزلتا في رجل من المنافقين قال في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله وأصحابه، فبلغ ذلك رسول الله ونزل القرآن فجاء الرجل يعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبه { (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)(التوبة: من الآية65)}.
جـ -أو فعل واقع يحتاج إلى معرفة حكمه مثل: )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1} الآيات.
فوائد معرفة أسباب النزول:
معرفة أسباب النزول مهمة جدًّا، لأنها تؤدي إلى فوائد كثيرة منها:
1 – بيان أن القرآن نزل من الله تعالى؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الشيء، فيتوقف عن الجواب أحياناً، حتى ينزل عليه الوحي، أو يخفى عليه الأمر الواقع، فينزل الوحي مبيناً له.
مثال الأول: قوله تعالى: )وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الاسراء:85) ففي “صحيح البخاري” عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رجلاً من اليهود قال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت، وفي لفظ: فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليهم شيئاً، فعلمتُ أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: {)وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85] الآية
ومثال الثاني: قوله تعالى: {)يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَل)(المنافقون: من الآية8) ، ففي “صحيح البخاري” أن زيد بن أرقم رضي الله عنه سمع عبد الله بن أُبَي رأس المنافقين يقول ذلك، يريد أنه الأعزُّ ورسول الله وأصحابه الأذل، فأخبر زيد عمه بذلك، فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم زيداً، فأخبره بما سمع، ثم أرسل إلى عبد الله بن أُبَي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله ؛ فأنزل الله تصديق زيد في هذه الآية؛ فاستبان الأمر لرسول الله
2 – بيان عناية الله تعالى برسوله في الدفاع عنه
مثال ذلك: قوله تعالى: { )وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) (الفرقان:32) وكذلك آيات الإِفك؛ فإنها دفاع عن فراش النبي صلى الله عليه وسلم وتطهيرٌ له عمَّا دنَّسه به الأفَّاكون.
3 – بيان عناية الله تعالى بعباده في تفريج كرباتهم وإزالة غمومهم.
مثال ذلك آية التيمم، ففي “صحيح البخاري” أنه ضاعَ عقدٌ لعائشةَ رضي الله عنها، وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأقام النبي صلى الله عليه وسلم لطلبه، وأقام الناس على غير ماء، فشكوا ذلك إلى أبي بكر، فذكر الحديث وفيه: فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر والحديث في البخاري مطولاً
4 – فهم الآية على الوجه الصحيح.
مثال ذلك قولهُ تعالى: { )إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)(البقرة: من الآية158)} أي يسعى بينهما، فإنَّ ظاهر قوله: {فلاجناح عليه } [البقرة: 158] أن غاية أمر السعي بينهما، أن يكون من قسم المباح وفي “صحيح البخاري” عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن الصفا والمروة، قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإِسلام أمسكنا عنهما؛ فأنزل الله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [البقرة: 158] إلى قوله: { أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [البقرة: 158] وبهذا عرف أن نفي الجناح ليس المراد به بيان أصل حكم السعي، وإنما المراد نفي تحرجهم بإمساكهم عنه، حيث كانوا يرون أنهما من أمر الجاهلية، أما أصل حكم السعي فقد تبين بقوله: { مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [البقرة: 158]
عموم اللفظ وخصوص السبب:
إذا نزلت الآية لسبب خاص، ولفظها عام كان حكمها شاملاً لسببها، ولكل ما يتناوله لفظها؛ لأن القرآن نزل تشريعاً عامًّا لجميع الأمة فكانت العبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه
مثال ذلك: آيات اللعان، وهي قوله تعالى: { )وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (النور:6) } إلى قوله ( إن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (النور:9) النور: 6 – 9] ففي “صحيح البخاري” من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : البيِّنة أو حَدٌّ في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل، وأُنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } [النور: 6] فقرأ حتى بلغ: {إن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [النور: 9] الحديث.
فهذه الآيات نزلت بسبب قذف هلال بن أمية لامرأته، لكن حكمها شامل له ولغيره، بدليل ما رواه البخاري من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، أن عويمر العجلاني جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد أنزل اللهُ القرآنَ فيك وفي صاحبتك فأمرهما رسول الله بالملاعنة بما سمى الله في كتابه، فلاعنها الحديث.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم حكم هذه الآيات شاملاً لهلال بن أمية وغيره.
4 – المكي والمدني
نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً في خلال ثلاث وعشرين سنة، قضى رسول الله أكثرها بمكة، قال الله تعالى: { )وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) (الاسراء:106)
ولذلك قسَّم العلماء رحمهم الله تعالى القرآن إلى قسمين: مكي ومدني:
فالمكي: ما نَزَلَ على النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته إلى المدينة
والمدني: ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة
وعلى هذا فقوله تعالى: {)الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: من الآية3) } من القسم المدني وإن كانت قد نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعرفة، ففي “صحيح البخاري” عن عمر رضي الله عنه أنه قال: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة
ويتميز القسم المكي عن المدني من حيث الأسلوب والموضوع:
أ – أما من حيث الأسلوب فهو:
1 – الغالب في المكي قوة الأسلوب، وشدة الخطاب؛ لأن غالب المخاطبين مُعرِضون مستكبرون، ولا يليق بهم إلا ذلك، اقرأ سورتي المدثر، والقمر
أما المدني: فالغالب في أسلوبه اللين، وسهولة الخطاب، لأن غالب المخاطبين مقبلون منقادون، اقرأ سورة المائدة
2 – الغالب في المكي قصر الآيات، وقوة المحاجة؛ لأن غالب المخاطبين معاندون مشاقون؛ فخوطبوا بما تقتضيه حالهم، اقرأ سورة الطور
أما المدني: فالغالب فيه طول الآيات، وذكر الأحكام؛ مرسلة بدون محاجة؛ لأن حالهم تقتضي ذلك، اقرأ آية الدَّيْنِ في سورة البقرة.
ب – وأما من حيث الموضوع فهو:
1 – الغالب في المكي تقرير التوحيد والعقيدة السليمة، خصوصاً ما يتعلق بتوحيد الألوهية والإِيمان بالبعث؛ لأن غالب المخاطبين ينكرون ذلك.
أما المدني فالغالب فيه تفصيل العبادات والمعاملات؛ لأن المخاطبين قد تقرر في نفوسهم التوحيد والعقيدة السليمة، فهم في حاجة لتفصيل العبادات والمعاملات.
2 – الإِفاضة في ذكر الجهاد وأحكامه والمنافقين وأحوالهم في القسم المدني لاقتضاء الحال؛ ذلك حيث شرع الجهاد، وظهر النفاق بخلاف القسم المكي.
فوائد معرفة المدني والمكي:
معرفة المكي والمدني نوع من أنواع علوم القرآن المهمة؛ وذلك لأن فيها فوائد منها:
1 -ظهور بلاغة القرآن في أعلى مراتبها، حيث يخاطِب كلَّ قوم بما تقتضيه حالهم من قوة وشدة، أو لين وسهولة.
2 -ظهور حكمة التشريع في أسمى غاياته حيث يتدرج شيئاً فشيئاً بحسب الأهم على ما تقتضيه حال المخاطبين واستعدادهم للقبول والتنفيذ.
3 -تربية الدعاة إلى الله تعالى، وتوجيههم إلى أن يتبعوا ما سلكه القرآن في الأسلوب والموضوع، من حيث المخاطبين، بحيث يبدأ بالأهم فالأهم، وتستعمل الشدة في موضعها والسهولة في موضعها.
4 -تمييز الناسخ من المنسوخ فيما لو وردت آيتان مكية ومدنية، يتحقق فيهما شروط النسخ، فإن المدنية ناسخة للمكية؛ لتأخر المدنية عنها.
الحكمة من نزول القرآن مفرقاً:
من تقسيم القرآن إلى مكي ومدني؛ يتبين أنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً ولنزوله على هذا الوجه حِكَمٌ كثيرة منها:
1 – تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لقوله تعالى: {)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِك)(الفرقان: من الآية32)) (الفرقان: من الآية32) (يعني كذلك نزلناه مفرقاً) لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً : 32) )وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ (الفرقان:33).
ليصدوا الناس عن سبيل الله – } إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [الفرقان: 32، 33].
2 – أن يسهل على الناس حفظه وفهمه والعمل به، حيث يقرأ عليهم شيئاً فشيئاً؛ لقوله تعالى:)وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) (الاسراء:106).
3 – تنشيط الهمم لقبول ما نزل من القرآن وتنفيذه، حيث يتشوق الناس بلهف وشوق إلى نزول الآية؛ لا سيما عند اشتداد الحاجة إليها كما في آيات الإِفك واللعان.
4 – التدرج في التشريع حتى يصلَ إلى درجة الكمال، كما في آيات الخمر الذي نشأ الناس عليه، وألفوه، وكان من الصعب عليهم أن يُجَابَهُوا بالمنع منه منعاً باتًّا، فنزل في شأنه أولاً قوله تعالى:)يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة:219).
فكان في هذه الآية تهيئة للنفوس لقبول تحريمه حيث إن العقل يقتضي أن لا يمارس شيئاً إثمه أكبر من نفعه
ثم نزل ثانياً قوله تعالى: { )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )(النساء: من الآية43)} ، فكان في هذه الآية تمرين على تركه في بعض الأوقات وهي أوقات الصلوات، ثم نزل ثالثاً قوله تعالى: {)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة:91) (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (المائدة:92) فكان في هذه الآيات المنع من الخمر منعاً باتًّا في جميع الأوقات، بعد أن هُيِّئت النفوس، ثم مُرِنَت على المنع منه في بعض الأوقات
ترتيب القـرآن:
ترتيب القرآن: تلاوته تالياً بعضه بعضاً حسبما هو مكتوب في المصاحف ومحفوظ في الصدور
وهو ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ترتيب الكلمات بحيث تكون كل كلمة في موضعها من الآية، وهذا ثابت بالنص والإِجماع، ولا نعلم مخالفاً في وجوبه وتحريم مخالفته، فلا يجوز أن يقرأ: لله الحمد رب العالمين بدلاً من
)الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2)
النوع الثاني: ترتيب الآيات بحيث تكون كل آية في موضعها من السورة، وهذا ثابت بالنص والإِجماع، وهو واجب على القول الراجح وتحرم مخالفته ولا يجوز أن يقرأ: مالك يوم الدين الرحمن الرحيم بدلاً من: ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة) ففي “صحيح البخاري”(1) أن عبد الله بن الزبير قال لعثمان بن عفان رضي الله عنهم في قوله تعالى: )وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة240) : قد نسختها الآية الأخرى يعني قوله تعالى: {)وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْر)(البقرة: من الآية234) } وهذه قبلها في التلاوة قال: فَلِمَ تكتبها؟ فقال عثمان رضي الله عنه: يا ابن أخي لا أغيِّر شيئاً منه من مكانه.
وروى الإِمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث عثمان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه السُّوَر ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء، دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا(1).
النوع الثالث: ترتيب السُّوَرُ بحيث تكون كل سورة في موضعها من المصحف، وهذا ثابت بالاجتهاد فلا يكون واجباً وفي “صحيح مسلم”(2) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، وروى البخاري(3) تعليقاً عن الأحنف: أنه قرأ في الأولى بالكهف، وفي الثانية بيوسف أو يونس، وذكر أنه صلى مع عمر بن الخطاب الصبح بهما.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: “تجوز قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة رضي الله عنهم في كتابتها، لكن لمَّا اتفقوا على المِصْحَف في زمن عثمان رضي الله عنه، صار هذا مما سَنَّه الخلفاء الراشدون، وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب اتباعها” اهـ.
5 – كتابة القـرآن وجمعه
لكتابة القرآن وجمعه ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان الاعتماد في هذه المرحلة على الحفظ أكثر من الاعتماد على الكتابة؛ لقوة الذاكرة وسرعة الحفظ وقلة الكاتبين ووسائل الكتابة، ولذلك لم يجمع في مصحف بل كان من سمع آية حفظها، أو كتبها فيما تيسر له من عُسُب النخل، ورقاع الجلود، ولِخاف الحجارة، وكِسر الأكتاف وكان القراء عدداً كبيراً.
ففي “صحيح البخاري”(4) عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سبعين رجلاً يقال لهم: القرَّاء، فعرض لهم حيَّان من بني سليم رِعل وذكوان عند بئر معونة فقتلوهم، وفي الصحابة غيرهم كثير كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء رضي الله عنهم.
المرحلة الثانية: في عهد أبي بكر رضي الله عنه في السنة الثانية عشرة من الهجرة وسببه أنه قُتِلَ في وقعة اليمامة عددٌ كبيرٌ من القراء منهم، سالم مولى أبي حذيفة؛ أحد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن منهم.
فأمر أبو بكر رضي الله عنه بجمعه لئلا يضيع، ففي “صحيح البخاري”(5) أن عمر بن الخطاب أشار على أبي بكر رضي الله عنهما بجمع القرآن بعد وقعة اليمامة، فتوقف تورعاً، فلم يزل عمر يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر لذلك، فأرسل إلى زيد بن ثابت فأتاه، وعنده عمر فقال له أبو بكر: إنك رجلٌ شابٌّ عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فَتَتَبَّع القرآن فاجمعه، قال: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللِّخاف وصدور الرجال، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما رواه البخاري مطولاً
وقد وافق المسلمون أبا بكر على ذلك وعدُّوه من حسناته، حتى قال علي رضي الله عنه: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله.
المرحلة الثالثة: في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في السنة الخامسة والعشرين، وسببه اختلاف الناس في القراءة بحسب اختلاف الصحف التي في أيدي الصحابة رضي الله عنهم فخيفت الفتنة، فأمر عثمان رضي الله عنه أن تجمع هذه الصحف في مصحف واحد؛ لئلا يختلف الناس، فيتنازعوا في كتاب الله تعالى ويتفرقوا.
ففي “صحيح البخاري” أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان من فتح أرمينية وأذربيجان، وقد أفزعه اختلافهم في القراءة، فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة، أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، ففعلت، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وكان زيد بن ثابت أنصاريًّا والثلاثة قرشيين – وقال عثمان للرهط الثلاثة القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق.
وقد فعل عثمان رضي الله عنه هذا بعد أن استشار الصحابة رضي الله عنهم، لما روى ابن أبي داود عن علي رضي الله عنه أنه قال: واللهِ ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملإٍ مِنَّا، قال: أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا: فَنِعْمَ ما رأيت.
وقال مصعب بن سعد : أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، أو قال: لم ينكر ذلك منهم أحد، وهو من حسنات أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه التي وافقه المسلمون عليها، وكانت مُكَمِّلة لجمع خليفة رسول الله أبي بكر رضي الله عنه.
والفرق بين جمعه وجمع أبي بكر رضي الله عنهما أن الغرض من جمعه في عهد أبي بكر رضي الله عنه تقييد القرآن كله مجموعاً في مصحف، حتى لا يضيع منه شيء دون أن يحمل الناس على الاجتماع على مصحف واحد؛ وذلك أنه لم يظهر أثرٌ لاختلاف قراءاتهم يدعو إلى حملهم على الاجتماع على مصحف واحد.
وأما الغرض من جمعه في عهد عثمان رضي الله عنه فهو تقييد القرآن كله مجموعاً في مصحف واحد، يحمل الناس على الاجتماع عليه لظهور الأثر المخيف باختلاف القراءات.
وقد ظهرت نتائج هذا الجمع حيث حصلت به المصلحة العظمى للمسلمين من اجتماع الأمة، واتفاق الكلمة، وحلول الأُلفة، واندفعت به مفسدة كبرى من تفرق الأمة، واختلاف الكلمة، وفشو البغضاء، والعداوة
وقد بقي على ما كان عليه حتى الآن متَّفقاً عليه بين المسلمين متواتراً بينهم، يتلقاه الصغير عن الكبير، لم تعبث به أيدي المفسدين، ولم تطمسه أهواء الزائغين فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين.
* * *
التفســير
التفسير لغة: من الفَسْر، وهو: الكشف عن المغطى
وفي الاصطلاح بيان معاني القرآن الكريم
وَتَعَلُّمُ التفسير واجب لقوله تعالى: )كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29) ولقوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24
وجه الدلالة من الآية الأولى أن الله تعالى بيَّن أن الحكمة من إنزال هذا القرآن المبارك؛ أن يتدبر الناس آياته، ويتَّعظوا بما فيها.
والتدبر هو التأمل في الألفاظ للوصول إلى معانيها، فإذا لم يكن ذلك، فاتت الحكمة من إنزال القرآن، وصار مجرد ألفاظ لا تأثير لها.
ولأنه لا يمكن الاتِّعاظ بما في القرآن بدون فهم معانيه.
ووجه الدلالة من الآية الثانية أن الله تعالى وبخ أولئك الذين لا يتدبرون القرآن، وأشار إلى أن ذلك من الإِقفال على قلوبهم، وعدم وصول الخير إليها.
وكان سلف الأمة على تلك الطريقة الواجبة، يتعلمون القرآن ألفاظه ومعانيه؛ لأنهم بذلك يتمكنون من العمل بالقرآن على مراد الله به فإن العمل بما لا يعرف معناه غير ممكن.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يُقرِؤونَنَا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يجاوزوها، حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: والعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب والحساب، ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله تعالى الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم.
ويجب على أهل العلم، أن يبينوه للناس عن طريق الكتابة أو المُشَافهة لقوله تعالى: { } [آل عمران: 187] وتبيين الكتاب للناس شامل لتبيين ألفاظه ومعانيه، فيكون تفسير القرآن، مما أخذ الله العهد على أهل العلم ببيانه.
والغرض من تعلم التفسير هو الوصول إلى الغايات الحميدة والثمرات الجليلة، وهي التصديق بأخباره والانتفاع بها وتطبيق أحكامه على الوجه الذي أراده الله؛ ليُعبَدَ اللَّهُ بها على بصيرة.
الواجب على المسلم في تفسير القـرآن
الواجب على المسلم في تفسير القرآن أن يُشِعَر نفسه حين يُفَسر القرآن بأنه مترجم عن الله تعالى، شاهد عليه بما أراد من كلامه فيكون مُعظِّماً لهذه الشهادة خائفاً من أن يقول على الله بلا علم، فيقع فيما حرم الله، فَيُخزَى بذلك يوم القيامة، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33)، وقال تعالى:)وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر:60)
المرجع في تفسير القـرآن
يرجع في تفسير القرآن إلى ما يأتي:
أ – كلام الله تعالى، فيفسر القرآن بالقرآن، لأن الله تعالى هو الذي أنزله، وهو أعلم بما أراد به
ولذلك أمثلة منها:
1 – قوله تعالى: { )أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62) ، فقد فسر أولياء الله بقوله في الآية التي تليها: )الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس:63).
2 – قوله تعالى: ()وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ) (الطارق:2) ، فقد فسر الطارق بقوله في الآية الثانية: { النجم الثاقب} } [الطارق: 3]
3 -قوله تعالى: { )وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (النازعـات:30) فقد فسر دحاها بقوله في الآيتين بعدها: { )أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) (النازعـات:31) )وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) (النازعـات:32)
ب – كلام رسول الله ، فيفسر القرآن بالسُّنة، لأن رسول الله مبلِّغ عن الله تعالى، فهو أعلم الناس بمراد الله تعالى بكلامه.
ولذلك أمثلة منها:
1 – قوله تعالى: { )لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )(يونس: من الآية26) } فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى، فيما رواه ابن جـرير وابن أبي حاتم صريحاً من حديث أبي موسى، وأُبي بن كعب ورواه ابن جرير من حديث كعب بن عجرة.
وفي “صحيح مسلم” عن صهيب بن سنان عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث قال فيه: “فيكشف الحجاب فما أُعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل”، ثم تلا هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس: 26].
2 – قوله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ )(لأنفال: من الآية60) } فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي رواه مسلم ، وغيره من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
جـ – كلام الصحابة رضي الله عنهم لا سيما ذوو العلم منهم والعناية بالتفسير، لأن القرآن نزل بلغتهم وفي عصرهم، ولأنهم بعد الأنبياء أصدق الناس في طلب الحق، وأسلمهم من الأهواء، وأطهرهم من المخالفة التي تحول بين المرء وبين التوفيق للصواب.
ولذلك أمثلة كثيرة جدًّا منها:
1 – قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )(النساء: من الآية43) } ، فقد صَحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه فسر الملامسة بالجماع.
د – كلام التابعين الذين اعتنوا بأخذ التفسير عن الصحابة رضي الله عنهم، لأن التابعين خير الناس بعد الصحابة، وأسلم من الأهواء ممن بعدهم ولم تكن اللغة العربية تغيرت كثيراً في عصرهم، فكانوا أقرب إلى الصواب في فهم القرآن ممن بعدهم.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية : إذا أجمعوا – يعني التابعين – على الشيء فلا يُرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السُّنَّة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.
وقال أيضاً: من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك، كان مخطئاً في ذلك، بل مبتدعاً، وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه، ثم قال: فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم، فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعاً.
هـ – ما تقتضيه الكلمات من المعاني الشرعية أو اللغوية حسب السياق لقوله تعالى: {)إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً) (النساء:105)، وقوله: { )إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف:3)، وقوله)وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ )(ابراهيم: 4)
فإن اختلف المعنى الشرعي واللغوي، أُخذ بما يقتضيه الشرعي، لأن القرآن نزل لبيان الشرع، لا لبيان اللغة إلا أن يكون هناك دليل يترجَّح به المعنى اللغوي فيؤخذ به.
مثال ما اختلف فيه المعنيان، وقدم الشرعي: قوله تعالى في المنافقين: {)وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدا)(التوبة: من الآية84)} ، فالصلاة في اللغة الدعاء، وفي الشرع هنا الوقوف على الميت للدعاء له بصفة مخصوصة فيقدم المعنى الشرعي، لأنه المقصود للمتكلم المعهود للمخاطب، وأما منع الدعاء لهم على وجه الإِطلاق فمن دليل آخر.
ومثال ما اختلف فيه المعنيان، وقدم فيه اللغوي بالدليل: قوله تعالى: {)خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِم)(التوبة: من الآية103) } ، فالمراد بالصلاة هنا الدعاء، وبدليل ما رواه مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بصدقة قوم، صلَّى عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: “اللهم صلِّ على آل أبي أوفى”.
وأمثلة ما اتفق فيه المعنيان الشرعي واللغوي كثيرة: كالسماء والأرض والصدق والكذب والحجر والإِنسان.
الاختلاف الوارد في التفسير المأثور
الاختلاف الوارد في التفسير المأثور على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: اختلاف في اللفظ دون المعنى، فهذا لا تأثير له في معنى الآية، مثاله قوله تعالى: {)وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )(الاسراء: من الآية23) } قال ابن عباس: قضى: أمر، وقال مجاهد: وصَّى، وقال الربيع بن أنس: أوجب، وهذه التفسيرات معناها واحد، أو متقارب فلا تأثير لهذا الاختلاف في معنى الآية.
القسم الثاني: اختلاف في اللفظ والمعنى، والآية تحتمل المعنيين لعدم التضاد بينهما، فتحمل الآية عليهما، وتفسر بهما، ويكون الجمع بين هذا الاختلاف أن كل واحد من القولين ذكر على وجه التمثيل، لما تعنيه الآية أو التنويع، مثاله قوله تعالى: { )وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) (لأعراف:175) )وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاه) (الأعراف: من الآية176) ، قال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل، وعن ابن عباس أنه: رجل من أهل اليمن، وقيل: رجل من أهل البلقاء.
والجمع بين هذه الأقوال: أن تحمل الآية عليها كلها، لأنها تحتملها من غير تضاد، ويكون كل قول ذكر على وجه التمثيل.
ومثال آخر: قوله تعالى: { وكأساً دهاقا } [النبأ: 34] قال ابن عباس: دهاقاً مملوءة، وقال مجاهد: متتابعة، وقال عكرمة: صافية.
ولا منافاة بين هذه الأقوال، والآية تحتملها فَتُحمل عليها جميعاً ويكون كل قول لنوع من المعنى.
القسم الثالث: اختلاف اللفظ والمعنى، والآية لا تحتمل المعنيين معاً للتضاد بينهما، فتحمل الآية على الأرجح منهما بدلالة السياق أو غيره.
مثال ذلك: قوله تعالى:)إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:173).
قال ابن عباس: غير باغ في الميتة ولا عَادٍ في أكله، وقيل: غير خارج على الإِمام ولا عاصٍ بسفره، والأرجح الأول، لأنه لا دليل في الآية على الثاني، ولأن المقصود بحل ما ذكر دفع الضرورة، وهي واقعة في حال الخروج على الإِمام، وفي حال السفر المحرم وغير ذلك.
ومثال آخر: قوله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)(البقرة: من الآية237) } قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الذي بيده عقدة النكاح: هو الزوج، وقال ابن عباس: هو الولي، والراجح الأول لدلالة المعنى عليه، ولأنه قد روي فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ترجمة القـرآن
الترجمة لغة: تطلق على معانٍ ترجع إلى البيان والإِيضاح
وفي الاصطلاح: التعبير عن الكلام بلغة أخرى
وترجمة القرآن: التعبير عن معناه بلغة أخرى
والترجمة نوعان:
أحدهما: ترجمة حرفية، وذلك بأن يوضع ترجمة كل كلمة بإزائها
الثاني: ترجمة معنوية، أو تفسيريَّة، وذلك بأن يعبر عن معنى الكلام بلغة أخرى من غير مراعاة المفردات والترتيب.
مثال ذلك: قوله تعالى: { )إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف:3)
فالترجمة الحرفية: أن يترجم كلمات هذه الآية كلمة كلمة فيترجم (إنا) ثم (جعلناه) ثم (قرآناً) ثم (عربياً) وهكذا.
والترجمة المعنوية: أن يترجم معنى الآية كلها بقطع النظر عن معنى كل كلمة وترتيبها، وهي قريبة من معنى التفسير الإِجمالي.
حكم ترجمة القـرآن:
الترجمة الحرفية بالنسبة للقرآن الكريم مستحيلة عند كثير من أهل العلم، وذلك لأنه يشترط في هذا النوع من الترجمة شروط لا يمكن تحققها معها وهي:
أ -وجود مفردات في اللغة المترجم إليها بإزاء حروف اللغة المترجم منها
ب -وجود أدوات للمعاني في اللغة المترجم إليها مساويةٍ أو مشابهة للأدوات في اللغة المترجم منها
جـ -تماثل اللغتين المترجم منها وإليها في ترتيب الكلمات حين تركيبها في الجمل والصفات والإِضافات وقال بعض العلماء: إن الترجمة الحرفية يمكن تحققها في بعض آية، أو نحوها، ولكنها وإن أمكن تحققها في نحو ذلك – محرمة لأنها لا يمكن أن تؤدي المعنى بكماله، ولا أن تؤثر في النفوس تأثير القرآن العربي المبين، ولا ضرورة تدعو إليها؛ للاستغناء عنها بالترجمة المعنوية
وعلى هذا فالترجمة الحرفية إن أمكنت حسًّا في بعض الكلمات فهي ممنوعة شرعاً، اللهم إلا أن يترجم كلمة خاصة بلغة من يخاطبه ليفهمها، من غير أن يترجم التركيب كله فلا بأس.
وأما الترجمة المعنوية للقرآن فهي جائزة في الأصل لأنه لا محذور فيها، وقد تجب حين تكون وسيلة إلى إبلاغ القرآن والإِسلام لغير الناطقين باللغة العربية؛ لأن إبلاغ ذلك واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
لكن يشترط لجواز ذلك شروط:
الأول: أن لا تجعل بديلاً عن القرآن بحيث يستغنى بها عنه، وعلى هذا فلا بد أن يكتب القرآن باللغة العربية وإلى جانبه هذه الترجمة؛ لتكون كالتفسير له.
الثاني: أن يكون المُتَرْجِمُ عالماً بمدلولات الألفاظ في اللغتين المترْجَم منها وإليها، وما تقتضيه حسب السياق.
الثالث: أن يكون عالماً بمعاني الألفاظ الشرعية في القرآن
ولا تُقْبَلُ الترجمة للقرآن الكريم إلا من مأمون عليها، بحيث يكون مسلماً مستقيماً في دينه.
* * *
المشتهرون بالتفسير من الصحابة
اشتهر بالتفسير جماعة من الصحابة، ذكر السيوطي منهم:
الخلفاء الأربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم، إلا أن الرواية عن الثلاثة الأولين لم تكن كثيرة؛ لانشغالهم بالخلافة، وقلة الحاجة إلى النقل في ذلك لكثرة العالمين بالتفسير.
ومن المشتهرين بالتفسير من الصحابة أيضاً: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، فلنترجم لحياة علي بن أبي طالب مع هذين رضي الله عنهم
1 – علي بن أبي طالب:
هو ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنه وعنها، وأول من آمن به من قرابته، اشتهر بهذا الاسم وكنيته أبو الحسن، وأبو تراب
ولد قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، وتربى في حِجْر النبي صلى الله عليه وسلم ، وشهد معه المشاهد كلها، وكان صاحب اللواء في معظمها، ولم يتخلف إلا في غزوة تبوك، خلفه النبي صلى الله عليه وسلم في أهله، وقال له: “أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون مـن موسى، إلا أنه لا نبي بعدي” نقل له من المناقب والفضائل ما لم ينقل لغيره، وهلك به طائفتان: النواصب الذين نصبوا له العداوة، وحاولوا إخفاء مناقبه، والروافض الذين بالغوا فيما زعموه من حبه، وأحدثوا له من المناقب التي وضعوها ما هو في غنى عنه، بل هو عند التأمل من المثالب
اشتهر رضي الله عنه بالشجاعة والذكاء مع العلم والزكاء حتى كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن، ومن أمثلة النحويين: قضية ولا أبا حسن لها، وروي عن علي أنه كان يقول: سلوني سلوني وسلوني عن كتاب الله تعالى، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أَنَزَلت بليل أو نهار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا جاءنا الثبت عن علي لم نعدل به، وروى عنه أنه قال: ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب كان أحد أهل الشورى الذين رشحهم عمر رضي الله عنه لتعيين الخليفة، فعرضها عليه عبد الرحمن بن عوف فأبى إلا بشروط لم يقبل بعضها، ثم بايع عثمان فبايعه علي والناس، ثم بويع بالخلافة بعد عثمان حتى قتل شهيداً في الكوفة ليلة السابع عشر من رمضان، سنة أربعين من الهجرة رضي الله عنه.
2 – عبد الله بن مسعود:
هو عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، وأُمه أُمُّ عَبْدٍ كان ينسب إليها أحياناً ، وكان من السابقين الأولين في الإِسلام، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً، وما بعدها من المشاهد
تلقى من النبي صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة من القرآن، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإِسلام: “إنك لغلام مُعَلَّم” ، وقال: “من أحب أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أُم عَبْد” ، وفي “صحيح البخاري” أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لقد علم أصحاب رسول الله أني من أعلمهم بكتاب الله، وقال: والله الذي لا إله غيره ما أُنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن أُنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإِبل لركبتُ إليه، وكان ممن خَدَم النبي صلى الله عليه وسلم فكان صاحبُ نعليه وطهوره ووساده حتى قال أبو موسى الأشعري: قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حيناً ما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ملازمته النبي صلى الله عليه وسلم تأثر به وبهديه، حتى قال فيه حذيفة: ما أَعرف أحداً أقرب هدياً وسمتاً ودلّاً بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أُم عَبْد.
بعثه عمر بن الخطاب إلى الكوفة؛ ليعلمهم أُمور دينهم، وبعث عماراً أميراً وقال: إنهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فاقتدوا بهما، ثم أمَّرهُ عثمان على الكوفة، ثم عزله، وأَمَرَهُ بالرجوع إلى المدينة، فتوفي فيها سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع وهو ابن بضع وسبعين سنة.
3 – عبد الله بن عباس:
هو ابن عم رسول الله ولد قبل الهجرة بثلاث سنين لازم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ابن عمه، وخالته ميمونة تحت النبي صلى الله عليه وسلم ، وضمه النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: اللهم علِّمه الحكمة، وفي رواية: الكتاب ، وقال له حين وضع له وضوءه: اللهم فَقِّههُ في الدين، فكان بهذا الدعاء المبارك َحِبْرَ الأمة في نشر التفسير والفقه، حيث وفقه الله تعالى للحرص على العلم والجد في طلبه والصبر على تلقيه وبذله، فنال بذلك مكاناً عالياً حتى كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يدعوه إلى مَجَالِسه ويأخذ بقوله، فقال المهاجرون: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟! فقال لهم: ذاكم فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول، ثم دعاهم ذات يوم فأدخله معهم ليريهم منه ما رآه، فقال عمر: ما تقولون في قول الله تعالى: )إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) (النصر:1).
حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا فتح علينا، وسكت بعضهم، فقال عمر لابن عباس: أكذلك تقول؟ قال: لا، قال: فما تقول؟ قال: هو أجل رسول الله ، أعلمه الله له إذا جاء نصر الله، والفتح فتح مكة، فذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك، واستغفره إنه كان تواباً، قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لَنِعْمَ تُرجُمان القرآن ابن عباس، لو أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد، أي ما كان نظيراً له، هذا مع أن ابن عباس عاش بعده ستًّا وثلاثين سنة، فما ظنك بما اكتسب بعده من العلم
وقال ابن عمر لسائل سأله عن آية: انطلق إلى ابن عباس فاسأله فإنه أعلم من بقي بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال عطاء: ما رأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس فقهاً وأعظم خشية، إنَّ أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشِّعر عنده، يصدرهم كلهم من وادٍ واسع.
وقال أبو وائل: خطبنا ابن عباس وهو على الموسم (أي والٍ على موسم الحج من عثمان رضي الله عنه) فافتتح سورة النور فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول ما رأيت، ولا سمعت كلام رجلٍ مثله، ولو سمعته فارس والروم والترك لأسلمت، ولَّاه عثمان على موسم الحج سنة خمس وثلاثين وولاه علي على البصرة فلمَّا قتل مضى إلى الحجاز، فأقام في مكة، ثم خرج منها إلى الطائف فمات فيها سنة ثمانٍ وستين عن إحدى وسبعين سنة.
المشتهرون بالتفسير من التابعين
اشتهر بالتفسير من التابعين كثيرون فمنهم:
أ -أهل مكة وهم أتباع ابن عباس كمجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح
ب -أهل المدينة وهم أتباع أُبي بن كعب، كزيد بن أسلم وأَبي العالية ومحمد بن كعب القرظي.
جـ -أهل الكوفة وهم أتباع ابن مسعود، كقتادة وعلقمة والشعبي.
فلنترجم لحياة اثنين من هؤلاء: مجاهد وقتادة
1 – مجاهد:
هو مجاهد بن جبر المكي مولى السائب بن أبي السائب المخزومي ولد سنة إحدى وعشرين من الهجرة، وأخذ تفسير القرآن عن ابن عباس رضي الله عنهما، روى ابن إسحاق عنه أنه قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أُوقفه عند كل آية وأسأله عنها، وكان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، واعتمد تفسيره الشافعي والبخاري وكان كثيراً ما ينقل عنه في “صحيحه”، وقال الذهبي في آخر ترجمته: أجمعت الأمة على إمامة مجاهد والاحتجاج به، توفي في مكة وهو ساجد سنة أربع ومئة، عن ثلاث وثمانين سنة
2 – قتادة:
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ولد أكمه أي أعمى سنة إحدى وستين، وَجَدَّ في طلب العلم، وكان له حافظة قوية حتى قال عن نفسه: ما قلت لمحدث قط أَعد لي، وما سمعت أُذناي شيئاً قط إلا وعاه قلبي، وذكره الإِمام أحمد فأطنب في ذكره فجعل ينشر من علمه وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتفسير ووصفه بالحفظ والفقه، وقال: قلَّما تجد من يتقدمه أما المِثْل فلعل، وقال: هو أَحفظُ أَهل البصرة، لم يسمع شيئاً إلا حفظه، وتوفي في واسط سنة سبع عشرة ومئة، عن ست وخمسين سنة.
* * *
القـرآن محكم ومتشابه
يتنوع القرآن الكريم باعتبار الإحكام والتشابه إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الإِحكام العام الذي وصف به القرآن كله، مثل قوله تعالى: { )الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود:1) } ، وقوله: )الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) (يونس:1) وقوله: { )وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الزخرف:4)
ومعنى هذا الإِحكام الإِتقان والجودة في ألفاظه ومعانيه فهو في غاية الفصاحة والبلاغة، أخباره كلها صدق نافعة، ليس فيها كذب، ولا تناقض، ولا لغو لا خير فيه، وأحكامه كلُّها عدل، وحكمه ليس فيها جور ولا تعارض ولا حكم سفيه.
النوع الثاني: التشابه العام الذي وصف به القرآن كله، مثل قوله تعالى: { )اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر:23)
ومعنى هذا التشابه، أن القرآن كله يشبه بعضه بعضاً في الكمال والجودة والغايات الحميدة )وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(النساء: من الآية82) } .
النوع الثالث: الإِحكام الخاص ببعضه، والتشابه الخاص ببعضه، مثل قوله تعالى:)هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران:7).
ومعنى هذا الإحكام أن يكون معنى الآية واضحاً جلياً، لا خفاء فيه، مثل قوله تعالى: { )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(الحجرات: من الآية13 وقوله:)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21).
وقوله: {واحل الله البيع } [البقرة: 275] ، وقوله: { )حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:3) )حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )(المائدة: من الآية3 وأمثال ذلك كثيرة.
ومعنى هذا التشابه: أن يكون معنى الآية مشتبهاً خفيًّا بحيث يتوهم منه الواهم ما لا يليق بالله تعالى، أو كتابه أو رسوله، ويفهم منه العالم الراسخ في العلم خلاف ذلك.
مثاله: فيما يتعلق بالله تعالى، أن يتوهم واهم من قوله تعالى: {بل يداه مبسوتطان} [المائدة: 64] أن لله يدين مماثلتين لأيدي المخلوقين.
ومثاله فيما يتعلق بكتاب الله تعالى، أن يتوهم واهم تناقض القرآن وتكذيب بعضه بعضاً حين يقول: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ )(النساء: من الآية79 } ، ويقول في موضع آخر:(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)(النساء: من الآية78)
ومثاله فيما يتعلق برسول الله، أن يتوهم واهم من قوله تعالى: )فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (يونس:94) ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شاكًّا فيما أنزل إليه.
موقف الراسخين في العلم
والزائغين من المتشابه
إن موقف الراسخين في العلم من المتشابه وموقف الزائغين منه بينه الله تعالى فقال في الزائغين: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)(آل عمران: من الآية7)} ، وقال في الراسخين في العلم: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)(آل عمران: من الآية7) فالزائغون يتخذون من هذه الآيات المشتبهات وسيلة للطعن في كتاب الله، وفتنة الناس عنه، وتأويله لغير ما أراد الله تعالى به، فَيضِلون، ويُضِلونَ.
وأما الراسخون في العلم، فيؤمنون بأن ما جاء في كتاب الله تعالى فهو حق، وليس فيه اختلاف، ولا تناقض؛ لأنه من عند الله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(النساء: من الآية82) وما جاء مشتبهاً ردوه إلى المحكم؛ ليكون الجميع محكماً.
ويقولون في المثال الأول: إن لله تعالى يدين حقيقيتين على ما يليق بجلاله وعظمته، لا تماثلان أيدي المخلوقين، كما أن له ذاتاً لا تماثل ذوات المخلوقين؛ لأن الله تعالى يقول:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: من الآية11) .
ويقولون في المثال الثاني: إن الحسنة والسيئة كلتاهما بتقدير الله ، لكن الحسنة سببها التفضل من الله تعالى على عباده، أما السيئة فسببها فعل العبد كما قال تعالى: )وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30) فإضافة السيئة إلى العبد من إضافة الشيء إلى سببه، لا من إضافته إلى مُقَدِّره، أما إضافة الحسنة والسيئة إلى الله تعالى فمن باب إضافة الشيء إلى مقدره، وبهذا يزول ما يوهم الاختلاف بين الآيتين لانفكاك الجهة
ويقولون في المثال الثالث: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع منه شكٌّ فيما أنزل إليه، بل هو أعلم الناس به، وأقواهم يقيناً كما قال الله تعالى في نفس السورة: {)قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)(يونس: من الآية104) } ، المعنى إن كنتم في شكٍّ منه فأنا على يقين منه، ولهذا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، بل أكفر بهم وأعبد الله.
ولا يلزم من قوله: { )فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ )(يونس: من الآية94)} أن يكون الشكُّ جائزاً على الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو واقعاً منه ألا ترى قوله تعالى: )قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (الزخرف:81) هل يلزم منه أن يكون الولد جائزاً على الله تعالى أو حاصلاً؟ كلَّا، فهذا لم يكنْ حاصلاً، ولا جائزاً على الله تعالى، قال الله تعالى: )وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (مريم:92) )إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:93)
ولا يلزم من قوله تعالى: (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(البقرة: من الآية147) أن يكون الامتراء واقعاً من الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النهي عن الشيء قد يوجه إلى من لم يقع منه ألا ترى قوله تعالى: )وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (القصص:87) ومن المعلوم أنهم لم يصدُّوا النبي صلى الله عليه وسلم عن آيات الله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع منه شرك والغرض من توجيه النهي إلى من لا يقع منه: التنديد بمن وقع منهم والتحذير من منهاجهم، وبهذا يزول الاشتباه، وظن ما لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم.
أنواع التشابه في القـرآن
التشابه الواقع في القرآن نوعان:
أحدهما: حقيقي وهو ما لا يمكن أن يعلمه البشر كحقائق صفات الله عز وجل، فإننا وإن كنا نعلم معاني هذه الصفات، لكننا لا ندرك حقائقها، وكيفيتها لقوله تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)(طـه: من الآية110) وقوله تعالى:)لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام:103) } ولهذا لما سُئِل الإِمام مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طـه:5) كيف استوى قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإِيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا النوع لا يسأل عن استكشافه لتعذر الوصول إليه.
النوع الثاني: نسبي وهو ما يكون مشتبهاً على بعض الناس دون بعض، فيكون معلوماً للراسخين في العلم دون غيرهم، وهذا النوع يسأل عن استكشافه وبيانه؛ لإِمكان الوصول إليه، إذ لا يوجد في القرآن شيء لا يتبين معناه لأحد من الناس، قال الله تعالى:)هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:138) ، وقال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء)(النحل: من الآية89) ، وقال: )فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (القيامة:18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة:19) ، وقال: { )يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (النساء:174).
وأمثلة هذا النوع كثيرة منها قوله تعالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11) حيث اشتبه على أهل التعطيل، ففهموا منه انتفاء الصفات عن الله تعالى، وادَّعوا أن ثبوتها يستلزم المماثلة، وأعرضوا عن الآيات الكثيرة الدالة على ثبوت الصفات له، وأن إثبات أصل المعنى لا يستلزم المماثلة.
ومنها قوله تعالى: { )وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) حيث اشتبه على الوعيدية، ففهموا منه أن قاتل المؤمن عمداً مخلد في النار، وطردوا ذلك في جميع أصحاب الكبائر، وأعرضوا عن الآيات الدالة على أن كل ذنب دون الشرك فهو تحت مشيئة الله تعالى .
ومنها قوله تعالى: { )أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) حيث اشتبه على الجبرية، ففهموا منه أن العبد مجبور على عمله، وادعوا أنه ليس له إرادة ولا قدرة عليه، وأعرضوا عن الآيات الدالة على أن للعبد إرادة وقدرة، وأن فعل العبد نوعان: اختياري، وغير اختياري.
والراسخون في العلم أصحاب العقول، يعرفون كيف يخرجون هذه الآيات المتشابهة إلى معنى يتلاءم مع الآيات الأخرى، فيبقى القرآن كله محكماً لا اشتباه فيه.
الحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه
لو كان القرآنُ كلُّه محكماً لفاتت الحكمة من الاختبار به تصديقاً وعملاً لظهور معناه، وعدم المجال لتحريفه، والتمسك بالمتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ولو كان كلُّه متشابهاً لفات كونه بياناً، وهدى للناس، ولما أمكن العمل به، وبناء العقيدة السليمة عليه، ولكن الله تعالى بحكمته جعل منه آيات محكمات، يرجع إليهن عند التشابه، وأُخر متشابهات امتحاناً للعباد؛ ليتبين صادق الإِيمان ممن في قلبه زيغ، فإن صادق الإِيمان يعلم أن القرآن كله من عند الله تعالى، وما كان من عند الله فهو حق، ولا يمكن أن يكون فيه باطل، أو تناقض لقوله تعالى: )لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42) وقوله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(النساء: من الآية82)}
وأما من في قلبه زيغ، فيتخذ من المتشابه سبيلاً إلى تحريف المحكم واتباع الهوى في التشكيك في الأخبار والاستكبار عن الأحكام، ولهذا تجد كثيراً من المنحرفين في العقائد والأعمال، يحتجون على انحرافهم بهذه الآيات المتشابهة
* * *
موهم التعارض في القـرآن
التعارض في القرآن أن تتقابل آيتان، بحيث يمنع مدلول إحداهما مدلول الأخرى، مثل أن تكون إحداهما مثبتة لشيء والأخرى نافية له.
ولا يمكن أن يقع التعارض بين آيتين مدلولهما خبري، لأنه يلزم كون إحداهما كذباً، وهو مستحيل في أخبار الله تعالى، قال الله تعالى:) وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً)(النساء: من الآية87)( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)(النساء: من الآية122) ولا يمكن أن يقع التعارض بين آيتين مدلولهما حُكْمِي؛ لأن الأخيرة منهما ناسخة للأولى قال الله تعالى:)مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)(البقرة: من الآية106) وإذا ثبت النسخ كان حكم الأولى غير قائم ولا معارض للأخيرة.
وإذا رأيت ما يوهم التعارض من ذلك، فحاول الجمع بينهما، فإن لم يتبين لك وجب عليك التوقف، وتكلَ الأمر إلى عالمه وقد ذكر العلماء رحمهم الله أمثلة كثيرة لما يوهم التعارض، بينوا الجمع في ذلك ومن أجمع ما رأيت في هذا الموضوع كتاب “دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب” للشيخ محمد صلى الله عليه وسلم الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى.
فمن أمثلة ذلك قوله تعالى في القرآن:(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(البقرة: من الآية2)، وقوله فيه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ)(البقرة: من الآية185) فجعل هداية القرآن في الآية الأولى خاصة بالمتقين، وفي الثانية عامة للناس، والجمع بينهما أن الهداية في الأولى هداية التوفيق والانتفاع، والهداية في الثانية هداية التبيين والإِرشاد.
ونظير هاتين الآيتين، قوله تعالى في الرسول صلى الله عليه وسلم : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)(القصص: من الآية56) ، وقوله فيه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(الشورى: من الآية52)} فالأولى هداية التوفيق والثانية هداية التبيين.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ)(آل عمران: من الآية18)} ، وقوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ )(آل عمران: من الآية62)} ، وقوله: (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) (الشعراء:213) وقوله: (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)(هود: من الآية101) } ففي الآيتين الأوليين نفي الألوهية عما سوى الله تعالى وفي الأخريين إثبات الألوهية لغيره.
والجمع بين ذلك أن الألوهية الخاصة بالله عز وجل هي الألوهية الحق، وأن المثبتة لغيره هي الألوهية الباطلة؛ لقوله تعالى:)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (الحج:62)
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)(لأعراف: من الآية28) وقوله: )وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الاسراء:16) ففي الآية الأولى نفى أن يأمر الله تعالى بالفحشاء، وظاهر الثانية أن الله تعالى يأمر بما هو فسق.
والجمع بينهما أن الأمر في الآية الأولى هو الأمر الشرعي، والله تعالى لا يأمر شرعاً بالفحشاء لقوله تعالى:)إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي)(النحل: من الآية90)} والأمر في الآية الثانية هو الأمر الكوني، والله تعالى يأمر كوناً بما شاء حسب ما تقتضيه حكمته لقوله تعالى: )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82)
ومن رام زيادة أمثلة فليرجع إلى كتاب الشيخ الشنقيطي المشار إليه آنفاً.
* * *
القسـم
القَسَم: بفتح القاف والسين، اليمين، وهو: تأكيد الشيء بذكر مُعَظَّم بالواو، أو إحدى أخواتها وأدواته ثلاث:
الواو – مثل قوله تعالى: { )فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (الذريات:23) ويحذف معها العامل وجوباً، ولا يليها إلا اسم ظاهر.
والباء – مثل قوله تعالى: { )لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (القيامة:1) ويجوز معها ذكر العامل كما في هذا المثال، ويجوز حذفه كقوله تعالى عن إبليس: )قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (صّ:82} ويجوز أن يليها اسم ظاهر كما مثَّلنا، وأن يليها ضمير كما في قولك: الله ربي وبه أحلف لينصرن المؤمنين.
والتاء – مثل قوله تعالى: {)تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ)(النحل: من الآية56) } ويحذف معها العامل وجوباً، ولا يليها إلا اسم الله، أو رب مثل: تربِّ الكعبة لأحجنَّ إن شاء الله
والأصل ذكر المقسم به، وهو كثير كما في المثل السابقة
وقد يحذف وحده مثل قولك: أحلف عليك لتجتهدن
وقد يحذف مع العامل وهو كثير مثل قوله تعالى: )ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر:8)
والأصل ذكر المقسم عليه، وهو كثير مثل قوله تعالى:(قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ )(التغابن: من الآية7) .
وقد يحذف جوازاً مثل قوله تعالى: { )ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (قّ:1)
وتقديره ليهلكن.
وقد يحذف وجوباً إذا تقدمه، أو اكتنفه ما يغني عنه، قاله ابن هشام في المغني ومثَّلَ له بنحو: زيد قائم والله، وزيد والله قائم.
وللقَسَم فائدتان:
إحداهما: بيان عظمة المقسم به.
والثانية: بيان أهمية المقسم عليه، وإرادة توكيده، ولذا لا يحسن القسم إلا في الأحوال التالية:
الأولى: أن يكون المقسم عليه ذا أهمية.
الثانية: أن يكون المخاطب متردداً في شأنه.
الثالثة: أن يكون المخاطب مُنْكِراً له.
* * *
القصص
القصص والقص لغة: تتبع الأثر.
وفي الاصطلاح: الإخبار عن قضية ذات مراحل، يتبع بعضها بعضاً
وقصص القرآن أصدق القصص؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً)(النساء: من الآية87) وذلك لتمام مطابقتها للواقع.
وأحسن القصص؛ لقوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ)(يوسف: من الآية3)وذلك لاشتمالها على أعلى درجات الكمال في البلاغة وجلال المعنى.
وأنفع القصص، لقوله تعالى:)لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب)(يوسف: من الآية111) وذلك لقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق.
وهي ثلاثة أقسام:
* قسم عن الأنبياء والرسل، وما جرى لهم مع المؤمنين بهم والكافرين.
*وقسم عن أفراد وطوائف، جرى لهم ما فيه عبرة، فنقله الله تعالى عنهم، كقصة مريم، ولقمان، والذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وذي القرنين، وقارون، وأصحاب الكهف، وأصحاب الفيل، وأصحاب الأخدود، وغير ذلك.
*وقسم عن حوادث وأقوام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، كقصة غزوة بدر، وأحد، والأحزاب، وبني قريظة، وبني النضير، وزيد بن حارثة، وأبي لهب، وغير ذلك.
وللقصص في القرآن حكم كثيرة عظيمة منها:
1 -بيان حكمة الله تعالى فيما تضمنته هذه القصص؛ لقوله تعالى:)وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) (القمر:4) )حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) (القمر:5)
2 – بيان عدله تعالى بعقوبة المكذبين؛ لقوله تعالى عن المكذبين:)وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّك)(هود: من الآية101).
3 -بيان فضله تعالى بمثوبة المؤمنين؛ لقوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ) (القمر:34)( نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) (القمر:35).
4 -تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه من المكذبين له؛ لقوله تعالى: )وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) (فاطر:25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) (فاطر:26).
5 -ترغيب المؤمنين في الإِيمان بالثبات عليه والازدياد منه، إذ علموا نجاة المؤمنين السابقين، وانتصار من أُمروا بالجهاد؛ لقوله تعالى:)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الانبياء:88) وقوله: { )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ َجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم:47)
6 -تحذير الكافرين من الاستمرار في كفرهم؛ لقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) (محمد:10)
7 -إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإن أخبار الأمم السابقة لا يعلمها إلا الله عز وجل، لقوله تعالى:)تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا)(هود: من الآية49) ، وقوله: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّه)(ابراهيم: من الآية9).
تكرار القصص
من القصص القرآنية ما لا يأتي إلا مرة واحدة، مثل قصة لقمان، وأصحاب الكهف ومنها ما يأتي متكرراً حسب ما تدعو إليه الحاجة، وتقتضيه المصلحة، ولا يكون هذا المتكرر على وجه واحد، بل يختلف في الطول والقصر واللين والشدة وذكر بعض جوانب القصة في موضع دون آخر.
ومن الحكمة في هذا التكرار:
1 -بيان أهمية تلك القصة لأن تكرارها يدل على العناية بها.
2 -توكيد تلك القصة؛ لتثبت في قلوب الناس.
3 -مراعاة الزمن وحال المخاطبين بها، ولهذا تجد الإِيجاز والشدة غالباً فيما أتى من القصص في السور المكية والعكس فيما أتى في السور المدنية.
4 -بيان بلاغة القرآن في ظهور هذه القصص على هذا الوجه وذاك الوجه على ما تقتضيه الحال.
5 -ظهور صدق القرآن، وأنه من عند الله تعالى، حيث تأتي هذه القصص متنوعة بدون تناقض.
* * *
الإسرائيليات
الإسرائيليات: الأخبار المنقولة عن بني إسرائيل من اليهود وهو الأكثر، أو من النصارى وتنقسم هذه الأخبار إلى ثلاثة أنواع:
الأول: ما أقره الإسلام، وشهد بصدقه فهو حق.
مثاله: ما رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله فقال: يا محمد صلى الله عليه وسلم، إنَّا نجد أنّ الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله : { )وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67).
الثاني: ما أنكره الإسلام وشهد بكذبه فهو باطل.
مثاله: ما رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها، جاء الولد أحول؛ فنزلت: { )نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (البقرة:223) .
الثالث: ما لم يقره الإسلام، ولم ينكره، فيجب التوقف فيه، لما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا:(آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ)(العنكبوت: من الآية46) ولكن التحدث بهذا النوع جائز، إذا لم يخش محذور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : “بلِّغوا عنِّي ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار” رواه البخاري.
وغالب ما يروى عنهم من ذلك ليس بذي فائدة في الدِّين كتعيين لون كلب أصحاب الكهف ونحوه.
وأما سؤال أهل الكتاب عن شيء من أمور الدين، فإنه حرام لما رواه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : “لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء؛ فإنهم لن يهدوكم، وقد ضلوا، فإنكم إما أن تصدقوا بباطل، أو تكذبوا بحق، وإنه لو كـان موسى حيًّا بين أظهركم ما حـل له إلا أن يتبعني”.
وروى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم أحدث الأخبار بالله مَحضاً، لم يُشَبْ، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتاب الله، وغيروا، فكتبوا بأيديهم، قالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا بذلك ثمناً قليلاً، أو لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ فلا والله ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أنزل إليكم.
موقف العلماء من الإسرائيليات
اختلفت مواقف العلماء، ولا سيما المفسرون من هذه الإسرائيليات على ثلاثة أنحاء:
أ -فمنهم من أكثر منها مقرونة بأسانيدها، ورأى أنه بذكر أسانيدها خرج من عهدتها، مثل ابن جرير الطبري.
ب -ومنهم من أكثر منها، وجردها من الأسانيد غالباً، فكان حاطب ليل مثل البغوي الذي قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن تفسيره: إنه مختصر من الثعلبي، لكنه صانه عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة، وقال عن الثعلبي: إنه حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع.
جـ -ومنهم من ذكر كثيراً منها، وتعقب البعض مما ذكره بالتضعيف أو الإنكار مثل ابن كثير.
د -ومنهم من بالغ في ردها، ولم يذكر منها شيئاً يجعله تفسيراً للقرآن كمحمد صلى الله عليه وسلم رشيد رضا.
* * *
الضمير
الضمير لغة: من الضمور وهو الهزال لقلة حروفه أو من الإضمار وهو الإخفاء لكثرة استتاره
وفي الاصطلاح: ما كني به عن الظاهر اختصاراً وقيل: ما دل على حضور، أو غيبة لا من مادتهما
فالدال على الحضور نوعان:
أحدهما: ما وضع للمتكلم مثل: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّه)(غافر: من الآية44)
الثاني: ما وضع للمخاطب مثل: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)(الفاتحة: من الآية7)
وهذان لا يحتاجان إلى مرجع اكتفاء بدلالة الحضور عنه
والدال على الغائب، ما وضع للغائب ولا بد له من مرجع يعود عليه.
والأصل في المرجع أن يكون سابقاً على الضمير لفظاً ورتبة مطابقاً له لفظاً ومعنًى مثل: {ونادى نوح ربه} [هود: 45].
وقد يكون مفهوماً من مادة الفعل السابق مثل: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(المائدة: من الآية8) .
وقد يسبق لفظاً لا رتبة مثل:)وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّه)(البقرة: من الآية124)
وقد يسبق رتبة لا لفظاً مثل: (حمل كتابه الطالب).
وقد يكون مفهوماً من السياق مثل: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَد)(النساء: من الآية11)} ، فالضمير يعود على الميت المفهوم من قوله: {مما ترك }
وقد لا يطابق الضمير معنى مثل:)وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون:12) )ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) (المؤمنون:13) فالضمير يعود على الإنسان باعتبار اللفظ؛ لأن المجعول نطفة ليس الإنسان الأول .
وإذا كان المرجع صالحاً للمفرد والجمع جازَ عَود الضمير عليه بأحدهما مثل: )وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً)(الطلاق: من الآية11).
والأصل اتحاد مرجع الضمائر إذا تعددت مثل: )عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (لنجم:5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) (لنجم:6)( وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) (لنجم:7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) (لنجم:8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (لنجم:9 فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (لنجم:10) فضمائر الرفع في هذه الآيات تعود إلى شديد القوى وهو جبريل.
والأصل عود الضمير على أقرب مذكور إلا في المتضايفين فيعود على المضاف؛ لأنه المتحدث عنه مثال الأول: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيل)(الاسراء: من الآية2).
ومثال الثاني: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)(ابراهيم: من الآية34)
وقد يأتي على خلاف الأصل فيما سبق بدليل يدل عليه.
الإظهار في موضع الإضمار
الأصل أن يؤتى في مكان الضمير بالضمير لأنه أبين للمعنى وأخصر للفظ، ولهذا ناب الضمير في قوله تعالى: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(الأحزاب: من الآية35)عن عشرين كلمة المذكورة قبله، وربما يؤتى مكان الضمير بالاسم الظاهر وهو ما يسمى (الإظهار في موضع الإضمار) وله فوائد كثيرة، تظهر بحسب السياق منها:
1 -الحكم على مرجعه بما يقتضيه الاسم الظاهر.
2 -بيان علة الحكم.
3 – عموم الحكم لكل متصف بما يقتضيه الاسم الظاهر.
مثال ذلك قوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة:98) ، ولم يقل فإن الله عدو له، فأفاد هذا الإظهارُ:
1 -الحكم بالكفر على من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال.
2 -أن الله عدو لهم لكفرهم.
3 -أن كل كافر فالله عدو له.
مثال آخر: قوله تعالى:)وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (لأعراف:170) ، ولم يقل إنا لا نضيع أجرهم؛ فأفاد ثلاثة أمور:
1 -الحكم بالإِصلاح للذين يمسكون الكتاب، ويقيمون الصلاة.
2 – أن الله آجرهم لإصلاحهم.
3 – أن كل مصلح فله أجر غير مضاع عند الله تعالى.
وقد يتعين الإِظهار، كما لو تقدم الضمير مرجعان، يصلح عوده إلى كل منهما والمراد أحدهما مثل: اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم وبطانة ولاة أمورهم، إذ لو قيل: وبطانتهم، لأوهمَ أن يكون المراد بطانة المسلمين.
ضمير الفصل
ضمير الفصل: حرف بصيغة ضمير الرفع المنفصل يقع بين المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين
ويكون بضمير المتكلم كقوله تعالى: {)إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا)(طـه: من الآية14) وقوله: { )وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) (الصافات:165)
وبضمير المخاطب كقوله تعالى: { )كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ)(المائدة: من الآية117) } .
وبضمير الغائب كقوله تعالى: { )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104)
وله ثلاث فوائد:
الأولى: التوكيد، فإنَّ قولك: زيد هو أخوك أوكَد من قولك: زيد أخوك.
الثانية: الحصر، وهو اختصاص ما قبله بما بعده، فإن قولك: المجتهد هو الناجح يفيد.اختصاص المجتهد بالنجاح.
الثالثة: الفصل؛ أي التمييز بين كون ما بعده خبراً، أو تابعاً، فإن قولك: زيد الفاضل يحتمل أن تكون الفاضل صفة لزيد، والخبر منتظر، ويحتمل أن تكون الفاضل خبراً، فإذا قلت: زيد هو الفاضل؛ تعين أن تكون الفاضل خبراً، لوجود ضمير الفصل.
* * *