وهذا يُشبه ما ذكروه في تقليم الأظافر من أنَّه يُقلِّمُها مخالفاً (المغني 1/118)، ورووا حديثاً لا يصحُّ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «أن من قلَّم أظفاره مخالفاً لم يصبْه رمدٌ في عينيه» (شرح العمدة لابن تيمية 1/240). وصِفَةُ المخالفة هنا أن تبدأ بخِنْصَرِ اليمنى؛ ثم الوسطى؛ ثم الإِبهام؛ ثم البِنْصِر؛ ثم السَّبَّابة. وفي اليسرى أن تبدأ بالإِبهام؛ ثم الوسطى؛ ثم الخِنْصَر؛ ثم السَّبَّابة؛ ثم البِنْصِر.
وهذا لو صَحَّ فيه الحديث لقلنا به وعلى العين والرأس، فربَّما يكون سبباً لشفاء العين ونحن لا ندركه، لكن الحديث لا يثبت عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وإنما يكون تقليم الأظافر على ما ورد في حديث عائشة قالت: «كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يعجبه التيمُّنُ في تنعُّله، وترجُّله، وطُهوره، وفي شأنه كلِّه» . فيبدأ بخِنْصَرِ اليد اليمنى؛ ثم البِنْصِر؛ ثم الوسطى؛ ثم السَّبَّابة؛ ثم الإِبهام؛ ثم إِبهام اليسرى؛ ثم السَّبَّابة؛ ثم الوسطى؛ ثم البِنْصَر؛ ثم الخِنْصَر، هذا على أنَّ في النَّفس ثقلاً من ذلك، لكنه أقرب من المخالفة.
والتَّيَامُنُ، ……..
قوله: «والتَّيَامن»، أي: ومن سُنَن الوُضُوء التَّيَامُن، وهو خاصٌّ بالأعضاء الأربعة فقط وهما: اليدان والرِّجْلان، تبدأ باليد اليمنى ثم اليسرى، والرِّجْل اليُمنى ثم اليسرى.أما الوجه فالنُّصوص تدلُّ على أنَّه لا تيامن فيه، اللهم إلا أن يعجزَ الإِنسان عن غسله دفعة واحدة فحينئذٍ يبدأ بالأيمن منه، وكذلك الرَّأس.والأُذنان يُمسحان مرَّة واحدة؛ لأنَّهما عضوان من عضو واحد، فهما داخلان في مسح الرَّأس، ولو فُرِضَ أنَّ الإِنسان لا يستطيع أن يمسحَ رأسه إِلا بيد واحدة، فإنه يبدأ باليمين، وبالأُذن اليمنى.والدَّليل على مشروعية التَّيامن حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه التَّيمُّنُ في تنعُّله، وترجُّله، وطُهُورِه، وفي شأنه كُلِّه» .وأما المسح على الخُفين فقال بعض العلماء: يمسحُهما معاً (الإنصاف 1/418)، لأنَّهما لما مُسحا كانا كالرَّأس؛ ولأنَّ المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «فمسح على خُفيه» (رواه البخاري)، ولم يذكر التَّيامن.وقال بعض العلماء: يُستحب التَّيامن (الإنصاف1/418)، لأن المسح فرعٌ عن الغسل؛ ولأنهما عضوان يتميَّز أحدُهما عن الآخر بخلاف الرأس، وإِنما لم يذكر التَّيامن لكونه معلوماً من هديه صلّى الله عليه وسلّم أنَّه كان يعجبه التَّيامن، كما لو قال في الوُضُوء: ثم غسل رجليه، ولم
يذكر اليُمنى قبل اليُسرى. وهذا هو الأقرب؛ أنَّك تبدأ باليُمنى قبل اليُسرى (مجموع الفتاوى 11/177)، والأمرُ في هذا واسع إِن شاء الله تعالى.
وأَخْذُ ماءٍ جديدٍ للأُذُنَيْنِ، ……….
قوله: «وأخْذُ ماءٍ جديد للأُذُنَيْن»، أي ومن سُنَن الوُضُوء أخْذُ ماءٍ جديد للأُذُنين، فيُسَنُّ إِذا مسح رأسه أن يأخذ ماءً جديداً لأُذُنيه، والدَّليل حديث عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضَّأ، فأخذ لأُذُنيه ماءً خلاف الماء الذي أخذ لرأسه .
وهذا الحديث شاذٌّ؛ لأنه مخالف لما رواه مسلم أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم مسح برأسه بماء غير فضل يديه (رواه مسلم)، ولأنَّ جميع من وصَفَ وضوءَه صلّى الله عليه وسلّم لم يذكروا أنَّه أخذ ماءً جديداً للأُذُنين. فعلى هذا يكون الصَّواب: أنَّه لا يُسَنُّ أنْ يأخذ ماءً جديداً للأُذُنين.
وأمَّا التَّعليل لمشروعية أخذ ماء جديد للأذنين: أنهما كعضو مستقل. فجوابه أنهما يُمسحان مع الرَّأس مرَّةً واحدة فليسا عضواً مستقلاً.
والغَسْلَةُ الثَّانِيَةُ، والثَّالثة.قوله: «والغَسْلَةُ الثَّانيةُ والثَّالثةُ»، أي من سُنَنِ الوُضُوء الغسلة الثَّانية، والثَّالثة. والأولى واجبة لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6].والثَّانية أكمل، والثَّالثة أكمل منهما؛ لأنَّهما أبلغ في التَّنظيف.وقد ثبت عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه توضَّأ مرَّة مرَّة (رواه البخاري)، ومرَّتين مرَّتين (رواه البخاري)، وثلاثاً ثلاثاً (رواه البخاري).وتوضَّأ كذلك مخالفاً، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرَّتين، ورجليه مرَّة (رواه البخاري).وقد كَرِهَ بعضُ العلماء أن يخالفَ بين الأعضاء في العدد
فإذا غسلت الوجه مرَّة، فلا تغسل اليدين مرَّتين وهكذا.والصَّواب أنَّه لا يُكره؛ فإِنه ثبت أن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم خالف فغسل الوجه ثلاثاً، واليدين مرَّتين، والرِّجلين مرَّة.والأفضل أن يأتي بهذا مرَّة، وبهذا مرَّة.وقد يُقال: إِنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم توضَّأ مرَّة لبيان الجواز، لا على سبيل التعبُّد باختلاف العبادات، وتوضأ مرَّتين لبيان الجواز أيضاً.وخَالف كذلك لبيان الجواز. لكن نقول: إِنَّ الأصل التعبُّد والمشروعية.فالذي يظهر: أن الإِنسان ينوِّعُ، وعلى كلام المؤلِّف: الثَّلاث أفضل من الثِّنتين، والثِّنتان أفضل من الواحدة.وقد ألغز بعض العلماء بهذه المسألة فقال: لنا سُنَّةٌ هي أفضل من واجب (الإنصاف1/290)! وقد قال الله عزّ وجل في الحديث القُدسي: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه» (رواه البخاري). والتثليثُ في الوُضُوء سُنَّةٌ، وهي أفضل من الغسل مرَّةً مرَّةً وهي واجبةٌ، وابتداء السَّلام سُنَّةٌ، وهو أفضل من ردّه الواجب.والجواب: أن هذا اللُّغز خطأ من أصله؛ لأن غسل أعضاء الوُضُوء ثلاثاً قد دخل فيه الواجب وزِيد عليه، وأما ابتداء السَّلام فمُناقَشٌ من وجهين:الأول: أن يُقال: لا نسلِّم أنَّ ابتداءه أفضلُ، بل ردُّه أفضلُ لعموم الحديث: «ما تقرَّب إليَّ عبدي … »، فيبطل الإلغاز من أصله.الثَّاني: أنَّنا لو سلَّمنا أن ابتداء السَّلام أفضل من ردِّه؛ فذلك لأن ردّه مبنيٌّ عليه؛ فحاز مبتدئ السَّلام فضيلتين: الأولى: ابتداءُ السلام، والثانية: أنه كان سبباً للواجب.فالحاصل أن النَّفل لا يمكن أن يكون أفضل من الواجب للحديث الذي ذكرناه وللنَّظر الصَّحيح؛ لأنَّه لولا محبَّة الله لهذه العبادة ما أوجبها، ولجعلها إلى اختيار الإنسان.