الدروس الدعوية المتعلقة بالعقيدة في غزوة بني قريظة…. د. ناجي بن وقدان

   الدرس الأول:إثبات اهتزاز العرش كحقيقة ثابتة.

العرش في اللغة: قال ابن فارس: العين والراء والشين أصل صحيح واحد، يدل على ارتفاعٍ في شيء مبنيّ، ثم يستعارُ في غير ذلك. من ذلك العرش، قال الخليل: العرش: سرير الملِك.وهذا صحيح، قال الله تعالى:(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) سورة يوسف 100 .

العرش في الاصطلاح: هو ذلك المخلوق العظيم الذي خلقه الله – عز وجل – ثم استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته، كما هو معتقد أهل السنة والجماعة . [مجلة البحوث الإسلامية  العدد 82 من رجب 1428].

ومن المناسب هنا وقبل الحديث عن إثبات اهتزاز العرش كحقيقة إيمانية تدخل في باب العقيدة ، أن أتحدث عن إثبات العرش وإثبات وجوده وصفته كما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ومن غير إطالة مملة أو اختصار مخل . والعرش والكرسي ثابتان لله تعالى بالكتاب والسنة، فيجب إثباتهما والإيمان بهما كما ورد في النصوص، ولا يجوز تأويلهما بأي شيء آخر، بل هما حقيقيان، معناهما معلوم غير مجهول، فالعرش هو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو سقف المخلوقات، والكرسي قيل: هو موضع القدمين، وقيل: هو بين يدي العرش كالمرقاة إليه، وقيل غير ذلك[شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز] ،فيجب الإيمان بذلك على حقيقته كما يليق بالله جل جلاله. ، وقد وصفه الصحابي الجليل عبدالله بن رواحة  رضي الله عنه في شعره بقوله:                                                                                       

شهدت بأن وعد الله حق     + وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف+     وفوق العرش رب العالمينا

      وتحمله ملائكة شداد +    ملائكة الإله مسومينا  [الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1/272 ] 

والعرش والكرسي من الأمور المسلم بها ، ومن الثوابت التي لا تقبل الخلاف أو التأويل الذي لا يليق بجلال الله وعظيم خلقه ، فقد وردت بها الآيات المثبتة ، والأحاديث القاطعة التي لا تقبل الجدل ، ومنهج أهل السنة والجماعة من السلف والخلف هو الإيمان بها وتصديقها كما جاءت في الكتاب والسنة قال الإمام الطحاوي رحمه الله:( والعرش والكرسي حق فأما العرش فقد ورد في آيات كثيرة، منها قول الله عز وجل( ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)[ البروج 15]  ،وقوله( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف 54] ،وقوله تعالى( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [غافر 7]  وقوله عز وجل( وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) [الحاقة 17] ،فهذه الأدلة كلها وغيرها تدل على أن لله سبحانه وتعالى عرشاً، وأما الكرسي فهو الثابت في آية الكرسي، عندما قال الله عز وجل(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) [البقرة 255]   فهو حق)[شرح العقيدة الطحاوية ص 277] ،وصفة العرش ومقداره وحجمه لا يقدر قدرها إلا الله عز وجل ، ولا يتأتى لمخلوق ضعيف من البشر أن يدرك ذلك فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (الكرسي موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى، والعرش لا يقدر قدره إلا الله) [رواه ابن أبي شيبة في صفة العرش 1/79] ،ومما يدل على عظم العرش وعلوه على جميع المخلوقات ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه قال: (ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة و فضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة)[رواه بن أبي شيبة في  كتاب العرش  1/114] ،وفي هذا الحديث دلالة على أن الكرسي غير العرش وأن الكل موجود حقيقة وأن العرش أعظم من الكرسي . ومما يدل أيضا على حقيقة العرش ووجوده ووجود حملته من الملائكة الكرام الذين أعطاهم الله من القوة العظيمة ما يجعلهم يضطلعون بحمله ، فعن جابر بن عبد الله t أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش: إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) [رواه أبو داود ] ، وما أجمل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نقلا عن عبدالله ابن المبارك رحمه الله حيث قال:( فبين ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه ، منفصل عنه فلما سألوه بماذا نعرفه ؟ قال : بأنه فوق سماواته ، على عرشه ، بائن من خلقه)[بيان تلبيس الجهمية لشيخ الإسلام ابن تيمية]  ، ولو استطردنا الكلام ، واستحضرنا جميع الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء من السلف والخلف حول وجود العرش والكرسي وإثباتهما وأوصافهما ، لطال بنا البحث ولنأى بنا عن موضوع الرسالة والدراسة ، ولعل فيما ورد كفاية بحول الله وقوته في البيان والإثبات لعرش الرحمن عز وجل .

ومع عظم العرش وضخامته ، هذا المخلوق العظيم الهائل الحجم الذي لا يمكن للعقل البشري مهما إتسعت آفاقه و تخيلاته أن يدرك مدى ضخامتة إذ يعتبر أكبر مخلوقات الله عز و جل على الإطلاق ، إلا أنه اهتز وارتعد لموت الصحابي الجليل المجاهد التقي الورع سعد بن معاذ t فبعد أن حكم t في بني قريظة بحكمه الذي وافق حكم الله ورسوله ، عادوا به إلى خيمة رفيدة بالمسجد النبوي ، تعالجه وتشرف عليه. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني قريظة حيث تم قتل رجالهم ، وتقسيم أموالهم ونسائهم وذراريهم ، وفي ذات ليلة انفجر عرق سعد بن معاذ الذي كان قد جبر حتى أقر الله تعالى عينه واستجاب دعوته في هلاك بني قريظة وسال دمه، فأتى جبريل عليه السلام إلى النبيصلى الله عليه وسلم وقال له:يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش ، فقام صلى الله عليه وسلم يجر رداءه إلى سعد ولحق به ابو بكر وعمر رضي الله عنهما فوجده قد مات شهيدا متأثرا بجرحه الذي أصيب به في غزوة الأحزاب وهو ينشد قائلا:       

لبث قليلا يدرك الهيجا جمل  +   لا بأس بالموت إذا حان الأجل                

تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها :(فانفجرت من لبته فلم يرعهم-وفي المسجد خيمة بني غفار-إلا والدم يسيل إليهم ، فقالوا يا أهل الخيمة ، ما هذا يأتينا من قبلكم ، فإذا سعد يغذوا جرحه دما ، فمات منها.) [رواه البخاري] ،قالت رضي الله عنها:سمعت بكاء أبي بكر وعمر على سعد إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يبكي على أحد ، ولكن إذا اشتد وجده أخذ بلحيته.

وقد وردت في اهتزاز العرش لموت هذا الصحابي الجليل أدلة كثيرة تدل دلالة لا ريب فيها على صدق نيته وقوة شكيمته ورسوخ إيمانه وصفاء عقيدته كما قال عز وجل( مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلً) [الأحزاب 23] فسعد رضي الله عنه وغيره من الصحابة الأخيار قدوة حية وأنموذجا يحتذى لكل داعية إلى الله تعالى في البذل والإخلاص لله تعالى حبا ورغبة فيما عند الله من الأجر والخير العظيم.ومن الأدلة الواردة في ذلك ما جاء في الصحيحين عن جابر t قال:قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم ( اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ) ، وفي مسند أبي يعلى وحسنه الألباني في الصحيحة عن أنس قال : افتخر الحيان من الأنصار و الأوس والخزرج فقالت الأوس : منا غسيل الملائكة : حنظلة بن الراهب ومنا من اهتز له عرش الرحمن : سعد بن معاذ ومنا من حمته الدبر : عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت وقال الخزرجيون : منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه سلم لم يجمعه غيرهم : زيد بن ثابت و أبو زيد و أبي بن كعب و معاذ بن جبل.[مسند أبي يعلى 3/238 ] ،وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وصححه الألباني عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه).

 وروى تمام في فوائده وصححه الألباني في الصحيحة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم : (اهتز العرش لموت سعد بن معاذ من فرح الرب عز وجل).

قلت والعرش مخلوق عظيم من مخلوقات الله عز وجل ، وعلى ضخامته وكبره إلا أنه مسخر بقدرة الله ولا يخالف أمر الله ، بل يمضي كما يأمر الله ، واهتزازه لا يكون إلا بإرادة الله ومشيئته لمن أراد الله إكرامه من خلقه ، ولذلك يقول الإمام الذهبي رحمه الله :” والعرش خلق لله مسخر ، إذا شاء أن يهتز اهتز بمشيئة الله “[سير أعلام النبلاء] ولله در القائل:

وما اهتز عرش الله من موت هالك +      سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو [سيرة بن هشام 3/263]

قال الذهبي عن ابن سعد: أنبأنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: اهتز العرش لحب لقاء الله سعدا.[الآثار الواردة عن أئمة السنة في أبواب الإعتقاد].
والمعنى المتبادر إلى الأذهان من هذا الإهتزاز للعرش هو الفرح والإستبشار والسرور باستشهاد هذا الصحبي الجليل ، وقد يكون فرح واستبشار حملة العرش الكرام وعلى إثر فرحهم تم الإهتزاز وقد يكون غير هذا والله تعالى أعلم. وقد ذكر البيهقي رحمه الله في الأسماء والصفات كلاما حول هذ المعنى فقال:”و الصحيح من التأويل في هذا أن يقال : الاهتزاز هو الاستبشار والسرور ، يقال : إن فلانا يهتز للمعروف ، أي يستبشر ويسر به ، وذكر ما يدل عليه من الكلام والشعر.قال : وأما العرش فعرش الرحمن على ما جاء في الحديث ، ومعنى ذلك أن حملة العرش الذين يحملونه ويحفون حوله فرحوا بقدوم سعد عليهم ، فأقام العرش مقام من يحمله ويحف به من الملائكة ، كما قال صلى الله عليه وسلم هذا جبل يحبنا ونحبه يريد : أهله وكما قال عز وجل : (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ) الدخان 29 ،يريد : أهلها وقد جاء في الحديث إن الملائكة تستبشر بروح المؤمن ، وإن لكل مؤمن بابا في السماء يصعد فيه عمله ، وينزل منه رزقه ، ويعرج فيه روحه إذا مات وكأن حملة العرش من الملائكة فرحوا واستبشروا بقدوم روح سعد عليهم ، لكرامته وطيب رائحته ، وحسن عمل صاحبه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اهتز له عرش الرحمن تبارك وتعالى والله أعلم”[الأسماء والصفات ، أحمد بن الحسين أبو بكر البيهقي] ،يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:” وكان سعد بن معاذ خلاف ما يضن به قومه ، كان مقدما لرضى الله ورسوله على رضى قومه ، ولهذا لما مات اهتز له عرش الرحمن فرحا بقدوم روحه”[الفتاوى الكبرى،تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني].
قلت  ولعل الأقرب إلى الصواب أن الإهتزاز والحركة هي الفرح بروح هذا الصحابي رضي الله عنه وفي هذا يقول ابن الجوزي رحمه الله” وفي معنى اهتزازه قولان أحدهما أنه تحرك كاهتزاز الفرح وهذا الظاهر والثاني أن معنى الإهتزاز الاستبشار والسرور يقال فلان يهتز للمعروف أي يستبشر ويسر وإن فلانا لتأخذه للثناء هزة أي ارتياح وطلاقه”[كشف المشكل من حديث الصحيحين].

وخلاصة القول أن اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذt  واقعة حقيقية وأمر لا يقبل الجدل لما ورد فيه من الأدلة الصحيحة والأقوال المعتبرة ، يجب الإيمان بذلك والإعتقاد بأنه حق ، وهذا هو منهاج أهل السنة والجماعة ، وهو درس عظيم يستفاد من هذه الغزوة العظيمة ، يقوي الإيمان ويرسخ العقيدة في قلب كل مسلم.

الدرس الثاني: والفائدة المستقاة من هذه الغزوة المباركة هو معرفة فضل هؤلاء الرجال من الصحابة والتأسي بهم ومحبتهم،ومعرفة قدرهم، والسير على خطاهم لكي يعود الإسلام والمسلمين إلى المكانه والقوة التي سلبت منهم ويسود الإسلام العالم مرة أخرى. فالصدق مع الله وإخلاص النية وبذل النفس والمال في سبيل الله دليل على صدق الإيمان ورسوخ العقيدة وسلامة التوحيد ، وصحابة رسل الله صلى الله عليه وسلم هم خير من وفق إلى هذا السبيل والذي به بلغوا مراتب الأخيار ، واستوطنوا أعالي الجنان وهذا مآل من صدق مع الله ما عاهد عليه ولذلك أخبرنا الله عنهم بقوله (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلً) [الأحزاب 23] فاستجابتهم لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وإمضائه على الفور ، ولا سيما أنهم بعد حصار ومكابدة لملة الكفر والشرك في غزوة الخندق ، ومعاناتهم الشاقة من الجوع والضمأ وسوء الأحوال الجوية ، وجاجتهم الماسة إلى الراحة والتزود ، لهو دليل قاطع على قوة عقيدتهم وخلوص التوحيد ونقاء السرائر والمسابقة الجادة إلى نصرة دين الله وإرساء قواعده ليكون هو الدين المهيمن في الأرض ، وذلك لما استقر في قلوبهم من أن الله حق ، وهو الإله المعبود بحق ، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام  حق ، وما جاء به هو الحق ، فلما كانوا كذلك حقق الله مرادهم ، وبلغهم مبتغاهم وبارك في أعمالهم وأعمارهم وجعلهم نورا يهتدي به كل مسلم وكل داعية إلى الله ، يسير على خطاهم ويقتدي بهداهم ، ودعوة سعد بن معاذ رضي الله عنه الله عز وجل أن يبقيه إن بقي هناك حرب مع أعداء الله ، وإن كانت الحرب انتهت أن يفجر جرحة وأن يجعل فيه ميتته ، خير دليل على صدق وإخلاص أولئك الأصحاب ، فحبهم سنة والدعاء لهم قربة والإقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة عن أبي بردةرضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) [رواه مسلم] .

الدرس الثالث: أن غزوة بني قريظة ، كغيرها من غزوات الرسولr قامت لإحياء العقيدة في قلوب الناس وإرساء دعائم التوحيد ، وجمع البشرية على الدين الخالص ، ونبذ كل ما يصادمها من براثن الوثنية والضلال وعبادة الأوثان ، وأن يكون الدين كله لله وأن لا معبود بحق في السماء والأرض إلا الله ، تحقيقا وإظهارا لمعنى لا إله إلا الله ، الكلمة التي هي أساس الدين وقوامه ، وعليها مدار العمل وقبوله ، وهي التي كانت محط الخلاف بين الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة ومن أجلها نشبت الحروب والغزوات ، فلقد كانت قريش تقر وتعترف بوجود الله وأنه الخالق المدبر ولكنها كانت تعبد معه آلهة وأوثانا ، والله عز وجل لم يبعث رسولا من الرسل ولا نبي من الأنبياء إلا ويأمره أن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده ونبذ ما سواه كما قال تعالى( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء 25] ،فغزوة بني قريظة كانت بأمر الله عز وجل لاجتثاث الكفر والشرك من المدينة النبوية ليكون الإسلام هو الدين السائد والمهيمن والذي لا يقبل الله غيره كما قال عز وجل( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ) [آل عمران 19] ،وعن ابن عمررضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله.)[فتح الباري كتاب الإيمان 1/95]  .

الدرس الرابع: أن الحكم والتحاكم إنما يكون إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي غزوة بني قريظة المباركة عندما أسند النبي صلى الله عليه وسلم أمر التحكيم في مصير بني قريظة إلى سعد بن معاذ t لإرضاء الأوس حلفاء بني قريظة عندما طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام وألحوا في الطلب أن يقبل شفاعتهم فيهم ، فأجابهم عليه الصلاة والسلام بقوله{أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم} قالوا بلى. قال{فذلك إلى سعد بن معاذ}[السيرة النبوية لابن كثير 3/233] ، وهنا تظهر العقيدة الصافية ، والتوحيد النقي ، وتنتفى جميع أنواع المجاملات والمداهنات ، ويتجرد سعد كما هو حاله وحال الأصحاب دائما من كل ما يعكر صفو العقيدة ونقاء العبادة ، ويعلن الحاكمية العادلة التي وافقت حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ، بقتل المقاتلة وسبي النساء والأبناء والأموال وتقسيمها ،وهذا الحكم العدل الذي تستحقه هذه الفئة الباغية الناكثة للعهود والمواثيق.والحكم بما أنزل الله تعالى فريضة متحتمة، وهو من لوازم الإيمان بالله تعالى ، ومن ثوابت هذا الدين وأركانه ، ، وفي القرآن الكريم ما لا يحصى من الآيات التي تدل على وجوب الحكم بما أنزل الله تارة ، وتارة تكفر وتفسق وتجرم من لم يحكم بما أنزل الله ومن ذلك قول المولى عز وجل(إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) النساء 105 ، (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) المائدة 49 ، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء 65 ، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) المائدة 44 ، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المائدة 45 ، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) المائدة 50 ،  وقال عز وجل(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [المائدة 82] ،وقال سبحانه وتعالى( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة 120] ،والآيات في ذلك كثيرة ومعلومة ، في بيان أهمية ومكانة الحكم بما أنزل الله .وفي سياق البيان لشناعة وعظيم جرم من لم يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تبارك وتعالى(مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) المائدة 60 ، وقال عز وجل( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [المائدة 64] ،وهذا منزلق خطير جدا وخصوصا إذا استحل المسلم الحكم بغير ما أنزل الله ، فهذا هو الكفر البواح الذي يهدم عقيدته ويقضي على حقيقة توحيده وولائه لله عزو وجل ، ولذلك كانت عقيدة الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه في الحكم على بني قريظة بذات القوة العظيمة التي جعلته يستحضر كل هذه الأدلة وتلك المعاني التي مكنته من الحكم بما أنزل الله ولم تأخذه في الله لومة لائم. يقول ابن القيم رحمه الله:(والصحيح : أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة وعدل عنه عصيانا مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا كفر أصغر.
وإن اعتقد أنه غير واجب وأنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله تعالى فهذا كفر أكبر.)[تهذيب مدارج السالكين]
قلت وهذا درس من الدروس التي يستفيد منا الداعية إلى الله ، في توعية العباد وتنبيههم إلى هذا الأمر العظيم ، وهو الحكم بما أنزل الله في شتى مناحي الحياة ، والحذر من الشك أو السماع لمن يشكك المسلم في دينه أو في أحكام الله التي أنزلها الله رحمة وعدلا وسعادة للعباد في الدنيا والآخرة ، وأن ليس على وجه الأرض حكما ولا قانونا أعدل ولا أنصف ولا أحسن من حكم الله الذي ارضاه الله لهم ورضوا به حكما شافيا وعادلا كما قال الله عز وجل(لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ) [آل عمران 181].

الدرس الخامس: إن الحروب والصراعات من قديم وحديث مع اليهود خاصة والكفار عامة على اختلاف مللهم ونحلهم إنما هي حرب عقدية دينية ، تمس أساس الدين وركنه القويم ، فمن يستقرئ التاريخ، ويتأمل في سنن الله الكونية والشرعية ، يستشف منها أن التاريخ يعيد نفسه ويستقرئ أحداثه وهذا الذي يؤكده كتاب الله وسنة رسولهr  ، وهذا ما تقرره عقيدتنا ويدونه تاريخنا عن القضية وأطرافها مما يؤكد بجلاء أن الصراع بيننا وبين اليهود صراع عقيدة وهوية ووجود. ألم نقرأ قول الحق تبارك وتعالى( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [المائدة 82]  ، وقوله عز وجل( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة 120]) ، فلقد أثبت لنا ذلك أن يهود الأمس هم سلفا خبيثا ليهود اليوم ، كل جيل يأتي هو صبغة ونسخة مطابقة للأصل في العداء والتحريف والغدر والخيانة ونقض العهود والمواثيق ، فهم قتلة الأنبياء ، ومكذبوا الرسل ، وعباد العجل ، وخصوم الدعوات ، كفار النعم ، شذاذ الآفاق ، حثالة البشرية ، استجلبوا لعنة الله ونقمته ، وغضبهمَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) المائدة 60 ، هؤلاء هم اليهود، سلسلة متصلة من اللؤم والمكر والعناد والبغي والشر والفساد وحلقات من الغدر والكيد والخسة والدناءة، تطاولوا على مقام الربوبية والألوهية  تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، لقد رموا الرسل بالعظائم، واتهموهم بالشناعات والجرائم، آذوا موسى، وكفروا بعيسى، وقتلوا زكريا ويحيى، وحاولوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم، عملوا  له السحر، ودسوا له السم بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام وصدق الله في وصفه لهذه الشرذمة الباغية فقال عز وجل (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [المائدة 64] ، وقال سبحانه( لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ) [آل عمران 181] [، (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) المائدة64 ، وفي غزوة بني قريظة تتجلى تلك الصفات الذميمة لبني يهود ومنها التمالؤ مع قريش وغطفان على النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين ، وغدرهم ونكثهم وخيانتهم ، ومنها تطاولهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أزواجه بالسب والشتم( ولعله من المناسب هنا الإشارة إلى ما فعله كعب بن الأشرف اليهودي ، وصاحب الحل والعقد في بني قريظة ، حيث قام بسب الله ، وشتم وهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه ، ولهذا انتدب له النبي عليه الصلاة والسلام محمد بن مسلمة ومن معه من الصحبة لقتله ، وقد تم ذلك بفضل الله ومنته)[رواه البخاري] ، من حصونهم وقد سمعهم علي بن أبي طالب ومن كان معه من الصحابة حينما قدمهم الرسول عليه الصلاة والسلام قبله ، وقد قال علي t عندما قابل الرسول عليه الصلاة والسلام :”لا عليك أن تدنوا من هؤلاء الأخباث”فقال عليه الصلاة والسلام (لم؟أظنك سمعت منهم لي أذى)قال:”نعم”قال:(لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا)وهذا الذي حصل بالفعل فإن النبي r لما دنا منهم قال:(ياإخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمه)[سيرة ابن هشام 3/ 245 ] قالوا يا أبا القاسم ما كنت جهولا.وعند الواقدي قال لهم عليه الصلاة والسلام(يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت اتشتمونني؟) فجعلوا يحلفون بالتوراة التي أنزلت على موسى ما فعلنا ويقولون يا أبا القاسم ما كنت جهولا )[كتاب المغازي ص 359] ، هذا هو حالهم ، وهذا ما تكنه قلوبهم ، الغدر والكذب والجحود ، يحلفون وينكرون وهم في الحقيقة كاذبون ، لا أمانة لهم ولا ذمة ، ومنها أيضا قول عدو الله حيى بن أخطب النضري ، محزب الأحزاب ، عنما اقتيد ليضرب عنقه قال مقولته الرعناء التي وجهها للنبي عليه الصلاة والسلام والتي تدل على حقد دفين وعداء عقدي وأزلي مهين لدين الإسلام وأهله ، قال:”بلى والله ما لمت نفسي في عداوتك ، ولقد التمست العز في مكانه، وأبى الله إلا أن يمكنك مني ، ولقد قلقلت كل مقلقل[أساس البلاغة]  ولكنه من يخذل الله يخذل”[كتاب المغازي 368] .والمستفاد للداعية إلى الله من هذا كله هو بيان حالهم للناس ، وكشف عوارهم ، وسرد تاريخهم المشين ، ومخالفة سرائرهم لظواهرهم ، وكتمانهم للحق ، وأنهم أهل كذب وإنكار وجحود.وأنهم في كل زمان ومكان وهم تبعا لأسلافهم ، يسيرون على خطاهم ، ويقتفون آثارهم.

الدرس السادس: أن الله ورسوله لا يقبل إلا الإسلام عقيدة وشريعة ، وهو الدين الذي ارتضاه لعباده ، وفي غزوة بني قريظة وردت قصة ريحانة الحبيب عليه الصلاة والسلام ، وهي ريحانة بنت عمرو بن خناقة امرأة من بني عمرو بن قريظة ، التي اصطفاها لنفسه عليه الصلاة والسلام قبل قسمة السبايا وعرض عليها الزواج ويضرب عليها الحجاب فأبت إلا اليهودية ، فعزلها عليه الصلاة والسلام ووجد في نفسه لذلك من أمرها ، فبينما هو جالس مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال:{إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرني بإسلام ريحانة}[الدرر في اخصار المغازي والسير ص 193] فجاء فقال يارسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك من أمرها ، فكانت عنده صلى الله عليه وسلم حتى توفي وهي في ملكه رضي الله عنها. وفي هذه القصة يتبين لنا أن دين الإسلام وعقيدتة هو الدين الذي لايقبل الله غيره ، فإن ريحانة بنت عمرو عندما رفضت الإسلام بداية وأبت إلا اليهودية ، لم يرضى بذلك عنها عليه الصلاة والسلام ، لأنها على عقيدة كفر وذاك مناقض تماما لدين الإسلام ، ولهذا لم يتردد عليه الصلاة والسلام في اعتزالها ، فلما أسلمت بفضل من الله ورحمة بها وبالنبي عليه الصلاة والسلام الذي كان يجد من نفسه عليها ، فرح بذلك وسر لسماع الخبر وذلك لدخولها في عقيدة الإسلام التي ارضاها الله لعباده ، فعاد إليها وبقيت في ملكه حتى التحق بالرفيق الأعلى. وقد دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام يقول الله تبارك وتعالى( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران 85] وقال عزوجل(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة 3].

الدرس السابع: في قصة مرور جبريل عليه السلام ببني النجار بالصورين، في هيئة دِحية بن خليفة  الكلبي[أنظر القصة في سيرة ابن هشام 3/245 ] على بغلة بيضاء عليها رحالة ، وهذه قصة وحادثة حقيقية وقعت بالفعل يجب الإيمان بها والإعتقاد بصحتها ، وكذلك الإيمان والإعتقاد الجازم بوجود الملائكة وأنهم خلق من خلق الله ، مخلوقون من نور ، وأنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله بالقيام بها ، ووصفهم بما وصفهم الله به في كتابه وسنة رسوله r قال بن حجر رحمه الله” الملائكة جمع ملَك  بفتح اللام … وقيل مشتق من الألوكة وهي الرسالة وهذا قول سيبويه والجمهور ،وأصله لاك. وقيل أصله : المَلْك  وهو الأخذ بقوة .”[فتح الباري باب ذكر الملائكة 6/306]  ،وقال في موضع آخر ” قال جمهور أهل الكلام من المسلمين : الملائكة أجسام لطيفة أعطيت قدرة على التشكل بأشكال مختلفة ومسكنها السموات”[فتح الباري باب ذكر الملائكة 6/306] ،وقد أعطى الله تبارك وتعالى الملائكة القدرة على التشكل بهيئة البشر كتمثل جبريل عليه السلام  بصورة دحية الكلبي وهذا مما يجب الإعتقاد والإيمان به ، وهذا مما جاء به الكتاب والسنة كما قال تعالى في سورة مريم( فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)[مريم 17] وقال عز وجل( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ* فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ *فأوجسمِنْهُمْ خِيفَةً ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) [الذاريات 24-28] وقال عز وجل(  وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) [هود 77] ،والآيات في هذا المعنى كثيرة . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذطلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثرالسفر ولايعرفه منا أحد حتى جلس الى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: أخبرني يامحمد عن الإسلام فقال: الإسلام ان تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا, قال :صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه, قال :فأخبرني عن الإيمان قال: ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره
قال: صدقت , قال: فأخبرني عن الإحسان قال: ان تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك, قال أخبرني عن الساعة قال رسول الله : ما المسئول عنها اعلم من السائل قال: فأخبرني عن إماراتها قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان فانطلق ولبث قليلا قال النبي عليه الصلاة والسلام ياعمر: أتدري من السائل قال: الله ورسوله أعلم قال: فأنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)[رواه البخاري] كل هذه الأدلة تدل على أن الملائكة بقدرة الله تتشكل بأشكال البشر ، ولا تظهر للناس عامة على خلقتها الحقيقية كما قال تعالى( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ) [الأنعام 9] ولم يظهر للنبيصلى الله عليه وسلم على هيئته الحقيقية إلا مرتين ، إحداهما عندما رآه عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج في سدرة المنتهى ، قال زر بن حبيش في قول الله عز وجل( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَ) [النجم 9] (قال أخبرني ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح)[رواه مسلم] وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها النبي عليه الصلاة والسلام عن قول الله تعالى( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ) [النجم 13] فقال:(إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عِظَمُ خلقه ما بين السماء والأرض)[رواه مسلم] وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي عليه الصلاة والسلام في صورة دحية بن خليفة الكلبي فعن ابن عمررضي الله عنه   قال: (وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه و سلم في صورة دحية.)[رواه أحمد]  وفي غزوة بني قريظة يظهر جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي يأمرة بالزحف إلى بني قريظة فعن (عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلمكان عندها فسلم علينا رجل من أهل البيت و نحن في البيت فقام رسول اللهr  فزعا فقمت في أثره فإذا دحية الكلبي فقال : هذا جبريل يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة فقال : قد وضعتم السلاح لكنا لم نضع قد طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الأسد و ذلك حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق فقام النبي عليه الصلاة والسلام فزعا فقال لأصحابه : عزمت عليكم أن لا تصلوا العصر حتى تأتوا بني قريظة فغربت الشمس قبل أن يأتوهم فقالت طائفة من المسلمين : إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يرد أن يدعوا الصلاة و قالت طائفة : إنا لفي عزيمة النبيr  و ما علينا من إثم فصلت طائفة ايمانا و احتسابا و تركت طائفة ايمانا و احتسابا و لم يعب النبيr  أحدا من الفريقين و خرج النبي عليه الصلاة والسلام فمر بمجالس بينه و بين قريظة فقال : هل مر بكم من أحد ؟ قالوا : مر علينا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج قال : ليس ذلك بدحية و لكنه جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم و يقذف في قلوبهم الرعب فحاصرهم النبي صلى الله عليه و سلم و أمر أصحابه أن يستتروا بالحجف حتى يسمعهم كلامه فناداهم : يا إخوة القردة و الخنازير قالوا : يا أبا القاسم لم تك فحاشا فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ و كانوا حلفاءه فحكم فيهم أن يقتل مقاتلتهم و تسبى ذراريهم و نساؤهم )[رواه الحاكم في المستدرك].   

وخلاصة القول أن الإيمان بالملائكة وبتصورهم بصور البشر واجب ، بل هو من صلب الاعتقاد ، ومن أساسيات التوحيد، وأنهم خلق من خلق الله ، خلقوا من نور ، يعبدون الله ويوحدونه ويسبحونه بكرة وأصيلا ، فلا يصح إيمان عبد حتى يؤمن بهم على الصفة المذكورة آنفًا لقول الله تعالى( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) البقرة [285] ولذا فإنكار وجود الملائكة وعدم الإيمان بهم كفر ومنافاة للعقيدة الصحيحة وذلك بنص القرآن الكريم ، كما قال تبارك وتعالى( وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ) النساء [136] .

الدرس الثامن: الإيمان التام والتصديق الكامل والإعتقاد الجازم بصدق ما جاء في كتاب الله عز وجل من العلوم والأخبار ، فلقد اعترف أعداء الإسلام من قديم وحديث بصدق القرآن الكريم وأنه محل إعجاز ولا يمكن أن يكون من كلام بشر ، وشاهدنا الحي من غزوة بني قريظة ما اعترف ونطق به يهود بني قريظة من صدق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، وأنه مرسل من عند الله ، وأن ما جاء به هو الحق ، وأن خبره ونبوئته جاءت في التوراة وبعلمون ذلك حق العلم ، ولكن ما يمنعهم من اتباعه إلا الحسد كونه خرج من العرب ولم يخرج من بني إسرائيل ، يقول أحد كبرائهم كعب بن أسد: ” يا معشر بني قريظة والله إنكم لتعلمون أن محمدا نبي الله ، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب حيث لم يكن نبيا من بني إسرائيل ، فهو حيث جعله الله أتذكرون  ما قال لكم ابن خراش حين قدم عليكم :إنه يخرج من هذه القرية نبي فاتبعوه وكونوا أولياءه وأنصاره وقد آمنتم بالكتابين الأول والآخر ، قال كعب : فتعالوا فلنتابعه ولنصدقه ولنؤمن به فنأمن على دمائنا وأبنائنا ونسائنا وأموالنا…”[السيرة الحلبية 2/661 ]  وفي اعتراف آخر لا يقل أهمية ودقة عن الإعتراف الأول يقول ثعلبة وأسيد ابنا سعية ، وأسد بن عبيد عمهم:”يا معشر بني قريظة ، والله إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأن صفته عندنا ، حدثنا بها علمائنا وعلماء بني النضير ، هذا أولهم – يعني حيي بن أخطب – مع جبير بن الهيبان أصدق الناس عندنا ، هو خَبرنا بصفته عند موته…”[كتاب المغازي ص 263] ولذلك حكى لنا القرآن الكريم عن حقيقة ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وورود ذلك في التوراة والإنجيل كما قال تعالى( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) [الصف 6] وقوله عز وجل( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الأعراف 157] وهذا من إعجاز هذا الكتاب العظيم أن يخبرنا بما حوته كتب الأنبياء السابقين من صفات وخبر مبعث هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وما جاء به من الحق من عند الله يقول بن كثير رحمه الله : ( وهذه صفة محمد r في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه ، وأمروهم بمتابعته ، ولم تزل صفته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم)[تفسير ابن كثير 2/233] .

الدرس التاسع: البدار والمسارعة إلى الإستجابة لأمر الله ورسوله ، والطاعة المطلقة لله ورسوله ، والإنقياد للأمر والنهي دليل قاطع ، وبرهان ساطع على صدق اليقين ، وصفاء العقيدة ، وسلامة التوحيد ، ومثال ذلك كثير من واقع الغزوات والسرايا ، وفي غزوة بني قريظة لما جاء الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام من الله تعالى عن طريق جبريل عليه السلام بالتوجه لغزو يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد والميثاق وتعاونوا مع ملة الكفر لحرب الإسلام والمسلمين ، استجاب عليه الصلاة والسلام استجابة المؤمن الصادق ، وأمر أصحابه على الفور بسرعة التوجه إلى حصون بني قريظة ، فاستجاب الجميع بالرضا والانقياد باذلين كل ما يملكون من نفس ومال وعتاد ، متوكلين على الله حق التوكل ، مع أنهم أتو من في ذات الوقت من غزوة الخندق التي قاسوا فيها ألوان الشدائد من خوف من تجمع الأحزاب الكافرة ، ونقض للعهود والمواثيق من قبل اليهود ، ومن جوع وفاقة ، على ما بهم من التعب والجراح والإثخان طاعة لله ورسوله ، قد أخذ منهم الأمر كل مأخذ ، ولكن قوة الإيمان والعقيدة ، والثقة التامة بما وعد الله عباده المؤمنين من الأجر العظيم ، والعيش الكريم ، والنعيم المقيم ، كانت بمثابة القوة الدافعة لهم لإجابة النداء والتضحية في سبيل الله ونصرة دينه وشريعته ، وما كان الدين ليقوم وتثبت دعائمه ، وينتشر في الأرض إلا بإرادة الله ثم العزيمة الصادقة عند هؤلاء الأبطال.والله عز وجل قد امتدحهم في كتابه الكريم فقال تعالى(مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب 23] وقال عز وجل( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة 100] وقال سبحانه( حَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانً) [الفتح 29] ،فالمسلم عامة والداعية إلى الله خاصة مطالبون بسرعة الاستجابة ، وكمال الإنقياد والإذعان لأوامر الله ورسوله ، فكلما كان العبد أسرع لإجابة النداء ، والعمل بأوامر الله ورسوله ، واجتناب كل ما نهي عنه ، كان ذلك دليلا على كمال الإيمان ، وسلامة العقيدة ، ونقاء التوحيد.

الدرس العاشر: الرضا والتسليم بحكم الله هو الركن الركين في العقيدة والتوحيد ، وفي غزوة بني قريظة عندما حكم الصحابي الجليل سعد بن معاذ t في بني قريظة ، قابل الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون هذا الحكم بالرضا والتسليم ، لموافقته حكم الله عز وجل ، والرضا بحكم الله ورسوله أساس في الدين لا يقبل الله إيمان عبد إلا به ، وعدم الرضا بحكم الله وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام مناف للإيمان كما قال عز وجل (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [النساء 65] قال ابن جرير الطبري رحمه الله (أى يسلموا لقضائك وحكمك ، إذعانا منهم بالطاعة ، وإقرارا لك بالنبوة وتسليما)[تفسير الطبري 3/2401] فمن المسلمات في الدين أنه لا يصح الدين والإسلام إلا بالرضا بحكم الله عز وجل وقدره، حكم الله الذي هو شرعه، ولا يصح الإسلام إلا بالحكم والتحاكم إلى شرع الله عز وجل، ولذلك نفى الله عز وجل الإيمان عمن لم يفعل ذلك كما في الآية السابقة ، وفي الآية الأخرى( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ )[المائدة 50] فالمسلم الذي ليس في قلبه الرضا بحكم الله والتسليم له أو ادعى الإسلام وليس كذلك فليس بمسلم، أما مخالفة التسليم بحكم الله عز وجل من حيث العمل الظاهر، فهذه لها قواعدها، قد تكون كفراً أكبر إذا كانت إعراضاً عن الدين بالكلية، أو تشريعاً بغير ما شرع الله عز وجل، أو مضاهاة لشرع الله، أو عدم الرضا بشرع الله.. ونحو ذلك، هذه أمور يعرفها أهل العلم بقواعدها، لكن من المسلمات في الدين أنه لا يصح إيمان المسلم إلا بالرضا والتسليم بشرع الله حكماً وتحاكماً وخبراً، ومن لم يفعل ذلك فإنه ليس بمسلم .ودور الدعاة إلى الله تعالى في هذا الأمر مهم جدا ، في ترسيخ معاني العقيدة في حياة المسلمين ، وأن الرضاء بحكم الله وقدره من أعمال القلوب التي يستنير بها العبد ويسعد بطيب العيش في الدنيا والآخرة. و يرضى بالله وحده لا شريك له حكماً، فيتحاكم ويحاكم إليه، في كل شأن من شئونه، فتراه يحتكم إلى ما أنزل الله تبارك وتعالى في كتابه، وإلى ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا كانت درجات الرضا ومقاماته. وللرضا بحكم الله وقدره ثمرات ، حري بالدعاة إلى الله بيانها للناس ، والترغيب والتشويق إليها ، لتكون عوامل شحذ للهمم ، وإطماع للناس في خيري الدنيا والآخرة.وقد ذكرها ابن القيم رحمه الله وأوجزها في أجمل عبارة ، وأدق بيان ، فقال رحمه الله:” وللرضا ثمرات ايمانية كثيرة وافرة تنتج عنه ، يرتفع بها الراضي إلى أعلى المنازل.فمن هذه الثمرات أن تمام عبوديته في جريان ما يكرهه من الأحكام عليه.ومنها أن السخط باب الهم والغم والحزن ، وشتات القلب وكسف البال ، وسوء الحال ، والظن بالله خلاف ما هو أهله.ومنها أن الرضا يخلص العبد من مخاصمة الرب تعالى في أحكامه وأقضيته.ومنها أن حكم الرب ماض في عبده ، وقضاءه عدل فيه كما في الحديث”ماض فى حكمك ، عدل فى قضاؤك”ومن لم يرض بالعدل فهو من أهل الظلم والجور. ومنها أن عدم الرضا إما لفوات ما أخطأه مما يحبه ويريده.وإما إصابة ما يكرهه ويسخطه.فإذا تيقن أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه فلا فائدة في سخطه بعد ذلك إلا فوات ما ينفعه وحصول ما يضره.ومنها أن الرضا يفتح له أبواب السلامة .ومنا أن السخط يفتح عليه باب الشك في الله وقضائه وقدره.ومنها أن من ملأ قلبه من الرضا بالقدر ، ملأ الله صدره غنى وأمنا وقناعة.ومنها أن الرضا يثمر الشكر الذي هو من أعلى مقامات الإيمان ، بل هو حقيقة الإيمان.ومنها أن الشيطان في الغالب يظفر بالإنسان غالبا عند السخط والشهوة.ومنها أن الرضا يخرج الهوى من القلب.”[تهذيب مدارج السالكين ص 376 ، 377 ، 378].

قلت: والرضا بحكم الله وقدره معدن نفيس ، الموفق والمسدد من هداه الله إليه ، والمحروم من كان ديدنه التبرم والتسخط والاعتراض على حكم الله ورسوله ، وما كان لأحد أن يعترض أو يتسخط بل إن الواجب عليه التسليم والرضا لأن الأمر لله من قبل ومن بعد كما قال عز وجل( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب 36] وإن الرضا بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق . وهو المظهر الذي ينبى ء عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب . وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول اللهr  . وما يرفض حكم الله وحكم رسوله إلا سييء الأدب معتم القلب, لم يتأدب بأدب الإسلام , ولم يشرق قلبه بنور الإيمان ، إن حكم الله هو الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف . لأن الله هو العادل الذي لا يظلم أحدا . وكل خلقه أمامه سواء , فلا يظلم أحدا منهم لمصلحة أحد . وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف . فالبشر لا يملكون أنفسهم أن يميلوا في الأحكام إلى مصالحهم ، أفرادا كانوا أم طبقة أم دولة.  

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *