تفسحوأ في المجالس…… د. ناجي بن وقدان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

فإن من آداب الإسلام التي دعا إليها ورغب فيها،التفسح في المجالس،وإتاحة الفرصة لأكبر عدد من الناس،قال الراغب الأصفهاني ( تَفسَّحُوا ) الفسح والفسيح: الواسع من المكان، والتفسُّح: التوسيع، يقال: فسحت مجلسه فتفسح فيه، ومنه قيل: فسحت لفلان أن يفعل كذا، كقولك: وسعت له، وهو في فسحة من هذا الأمر)[1].

وكلمة ( انْشُزُوا ) النشز المرتفع من الأرض، ونشز فلان إذا قصد نشزًا، ومنه نشز فلان عن مقره: نبا، وكل نابٍ ناشزٌ، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ﴾، ونشوز المرأة بغضُها لزوجها، ورفع نفسها عن طاعته، وعينها عنه إلى غيره[2].

وهذا توجيه من الله تبارك وتعالى لعباده رجالا ونساء،به تتآلف النفوس وتتقارب القلوب، وإذا تقاربت النفوس والقلوب تقاربت الأبدان،ولن نجد في أي دين آخر مثل هذا الأدب الرفيع،الذي يرتقي بصاحبه إلى معالي الأخلاق،وسمو النفس.  

يقول المولى عز وجل( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) أي: إذا قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره: توسَّعوا في المجلس ليجد غيركم مكانًا بينكم، فتوسَّعوا ولا تَضَنُّوا بالقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من العالم الذي يعلِّمكم، أو المذكِّر الذي يذكركم، وإن أنتم تفسحتم أي: فإن الله تعالى يكافئكم فيوسع عليكم في الدنيا بسَعَة الرزق، وفي البرزخ وفي الآخرة في غرفات الجنان.[3] وهذا فضل من الله تعالى عظيم لمن استجاب لأمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأعطى مجالا لإخوانه في المجالس فإن ذلك من التعاون على البر والتقوى.ويؤخذ أيضا من الآية الكريمة فائدة وهي أن الأمربابالتفسح يتعدى إلى كُلِّ مَا يَطْلُبُ النَّاسُ الْفُسْحَةَ فِيهِ مِنَ الْمَكَانِ وَالرِّزْقِ وَالصَّدْرِ وَالْقَبْرِ وَالْجَنَّةِ،وتدل عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ أَبْوَابَ الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ،قال بعض المفسرين ( وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُقَيِّدَ الْآيَةَ بِالتَّفَسُّحِ فِي الْمَجْلِسِ ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ إِيصَالُ الْخَيْرِ إِلَى الْمُسْلِمِ ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ فِي قَلْبِهِ)[4]

                                                                                                                                              

ويقول عز وجل ( وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ) أي: قوموا من المجلس لعلة أو للصلاة أو للقتال أو لفعل برٍّ وخير، فانشزوا يثبكم الله، فيرفع الذين آمنوا منكم درجات بالنصر والذكر الحسن في الدنيا، وفي غرف الجنة في الآخرة.

 

 ( وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي: ويرفع الذين أوتوا العلم منكم أيها المؤمنون درجات عالية، لجمعِهم بين العلم والعمل، فهو سبحانه عليم بهم في جميع أحوالهم، ليراقبوه ويكثروا من طاعته، ويحافظوا على تقواه.

 قال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية يوم الجمعة، وكان رسول الله يومئذٍ في الصُّفَّة، وفي المكان ضيقٌ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء الناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله، فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فردَّ النبي عليهم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يُوسَّع لهم، فعرف النبي ما يحملهم على القيام، فلم يُفسَح لهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر(قم يا فلان، وأنت يا فلان) فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من ا لمهاجرين والأنصار أهل بدر، فشقَّ ذلك على مَن أقيم من مجلسه، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم، فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قبلُ عدل على هؤلاء، إن قومًا أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من بينهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه، فبلغنا أن رسول الله قال(رحم الله رجلاً يفسح لأخيه)، فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعًا فيفسح القوم لإخوانهم، ونزلت هذه الآية يوم الجمعة.[5]

ولذلك اختلف الفقهاء رحمهم الله في جواز القيام للوارد إذا جاء، على أقوال يحسن بنا إيرادها للفائدة ومن ثم نورد الراجح منها:

أولا: من العلماء من رخَّص في ذلك محتجًّا بحديث(قوموا إلى سيدكم) يعني: سعد بن معاذ رضي الله عنه، ومنهم: من منع من ذلك محتجًّا بحديث(من أحب أن يتمثَّل له الرجال قيامًا، فليتبَوَّأْ مقعدَه من النار)[6].

ثانيا: ومنهم مَن فصَّل فقال: يجوز القيام عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دلَّ عليه قصة سعد بن معاذ، فإنه لما استقدمه النبي حاكمًا في بني قريظة، فرآه مقبلاً قال للمسلمين(قوموا إلى سيدكم)، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحُكمه ، فأما اتخاذه ديدنًا، فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله، وكان إذا جاء لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك[7].ولعل هذا القول من التوسط والجمع بين الأدلة ونفي التعارض والاختلاف فيها وهو الأرجح إن شاء الله.

وفي قول الله تعالى( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ..)قال ابن كثير رحمه الله، أي: لا تعتقدوا أنه إذا أفسح أحد منكم لأخيه أن ذلك يكون نقصًا في حقه، بل هو رِفعة ورتبة عند الله، والله تعالى لا يضيع ذلك له، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رفع قدره، ونشر ذكره، فهو سبحانه خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه.[8]

وقوله تعالى(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )قال الإمام الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: والله بأعمالكم أيها الناس ذو خبرة، لا يخفى عليه المطيع منكم ربه من العاصي، وهو مجاز جميعكم بعمله المحسن بإحسانه، والمسيء بالذي هو أهله، أو يعفو.[9]

ومما نلاحظه ونشاهده في كثير من المجالس اليوم غياب هذا الأدب الرباني حيث يدخل الداخل المجلس فيتنازع أهل المجلس عليه تقربا إليه خصوصا إذا كان من أهل المال والجاه والمنصب كل يدعوه إلى جواره مما يجعله في حرج ويسبب ذلك جلبة وإزعاجا وقد يشاطر ذلك أيمانا يحنث فيها الكثيرون، وقد يكون في المجلس من أهل الخير والدعوة من يتحدث،وبالتالي يُقطع الحديث وتضيع الفائدة،وهذا بلا شك مخالف لمقاصد الشريعة وآدابها،والواجب على الناس التزام هدي النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء من وصف هند بن أبي هالة[10] رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم قوله( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله،لا يُوطِّن الأماكن[11]، وينهى عن إيطانها،وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس،ويأمر بذلك)[12].

وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا رسول الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ، فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ)[13]،وقد بوب عليه البخاري رحمه الله تعالى بابا بقوله(باب من قعد حيث ينتهي به المجلس)[14].وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كُنَّا إِذَا أَتَيْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم جَلَسْنَا حَيْثُ نَنْتَهِي.[15]

ومن خلال هذه الآثار يتبين جليا أن السنة أن يجلس الرجل حيث ينتهي به المجلس وهذا أرفق به وبالجالسين في المجلس وتتوارى بذلك السلبيات التي نشاهدها في كثير من المجالس.

ومما يجري في المجالس أيضا عدم استثمارها فيما يرضي الله جل وعلا وينفع في الدار الآخرة،ومعلوم من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المجالس شاهدة على جالسيها إما بالخير وإما بضده، فإما يقومون على رضا من الله أو على مقت،فعن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول ﷺ (مَا مِنْ قَوْمٍ يَقومونَ منْ مَجْلسٍ لاَ يَذكُرُون الله تَعَالَى فِيهِ إِلاَّ قَاموا عَنْ مِثلِ جيفَةِ حِمَارٍ وكانَ لَهُمْ حَسْرَةً)[16] ،وعنه عن النبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ( مَا جَلَسَ قَومٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكرُوا الله تَعَالَى فِيهِ ولَم يُصَّلُّوا عَلَى نَبِيِّهم فِيهِ إلاَّ كانَ عَلَيّهمْ تِرةٌ، فإِنْ شاءَ عَذَّبَهُم، وإنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُم)[17] ،وعنه رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قَالَ( مَنْ قعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ الله تَعَالَى فِيهِ كَانَت عَلَيْهِ مِنَ اللهِ ترَة، وَمَن اضطجَعَ مُضْطَجَعًا لا يَذْكرُ الله تَعَالَى فِيهِ كَاَنتْ عَليْه مِنَ اللهِ تِرَةٌ(أي حسرة)[18] ،فهل يطيب لعاقل بعد هذا أن يستطيب المجالس التي ليس لله فيها ذكر؟.

ومما يحصل في الكثير من المجالس ،مقاطعة المتحدث عند دخول المجلس ورفع الصوت بالسلام واستمالة الجالسين وتضييع الكلمة والحديث واقتطاع الوقت الكثير لكل من دخل وعدم احترام المتحدث وهذا بلا شك من سوء الأدب ،وكان المفترض التنسيق مع الداخل قبل دخول المجلس بأن هناك كلمة تلقى ويوخذ بهدوء ويُجْلس في مكانه، أو تُجعل الكلمة بعد اكتمال المجلس ويُعطى المتحدث وقتا كافيا.

فهذه بعض سلبيات المجالس وقد يكون هناك غيرها ويكون علاجها فيما سبق ذكره التي ينبغي لأصحاب المجلس التنبه لها وتنقية مجالسهم منها ،لأنهم مسئولون أمام الله عنها وهي محسوبة عليهم في صحائفهم،كما يجب على صاحب المناسبة التنسيق المسبق في استثمار مجلسه ومناسبته فيما يرضي الله ويجنبه البوار في مجلسه،فإن الجالسين أتو بإيعاز منه ونداء فإما أن يغنم بمجلسه وإما أن يخسر مع ما يلحقه من التكاليف والنفقات.

وما سبق ذكره ماهو إلا مفاتيح لما وراءها مما يراد التنبيه عليه فيما يخص الجالس والمُجالس والمجلس ،حيث ينبغي للمسلم أن يحفظ مجلسه مما يغضب الله جل وعلا وخصوصا مجالس النساء التي يكثر فيها التفكه في أعراض أخواتهن بالهمز واللمز والغيبة والنميمة ،فالمسئولية مشتركة بين الرجال والنساء، وأن يختار الجميع مجالسيهم بحذر،وأن يحفظ كل منهم أعراض إخوانه في مجلسه،فإن المجَالس في هذه الأزمنة لا يُؤمن جالسيها من الردى.نفعنا الله وإخواننا بما كُتب وذُكر وأن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه من القول والعمل.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

[1] المفردات في غريب القرآن ص 381، 495.

[2]  المرجع السابق.

[3] أيسر التفاسير – الجزائري ج2ص: 1597.

[4] التفسيرالكبير للرازي ص 494.

[5] تفسيرابنكثير ص 543.

[6] رواه أحمد وأبو داود والترمذي رحمهم الله تعالى عن معاوية رضي الله عنه.

[7] مختصر تفسير ابن كثير – الصابوني ج3 ص: 465.

[8] تفسير ابنكثيرص 392.

[9] تفسير الإمام الطبري ص 543.

[10] هند بن أبي هالة صحابي، اسمه هند بن هند بن النباش بن زرارة بن وقدان بن حبيب بن سلامة بن غذى بن جردة بن أسيد بن عمرو بن تميم، ابن خديجة بنت خويلد، وربيب الرسول محمد، وأخو فاطمة الزهراء وزينب بنت محمد ورقية بنت محمد وأم كلثوم بنت محمد من أُمها، وخال الحسن والحسين.

[11] يُوطِّن الأماكن(أي لا يعتاد مكانا معينا يتعاوده غير بيته).

[12] أخرجه الطبراني في الكبير(22/155).

[13]أخرجه البخاري(66).

[14] صحيح البخاري(1/36).

[15] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى(3/231)، والطيالسي في مسنده(ص:106).

[16] رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح.

[17] رواه الترمذي وقال حديث حسن.

[18] رواه أَبُو داود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *