الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
لكل ابن أنثى وإن طال البقاء به ساعتان، هما القاسم المشترك والفيصل المنتظر بين دارين، دار قد أفنى عمره فيها لمهمة كُلف بها، وانتهى عمله فيها، وطويت صحائفه، وأَذِن الله بخروجه منها، ودار قد أقبل عليها لا يعلم مصيره فيها، ولم يبق أمامه بعد رحمة الله إلا زادا تزود به قد يُبلغه السفر وقد لا يبلغ:
كل ابن أُنثى وإن طالت سلامتُهُ* يوماً على آلةٍ حدباء محمولُ
الساعة الأولى : كان فيها بين أهله وأبنائه في منزل فسيح ، وفراش وفير، ونور وفرح وسرور، وحوله ما لذ وطاب من المآكل والمشارب ، يحوطه الجميع بكل رعاية ، وحوله الأصحاب والأحباب ، تجول بخاطره الأماني، ويستشرف ما تتوق له النفس ، وينشرح له الصدر من أمور الدنيا وزينتها .
وفجأة وبلا مقدمات ولا موعد !!!!!!!!!
الساعة الثانية :وفجأة وبلا مقدمات، تأتي ساعة الصفر، وتتغير الأحوال، ويختل الجسد، ويسري فيه الضعف والتغير، وتتبدد الآمال، وتتغير البيئة من حوله، وتنتفض النفس استعدادا للخروج ،وتشخص العينان(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ، وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ)[1]، وتبرد القدمان، وترتخي الأطراف، وتبدأ رحلة المغادرة والانتقال ،من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، ومن بيئة الدنيا إلى بيئة الآخرة، يتمنى عندها أن من حوله يقيلون عثرته، ويُرْجعون له روحه، ولكن هيهات هيهات قد حيل بينهم وبين ما يشتهون (فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[2] .
عندها يتذكر سنين العمر، وساعات الليل والنهار، وفرص الإمهال، وضياع الأوقات، ويتمنى من الله أياما من الإمهال لتدارك ما فات، ولكنها أماني أشبه بالسراب، فلا مجال عما قدره الله، ولا محيد عن أمر الله، تطوى معه الصحائف، وتوثق في الأعناق، ويتوقف العمل، ولم يبق إلا سؤال وجواب، وثواب وعقاب،(وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا)[3]، قال ابن عباس رضي الله عنهما(عمله وما قدر عليه، فهو ملازمه أينما كان، فزائل معه أينما زال)[4].
ويأذن الله بقبض الروح وصعودها إليه، فإما روح تفتح لها الأواب ويفوح منها الطيب، ويشيعها أهل السماء بأطيب الأسماء، وجميل الذكر، ولطيف الثناء. وإما روح تُغلق دونها الأبواب، وتُطرح من السماء طرحا، وتُذْكر بخبث الذكر، فلا ترى إلا عذابا ونكالا.
يُشَيَّع إلى بيت أشبه بمحطة مواصلة وبرزخ مؤقت تفصل بين دارين ،دار قد أَفِل نجمها، ودار قد حان حسابها، هو بيت الظلمة والوحشة والديدان والهوام والضيق، بكت منه العلماء، وشَكَت من هوله الحكماء، وقَض مضاجع الأتقياء، وأُلفت في وصفه الكتب، بكى منه النبي صلى الله عليه وسلم حتى ابتل الثرى وقال لمثل هذا فأعدوا، وبكى من هوله عثمان رضي الله
عنه وما بكى من جنة أو نار، صاحبه في ظلمة إلا أن ينير الله عليه قبره بعمل صالح، وفي ضيق إلا أن يوسع الله عليه، فراشه التراب، ولحافه اللَّبِن والتراب والحجر ،يسمع قرع النعال تعود إلى مسرح الدنيا ، ينقطع عن كل شيء وكل أحد إلا من عمل صالح ينفعه الله به، ودعوة مستجابة، وذكر حسن.
إنها أول ليلة في القبر، يشتد فيها الكرب، ويعظم فيها الخطب، وتكثر فيها الآهات والحسرات، وتنسكب العبرات، وينخلع الفؤاد لرؤية منكر ونكير، يضيع معها الفكر ، ويُنسى معها كل شيء، ولا يثبت إلا من ثبته الله بعمل صالح وقول سديد، واحتاط لأمره قبل مغادرة الدنيا، واستحضر هذا الموقف العصيب(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[5]، عن البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا أقعد المؤمن في قبره أتاه آت ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)[6].
فإن كان ممن ثبته الله وألهمه، أجاب على السؤال ، وأنير عليه قبره بعد الظلمة، وآنسه جليسه وهو عمله الصالح، وفُتح له باب إلى الجنة يأتيه من ريحها وريحانها ، ويبقى في سعادة وسعة
في البرزخ حتى يبعثه الله للعرض والحساب، فمن نجى وأفلح في البرزخ فهو إلى النجاة أقرب يوم الحشر والعرض، وإن كان ممن خاب وخسر كان إلى الخسارة أقرب يوم الحساب.
فَارَقْت موضع مرقدي *** يومـًا ففارقني السكون
القبــر أول لليـلـة *** بالله قـل لـي ما يكون
والمقصود أن على العبد أن يتدارك أمره، ويستغفر ويتوب مما فات ، ويأخذ من غيره عبرة وعظة، قبل فوات زمن الإمهال،
ويحسن العمل فيما بقي، ويستعد لتلك الساعتين ، ساعة المغادرة، وساعة المواجهة، يقول الحسن البصري رحمه الله (ما
رأيت يقينا لا شك فيه هو أشبه من شك لا يقين فيه من الموت)[7]، وليتدارك أمره قبل حلول الأجل ، فكم من إنسان أصبح في صحة وعافية، ثم أمسى من أهل القبور، وآخر أمسى بين أهله وأبنائه فرحا مسرورا وفي صحة وعافية ثم أصبح في اليوم التالي من أهل الآخرة، فاغتنم يا رعاك الله وكن حذرا وازدد من الزاد الذي يبلغك السفر(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ)[8]، ولا خير في زاد لا يبلغ صاحبه رضاء الله والدار الآخرة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] سورة الواقعة 85.
[2] سورة الواقعة 86-87.
[3] سورة الإسراء 13.
[5] سورة إبراهيم 27.
[6] رواه البخاري.
[7] كتاب اليقين لابن أبي الدنيا ص 42.
[8] سورة البقرة 197.