أنواع المنهج العلمي الصحيح في الدعوة إلى الله، في الرد على الشبهات والافتراءات… د. ناجي بن وقدان

 

تتعدد وتتنوع المناهج الدعوية العلمية الصحيحة، من حيث المصادر والطبيعة والموضوعات والأسس والمضامين، وكذلك من كونها مناهج تتعلق بالقلب والعقل والحس، وهي في مجملها تسعى إلى منهج تكاملي علمي صحيح، يهدف إلى غاية عظمى صحيحة وهي دعوة الناس إلى الله عز وجل ، وتحقيق الغاية التي من أجلها خُلِق العباد، وربطهم بخالقهم عز وجل، واستقامتهم على منهج صحيح، منضبط بضوابط الشرع، مهتدين ومقتدين بخير الخلق وهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، الذين جاءوا بمنهج رباني علمي صحيح، تُنْتَفى معه جميع المناهج المنحرفة التي لا تقوم على أسس علمية صحيحة.

ولأن المناهج الدعوية متعددة وكثيرة في مجملها، إلا أن من الممكن تقسيمها إلى أربعة أنواع، تتضح معها الرؤية الشاملة لهذه المناهج ، والغاية التي تتحقق من ورائها ، وهي على النحو التالي:

الأول: المنهج العلمي الدعوي الصحيح من حيث الأساس والمصدر.

هذا النوع من المناهج العلمية الدعوية يمكن أن نقسمه من حيث المصدرية والنشأة إلى قسمين:

القسم الأول المنهج الرباني: وهو المنهج الذي جاء به الكتاب والسنة، معصوما من الخطأ والشك والانحراف، وحي من الله عز وجل أوحاه إلى رسولهr ، وهو أحكم سبيل وأقومه، بل هو أصل المناهج الدعوية كلها وأساسها، وقد جاء به القرآن الكريم في أوضح صورة، وأجمل عبارة، فقال عز وجل (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) المائدة: ٤٨ ، قال الإمام الطبري-رحمه الله- ” منهاجا أي السبيل لكلكم ، من دخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم فقد جعل الله له شرعة ومنهاجا، يقوا القرآن له شرعة ومنهاجا”[1] ، وقال ابن كثير-رحمه الله-” أي سبيلا وسنه”[2] ، والمنهج الرباني له من الميزات والخصائص ما لا يكون في غيره من المناهج، إذ أنه منهج متكامل من جميع جوانبه، فلا مجال فيه لنقص أو عيب أو شك، وذلك لكمال مصدره، فهو سبحانه متصف بكل صفات الكمال والجمال، فمنهج القرآن والسنة منهج متكامل من كل وجه، وهو أيضا بين واضح وظاهر لا غموض فيه ولا لبس، إذا نزل بلغة عربية فصحى واضحة البيان، وفصيحة العبارة، أنزله الله بلسان عربي مبين، كما قال عز وجل (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) الشعراء: ١٩٢ – ١٩٥ ، كما أن المنهج الرباني كامل وشامل لكل متطلبات الداعية إلى الله تعالى، فكل ما ينشده الداعية لنجاح دعوته، وبلوغ غايتها موجود في ثنايا الكتاب والسنة، كما بين ذلك عز وجل بقوله (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) الأنعام: ٣٨  ، فهو منهج شامل متكامل وصالح لكل زمان ومكان ينشده فيه الداعية إلى الله، وهو أيضا متوازن ومنسجم مع بقية المناهج الدعوية المستمدة من القرآن والسنة، فلا تنافر بينها ولا تجافي ولا اختلاف، وهذا يؤكد لنا وحد المصدر، وهو الوحي الإلهي لهذه المناهج، فالمناهج الربانية متوازنة فيما جاءت به من هداية للناس كافة الناس. ومتوازنة فيما تعرضه من موضوعات عقدية وسياسية واجتماعية واقتصادية، وما تعالجه من مشكلات تعترض طريق الإنسان في دنياه وأخراه، وفي الجانب الآخر نلاحظ انسجاما وتوافقا تاما بين المنهج التربوي الروحي، والمنهج التربوي الجسدي، وبين القلب والعقل، دون أن يطغى أحدها على الآخر من خلال المنهج الرباني، وتحقق أيضا انسجاما تاما بين الحقوق والواجبات دون إفراط أو تفريط.  

والمنهج الرباني بيسره ومرونته قابل للتطبيق العملي في كل زمان ومكان ، فكل ما جاء به من أوامر ونواهي وتكاليف قابلة للتطبيق وفي مقدور كل إنسان تطبيقها دون عناء أو مشقة ، فإن الله عز وجل لا يكلف نفس إلا وسعها وطاقتها، كما قال عز وجل (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) البقرة: ٨٦

وقوله جل شأنه( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج: ٧٨ ، يقول الإمام القرطبي-رحمه الله- ” أي من ضيق، وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام، وهي مما خص الله به هذه الأمة”[3]، وقال ابن كثير-رحمه الله- ” أي ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا”[4] ، وإذا كان هذا المنهج الرباني بهذه الصفة من اليسر والسهولة، فإنه أيضا ملزم لكل مسلم يدين بدين الله عز وجل بالاتباع والامتثال، إذ لا مجال فيه للتمرد والخروج عليه، فكل مسلم متعبد به لله عز وجل الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم.وفي جانب الرد على الشبهات والافتراءات الباطلة التي يثيرها أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم، نجد المنهج الرباني المستمد من الوحيين، يعطي الطريق الصحيح والمنهج القويم في الرد عليها بطرق واسس علمية صحيحة ومقنعة ، بأدلتها وحججها الدامغة، التي لا يبقى ولا يقوم لمستشرق وغيره معها حجة ولا برهان، ولا أدل على ذلك من الردود الكثيرة من خلال الرسائل العلمية، أو عبر المجامع الحوارية، أو من خلال الوسائل الحديثة كالإنترنت وتويتر والفيس بوك وغيرها التي تم من خلالها الرد على المستشرقين وإبطال حججهم، ودحض شبههم، وردهم على أعقابهم ناكصين، وصدق الله عز وجل حين قال( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) الأنعام: ١٤٩.

 القسم الثاني المنهج البشري: وهذا المنهج كما هو واضح من عنوانه جهد بشري مستنبط من المنهج الرباني باجتهاد وبذل بشري من قبل العلماء والدعاة إلى الله تعالى ، هذا الجهد منضبط بضوابط الشرع ، وخصوصا فيما يستجد في زمنهم من وقائع وأحداث وتغيرات تحتاج إلى مواكبة ومعالجة بما يتوافق مع الشرع الحنيف، وكذلك بما يتناسب وحال المدعوين والمستهدفين بالنشاط الدعوي، ولكن ومع الجهد والاجتهاد الذي يبذله العلماء والدعاة فيما يستجد من الأمور، إلا أن الجهد البشري مهما بلغ من العلم والمعرفة يبقى معرضا للنقص والخلل، فالعقل البشري محدود النظرة والقدرة، وهذه طبيعة بشرية، وأمر مسلم به، فالإنسان البشري محدود الطاقة والقوة لا يمكنه الاحاطة بكل شيء، بخلاف المنهج الرباني المنزل من لدن من علمه محيط بكل شيء في السموات والأرض، يعلم خائنة الأعين وما تكتنفه الصدور والقلوب، فالمنهج البشري يصلح للزمان الذي وضع له وفي زمن من وضعه من العلماء والدعاة، وقد لا يصلح لزمن غيرهم، فالمناهج التي وضعت في زمن ابن تيميه مثلا، أو زمن الغزالي، أو محمد بن عبد الوهاب، أو ابن القيم الجوزية، أو المورودي، لا يمكن أن تكون محيطة بمشكلات وملابسات زماننا هذا، ولكن عدم إحاطتها هذا لا يمنع من الإفادة منها والاستهداء بها في وضع مناهج دعوية تناسب عصرنا هذا، ولعل هذا يتبين لنا من خلال الاختلاف والتباين الكبير بين مناهج الصوفية وأنصار السنة، وجماعة البليغ، والاخوان المسلمين وغيرهم من المناهج التي بنيت على اجتهادات بشرية من أصحابها ومؤسسيها، فنجد أن مؤسس كل جماعة له منهجه الخاص به في الدعوة فلكل مدرسة دعوية منهج خاص بها في طرق الدعوة وكيفيتها، مما نتج عنه تضاد وتصادم وصراع وتناحر واختلاف بين تلك الجماعات والفرق، مما أثر سلبا على مسيرة الدعوة الإسلامية، ونأى بها عن المسار الصحيح والمنهج القويم. والمنهج البشري مهما بلغ من الدقة والحذر والجهد ، فإنه لا يملك عصمة من الخطأ والنسيان، إذ أن كل منهج يضعه البشر يكون عرضة للأخطاء والزلل، والاحتمالية في الصواب والخطأ، إذ لا عصمة إلا للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. والمنهج البشري أيضا لا يُلْزم به الناس، فقد يقبلونه ولربما رفضوه، بخلاف المنهج الرباني المبني على الوحي الإلهي، إذ الكل ملزم به حيث لا يشوبه خطأ أو زلل. ولا يتسنى للمنهج البشري الاستمرارية، إذ أنه وليد زمان ومكان ، لا يصلح لكل الأزمنة والأمكنة.

وبالجملة فالفرق واضح بين المنهج الرباني والمنهج البشري من حيث الأصالة والمصدر، فالأول ثابت راسخ، والأخير متغير مع تغير الأزمان والأحوال، والأخير مستمد مادته من الأول، ولا شك أن التمسك بالمنهج الرباني والوحي المنزل هو طريق الاستقامة والسلامة والنجاة في الدنيا والآخرة ، كما قال عز وجل( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الأنعام: ١٥٣.

الثاني: المنهج العلمي الدعوي الصحيح من حيث الموضوع والمحتوى.

الدعوة الإسلامية شاملة لجميع مناحي الحياة الإنسانية، ولهذا حصل التنوع في المناهج وما يتعلق بها من موضوعات مختلفة تتعلق بموضوع الدعوة، فهناك مناهج تتعلق بموضوع العقيدة ، وهي التي تعنى بالجانب العقدي للفرد المسلم من جهة الإيمان بالله وملائكته وما يتعلق بهم من صفاتهم وأحوالهم، والإيمان بالكتب المنزلة على رسل الله عليهم الصلاة والسلام، والإيمان برسل الله وأنبياءه ، وأنهم أتو بالكتب السماوية من عند الله عز وجل وصفاتهم وعددهم ومعرفة أولو العزم منهم، والإيمان باليوم الآخر وما يتعلق به وما يتم فيه والجنة ونعيمها، والنار وجحيمها والصراط والحساب والميزان وأخذ الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها، والإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، والتحذير من الشركيات، ولكن الذي يحسن التنبيه إليه هو أن الدعاة إلى الله عز وجل ينحصر دورهم فيما يخص جانب العقيدة، في إيصال المفاهيم العقدية  إلى المدعوين، دون الخوض في المصطلحات والمفردات والجوانب التي ينتهي أمرها عند المتخصصين في هذا الجانب، وذلك حتى لا يختلط موضوع العقيدة بموضوع الدعوة فيحصل من جراء هذا الخلط أخطاء تضر بالجانبين، وهناك ما يتعلق بموضوع العبادات، من صلاة وصوم وحج و زكاة وغيرها، من الممارسات التعبدية التي تمارس على أرض الواقع، وهنا يبرز دور منهج الدعوة والدعاة في وضع النظم والخطط العلمية التي يمكن من خلالها تطبيق تلك العبادات على وجهها الأكمل والأشمل، فدعوة الناس إلى أداء الصلاة جماعة والحفاظ عليها في أوقاتها، والالتزام بجوانب العبادات الأخرى، وممارستها كما جاءت به أدلة الوحيين، وتذكير الناس بأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، وغير ذلك من أنواع التعليم والتذكير تكون في صميم منهج الدعوة والدعاة،  وهناك ما يتعلق بالشؤون الاجتماعية وما يخصها من خطط وتنظيمات تنهض بالمجتمع المسلم فردا وأسرة ومجتمع، إلى المرتبة الاجتماعية التي تليق به.

فالإسلام دين حفظ للمجتمع المسلم حياة معيشية واجتماعية كريمة لا توجد في غيرها من الملل والمجتمعات، كم حفظ للجماعة والفرد المصالح والحقوق من أمن وحرية وشخصية مستقلة، في حدود المصالح الخاصة والعامة وفي أطر الشرعة الحكيمة، ويدعو الفرد إلى تكوين أسرة وما يتقدم ذلك من خِطْبة وعقد ومهر وحقوق وواجبات، وما يلحقها من طلاق وعدة وتربية وحضانة وميراث، كما ندعو الناس إلى بناء مجتمع مسلم تسوده الأخوة الإيمانية والتكافل والتراحم والمساواة والعدل على ما جاءت به شريعة الله عز وجل.  وهناك أيضا ما يتعلق بالأمور الاقتصادية التي تهدف إلى تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي، فهو نظام يستمد محتواه من شريعة الله، ويقوم على الوسطية، لا يحرم الفرد حقة وملكه كما تفعله الشيوعية وغيرها، ولم يجعل من الفرد إقطاعيا يستغل بحقوق الجماعة كما هو الحال في النظام الرأسمالي، لكنه جعل لكل حدودا لا يتعداها فالفرد يعرف حقوقه وحدود تلك الحقوق. كما أن الجماعة تعرف حقها و حدودها، ودور المنهج الدعوي هنا يتمثل في وضع نظام اقتصادي إسلامي وفق منهج دعوي على ضوء خطط دعوية مدروسة.  

 والسياسية، التي تختص بالحكم في الإسلام ، فالإسلام دين ودولة، ويتضح ذلك من خلال آيات كثير من القرآن الكريم، منها قول الله تبارك وتعالى (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) المائدة: ٤٩  ، وقوله عز وجل( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة: ٥٠، وقوله عز وجل( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)  المائدة: ٤٨، وقال عز وجل( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء: ٦٥  ، وهذه الآيات واضحة الدلالة فيما ترمي إليه من المعاني التي تدل على الحكم في الإسلام، وأما من أدلة السنة الشريفة، فعن عمرو بن العاصt أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”[5]، ففي هذا الحديث نص الرسولr على الحكم بقوله (الحاكم)، وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه”لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضا الحكم و آخرهن الصلاة”[6] ، وهذا كذلك يدل على الحكم وأن الإسلام دين ودولة، وهكذا في بقية الجوانب الصحية، والعسكرية، والرياضية، والترويحية، ، ولكل جانب من هذه الجوانب، يضع الدعاة والعلماء خططا ، ونظما على ضوء المناهج الربانية، والأحكام الشرعية.

الثالث: المنهج العلمي الدعوي الصحيح من حيث طبيعة المنهج.

لكل منهج من المناهج الدعوية العلمية الصحيحة طبيعته الخاصة، فمن المناهج ما هو عام ،ومنها ما هو خاص ،ومنها ما هو فردي ،ومنها ما هو جماعي، ومنها النظري، ومنها التطبيقي والعملي، ولكل ميدانه الخاص، فلا يمكن تعميم المنهج الخاص، والعكس صحيح، وهذه من الطبيعة الخاصة بكل منهج، وهناك أمثلة كثيرة من شريعة الله للمنهج الدعوي الخاص والعام، ومن ذلك قيام الليل كله أو بعضه وجوبا ، منهج عبادي خاص برسول الله، قال ابن كثير –رحمه الله-” وكان صلى الله عليه وسلم ممتثلا ما أمره الله تعالى به من قيام الليل، وقد كان واجبا عليه وحده”[7] ، وكذلك واستئذان الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم أو الذين بلغوه ، نظام خاص بهم، ومن ذلك أيضا زواجه بأكثر من أربع، ونحوها، ومنها ما هو خاص بالنساء دون الرجال، أو العكس، ومنها ما هو خاص بالمرضى دون الأصحاء، ومنها ما هو خاص بالمسافرين دون المقيمين، ومنها ما هو خاص بالمسلمين, ومنها ما هو خاص بغيرهم، والمنهج الخاص لا يصلح تعميمه بحال من الأحوال. وعلى النقيض وفي الجانب الآخر المنهج العام، فيكون للناس عامة دون تخصيص ، فالأمر بالبر عام  وبالصدق عام والنهي عن الكذب عام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام ويقاس على ذلك أشياء كثيرة. وأما المنهج الدعوي الفردي فهو المتخصص في دعوة الفرد المسلم، بقصد إصلاحه وتقويمه وهدايته لما فيه خيره ونجاته في الدنيا والآخرة، في أمور دينه وديناه وتقويم خلقه, وأخلاقه وأقواله, وأفعاله حتى يتميز عن غيره ، وفي المقابل أيضا المنهج الدعوي الجماعي الذي يهتم بدعوة المجتمع المسلم وتقويمه وإصلاحه في أمور الدين والدنيا، حتى يتميز بسلوكه وأخلاقه وتصرفاته عن أي مجتمع آخر.

الرابع: المنهج العلمي الدعوي الصحيح من حيث الركائز والفطر السليمة.

فطر الله تبارك وتعالى عباده على فِطَر ثلاث متمثلة في القلب والعقل والحس، وعلى ذلك يتنوع المنهج الدعوي، كما قال عز وجل( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) الروم:٣٠ ، فما اختص بالقلب كان ذلك متعلقا بالمنهج العاطفي، وما كان مرتكزا على العقل كان مختصا بالمنهج العقلي، وما كان متعلقا بالحس سمي بالمنهج الحسي أو المنهج التجريبي، وكل هذه المناهج متلازمة بعضها ببعض ، وذلك لتلازم الركائز الفطرية في النفس البشرية، ولعلي أسلط الضوء ولو على وجه الاختصار عل هذه المناهج الدعوية الثلاثة حتى يتسنى لنا معرفة مدى جدواها في الميدان الدعوي، فالمنهج الدعوي العاطفي هو الذي يؤثر في القلب والشعور الداخلي والوجداني للإنسان، فيحرك مشاعره وأحاسيسه متأثرا بما يسمع من وعظ مؤثر، يقول د. محمد البيانوني معرفا بالمنهج الدعوي العاطفي هو ” مجموعة الأساليب الدعوية التي ترتكز على القلب ، وتحرك الشعور والوجدان”[8] ، ويظهر هذا التأثير العاطف في القلب من خلال المواعظ الحسنة المؤثرة، بما تحويه من آيات وأحاديث وقصص مؤثرة، وقد نص الله عليها في القرآن الكريم وأمر بها كوسيلة وأسلوب دعوي مؤثر، فقال عز وجل( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)النحل: ١٢٥  ، يدخل فيه أسلوب الخطابة الذي يتضمن المحتوى الموجه للمستهدف وهو المدعو، بما فيه من آيات الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، والقصص الحقيقية التي يتأثر بها القلب والوجدان، فيتغير وضع المدعو من حال إلى حال، ولا سيما إذا كان الخطيب ذو قوة علمية ، وصوت حسن، واحتراف في سرد القصص، فإنه سيكون ذا أثر في نفس المدعو وقلبه، وكذلك تذكير المدعو بنعم الله عليه، التي قد يفتقدها غيره، وما يجب عليه تجاهها من شكر المنعم بها ، والعمل بمقتضاها من الأعمال الصالحة.

ويدخل في المنهج الدعوي العاطفي أيضا، مدح المدعو بما فيه من الخصال الحميدة، والمزايا الطيبة، فإن ذلك سيؤثر بلا شك في عواطفه ومشاعره تجاه الداعي، فيتأثر به وينقاد لما يريده منه من الاستقامة على الدين والخير. وهذا أسلوب ينتهجه كثير من الدعاة إلى الله، لشحذ عاطفته وتليين قلبه، ليكون مستعدا ومتقبلا لما سيذكر به من دين الله عز وجل. ولا ننسى ما للقصص العاطفية المؤثرة من تأثير في حال المدعو، فيعتبر ويتعظ ويحاول التغير في وضعه وحياته إلى الأحسن. ومن المنهج الدعوي العاطفي أيضا، إظهار الرحمة والرأفة بالمدعو، إما بكلمة مؤثرة، أو بمساعدة شخصية، أو السعي في قضاء حوائجه، كل ذلك مؤثر بلا شك في قلبه وعاطفته، كما قال تعالى( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) آل عمران: ١٥٩ ، وكل ذلك يكون ويشكل منهجا دعويا عاطفيا مؤثرا في حال المدعوين.   

والداعية الحصيف هو الذي يستخدم هذا المنهج، وينوع في استخدامه، ويتلمس المواطن المناسبة لاستخدامه، حتى يكون له الأثر البالغ في عاطفة المدعو، ولعل من المواطن المواتية التي يستخدم الداعية فيها هذا المنهج، موطن دعوة الجاهل، الذي يكون عندها بحاجة إلى الرفق واللين، فيدعوه ويعلمه ما يحتاجه، ويرغبه في الدين والعلم، ويذكره بما سيجنيه من الخير الكثير من وراء هذا العلم وهذا الدين في الدنيا والآخرة، وكذلك في دعوة من لا يعرف حاله ومستوى علمه، ومدى قوة إيمانه، فيستثير عواطفه، ويستميل قلبه، ويختار لذلك الأسلوب المناسب، وكذلك عند دعوة أصحاب القلوب الضعيفة كالنساء والأطفال ، واليتامى والمساكين ، والمصابين والمرضى، ودعوة الآباء للأبناء ، ودعوة الأبناء للآباء ، ودعوة الأقارب والأرحام والأصدقاء فيما بينهم ، وغير ذلك من المواطن التي لا تفوت على الداعية الحصيف.   

وخلاصة القول فيما سبق، أن المنهج الدعوي العاطفي له تأثير عجيب في عاطفة ووجدان المدعو، مما يحمله على سرعة الاستجابة للداعي، بما في هذا الأسلوب من لطافة وتوفر العبارات المؤثرة، واتساع دائرة استخدامه في كثير من المواطن والمناشط الدعوية، فله من قوة التأثير ما لا يكون في غيره من المناهج الدعوية، لأن أغلب الناس اليوم ولا سيما مع مشاغل الحياة وقسوتها، وتراكم أعبائها، وتأثيرها في أخلاق الناس وتصرفاتهم، لا يفيد معهم غالبا إلى المنهج العاطفي لترقيق القلوب وتهيئتها للدعوة والبيان.

وأما المنهج العقلي فهو “النظام الدعوي الذي يرتكز على العقل ، ويدعو إلى التفكر والتدبر والاعتبار، أو بمعنى آخر هو مجموعة الأساليب الدعوية التي ترتكز على العقل ، وتدعو إلى التفكر والتدبر والاعتبار”[9] ، ويتميز هذا النظام بأساليب خاصة تميزه عن غيره من المناهج الدعوية، ومن ذلك المحاكمات العقلية ، والأقْيِسَةُ بجميع أشكالها : قياس الأَوْلى ، والقياس المساوي ، وقياس الخَلْف( العكس) والقياس الضمني، ومثال قياس الأولى كما في قوله عز وجل( أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) التوبة: ١٣ ، وكما في حديث بهز بن حكيم قال حدثني أبي عن جدي قال قلت : “يا رسول اللهr عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال احفظ عورتك إلا من زوجتك أو مما ملكت يمينك فقال الرجل يكون مع الرجل ؟ قال إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل قلت والرجل يكون خاليا قال فالله أحق أن يستحيا منه”[10]، والقياس المساوي كما في حديث سليم بن عامر عن أبي أمامةt قال ان فتى شابا أتى النبي r فقال : “يا رسول الله ائذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا مه مه فقال أدنه فدنا منه قريبا قال فجلس قال أتحبه لأمك قال لا والله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لأمهاتهم قال أفتحبه لابنتك قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لبناتهم قال أفتحبه لأختك قال لا والله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال أفتحبه لعمتك قال لا والله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لعماتهم قال أفتحبه لخالتك قال لا والله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال فوضع يده عليه وقال اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء”[11]، وأما قياس الخَلْف فمثاله كما في حديث  أبي ذرt وفيه “وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا”[12]، وأما القياس الضمني فكما في حديث أبي هريرة t قال  : قال رسول الله r “من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه”[13]، وهنا قاس ضمنا الصائم الذي أكل وشرب ناسيا ، على الصائم الذي لم يأكل ولم يشرب.[14]

ومن أساليب المنهج العقلي أيضا ضربُ الأمثال بأنواعها صريحةّ كانت أو كامِنَةْ ، أ و أمثالا سائرة، فمن الأمثال الصريحة في القرآن الكريم قول الله عز وجل (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ ) البقرة: ١٧ ، ومنها أيضا في السنة الشريفة ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلمقال ” مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا”[15]، ومن الأمثال الكامنة ما رواه أبي ذر رضي الله عنهقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” من فارق الجماعة شبرا خلع ربقة الإسلام من عنقه”[16] ، وأمثال كثير إما مصرح بها أو جاءت بما يدل على التشبيه، كما قال عز وجل (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) العنكبوت: ٤٣  ، قال الإمام الخطابي-رحمه الله- ” الرِبّقْة: ما يُجعلُ في عنق الدابة كالطوق يُمسكها لئلا تشرد ، يقول : من خرج عن طاعة الجماعة ، وفارقهم في الأمر المجمع عليه ، فقد ضل وهلك ، وكان كالدابة إذا خلعت الربقة التي هي محفوظة بها ، فإنها لا يؤمن عليها عند ذلك من الهلاك والضياع “[17]، ومن الأمثال السائرة بين الناس يتناقلونها ، ما رواه أبو هريرةt قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة”[18]، وللقصص دور كبير في الاعتبار والعظة، التي تأتي معها القناعة العقلية عند المدعو، كما قال عز وجل( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يوسف: ١١١ ، وقال سبحانه (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الأعراف: ١٧٦، وهذا النوع من الأسلوب القصص كثير مما قصه الله علينا في القرآن الكريم، وكذلك السنة الشريفة مما قصه النبي عليه الصلاة والسلام عن الأمم السابقة.

وإن كثيرا من المدعوين ينكرون البدهيات العقلية والأمور الواضحة البينة، مثل قوله تعالى ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) الأنبياء: ٢٢  ، وهنا يستخدم الداعية إلى الله معهم المنهج العقلي بأساليبه ومعطياته، ويستخدمه أيضا مع أولئك الذين يقدمون العقل والفكر في نقاشهم وحوارهم، فيكونون أسرع تأثرا ، وأقرب عودة إلى الحق، بالمنهج العقلي السليم، ويستخدم أيضا مع أولئك الذين يتجردون من الأغراض الخاصة، الذين يبتعدون في نقاشهم وحوارهم عن التعصب لآرائهم، المنصفين في أقوالهم وأحكامهم، وكذلك مع التأثرين بالشبهات والشهوات والباطل، فهؤلاء جميعهم يمكن للمنهج العقلي التعامل معهم والوصول إلى نتائج جيدة.

وللمنهج العقلي جملة من الخصائص التي يختص بها عن غيره من المناهج، ومن ذلك اعتماده على الاستنتاجات العقلية ، والقواعد المنطقية ، والفطرية، ومنها أيضا عمق تأثيره في المدعوين ، ورسوخ الفكرة التي يوصل إليها عن طريقه ، إذ ليس من السهل تغيير القناعة والأفكار، ومنها إفحام الخصم المعاند، ومن خصائصه ضيق دائرته عن دائرة المنهج العاطفي، وذلك باختلافه من قوم إلى قوم، ولهذا كان لزاما على الداعية إلى الله أن يختار المنهج المناسب للشخص المناسب، وفي الوقت المناسب، والموقف المناسب.  

وأما المنهج الحسي أو التجريبي فهو النظام الدعوي الذي يرتكز على الحواس ، ويعتمد على المشاهدات والتجارب أو بمعنى آخر هو مجموعة الأساليب الدعوية التي ترتكز على الحواس ، وتعتمد على المشاهدات والتجارب[19] ، ويعرف أيضا بالمنهج العلمي لاتصاله بالعلوم التجريبية، لكن تسميته بالمنهج الحسي أو التجريبي يكون أوضح وأبين، وكما أن لبقية المناهج أساليب تختص بكل منهج، فإن للمنهج الحسي بعضا من الأساليب التي يتميز بها، ومن تلك الأساليب لفت الحس إلى ما حوله من الآيات والعظات والعبر، وذلك تمهيدا للوصول إلى قناعات يحصل بها الهداية والتسليم، كما في قول الله تعالى (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) الذاريات: ٢٠ – ٢٣، وقوله عز وجل( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت: ٥٣، ومنها أيضا  أسلوب التعليم التطبيقي ، على وجه يشاهد المدعو كيفية تطبيق الفعل المأمور به ، والمدعو إليه ، كما في أمرهr بالصلاة كما يصلي، فعن مالك بن الحويرثt قال : أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا اشتقنا أهلنا وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه وكان رقيقا رحيما فقال ” ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم”[20] ، وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام بأخذ المناسك في الحج عنه، فعن جابر رضي الله عنه قال: “رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه”[21]، ومن الأساليب أيضا القدوة العملية في تعليم الأخلاق والسلوك، وقد تحقق هذا في شخص النبيr فهو قدوة عملية حية لكل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة، فهو قدوة للعالمين، كما قال الله تعالى مخبرا عنه( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) الأحزاب: ٢١، وكقوله تعالى موجها لرسوله عليه الصلاة والسلام (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران: ١٥٩ ، وهذا الأسلوب خلق من أخلاقه عليه الصلاة والسلام، فهو أكمل الناس خلقا، وقد بينت لنا ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، فعن سعد بن هشام قال: “قلت يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ألست تقرأ القرآن ؟ قلت بلى قالت فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن”[22]، ومن أساليب المنهج الحسي أيضا تغيير المنكر باليد ، وإزالته على وجه يشاهده صاحب المنكر ، ويُعدَّ هذا الإنكار أقوى درجات الإنكار ، وهذا بلا شك وخصوصا في هذه الزمنة يكون التغيير باليد للسلطان الذي يملك القوة لذلك، وكذلك الرجل سلطان في بيته يغير المنكر بيده، فعن أبي سعيدt قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”[23]، ولما فتح مكة ، بادر عليه الصلاة والسلام بالأصنام التي كانت حول الكعبة ، حيث طعنها بِعُودٍ في يده فتساقطت على وجهها ، وبعث سراياه إلى الأوثان اللات ، والعُزّى ، ومناة” فكُسَّرت .[24]

ومن الأساليب أيضا تأييد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بالمعجزات الحسية والخوارق ، كما حدث مع كثير من الأنبياء السابقين ، ومع رسولناr، إلى غير ذلك من الأساليب التي تعتمد على الحس البشري. ويستخدم المنه الحسي التجريبي والتعليمي في مواطن كثيرة ، ومنها استخدامه في تعليم الأمور التطبيقية العملية والدعوة إليها ، وكلما كان الأمر المدعو إليه دقيقا وهاما ، كانت الحاجة إليه أشد ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم الصلاة والوضوء والحج وغيرها من العبادات، ويستخدم أيضا في دعوة العلماء والمتخصصين في العلوم التطبيقية التجريبية ،ويعين في ذلك الاستدلال بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة ، مع ملاحظة ضرورة عدم التوسع في استخدام النصوص الشرعية لتأييد النظريات العلمية والفرضيات ، ويكتفي بالاستشهاد بها على الحقائق العلمية الثابتة ، وبأسلوب مناسب[25]، و يستخدم أيضا في دعوة المتجاهلين للسنن الكونية ، والمنكرين للبدهيات العقلية ، فإن المعاندين لا تفيـد معهـم إلا الحقائق المعتمدة على الملموسات والمحسوسات ، وعلى هذا الأساس جاءت كثير من معجزات الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مادية ومحسوسة.

 وللمنهج الدعوي الحسي التجريبي والعلمي خصائص كغيره من المناهج الدعوية، ومنها  سرعة تأثيره لاعتماده على المحسوسات التي يُسلّم بها كل إنسان عادة ، فإذا لم يسلم دل ذلك على عناده وإصراره على باطله ، ومن هنا توعد الله عز وجل عباده الذين أصروا على كفرهم بعد رؤية المعجزات النبوية ، فقال عز وجل (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ) المائدة: ١١٤ – ١١٥، ومنها أيضا عمق تأثيره في النفوس البشرية ، لمعايَنَتها الشيء المحسوس ، ولذلك قيل ليس الخبر كالمعاينة كما في قول الله عن إبراهيم عليه السلام (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) البقرة: ٢٦٠، ومنها أيضا سعة دائرته ، لاشتراك الناس جميعا في أنواع الحس أو بعضها ، لا يتخلف عن هذا كبير أو صغير ، ولا عالم أو جاهل، ومنها أيضا يُحتاجُ في استخدامه في كثير من المواطن إلى خبرة واختصاص ، فلا يحسنه جميع الدعاة ، ولاسيما إذا كانت الدعـوة لطبقة العلماء المتخصصين في العلوم التطبيقية.[26]

وخلاصة القول في هذه الأنواع من المناهج الدعوية العلمية الصحيحة، أنها تتركز على النفس البشرية مؤثرة فيها تأثيرا مباشرا، وأنها بحول الله تعالى عونا للداعية إلى الله تعالى في مسيرته الدعوية متى ما استخدمها الاستخدام الأمثل لإيصال الخير والدعوة إلى الناس، ولا سيما في ما يعرض له من الحوارات الفكرية والعلمية، وخصوصا في مجال الرد على الشبهات والأباطيل التي يثيرها معاشر المستشرقين وتلامذتهم في المجتمعات العربية والإسلامية، حول الإسلام والقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، والداعية إلى الله لا يألو جهدا في تعلم واستقطاب كل ما ينفعه في نشر الدعوة الإسلامية من مناهج وأساليب ووسائل مشروعة، ولا سيما وسائل العصر من شبكات اتصال وتواصل اجتماعية والإنترنت وكل ما هو مفيد لدعوة الناس وإقامة الحجة عليهم واعذارهم كما قال عز وجل(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الأعراف: ١٦٤  .

[1] تفسير الطبري 4/2914.

[2] تفسير ابن كثير 2/62.

[3] تفسير القرطبي 6/67.

[4] تفسير ابن كثير 3/223.

[5] رواه البخاري ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد، 6/2676، الحديث رقم 6919.

[6] رواه أحمد 5/251 الحديث 22214 وصححه الألباني في صحيح الجامع 19/353 برقم 9206.

[7] تفسير ابن كثير 4/392.

[8] المدخل إلى علم الدعوة ، د. محمد أبو الفتح البيانوني، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1415ه-1995م، ص204.

[9] المدخل إلى علم الدعوة ص 208.

[10] رواه الترمذي، باب حفظ العورة، 5/97، الحديث رقم 2769 وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/203.

[11] رواه أحمد، 5/256، الحديث رقم 22265 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/369 برقم 370.

[12] رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان اسم الصدقة، 2/697، الحديث رقم 53.

[13] رواه البخاري، كتاب الصوم، باب أكل الناسي وشربه، 2/809، الحديث رقم 171.

[14] وللمزيد ينظر بحث تطبيقات الرسولr للمنهج العقلي في الدعوة، المقدم من الباحث محمد بن عبدالله العثمان لنيل الماجستير لقسم الدعوة والاحتساب للمعهد العالي للدعوة الإسلامية في المدينة المنورة ، ص 26-75.

[15] رواه البخاري، كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة والاستهام، 2/882، الحديث رقم 2361.

[16] رواه أبو داود بتحقيق الألباني، باب في قتل الخوارج، 4/385، الحديث 4760 و أحمد 5/180 الحديث 21601 والحاكم في المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبدالله أبو عبدالله الحاكم النيسابوري، دار الكتب العلمية ، بيروت

، 1411 ه- 1990م، كتاب العلم 1/203 الحديث 402 وقال الحاكم وقد روي هذا المتن عن عبد الله بن عمر بإسناد صحيح على شرطهما.

[17] معالم السنن، باب في الخوارج، 4/334، برقم 1681.

[18] رواه الترمذي 4/633 الحديث 2450، وصححه الألباني في السلسلة 3/28 برقم 953.

[19] ينظر المدخل إلى علم الدعوة ص 214.

[20] رواه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، 5/2238 الحديث رقم 5662.

[21] رواه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة، 2/943، الحديث رقم 310.

[22] رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه، 1/512، الحديث رقم 139.

[23] رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر، 1/69، الحديث رقم 78.

[24] رواه البخاري، كتاب المظالم، باب هل تكسر الدنان التي فيها الخمر، 2/876، الحديث رقم 2346 وزاد المعاد في هدي خير العباد، باب إجارة أم هاني حموين لها، 3/361.

[25]ينظر المنهج العلمي وأثره في الدعوة إلى الله، فكري السيد عوض، بحث لنيل درجة الماجستير، المعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1404ه، والمدخل إلى علم الدعوة ص 217.

[26] وللمزيد ينظر المدخل إلى علم الدعوة ص 218-219، و مناهج الدعوة و أساليبها، على جريشة، دار الوفاء، المنصورة، 1407 هـ ، ص 28-37.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *