قلوب الأحرار مقبرة الأسرار …. د. ناجي بن وقدان

  الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

توطئة :

الأمانة جميع ما أتُمِن عليه العبد من الأمانات في الدين والدنيا وأمانات الناس . والأمانة شأنها عظيم، وخطبها جسيم، نأت عن حملها السماوات والأرض والجبال، وأشفقن من حملها ،خوفا من ضياعها وعظيم تبعتها، كما قال عز وجل(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[1]، قال ابن كثير رحمه الله( أي أمانة التكليف ، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها ، وهو أنه إن قام بذلك أثيب ، وإن تركها عوقب ، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه ، إلا من وفق الله)[2].

فالمسلم يحرص على الأمانة، ويؤديها كما أمره الله ويحذر من

من التفريط في شانها أو تضييعها فإن في ذلك خطر عظيم.

فمن صفات المؤمنين أداء الأمانة، وتعظيم شأنها ،والخوف من تضييعها أو خيانتها، كما وصفهم الله بقوله(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)[3]، أي: مراعون لها، ضابطون، حافظون، حريصون على القيام بها وتنفيذها، وهذا عام في جميع الأمانات التي هي حق لله، والتي هي حق للعباد. بخلاف المنافقين فهم موصوفون بالخيانة والكذب والغدر وخلف الوعد، كما أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله(آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدث كذَب، وإذا وعد أخْلف، وإذا اؤتُمن خان)[4]،وفي رواية ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)[5]، فالمؤمن يحرص على حفظ الأمانة لأن ذلك من مقتضى الإيمان وصريحه. 

ويح ابن آدم :

وإذا نظرنا بعين البصيرة إلى أقدار الله الكونية والشرعية وما كلف به مخلوقاته من عبادته وطاعته ، والسير على منهجه وتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، وجدنا أن المخلوق الوحيد الذي أخلف مع الله، وأخلف في الأمر والنهي، وتنكب الصراط المستقيم، هو ابن آدم، فما أظلم هذا الإنسان! وما أجهله! تُعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فيمتنعن عن حملها، امتناع شفقة وخوف لا عصيان، ثمَّ يأتي ويتحمَّلها طائعاً مختاراً، فأقام الله عليه الحجَّة، وقطع عنه المعذرة كما قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)[6]، فبذلك أقام الله الحجة على عباده، فيما كلفهم به من الطاعة، والعبادة، والأمر، والنهي.

ضياع الأمانة سبيل الخسران :

كما قلنا بداية أن الأمانة جميع ما أتُمِن عليه العبد من الأمانات في الدين والدنيا وأمانات الناس، وتضييعها يفضي إلى مفاسد عظيمة، منها ضياع الحقوق، وضياع الأعراض ، وضياع الأبناء والذريات والزوجات، والأموال والأبدان والأنفس والثمرات والأسرار وغير ذلك مما ائتمن عليه ابن آدم، وضياع الأمانة يعتبر من الخيانة التي حذر الله منها، كما قال عز وجل(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)[7]، ونفى كمال الإيمان عمن خان الأمانة، كم قال النبي صلى الله عليه وسلم(لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)[8]، وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(إذا رأيتَ الناسَ قد مَرِجتْ عهودُهم ، وخَفَّتْ أماناتُهم ، وكانوا هكذا وشبَّك بين أنامِلِه فالْزمْ بيتَك ، وأمْلِكْ عليك لسانَك ، وخذْ ما تعرِفْ ، و دعْ ما تُنْكرْ ، وعليك بخاصَّةِ أمرِ نفسِك ، ودعْ عنك أمرَ العامةِ)[9] ، وقوله( قد مَرِجتْ عهودُهم) يعني ظَهرَ فيهِم وانتشَرَ فسادُ العَهدِ ولم يُوفُوا به،( وخَفَّتْ أماناتُهم) أي قلَّتْ بَينهمُ الأَمانةُ فأصبَحَ لا يُعرَف بها في ذلك الزمنِ إلا قليلٌ ،( وكانوا هكذا وشبَّك بين أنامِلِه)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنَك ، ولا تَخُنْ من خانَك)[10]، وفيه الإشارة بتأدية الأمانة ولا يُنْظر إلى خيانة الخائنين، ولا مقابلتها بالمثل فالخائن للأمانة محاسب إن عاجلا أو آجلا وقد كفانا الله حسابه.

الأسرار أمانة :

حفظ الأسرار من الأمانات التي حث الإسلام عليها، ورغب فيها، فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال ( إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَدِيثَ ثُمَّ التَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ)[11] ، قال المناوي في شرحه لهذا الحديث (قوله: إذا حدَّث الرجل. أي: الإنسان فذكر الرجل غالبي. الحديث. وفي رواية: أخًا له بحديث. وفي أخرى: إذا حدث رجل رجلًا بحديث ثم التفت. أي: غاب عن المجلس، أو التفت يمينًا وشمالًا، فظهر من حاله بالقرائن أنَّ قصده ألا يطَّلع على حديثه غير الذي حدَّثه به. فهي. أي: الكلمة التي حدثه بها. أمانة. عند المحدث أودعه إياها، فإن حدَّث بها غيره فقد خالف أمر الله، حيث أدَّى الأمانة إلى غير أهلها، فيكون من الظالمين فيجب عليه كتمانها، إذ التفاته بمنزلة استكتامه بالنطق، قالوا وهذا من جوامع الكلم، لما في هذا اللفظ الوجيز من الحمل على آداب العشرة، وحسن الصحبة، وكتم السِّر، وحفظ الودِّ، والتحذير من النَّمِيمَة بين الإخوان، المؤدية للشنآن ما لا يخفى)[12]، والسر أيضًا نوع من الوفاء في قوله تعالى( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) أَيِ الَّذِى تُعَاهِدُونَ عَلَيْهِ النَّاسَ، وَالْعُقُودَ التي تُعَامِلُونَهُمْ بِهَا، فَإِنَّ الْعَهْدَ وَالْعَقْدَ : كُلٌّ مِنْهُمَا يُسْأَلُ صَاحِبُهُ عَنْهُ( إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا) أَيْ: عَنْهُ  ، كما أن حفظ الأسرار من علامات المروءَة والنبل ، فقد سئل الأحنف بن قيس: ما المروءة ؟قال: كتمان السر، والبعد عن الشر ، والإفصاح بالسر دون إذن صاحبه يُعد خيانة، فإن كان في إفشاء السر ضرر، فإفشاؤه حرام باتفاق الفقهاء، والضرر عام في كل ما يؤذى الإنسان، وأما إذا لم يتضمن ضررًا، فالمختار عدم جواز إفشائه متى ما طلب منه الكتمان، أو دلَّ الحال على ذلك، أو كان مما يُكتم في العادة. قال الحسن رحمه الله(إنَّ من الخيانة أن تُحدِّثَ بسِرِّ أخيك) وقيل: (الصبر على القبض على الجمر أيسر من الصبر على كتمان السر)، فهو إذن يقع من المنظومة الأخلاقية بموقع عالٍ وغالٍ ونفيس، وهو من أكثر الاختبارات صعوبة لأي شخص ما ، ولأن إفشاء الأسرار يؤدى إلى النزاعات بين أبناء المجتمع المسلم، ويؤدى إلى الوقيعة بين أبناء الأسرة الواحدة ، ويؤجج نار الخصومة بين جميع الأفراد، وقد يكون في إفشائه إزهاق روح أو تمزيق عرض، وكما قيل قديما( قلوب الأحرار قبور الأسرار)، فالأخيار يحفظون الأسرار لا وقد كان الرجل يوضع السيف على راسه وما يبوح بالسر، وكلما عَظُم شأن السِّر عَظُمت حُرْمته.

كتمان السِّر في القرآن الكريم :

يقول عزوجل حكايةً عن كتمان يوسف عليه السلام للرؤيا التي رآها بأمر من أبيه (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)[13]

قال ابن كثير رحمه الله (يقول تعالى مخبرًا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قصَّ عليه ما رأى من هذه الرؤيا، التي تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيمًا زائدًا، بحيث يخرُّون له ساجدين إجلالًا، وإكرامًا، واحترامًا، فخشي يعقوب عليه السلام، أن يحدِّث بهذا المنام أحدًا من إخوته فيحسدوه على ذلك، فيبغوا له الغوائل، حسدًا منهم له، ولهذا قال له (يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا) ، أي: يحتالوا لك حيلة يُرْدُونك فيها، ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر)[14].

وقال عز من قائل في مؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)[15].

كتمان السر في السنة النبوية :

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنَّ من أشرِّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرَّها )[16]، قال ابن الجوزي رحمه الله (المراد بالسرِّ ها هنا: ما يكون من عيوب البدن الباطنة، وذاك كالأمانة فلزم كتمانه)[17].

أقوال السلف في كتمان السر :

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (سرُّك أسيرك، فإن تكلمت به، صرت أسيره)[18].

وقال عمرو بن العاص(ما وضعت سرِّي عند أحد فلمته على إفشائه، وكيف ألومه وقد ضقت به ذراعا؟)[19].

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (القلوب أوعية الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلُّ امرئ مفتاح سرِّه)[20]

– وعن الحسن رحمه الله، قال (سمعته يقول: إنَّ من الخيانة أن تحدِّث بسرِّ أخيك)[21].

وقال ابن الجوزي رحمه الله (رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرِّهم، فإذا ظهر، عاتبوا من أخبروا به. فوا عجبًا! كيف ضاقوا بحبسه ذرعًا، ثم لاموا من أفشاه؟!)[22].

ثمرات حفظ الأسرار :

1- حفظ الأسرار من علامات المروءَة والنبل.

2- من أعظم أسباب النصر على الأعداء.

3- درء مفسدة الحقد والحسد.

4- تُقَوِّي الصِّلة بين الإخوة.

5- تُقَوِّي الثقة بين الزوجين.

6- كتمان الأسرار سبب من أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح.

7- كتمان السِّر كرم فِي النَّفس، وسمو فِي الهمة، وَدَلِيل على المروءَة، وسبب للمحبة، ومبلغ إلى جليل الرتبة.

الحالات التي يجوز فيها إفشاء السر :

لا يجوز إفشاء السر الواجب كتمانه إلا في أحوال محدودة منها:

1- انقضاء حالة كتمان السر، إذ لم يعد في كتمانه حاجة أو مصلحة.

2- موت صاحب السر بشرط ألا يعود عليه بالضرر ، أو يكون قد أوصى بعدم إفشائه بعد موته.

3- أن يؤدِّي الكتمان إلى ضرر أبلغ من ضرر الإفشاء.

4- دفع الخطر عن النفس والمجتمع والأمة، بحيث يكون سره مما فيه خطر محقق ولا يجوز كتمانه.

5- إظهار الحق، ونصرة المظلوم، وإعانة أهل العدل، وصيانة مصلحة الأمة.

أسرار عش الزوجية :

من أعظم الأسرار: ما يجرى بين المرء وزوجه، ولذا حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من إفشاء أسرار المعاشرة بين الزوجين بقوله( إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِى إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِى إِلَيْهِ (الإفضاء: هو الجِماع)، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا) قال النووي -رحمه الله(في هذا الحديث تحريمُ إفشاء الرجل ما يجرى بينَه وبينَ امرأته من أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك، وما يجرى من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه)[23]، وكذلك لو حصل بينهما طلاق وفراق فإنه يجب على كل واحد منهما حفظ سر الآخر، ولا يفشي مما صار بينهما شيئا، وليكن كل واحد منهما ثوب ستر للآخر. أوصى رجل زوجته بحفظ السر، فقال لها(لكل امرئٍ يا أم عمر طبيعةٌ، وتفضيل ما بين الرجال الطبائع، فلا يسمعَنَّ بسري وبسرك ثالثًا، ألا كل سر جاوز اثنين ضائع)[24]، ومن وصايا العرب للعروس : ولا تفشي له سرًا، فإنك لو أفشيت سره، أو غرتِ صدره. فلذلك كان من الوفاء للعشرة الزوجية حفظ الأسرار، وكتم السلبيات، فإن البشر يخطئون ويصيبون وليس أحد بعد رسل الله معصوم من الزلات، وإذا كان الله جل وعلا قد أمر الزوج إذا فارق زوجته ألا يسترجع شيئا مما دفع لها وقد أفضى كل منهما للآخر، فكيف بحفظ الأسرار وهي أهم، لأن في إفشاءها ضرر على الطرفين، أما وقد سترهما الله في عش الزوجية، فعليهما الستر وحفظ السر بعد الفراق(وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا)[25].   

ويدخل في حفظ الأسرار أيضا حفظ أسرار المرضى من قبل الأطباء والممرضين وغيرهم ممن لهم صلة بالمرضى ، وكذلك أسرار الموتى وما يظهر منهم عند التغسيل والدفن ، ويدخل في ذلك أيضا كتمان كل ما من شأنه حفظ الأمن والراحة للأمة عامة وللمجتمع خاصة.

وكتمان السر كما يقول الماوردي من أقوى أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)[26] ، وقال بعض الأدباء ( من كتم سره كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه)[27] ، وقال الراغب الأصفهاني(إذاعة السِّر من قلة الصبر، وضيق الصدر، وتوصف به ضعفة الرجال والصبيان والنساء)[28]. وكان يقال( الكاتم سرَّه بين إحدى فضيلتين: الظَّفر بحاجته، والسلامة من شرِّ إذاعته)[29].

للبيوت أسرار :

للبيوت أسرار لا ينبغي أن تُفشى، ففي الحديث عن ثابت رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (مر على أنس وهو يلعب مع الغلمان فسلم عليهم ثم بعثه في حاجة فلما أبطأ على أمه سألت عن السبب فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : وما حاجته ؟ فقال : إنها سر، فقالت : لا تخبر بسر رسول الله أحدًا، قال أنس : والله لو حدثت به أحدًا لحدثتك يا ثابت)[30].

وهذه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها تضرب لنا مثالاً في أمانة حفظ السِّر، كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : إنَّا كُنَّا أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعًا لم تغادرْ منا واحدة، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي ما تُخطئ مشيتَهَا من مِشيةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها رحَّب، قال (مرحبًا بابنتي ثم أجلسها عن يمينه ( أو عن شماله ) ثم سَارَّها)، فبكت بُكاء شديدًا، فلما رأى حُزْنَها سارها الثانية، فإذا هي تضحك , فقالت لها  أنا من نسائه خصك رسول الله بالسِّر من بيننا ثم أنت تبكين ! فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتُها عمَّا سارَّها ؟ قالت ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره، فلما توفي قلت لها : عزمت عليك – بما لي عليك من الحق – لما أخبرتني ! قالت : أما الآن فنعم، فأخبرتني قالت : أما حين سارني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل عليه السلام كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك، قالت : فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارَّني بالثانية، قال : يا فاطمة ! ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة قالَتْ: فَضَحِكْتُ ضحكي الذي رَأَيْتِ)[31].

ويُروى أنَّ معاوية رضي الله عنه أسرَّ إلى الوليد بن عتبة حديثًا، فقال لأبيه: يا أبت، إنَّ أمير المؤمنين أسرَّ إليَّ حديثًا، وما أراه يطوي عنك ما بسطه إلى غيرك. قال: فلا تحدثني به، فإنَّ من كتم سرَّه كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه. قال: فقلت: يا أبت، وإنَّ هذا ليدخل بين الرجل وبين ابنه؟! فقال: لا والله يا بني، ولكن أحب ألا تذلل لسانك بأحاديث السرِّ، قال: فأتيت معاوية فأخبرته. فقال: يا وليد، أعتقك أبوك من رقِّ الخطأ)[32].

وإذا أغلق الناس أبواب بيوتهم تساوَوا، فلا يعلم بالذي يجري في البيوت إلا أصحابها، فكم من بيوت جميلة البناء وفي داخلها تأوه مريض، أو دمعة مبتلى، أو أحزان يتيم، والعاقل من يحرص جاهداً على أن يجعل مشكلات بيته في بيته، فلا ينقلها معه خارج المنزل، فمن السلوكيات المرفوضة إفشاء أسرار البيوت ونشرها بين الناس، عندما تصبح خصوصيات الرجل عموميات، يحدث شرخ كبير في جدران بيت الزوجية، ولذلك لو طبق الناس في حياتهم القاعدة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)[33]، لساروا في حياتهم سير الصالحين ، ولجنبوا أنفسهم الكثير من المتاعب.

الجوال وأسرار البيوت :

استخدام التقنية الحديثة في تتبع عورات المسلمين والمسلمات من جملة الأخطار التي هزت أرض القيم والأخلاق وعصفت برواسخ الثبات في كل ضروب الحياة ، وأحدثت صدعا قويا في سلوكيات المجتمع يأخذ بالألباب إلى منعطف من الذعر والفزع، حيث تتابعت حلقات التشهير بأعراض الناس واستغلال صورهم وتتبع عوراتهم بآلات التصوير المتنوعة حتى استطارت الأفئدة منها خوفاً وقلقاً، فأشكال تتبع العورات في ظل القفزة التقنية الحديثة كثيرة لا تحصى.

ومن هذه القفزة التقنية المذهلة، جهاز الجوال بأنواعه واختلاف تقنيته. والجوال من الوسائل النافعة في الحياة اليومية، وله إسهامات لا تُنْكر في صلة رَحم أو أخ أو قريب، وإرشاد وتوجيه، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وتذكير بالله وشرعه، ولكن عندما ينصرف به كثير من الناس عن المسار الصحيح ، ينقلب نفعه ضررا، وفرحته ترحه، وصلاحه فساد، ولذلك أصبحت أسرار كثير من البيوت ظاهرة للكثيرين ، ولم يعد للبيوت حرمة ولا خصوصية.

فمن الأسرار والخصوصيات والمظاهر التي ساهم جهاز الجوال في نشرها على أعين الملأ، مآسي المرضى والمصابين في المستشفيات ونشرها بين الناس بما في ذلك من أذية وتعد على الخصوصية دون فائدة تُذكر، بل يتعدى ذلك إلى الوقوع في الرياء والسمعة للزائر للمريض عندما يزوره ويصور الزيارة وينشرها، إضافة إلى نوع مَنٍ وأذى بالزيارة.

ومنها أيضا نشر مصائب الموت والعزاء مما يوقع في النياحة المنهي عنها وزيادة نار المصيبة على أهلها بتجديدها، والوقوع أيضا في الرياء والسمعة.

ومنها أيضا تصوير الموائد المنزلية والمناسبات والحفلات والنزهات وما يحصل فيها من إسراف وتبذير وتلاعب بنعم الله تعالى، مما يجر إلى الفخر والخيلاء والرياء، والسمعة، واستجلاب النقم ،والعقوبات الدنيوية ،والأخروية، وكذلك نشر ما يحصل بين الأسرة الواحدة داخل أروقة المنازل من خصوصيات تضر بالسمعة والدين، وكم من أسرة أصيبت بألوان الحسد الممرض والقاتل، فانقلبت حياتها جحيما لا يطاق من جراء تصرفات غير محسوبة العواقب.

وكم من فقير جُرِحت نفسه لما يرى من تلاعب بنعم الله من بعض المسرفين وأهل الرياء، فيتألم ألماً يبلغ عنان السماء، والله جل وعلا قد مقت الإسراف وأهله وجعلهم إخوان الشياطين في هذا الجرم الكبير(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)[34].

ومنها نشر الأمور الأسرية وأسرار البيوت إما للفكاهة أو غيرها ، وفضح ما تكتنفه البيوت من الأمور الخاصة بأهلها، إما على سبيل التشكي أو جلب الضحك والفكاهة، وكل ذلك ممقوت.

ومنها ما انتشر بشكل كبير من تصوير بما يُسمى المقالب على خفاء بهدف إضحاك الناس ، وهذا يفضي إلى مشاكل كثيرة تصل إلى ردود أفعال خطيرة جدا قد تصل إلى إزهاق أرواح وقطيعة وضغائن، مع العلم بحرمة ذلك وأنه لا يجوز التعدي على خصوصية المرء وتصويره دون علمه وإذنه.

وهذه أهم ما يُتَداول ويقع فيه الكثير من الناس، وإلا فالسلبيات لاستخدام الجوال كثيرة جدا، ولعل في ما سبق مؤشرات إليها.

ولعلي هنا أورد قصة تأنس بها النفس في إثراء هذا الموضوع، وتبين شناعة هتك أستار البيوت ونشر أسرارها، وهذه القصة متمثلة في امرأة نوح وامرأة لوط كما قال عز وجل(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)[35]، ولم تكن الخيانة في عرض أو فاحشة ، بل في الدين ، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة ،لحرمة الأنبياء وأعراضهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: أما خيانة امرأة نوح، فكانت تخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط، فكانت تَدُلّ على لوط وأضيافه)[36]، والآية ليست خاصة بامرأة نوح وامرأة لوط، بل عامة في العبرة بشناعة إفشاء أسرار البيوت، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالتطفل على البيوت من قبل الآخرين لمعرفة أسرارها يدخل في دائرة ما فعلتاه امرأتا نوح ولوط.

تتبع العورات من خوارم المروءة :

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن تتبع عورات المسلمين والتعدي على خصوصياتهم، فعن أبي برزة الأسلمي والبراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(يا مَعْشَرَ مَن آمن بلسانِه ولم يَدْخُلِ الإيمانُ قلبَه ، لا تغتابوا المسلمينَ ، ولا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِم ، فإنه مَن تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيه المسلمِ ، تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه ، ومَن تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه ، يَفْضَحْهُ ولو في جوفِ بيتِه)[37]، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله(تتبع عورات المسلمين محرم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يذكر عنه حذر من ذلك أشد التحذير ، والواجب على المسلم نحو أخيه أن يستر عوراته، فإن من ستر عورة أخيه ستر الله عورته، وأن يعلم أنه لا يخلو أحد من نقص، لا يخلو أحد من تقصير، لا يخلو أحد من عورة، الواجب ستر العورات)[38].

والمسلم دائماً يُجنب نفسه مساوى الأخلاق، وخوارم المروءة، وتلويث السمعة بتصرفات ليس وراءها سوء لهيب الشيطان وزمرته.

والمقصود مما سبق ،أن على المسلم أن يُقَدر نعم الله عليه ومنها جهاز الهاتف الجوال، فقد مضى على الأمة حقبة من الزمان لا تملك مثل هذه التقنية السريعة والمتيسرة، وأن يستخدمه فيما يقربه إلى الله، ويبتعد به عما يغضب الله ويسخطه، وأن يكون ساترا لا فاضحا، فإن من ستر مسلما ستره الله، ومن درأ عن عرض مسلم ، حفظه الله في عرضه.كما أن على المسلم كتمان سر أخيه، إذا كان من الأسرار التي يجوز كتمانها، وأن الأمانة شأنها شأن عظيم، والتفريط فيها، منعطف خطير يجر إلى البوار في الدنيا والآخرة، فمن كمال الإيمان حفظها وآداءها كما أمر الله عز وجل.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعا هداة مهتدين، وأن يجنبنا مزالق الردى، ويقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

[1] سورة الأحزاب 72.

[2] تفسير ابن كثير ص 427.

[3] سورة المؤمنون 8.

[4] رواه البخاري ومسلم.

[5] رواه البخاري ومسلم.

[6] سورة الأعراف 172.

[7] سورة الأنفال 27.

[8] رواه أحمد.

[9] رواه الحاكم وصححه.

[10] رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني.

[11] رواه أبو داود والترمذي وأحمد وصححه الألباني.

[12] فيض القدير 1/329.

[13] سورة يوسف 5.

[14] تفسير ابن كثير ص 236.

[15] سورة غافر 28.

[16] رواه مسلم.

[17] كشف المشكل 3/174.

[18] أدب الدين والدنيا للماوردي ص 306.

[19] الأدب المفرد 886.

[20] أدب الدين والدنيا للماوردي ص 308.

[21] الصمت لابن أبي الدنيا ص 214.

[22] صيد الخاطر ص 273.

[23] شرح صحيح مسلم 10 / 9.

[24] جزء من أبيات شعرية في حفظ السر لقيس بن الحدادية عاش في القرن السادس ميلادي.

[25] سورة النساء 20-21.

[26] حديث صحيح صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.

[27] روضة العقلاء ص 190.

[28] الذريعة إلى مكارم الشريعة ص 213.

[29] نهاية الأرب للنميري ص 83.

[30] رواه مسلم.

[31] رواه مسلم.

[32] رواه ابن أبي الدنيا في الصمت ص 214.

[33] رواه مسلم.

[34] سورة الإسراء 27.

[35] سورة التحريم 10.

[36] تفسير الطبري ص 561.

[37] صحيح الجامع.

[38] الموقع الرسمي للشيخ رحمه الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *