الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
في خضم الأزمات ، وتزاحم الفتن، وتسلط الدنيا وزهرتها وهالاتها وبهرجها على القلوب والنفوس، واندراس الدين في حياة الأمة والمجتمع، واشتداد غربة أهل الدين والصلاح، وانبساط العلم بين الناس بكل وسائله، يتساءل المرء هل نحن نعيش أزمة علم أم أزمة قدوة وتطبيق؟
والحق أن الأمة عامة والمجتمع خاصة لا يُعانون أزمة علم أو يَعدمون وسائل الوصول إليه، في الوقت الذي كَثُرت فيه الوسائل وتنوعت، فأصبح من السهل الوصول إلى أي معلومة، أو آية، أو حديث، أو قول، أو عَلَم من أعلام العلم، ولكن الأزمة الحقيقية التي نعيشها هي أزمة التطبيق العملي لجوانب الدين في حياتنا، والالتزام بها، وممارستها على أرض الواقع، لنكون قدوة حية لمجتمعاتنا وأجيالنا، كم كان سلفنا
الصالح رضي الله عنهم أجمعين، فالإسلام صالح ومواكب لكل زمان ومكان.
لقد حث القرآن الكريم على العلم والتطبيق لتتحقق القدوة العملية الحية على أرض الواقع وليمتثل الناس ويتأثرون بما يرون أمامهم من القدوات الحية في الأقوال والأعمال، كما قال المولى عز وجل(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)[1]، وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال ( ألم تسمع قوله حين بدأ به فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك فأمر بالعمل بعد العلم وقال : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو إلى قوله سابقوا إلى مغفرة من ربكم وقال : واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ثم قال بعد : فاحذروهم وقال تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ثم أمر بالعمل بعد)[2].
ولذلك بدأت الآية بالأمر بالعلم في أمر عظيم، وقاعدة كُبرى لا يصح إيمان العبد ولا استقامته ولا دينه إلا بها، ألا وهي العقيدة الصحيحة التي دعا إليه رُسُل الله وأنبياءه ، ووجوب توحيد الله ومعرفته، ف(لا إله إلا الله) كلمة التوحيد ، وبوابة الإسلام، التي من أجلها قام الجهاد، وسُلَّت السيوف، وهي قاعدة الدين وأساسه.
والأمر في قوله تعالى(فاعلم أنَّه لا إله إلا الله) ليس خاصاً بمحمد عليه الصلاة والسلام فحسب ، بل للأمة جميعاً وعليه فإنَّ علاج الخلل في التوحيد ، يتمُّ بدرئه عنه، وتنقية القلب منه ، وتمكين عرى الإيمان في القلب ، فيتم بذلك التخلية والتحلية ، وإنما تكون التخلية قبل التحلية، فيخلِّي الإنسان عن قلبه شوائب الانحراف العقدي ، ويحليه ببلسم الإيمان ، وصفاء الاعتقاد، ونقاوة التوحيد.
ولعل من الفائدة في الآية الكريمة، أن العلم بالتوحيد وتحقيق مقتضى الآية لا يكفي دون العمل بها وتطبيقها على واقع المرء، وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآناً يمشي على الأرض ، حيث كان الدين واقعا حياً في حياتهم، ولذلك كان العمل والتطبيق عندهم بعد العلم، فأصبحوا علماء عالمين، وقدوات حية للناس، ولهم تأثير عجيب في حياة الناس، وهذا الذي اقتضته الآية الكريمة، حيث جاء فيها العلم والتعلم ثم العمل والتطبيق، كما قال عز وجل(واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم) ،ولهذا بوَّب الإمام البخاري رحمه الله باباً في صحيحه سماه (باب العلم قبل القول والعمل) واستدل بقوله تعالى:(فاعلم أنَّه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) فبدأ الله تعالى بالعلم قبل القول والعمل.
وقد ذَمَّ الله قوماً قَصُرَت هممهم، وضَعُفت قواهم العلمية والعملية عن تحقيق العمل والتطبيق بعد العلم، وتناقضت أقوالهم وأفعالهم، وافتقدوا القدوة الصالحة لذويهم ومجتمعهم وأُمَّتهم، وما ذاك إلا لضعف الإيمان وتسلط الدنيا وشهواتها على القلوب والنفوس، كما قال الله تبارك وتعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[3]، قال الإمام الطبري رحمه الله( يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا صدّقوا الله ورسوله، لم تقولون القول الذي لا تصدّقونه بالعمل، فأعمالكم مخالفة أقوالكم ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) يقول: عظم مقتًا عند ربكم قولكم ما لا تفعلون)[4]، وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى باب تغليظ عقوبة مَن أمَرَ بمعروف أو نهى عن منكر وخالف قولَه فعلُه، قال تعالى( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ)[5] ، وقال سبحانه( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)، وقال تعالى إخبارًا عن شعيب عليه السلام( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ )[6] .
وقال الشيخ أبو بكر الجزائري رحمه الله (لفْظ النداء عام، والمراد به جماعة من المؤمنين قالوا: لو نعلَم أحب الأعمال إلى الله تعالى لفعلناه، فلمَّا عَلِموه ضعفوا عنه ولم يعملوا، فعاتبَهم الله في هذه الآية، ولتَبقى تشريعًا عامًّا إلى يوم القيامة، فكل مَن يقول: فعلتُ، ولم يفعل، فقد كذب، وبئس الوصف الكذب، ومن قال: سأفعل، ولم يفعل، فهو مُخالِف للوعد، وبئس الوصف خلف الوعد، وهكَذا يُربِّي الله عباده على الصِّدق والوفاء، وقوله( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) ، أي: قولكم نفعل ولم تفعلوا مما يُمقت عليه صاحبه أشدَّ المقت، أي: يبغض أشد البغض)[7] وعن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتَندلِق أقتاب بطنِه[8]، فيَدور بها كما يدور الحمار في الرَّحى، فيَجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تكن تأمُر بالمعروف وتنهى عن المُنكَر؟ فيقول: بلى، كنتُ آمُر بالمَعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)[9].
وقول الإنسان ما لا يفعل يدخل في طَوْر النفاق والمنافقين، لأن الكذب والإخلاف والغدر وغيرها تدخل في ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(آية[10] المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخلف، وإذا اؤتمنَ خان)[11]، وفي رواية(وإن صام وصلى وزعَم أنه مُسلم)، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(أربع مَن كنَّ فيه، كان منافقًا[12] خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدَعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهَد غدَر، وإذا خاصم فجر)[13].
وليس أشق ولا أنكى على الأمة عامة والمجتمع خاصة، من
التناقض العجيب والمنتشر بشكل مخيف، بتأثير الدنيا والمال والشهرة وغيرها مما تشربت بها الكثير من القلوب، حتى وقعت في هذا السرداب المظلم.
نَبْنِي مِنَ الأَقْوَالِ قَصْراً شَامِخاً** وَالْفِعْلُ دُونَ الشَّامِخَاتِ رُكَامُ
إن من أشد التناقض تأثيراً في فكر الأمة والمجتمع والشباب منهم خاصة، ازدواجية شخصية الدعاة والقادة والمربين والآباء ، فهم في أقوالهم غير أفعالهم ، وقد صور ابن القيم رحمه الله هذا الواقع المتضارب العجيب، وهذه الانفصالية بين الأقوال والأفعال وأثرها في المدعوين بقوله(علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قال قائلهم للناس هلموا، قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق)[14].
وقال مالك بن دينار رحمه الله ( العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا)[15] .
الإمَامَة في الدِّيْن :
تأتي الإمامة بمعنى القيادة وتأتي بمعنى القدوة، وهذه الأخيرة هي التي نعنيها في موضوعنا، والقدوة في الدين درجة عالية لا يصلها إلا الصالحين العاملين المخلصين بما علموا من الدين، المطبقين لشريعة رب العالمين، كما قال عز وجل في شأنهم(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[16]، قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله(أي: أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية، درجة الصديقين والكُمَّل من عباد الله الصالحين وهي درجة الإمامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم يُقتدى بأفعالهم، ويُطمئن لأقوالهم، ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون، ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء دعاء بما لا يتم إلا به، وهذه الدرجة -درجة الإمامة في الدين- لا تتم إلا بالصبر واليقين كما قال تعالى( وَجَعَلْنَاهم أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) فهذا الدعاء يستلزم من الأعمال والصبر على طاعة الله وعن معصيته وأقداره المؤلمة ومن العلم التام الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين، خيرا كثيرا وعطاء جزيلا وأن يكونوا في أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل)[17].
ولقد ركز الإسلام على القدوة الصالحة، وجعلها عنصرا مهماً في الدعوة إلى الله، وفي قيادة الأسرة والمجتمع، وجعل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله وهديه واجباً مهما لنجاح الدعوة وتحقيق القدوة الصالحة، كما في قوله تعالى(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[18] ، كما أوجب اتباعه في دعوته كما في قوله تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[19].
وهذا التركيز من الإسلام على القدوة الصالحة، يؤكد وجوب متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته وهديه، وذلك ضمان لسير الدعوة ، واستقامة الناس على شريعة الله، فالربط بين القول والعمل مهم جداً في حياة الدعاة إلى الله، قال إبراهيم بن أدهم ( ادعوا الناس وأنتم صامتون، قالوا: كيف ذلك؟ قال: ادعوا الناس بأفعالكم)[20]، وقال الحسن البصري رحمه الله (لا تكن ممن يجمع علم العلماء وطرائف الحكماء ويجري في العمل مجرى السفهاء)[21]، وقال عبد الواحد بن زيد(ما بلغ الحسن في الناس ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء كان أسبقهم إليه ، وإذا نهاهم عن شيء كان أبعدهم منه)[22].
وكان البر فعلاً دون قول*** فصار البر نطقاً بالكلام
والتناقض في الأقوال والأفعال خصوصاً في جانب الدعوة والدعاة، يعتبر ازدواجية ممقوتة، بما تحمله من سلبيات وتناقضات، تؤثر سلبا في نتائجها، وتضع أصحابها في وضع لا يُحْسدون عليه، مما يجعل الناس يعيشون التناقض ولا يعلمون إلى أين الملاذ!!! .
وإذا نظرنا إلى حال الشباب اليوم، نرى قطاعاً عريضاً منهم وقد مُني باليأس والتشاؤم والتشرد الفكري من أجل ما رأوه من التناقض المزري من قبل الكثير من الدعاة والمربين ، والآباء والأمهات، تناقضات في القول والعمل والنظرية والسلوك ، يُظهرون التُقى والبر والصدق وحب الخير على رؤوس الأشهاد ، ولكنهم أبعد ما يكون من مخافة الله، وأجرأ الخلق على اختراق حدود الله ، وأسرع إلى الفتن، وإلى الدنيا وزهرتها، من جراء هذه الازدواجية، نُزِعت منهم ثقة الشباب خاصة والمجتمع عامة، ولذلك تأثر الكثير من الصالحين المتمسكين بعرى الدين، والقدوات الصالحة وهم قليل بتناقضات أولئك، وبهذا أصيب الشباب بالحيرة والتذبذب، وضعف التأثر، والتراخي عن أمور الدين وخصوصاً الصلاة والسُنَّة.
ومن هنا يتحتم عل كل داعية خير أن يبدأ بنفسه في الأمر والنهي فلا يأمر بشيء من أوامر الله ورسوله حتى يكون أول فاعل له، ولا ينهى عن شيء مما نهى الله عنه ورسوله حتى يكون أول تارك له، والنبي صلى الله عليه وسلم هو قدوة العالمين العاملين، فهو أسوة حسنة لأمته، فيحرص على الرجال العاملين ، والقدوات الصالحين، لا مجرد إلقاء المواعظ والخطب، وقد بنى جيلاً من الصحابة كانت أعمالهم تسبق أقوالهم، فكانوا خير قدوة في الدين والأخلاق والتعامل، فأسلم بجهدهم واستقامتهم خلق كثير.
يَـا بَاغِيَ الإِحْسَـانِ يَطْـلُبُ رَبَّـهُ * لِـيَـفَـوزَ منْـهُ بِـغَـايَــةِ الآمَـالِ انْظُرْ إِلَى هَدْيِ الصَّحَابَةِ والَّـذي*كانُوا علَيهِ في الزَّمانِ الـخَالِـي
واسْلُكْ طَرِيقَ القَوْمِ أينَ تَيَمَّمُوا*خُذْ يَمْنَةً ما الدَّربُ ذاتَ شِمَـالِ
تَاللهِ مَا اخْتَارُوا لِأنْـفُسِهِمْ سِوَى*سُبُلِ الـهُدَى في القَوْلِ والأَفْعَالِ[23]
مَسْأَلَة فِقْهِيَّة عَقَدِية : ( قول يا حول الله أو لا حول الله أو لا حول):
الناس في هذه المسالة الهامة أقسام، فمنهم من يقولها وهو جاهل بحقيقتها وأصلها، ومنهم من يقولها اختصاراً لأصلها بداعي العجلة والمفاجأة، ومنهم من يقولها عالم بحقيقتها وأصلها، وبطلانها، ومع ذلك يتعاطاها.
فأما من قالها جاهل بحقيقتها وأصلها، فإن على من سمعه أن يعلمه ويبين له بطلانها وخطورتها، وأن ذلك اختصار مُخِل بأصلها، ويبين له حقيقتها ،بأن يكملها على أصلها( لا حول ولا قوة إلا بالله)، وقد سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن قول ( لا حول الله) فأجاب بقوله ( لا حول الله) ، ما سمعت أحداً يقولها وكأنهم يريدون( لا حول ولا قوة إلا بالله) ، فيكون الخطأ فيها في التعبير ، والواجب أن تعدل على الوجه الذي يراد بها ، فيقال ( لا حول ولا قوة إلا بالله)[24]، وقال الشيخ عبد الرحمن البراك ( قول بعض الناس ( لا حَوْلِ الله ) أو( لا حول ) يريد ( لا حول ولا قوة إلا بالله)، لكنه يختصرها اختصارًا مخلًّا بمقصودها ، فينبغي لمن سمعه أن يُعلمه ويرشده ليأتي بهذا الذكر بلفظه الشرعي تامًّا غير منقوص ، فهذا القائل نيته صالحة لكنه أخطأ بحذفه لأكثر الجملة ، وسببُ ذلك الجهلُ ، وقد يقول هذه العبارة (لا حول ولا قوة إلا بالله)، من لا يدري عن مقصودها أصلًا ، وإنما تجري على لسانه عادة ، وعلى كل حال فلا حرج على من جرت على لسانه ، لكن ينبغي أن يعُلَّم اللفظ الشرعي ويبين له معناه ليذكر الله به ، ويتعبد الله به)[25].
وأما من قالها بداعي العجلة لِتَفَاجُئه بأمر من الأمور، فلا ينبغي له ذلك، ولا يصح منه بَتْر جملة (لا حول ولا قوة إلا بالله) بل ينطقها كما هي، وقد تقدم فيما قبلها الكلام على ذلك.
وأما من قالها عالم بحقيقتها وأصلها، وبطلانها، ومع ذلك يتعاطاها، فهذا لا يجوز، ويدخل ذلك في الكفر والشرك، لأن فيها نفي الحول عن الله ،وهذا باطل، قال النووي رحمه الله (فلا يجوز قول هذه العبارة الواردة في السؤال، لأن ظاهرها نفي الحول عن الله تعالى، وهذا باطل، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. أي لا تَحَول من حال إلى حال، ولا قوة للإنسان على ذلك إلا بإقدار الله تعالى له، وتوفيقه إياه)[26]، وفيها من جانب آخر دعوة الصفة بذاتها من دون الله، كقول (يا حكمة الله) أو (يا رحمة الله) وما شابهها، معتقدا أنها تفعل الأمور بذاتها، فهذا كفر وشرك وأمر محرم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( إن مسألة الله بأسمائه وصفاته وكلماته جائز مشروع كما جاءت به الأحاديث ، وأما دعاء صفاته وكلماته فكفر باتفاق المسلمين ، فهل يقول مسلم : يا كلام الله اغفر لي ، وارحمني ، وأغثني ، أو أعني ، أو يا علم الله ، أو يا قدرة الله أو يا عزة الله أو يا عظمة الله ونحو ذلك ؟! أو سمع من مسلم أو كافر أنه دعا لذلك من صفات الله وصفات غيره ؟! أو يطلب من الصفة جلب منفعة، أو دفع مضرة ،أو إعانة، أو نصرا، أو إغاثة، أو غير ذلك)[27]، وسُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله( ما حكم أن يدعو الإنسان صفة من صفات الله سبحانه وتعالى مع بيان وجه ذلك الحكم ؟
الشيخ: هل الصفة تفعل؟
السائل: لا، لا تفعل.
الشيخ: إذا دعوت من لا يفعل هل يجوز؟
السائل: لا يجوز.
الشيخ: لا يجوز ولهذا قال شيخ الإسلام : دعاء الصفة كفر بالاتفاق ، ولأنك إذا دعوت الصفة جعلتها مستقلة ، تجلب إليك الخير وتدفع عنك الشر، وهذا يعني أنك جعلتها إلهاً مع الله)[28].
وسئل أيضا رحمه الله( هل عبادة الإنسان لصفة من صفات الله يعد من الشرك وكذلك دعاؤها؟
فأجاب بقوله : عبادة الإنسان لصفة من صفات الله ، أو دعاؤه لصفة من صفات الله من الشرك ، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله – لأن الصفة غير الموصوف بلا شك وإن كانت هي وصفه ، وقد تكون لازمة وغير لازمة ، لكن هي بلا شك غير الموصوف فقوة الإنسان غير الإنسان وعزة الإنسان غير الإنسان ، وكلام الإنسان غير الإنسان، كذلك قدرة الله عز وجل ليست هي الله بل هي صفة من صفاته فلو تعبد الإنسان لصفة من صفات الله لم يكن متعبدًا لله ، وإنما تعبد لهذه الصفة لا لله عز وجل والإنسان إنما يتعبد لله عز وجل (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)،والله عز وجل موصوف بجميع صفاته ، فإذا عبدت صفة من صفاته لم تكن عبدت الله عز وجل لأن الله موصوف بجميع الصفات ،وكذلك دعاء الصفة من الشرك مثل أن تقول : يا مغفرة الله اغفري لي يا عزة الله أعزيني ، ونحو ذلك)[29].
وهناك أمر قد يُشكل على الكثير من الناس ،وهو التوفيق بين ما أوردناه في هذه المسألة، وبين النصوص الشرعية التي وردت في الاستعاذة بكلمات الله التامات، وبرضاه من سخطه، أو برحمته يستغيث، ويستخيره ويستقدره في موضوع الاستخارة، ويعوذ بعظمته، وعزته، فهذه لا تضره لأنها من باب التوسل ، لا من باب دعاء الصفة بذاتها، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك ( قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث(برحمتك أستغيث)[30] هذا من قبيل التوسل لا من قبيل دعاء الصفة، مثل: أسألك يا الله برحمتك، وفي دعاء الاستخارة(أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك)[31] ، ومثل الاستعاذة بالصفة، قوله صلى الله عليه وسلم(أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك)[32] ، وكقوله صلى الله عليه وسلم(أعوذ بكلمات الله التامات)[33]، كل هذا من نوع التوسل إلى الله بصفاته ، وهو من التوسل المشروع ، وأما دعاء الصفة فلم يرد في الأدعية المأثورة ، ولا يمكن أن يكون مشروعاً؛ لأن دعاء الصفة كقولك: يا رحمة الله ، يا عزة الله ، يا قوة الله ، تقتضي أن الصفة شيء مستقل منفصل عن الله يسمع ويجيب ، فمن اعتقد ذلك فهو كافر، بل صفات الله قائمة به ، وليس شيء منها إله يدعى ، بل الله بصفاته إله واحد ، وهو المدعو والمرجو والمعبود وحده لا إله إلا هو)[34].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ( وأما ما جاء في الأحاديث التي ذكرها شارح الطحاوية مثل( أعوذ بعزتك أعوذ بعظمتك ، أعوذ برضاك ، أعوذ بكلمات الله التامة) فحقيقته أنه استعاذة بالله متوسلًا إليه بهذه الصفات المقتضية للعياذ)[35] . وبهذا ينتهي الكلام على هذه المسألة الفقهية والعقدية، ليتنبه المسلم لها، وأن يبتعد عن مواطن الشرك والكفر والشك، وأن يُعَوِّد لسانه على قول العبارة كاملة ليغنم فضلها فهي كنز من كنوز الذكر والجنة.
وخلاصة القول ، أن الأمة عامة والمجتمع خاصة بحاجة ماسة إلى القدوات العاملين في الدين والأخلاق والسلوك، بعيداً عن التناقضات ، فكثرة الكلام والمواعظ دون عمل وتطبيق ، يقل تأثيره، وتضمحل فائدته، ويجعل الأمة والمجتمع في دوامة من المتناقضات، فعلى الدعاة إلى الله ، والآباء والأمهات، والمربين والمربيات، ومن ولاهم الله أمور التوجيه والتعليم، أن يكونوا قدوات في القول والعمل، وألا يرى منهم المجتمع ما يخالف منهجهم ودعوتهم وتربيتهم، حتى ينفع الله بهم، وتُثْمر في الناس جهودهم إلى كل خير، وألا يكونوا كالذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم( يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَومَ القِيَامَةِ، فيُلْقَى في النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بهَا كما يَدُورُ الحِمَارُ بالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فيَقولونَ: يا فُلَانُ ما لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بالمَعروفِ، وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فيَقولُ: بَلَى، قدْ كُنْتُ آمُرُ بالمَعروفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ)[36]، والله تعالى من وراء القصد. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] سورة محمد 19.
[2] تفسير القرطبي ص 508.
[3] سورة الصف 2-3.
[4] تفسير الطبري ص 551.
[5] سورة البقرة 44.
[6]سورة هود 88.
[7] أيسر التفاسير 2/1622.
[8] تندلق – بالدال المهملة – أي: تخرج، والأقتاب: الأمعاء، واحدها: قِتْبٌ.
[9] رواه البخاري ومسلم وعند أحمد.
[10] آية المنافق؛ أي: علامة المنافق.
[11] رواه البخاري ومسلم.
[12] النفاق نوعان: عملي واعتقادي، والمقصود في الحديث هو العملي الذي ينقص الإيمان، أما النفاق الاعتقادي، فهو إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وهذا مُخرِج من الملة ويكفر صاحبه، كنفاق عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول ومَن على شاكلته.
[13] رواه البخاري ومسلم.
[14] الفوائد ص 85.
[15] الجامع لعلوم الإمام أحمد 5/45.
[16] سورة الفرقان 74.
[17] تفسير السعدي ص 366.
[18] سورة الأحزاب 21.
[19] سورة الأنفال 24.
[20] القدوة 1/8.
[21] القدوة 1/10.
[22] القدوة 1/7.
[23] ابن القيم رحمه الله.
[24] مجموع الفتاوى 3/139.
[25] فتاوى واستشارات الإسلام اليوم 14/155.
[26] شرح النووي على صحيح مسلم.
[27] تلخيص الاستغاثة في الرد على البكري ص 181.
[28] لقاء الباب المفتوح 30/234.
[29] مجموع الفتاوى 2/164.
[30] رواه النسائي وصححه الألباني.
[31] رواه البخاري.
[32] رواه مسلم.
[33] رواه مسلم.
[34] المكتبة الشاملة ص 36.
[35] مجموع الفتاوى 2/165.
[36] رواه البخاري ومسلم.