ولا مَا يَسْقُطُ مِنَ القَدَمِ، ………
قوله: «ولا ما لا يسقط من القَدَم»، يعني: ولا يمسح ما يسقط من القَدَم، وهذا بناءً على أنه يُشترط لجواز المسح على الخُفِّ ثبوتُه بنفسه، أو بنعلين إلى خلعهما؛ لأن ما لا يثبت خُفٌّ غيرُ معتاد؛ فلا يشمله النصُّ، والنَّاس لا يلبسون خِفافاً تسقط عند المشي، ولا فائدة في مثل هذا، وهذا ظاهرٌ فيمن يمشي فإِنَّه لا يلبسه.
لكن لو فُرض أن مريضاً مُقْعَداً لَبِسَ مثل هذا الخُفِّ للتدفئة، فلا يجوز له المسح على كلام المؤلِّف.
ولأنَّ الذي يسقط من القَدَم سيكون واسعاً، وإخراج الرِّجْلِ من هذا الخُفِّ سهلٌ، فيخرجها ثم يغسلها، ثم ينشِّفها ثم يردُّها.
أو يُرَى منه بَعْضُهُ، فإِن لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ قَبْلَ الحدثِ فالحكمُ للفوقاني …………
قوله: «أو يُرى منه بعضُه»، أي: إِذا كان الخُفُّ يُرى منه بعضُ القَدَم فإِنه لا يُمسح ولو كان قليلاً، وهذا مبنيٌّ على ما سبق من اشتراط أن يكون الخُفُّ ساتراً للمفروض.
وسواء كان يُرى من وراء حائل؛ مثل أن يكون خفيفاً؛ أو من البلاستيك، أم من غير حائل. فلو فُرِضَ أن في الخُفِّ خَرقاً قَدْرَ سَمِّ الخِيَاطِ، أو كان جزء منه عليه بلاستيك يُرى من ورائه القَدَم؛ فالمذهب أنَّه لا يجوز المسح عليه.
وسبق بيان أن الصَّحيح جواز ذلك (مجموع الفتاوى 21/185).
قوله: «فإِن لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ قبل الحَدَث فالحُكم للفوقاني»، وهذا يقع كثيراً كالشُّراب والكنادر، فهذا خُفٌّ على جَورب.
ولا يجوز المسح عليهما إِن كانا مَخْرُوقين على المذهب، ولو سَتَرَا؛ لأنَّه لو انفرد كلُّ واحد منهما لم يجز المسح عليه،
فلا يمسح عليهما …..
مثاله: لو لَبِسَ خُفَّين أحدُهما مخروق من فوق، والآخر مخروق من أسفل، فالسَّتر الآن حاصل، لكن لو انفرد كلُّ واحد لم يجز المسحُ عليه فلا يجوز المسح عليهما.
ولو كانا سليمين جاز المسحُ عليهما، لأنَّه لو انفرد كلُّ واحد منهما جاز المسح عليه.
والصَّحيح: جواز المسح عليهما مطلقاً، بناءً على أنه لا يُشترط سترُ محلِّ الفرض ما دام اسم الخُفِّ باقياً.
وإِذا لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ على وجه يصحُّ معه المسحُ، فإِن كان قبل الحدث فالحكم للفوقاني، وإن كان بعد الحدث فالحكم للتحتاني، فلو لَبِسَ خفًّا ثم أحدث، ثم لبس خُفًّا آخر فالحكم للتحتاني، فلا يجوزُ أن يمسح على الأعلى.
فإِن لَبِسَ الأعلى بعد أن أحدث، ومسح الأسفل فالحكم للأسفل، كما لو لبس خُفًّا ثم أحدث، ثم مسح عليه، ثم لبس خفًّا آخر فوق الأوَّل وهو على طهارةِ مَسْحٍ عند لبسه للثاني، فالمذهب أنَّ الحكم للتَّحتاني؛ لأنَّه لبس الثاني بعد الحَدَث.
وقال بعض العلماء: إِذا لبس الثَّاني على طهارة؛ جاز له أن يمسح عليه (مجموع شرح المهذب 1/507)؛ لأنه يصدق عليه أنه أدخل رجليه طاهرتين، وقد قال النبيُّ ﷺ: «فإني أدخلتهما طاهرتين»، وهو شامل لطهارتهما بالغسل والمسح، وهذا قول قويٌّ كما ترى. ويؤيِّدُه: أنَّ الأصحاب نَصُّوا على أن المسح على الخُفَّين رافع للحدث، فيكون قد لَبِسَ الثَّاني على طهارة تامَّة، فلماذا لا يمسح؟ .
أما لو لَبِسَ الثَّاني وهو محدثٌ فإِنه لا يمسحُ؛ لأنه لبسه على غير طهارة.
وقوله: «فالحكم للفوقاني» هذا لبيان الجواز فإِنه يجوز أن يمسحَ على التَّحتاني حتى ولو كان الحكم للفوقاني.
وإِذا كان في الحال التي يمسح فيها الأعلى؛ فَخَلَعه بعد مسحه؛ فإِنه لا يمسح التَّحتاني، هذا هو المذهب .
والقول الثَّاني: يجوز جعلاً للخُفَّين كالظِّهارة والبِطَانة (الإنصاف 1/434)، وذلك فيما لو كان هناك خُفٌّ مكوَّنٌ من طبقتين العُليا تُسمَّى الظِّهارة والسُّفلى تُسمَّى البِطَانة، فلو فرضنا في مثل هذا الخُفِّ أنه تمزَّق من الظِّهارة بعد المسح عليه، وهو الوجه الأعلى فإِنه يمسح على البِطَانة، وهي الوجه الأسفل حتى على المذهب (الإنصاف 1/412).
فالذين يقولون بجواز المسح على الخُفِّ الأسفل بعد خلع الخُفِّ الأعلى بعد الحدث قالوا: إِنما هو بمنزلة الظِّهارة والبطانة، فهو بمنزلة الخُفِّ الواحد. وهذا القول أيسر للنَّاس؛ لأن كثيراً من الناس يلبس الخُفَّين على الجورب ويمسح عليهما، فإِذا أراد النوم خلعهما، فعلى المذهب لا يمسح على الجورب بعد خلع الخُفَّين؛ لأنَّ زمن المسح ينتهي بخلع الممسوح. وعلى القول الثَّاني: يجوز له أن يمسحَ على الجورب، فإذا مسح ولبس
خُفَّيه جاز له أن يمسح عليه مرَّة ثانية؛ لأنه لبسهما على طهارة، ولا شَكَّ أنَّ هذا أيسر للنَّاس؛ والفتوى به حسنة، ولا سيَّما إِذا كان قد صدر من المستفتي ما قبل ذلك فيُفتى بما هو أحوط.
ويَمْسَح أكثَرَ العِمَامة، وظاهِرِ قَدَم الخُفِّ ……….
قوله: «ويمسحُ أكثرَ العِمَامة»، هذا بيان لوضع المسح وكيفيته في الممسوحات، ففي العِمَامة لا بُدَّ أن يكون المسح شاملاً لأكثر العِمَامة، فلو مسح جُزءاً منها لم يصحَّ، وإن مسح الكُلَّ فلا حرج، ويستحبُّ إِذا كانت النَّاصيةُ بادية أن يمسحها مع العِمَامة.
قوله: «وظاهر قَدَم الخُفِّ»، هذا بيان لمسح الخُفَّين.
وقوله: «ظاهر» بالجرِّ يعني: ويمسحُ أكثر ظاهر القدم؛ لأن المسح مختصٌّ بالظَّاهر لحديث المغيرة بن شعبة : «مسح خفيه» فإِنَّ ظاهره أن المسحَ لأعلى الخُفِّ .
ولحديث عليٍّ رضي الله عنه قال: «لو كان الدِّين بالرَّأي، لكان أسفلُ الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله ﷺ يمسح أعلى الخُفِّ» (رواه أحمد وأبو داود). وهذا الحديث وإِنْ كان فيه نَظَرٌ؛ لكن حسَّنه بعضهم.
وفي قوله: «لو كان الدِّين بالرَّأي» إِشكال، فإِن الرَّأي هو العقل.
وهل الدِّين مخالفٌ للعقل؟ الجواب: لا، ولكن مرادُ عليٍّ رضي الله عنه إِن صحَّ نسبته إليه ـ هو باديَ الرَّأي كما قال تعالى: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود: ٢٧]، أي: في ظاهر الأمر.
لأنه عند التَّأمُّل نجد أن مسح أعلى الخُفِّ هو الأَولى، وهو الذي يدلُّ عليه العقل، لأنَّ هذا المسح لا يُراد به التَّنظيف والتنقيةُ، وإنما يُرادُ به التعبُّد، ولو أنَّنا مسحنا أسفلَ الخُفِّ لكان في ذلك تلويثٌ له.
مِنْ أَصابِعِه إلى ساقِه دون أسْفَلِهِ، وعَقِبِه، وعَلَى جَمِيعِ الجَبِيْرَة …………
قوله: «من أصابعه إِلى ساقه»، بيَّن المؤلِّفُ كيفيَّة المسح: بأن يبتدئ من أصابعه أي أصابع رجله إلى ساقه، وقد وردت آثارٌ عن النبيِّ ﷺ وأصحابه أنه يمسح بأصابعه مفرَّقة حتى يُرى فوق ظهر الخُفِّ خُطوطٌ كالأصابع (رواه ابن ماجه).
قوله: «دون أسفله وعقبه»، لأنهما ليسا من أعلى القدم، والمسح إِنما ورد في الأعلى كما سبق في حديث المغيرة، فإِنَّ له روايات (رواه أحمد) تدلُّ على ما دلَّ عليه حديثُ علي رضي الله عنه.
وإذا كان الخُفُّ أكبر من القدم، فهل يمسحُ من طرف الخُفِّ أو طرف الأصابع؟
إِن نظرنا إلى الظَّاهر؛ فإِنَّه إِن مسح على خُفَّيه مسح من طرف الخُفِّ إلى ساقه؛ بقطع النَّظر عن كون الرِّجْل فيه صغيرة أو كبيرة، وإِن نظرنا إلى المعنى قلنا: الخُفُّ هنا زائدٌ عن الحاجة والزَّائدُ لا حُكم له، ويكونُ الحكم مما يُحاذي الأصابع، والعمل بالظَّاهر هو الأحوط …..
تنبيه: لم يبيِّن المؤلِّفُ هل يمسح على الخُفَّين معاً أو يبدأ باليُمنى؛ فقيل: يمسح عليهما معاً لظاهر حديث المغيرة. وقيل: يبدأ باليُمنى؛ لأن المسح بدلٌ عن الغسل، والبَدلُ له حكم المبدلُ. وهذا فيما إِذا كان يمكنه أن يمسحَ بيديه جميعاً، أما إذا كان لا يمكنه، مثلَ أن تكون إحدى يديه مقطوعة أو مشلولة فإِنه يبدأ باليمنى.
قوله: «وعلى جميع الجبيرة»، أي: يمسح على جميع الجبيرة؛ لأن ظاهرَ حديث صاحب الشُّجَّة وهو قوله: «ويمسح عليها» شامل لكلِّ الجبيرة من كلِّ جانب.
ولو غسل الممسوح بدل المسح: فقال بعض أهل العلم:
لا يجزئ (الإنصاف ١/ ٣٤٥، ٤١٩) لأنَّه خلاف ما جاء به الشَّرع، وقد قال النبيُّ ﷺ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ» ، ثم إِننا بالغسل نقلب الرُّخصة إِلى مشقَّة. وقال بعض العلماء: يجزئ الغسل (الإنصاف» (١/ ٣٤٥، ٤١٩)؛ لأنَّه أكمل في الإِنقاء، وإِنما عدل إلى المسح تخفيفاً.
وتوسَّط بعضُهم فقال: يجزئ الغسلُ إِن أَمَرَّ يده عليها (الإنصاف» (١/ ٣٨٧، ٣٨٨)؛ لأنَّ إِمرار اليد جعل الغسل مسحاً، وهذا أحوطُ؛ لكن الاقتصار على المسح أفضل وأَوْلى.
ومَتَى ظَهَرَ بعضُ مَحلِّ الفَرْضِ بَعْدَ الحدثِ، ………..
قوله: «ومتى ظهر بعضُ محلِّ الفرض بعد الحدث»، فَرْضُ الرِّجْلِ أن تُغسَلَ إِلى الكعبين، فإِذا ظهر من القدم بعضُ محلِّ الفرض كالكعب مثلاً، وكذا لو أن الجورب تمزَّق وظهر طرفُ الإبهام، أو بعض العَقِب، أو أن العِمَامة ارتفعت عمّا جرت به العادة فإِنه يلزمه أن يستأنفَ الطَّهارة، ويغسل رِجليْه، ويمسحَ على رأسه.
وهذا بالنسبة للعِمَامة مبنيٌّ على اشتراط الطَّهارة للبسها. وعلى القول بعدم اشتراط الطَّهارة بالنسبة للعمامة (٤٧٤) فإِنه يعيد لفَّها ولا يستأنف الطَّهارة.
وبالنسبة للخُفَّين ونحوهما مبنيٌّ على أنَّ ما ظَهَرَ؛ فرضُه الغسلُ، وإِذا كان فرضه الغسلُ فإن الغسلَ لا يُجامِعُ المسحَ، فلا بُدَّ من استئنافِ الطَّهارة؛ وغسل القدمين، ثم يلبسُ بعد ذلك.
وقول المؤلِّف : «بعد الحدث»، يُفهم منه أنه لو ظهر بعضُ محلِّ الفرض، أو كلُّه قبل الحدث الأوَّل فإِنه لا يضرُّ.
كما لو لبس خُفَّيه لصلاة الصُّبح، وبقي على طهارته إِلى قُرب الظُّهر، وفي الضُّحى خلع خُفَّيه، ثم لبسهما وهو على طهارته الأولى فإِنه لا يستأنف الطَّهارة.
مسألة: إذا خلع الخُفين ونحوهما هل يلزمُه استئناف الطَّهارة؟ اختُلِفَ في هذه المسألة على أربعة أقوال (مجموع شرح المهذب 1/426):
القول الأول: ما ذهب إليه المؤلِّفُ أنه يلزمه استئناف الطَّهارة، حتى ولو كان ظهورها بعد الوُضُوء بقليل وقبل جفاف الأعضاء، فإِنه يجبُ عليه الوُضُوء، والعِلَّة: أنَّه لمَّا زال الممسوحُ بطلت الطَّهارة في موضعه، والطَّهارةُ لا تتبعّضُ، فإِذا بطلت في عضوٍ من الأعضاء بطلت في الجميع، وهذا هو المذهب.
القول الثاني: أنه إِذا خلع قبل أن تَجِفَّ الأعضاء أجزأه أن يغسل قدميه فقط، لأنَّه لمَّا بطلت الطَّهارةُ في الرِّجْلَين؛ والأعضاء لم تنشَفْ، فِإنَّ الموالاة لم تَفُتْ، وحينئذٍ يبني على الوُضُوء الأوَّل فيغسل قدميه.
القول الثالث: أن يلزمه أن يغسلَ قدميه فقط، ولو جفَّت
الأعضاءُ قبل ذلك، وهذا مبنيٌّ على عدم اشتراط الموالاة في الوُضُوء.
القولُ الرَّابعُ: ـ وهو اختيار شيخ الإسلام (الإختيارات ص 15) ـ أن الطَّهارة لا تبطل سواء فاتت الموالاة أم لم تَفُتْ، حتى يوجد ناقضٌ من نواقض الوُضُوء المعروفة، لكن لا يعيده في هذه الحال ليستأنف المسح عليه؛ لأنَّه لو قيل بذلك لم يكن لتوقيت المسح فائدة؛ إِذ كلُّ مَنْ أراد استمرار المسح خلع الخُفَّ، ثم لَبسه، ثم استأنف المدَّة .
وحجته: أن هذه الطهارة ثبتت بمقتضى دليل شرعيٍّ، وما ثبت بمقتضى دليل شرعيٍّ، فإِنه لا ينتقض إلا بدليل شرعيٍّ، وإِلا فالأصل بقاء الطَّهارة، وهذا القول هو الصَّحيحُ، ويؤيِّده من القياس: أنَّه لو كان على رَجُلٍ شَعْرٌ كثيرٌ، ثم مسح على شعره؛ بحيث لا يصل إلى باطن رأسه شيء من البلل، ثم حلق شعره بعد الوُضُوء فطهارتُه لا تنتقض.
فإن قيل: إن المسح على الرَّأس أصلٌ، والمسحُ على الخُفِّ فرعٌ، فكيف يُساوى بين الأصل والفرع.
فالجواب: أن المسحَ ما دام تعلَّق بشيء قد زال، وقد اتفقنا على ذلك، فكونه أصليًّا، أو فرعيًّا غير مؤثِّر في الحكم.
أوْ تَمَّتْ مُدَّتُهُ اسْتَأْنَفَ الطَّهارة.
قوله: «أو تمَّت مدَّتُه استأنف الطَّهارة»، يعني إِذا تَمَّت المدَّة، ولو كان على طهارة، فإنه يجب عليه إِذا أراد أن يُصلِّيَ ـ مثلاً ـ أن يستأنفَ الطَّهارة.
ص 264.