الدَّعْوَةُ الصَّامِتَة…. د. ناجي بن وقدان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد :

قد يظن القارئ الكريم لعنوان هذا الموضوع، أننا نقصد بالدعوة الصامتة تلك الدعوة التي يصمت أصحابها عن كلمة الحق، وقول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصمت عما جاء به الكتاب والسنة، وعن الدعاة الصامتين الذين صمتوا عن بيان كلمة الحق وقعدوا عن سبيل الدعوة إلى الله.

وحقيقة أن ما سبق ذكره ليس هو المقصود بالدعوة الصامتة ولا الدعاة الصامتون. وإنما المقصود بذلك، الدعاة الذين يدعون إلى الله عز وجل بأحوالهم وحركاتهم وأقوالهم وأفعالهم ، التي تُبَلغ عن دعوتهم ، وتحقق ثَبَاتهم على مبادئهم، فهم يدعون الناس بأفعالهم وسيرهم وأحوالهم ، إنهم لم يتكلموا ولم ينطقوا وربما كانت أحوالهم وسيرهم أبلغ من أي كلمة وأي بيان، قدوات صالحة لها أبعد الأثر في حياة الناس وأحوالهم مع الله.  

من هو الداعية الصامت :

الداعية الصامت هو ذلك الداعية الذي يدعو إلى الله بأفعاله وحركاته وسكناته، فيكون قدوة حية في الدين ، مطبقاً ما عَلِمَه من الكتاب والسُنة وسيرة السلف الصالح، فيكون داعية  ناطقًا بفعله وسلوكه ، لا يجامل ولا يداهن ولا ينافق، فدعوته قائمة بالصمت والهدوء، مؤدياً مهمته كما أراده الله، مستخدماً ما يسره الله له من وسائل الدعوة وإمكاناتها، فهذا هو المؤثر بالفعل في الناس أكثر من القول، لأن الناس بحاجة إلى الداعية القدوة العامل بما يقول، لا كما يفعله الكثيرون في هذا الزمان، الذين تخالف أقوالهم أفعالهم، ويقولون ما لا يفعلون، فأنى لهم التأثير في الناس!!!.  

الداعية الصامت وصدق المنهج :

الدعاة إلى الله مهما ارتفع شأن الدعوة لديهم، ومهما ابتكروا من الوسائل الدعوية المؤثرة، فإنهم مطالبون بلزوم منهج الداعية الأول والإمام القدوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والبعد عن منهجه إيذان بولوج طرق أهل البدع والضلالات، لذلك ينبغي أن تأخذ طرق الدعوة بعداً شمولياً لدى الدعاة إلى الله، فنحن ندعو أن تأخذ الدعوة هذا البعد الحيوي لدى أصحابها، وتلزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن لا تتجاوز هديه ، لهذا كان لابد لكل داع إلى الله عز وجل أن يكثف النصوص ويجمع الآثار التي تؤيد هذا المنهج القويم الذي يدعو إليه، والتي تبين للناس أنه لم يأت ببدعه من القول.

إن صدق المنهج عند الداعية الصامت من الأمور التي تساهم في نجاح دعوته، لأن صدق المنهج مبني على الإخلاص الذي لا تقوم الأعمال إلا به( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)[1].

إن صدق الداعية في أقواله وأفعاله مرتكز أساسي في نجاح دعوته وظهور ثمارها، وكذلك صدقه في أحواله وأفعاله وحركاته وسكناته ما يجعله مؤثرا في الناس، متسبباً في هدايتهم واستقامتهم، فَصِدق الأحوال والأفعال أبلغ في التأثير من صدق الأقوال، وإليك أيها القارئ الحبيب بعض الأمثلة على فَاعِلية هذا الضرب العظيم من ضروب الدعوة إلى الله ونفعه للناس :

دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته قال : أعندكم شيء؟ قالوا: لا، قال(فإني صائم)، لو خطب في الفقراء عشرات الخطب يوصيهم بالصبر وكان غنيا مترفاً ما أفادت شيء، ولكنه عانى الفقر وضرب من نفسه عليه الصلاة والسلام مثلا وحالاً واقعاً للفقراء فكان لذلك صدى واسعاً إلى قيام الساعة، (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[2].

وفي الحديبية دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس بأن ينحروا بدنهم و أن يحلقوا رؤوسهم فلم يستجب أحد للنبي صلى الله عليه وسلم و قد أصاب الناس ما أصابهم ذلك أنهم جاءوا إلى هذا المكان وهم قد سمعوا الوعد منه صلى الله عليه وسلم أن يدخلوا البيت الحرام و أن يطوفوا بالبيت آمنين محلقين رؤوسهم و مقصرين لا يخافون، فحين أمرهم بهذا الأمر وحين رأوا مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش وشدهم ذلك الموقف رأوا أبا جندل يرسف في قيوده فيعيده النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ،لم يطق ذلك المؤمنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستجب أحد لأمره فيأتي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة رضي الله عنها فتشير عليه بأن يخرج و لا يكلم أحدا فيدعو بالحلاق فيحلق رأسه، ثم ينحر بدنه فيخرج صلى الله عليه وسلم فيفعل ذلك فيجتمع الناس حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً.

وكان صدق حاله صلى الله عليه وسلم من أعظم ما استدل به بعض من آمن على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم ومن هؤلاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه إذ قال بعد أن رآه قال: فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.

لقد كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم ناطقة بصدقه وأنه لم يكن ينطق عن الهوى ، و أنه كان يؤتى الوحي من الله تبارك و تعالى، و أنه كان يأتيهم بخبر من السماء، لذلك كانت حاله وحدها كافية في دعوة الكثيرين إلى الإسلام فمن رآه صلى الله عليه وسلم عرف الصدق في وجهه، ومنهم من دخل في الإسلام و آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لموقف أبصره أو مشهد رآه ، و السيرة تزخر بالكثير من هذه المواقف التي دخل فيها فئام من الناس الإسلام لما رأوه من المواقف ، واختار الله له أن يكون في مبدأ حياته أميناً صادقاً ليكون ذلك مرآة على صدقه، و ليقرأ في سيرته وهديه من سمع بدعوته ، الصدق وسمو المنهج ، لقد كان صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين ، لقد عاش صلى الله عليه وسلم مع قومه أربعين سنة عرفوا منه الصدق والإحسان إلى الناس و الأمانة ، عرفوا منه صلى الله عليه وسلم حسن الخلق ولم يكن يجاريهم في مجونهم ولهوهم ، إن تلك الحال التي كان يعيشها صلى الله عليه وسلم كانت دعوة صامتة وإشارة إلى أولئك الجادين في معرفة الحق أن هذا الرجل الذي عرفوا مدخله و مخرجه ، وعرفوا سيرته لم يكن ليكذب على الله بعد أن كان يتحاشى الكذب على الناس[3].

ورسم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم معالم الدعوة الصامتة والقدوة الحسنة التي استقوها من قدوتهم عليه الصلاة والسلام، حين دعا النبي الناس للصدقة و قد جاء قوم عُراة مجتابي  النِّمَار[4] أو العَبَاء فَرَقَّ صلى الله عليه وسلم و هو صاحب القلب الرحيم لحالهم فتألم وخطب الناس دعاهم بأن يتصدقوا بما يملكون من درهمهم و دنانيرهم ، من صاع برهم وتمرهم ، فلم يتصدق أحد فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع صرة كادت يده أن تعجز عنها بل عجزت فألقاها بين يدي النبي فتتابع الناس بعد ذلك فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم فصار هذا الرجل داعية صامتاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة , ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة)[5].

 

القدوة الحسنة نجاح وتأثير :

لا يختلف اثنان في أن القدوة الحسنة من ركائز الدعوة إلى الله، فإنها بذاتها دعوة صامتة وناجحة، وخُلُق من أخلاق الأنبياء والمرسلين ،(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[6]، إذ أن الداعية إلى الله يمثل الدين والسيرة الحسنة بحاله وأفعاله التي هي في أنظار الناس وأحوالهم ذات تأثير قوي. ونبي الرحمة والقدوة الحسنة صلى الله عليه وسلم كان ولا يزال إلى قيام الساعة الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة، وقد وصفه الله بذلك وأمر عباده بمتابعته والسير على هديه والاستنان بسنته، كما قال تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)[7]، وقال سبحانه(لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[8]، (وجميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم، كانوا قدوة حسنة لأقوامهم، وهذا يدل على عِظَمِ وأهمية القدوة الحسنة)[9]

ألا وإن الأمة عامة والمجتمع خاصة، يعانون أزمة خطيرة وهي أزمة القدوة الحسنة، والدعوة الصامتة، التي باتت غائبة عن المحيط الميداني الدعوي، وانبرى للناس تناقض عجيب في الأقوال والأفعال ، فمن الناس من يأمر بالمعروف ولا يأتيه ، وينهى عن المنكر ويأتيه، ومنهم من ينهى عن المعاصي والذنوب والآثام، ثم ينقلب فيعاشر الناس عليها، فيصبح في أنظار من حوله في وضع لا يُحْسد عليه، وإن ضحك الناس له وجاملوه، فهذا وأمثاله ممن يطردون السراب في التأثير في الناس وردهم إلى الخير، وقد افتقد القدوة الصالحة التي يتطلع الناس أن يجدوها فيه(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[10]، وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَومَ القِيَامَةِ، فيُلْقَى في النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بهَا كما يَدُورُ الحِمَارُ بالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فيَقولونَ: يا فُلَانُ ما لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بالمَعروفِ، وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فيَقولُ: بَلَى، قدْ كُنْتُ آمُرُ بالمَعروفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ)[11] ، وهذا والله منعطف خطير، وأمر جلل، وعاقبة مؤلمة، وانكشاف للغطاء، وكشف للمستور، وظهور القناع الحقيقي أمام أهل النار.

والقدوة الحسنة(الدعوة الصامتة) ليست مطلوبة من الداعية إلى الله فحسب، بل هي مطلوبة من كل أحد من المسلمين، فَرَب الأسرة في أسرته يجب أن يكون قدوة حسنة في أهل بيته، فلا يجدونه حيث ينهى ، ولا يفتقدونه حيث يأمر، كما قال عز وجل(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[12]، فهنا بدأ بالنفس قبل الأهل ، فيؤخذ من ذلك القدوة الصالحة، إذ أن رب الأسرة كلما كان قدوة صالحة لأهله وأبناءه في الدين والخُلق الحسن، كان ذلك أدعى لاستقامة الأسرة وظهورها بمظهر جميل حسن أمام المجتمع، وكلما كان رب الأسرة وكذلك الأم المربية لله أخوف، وللآخرة أحذر، كان ذلك أقوم لاستقامة الأبناء والبنات على دين الله عز وجل.

وكذلك المسؤول ورب العمل ورئيس الدائرة والمعلم وغيرهم ، كلما كانوا قدوة صالحة لمن تحت أيديهم في الأمانة واستحضار عظمتها والسؤال عنها يوم الحشر، والبعد عن الحرام، كان ذلك أدعى لاستقامة الجميع على شريعة الله، وآداء الأعمال على الوجه الذي يرضيه.

والمقصود أن القدوة الصالحة من محاسن دين الله عز وجل، وخُلُق كريم من أخلاقه، وفيها النجاة من المهالك في الدنيا والآخرة.

ومن سوء التصرف وسوء الخُلق، أن يكون المرء خارج ما يأمر به وينهى عنه، ويكون قدوة ومثالا سيئاً للآخرين، سواء كانوا أبناء أو مجتمع، فما بالكم برجل يجلس أمام شاشات التلفاز والقنوات الفضائية يشاهد ويسمع كل هابط ومخل أمام أبناءه وأهله؟ وما بالكم بأب يُدخن أمام أهل بيته ويطلب منهم البعد عن الدخان والشيشة؟ وما بالكم بأمٍ تلبس العاري وتتهاون في أمر الصلاة وتُضيع أوقاتها في اللهو واللعب والغيبة والنميمة وصالات الأفراح والمناسبات والأسواق والمطاعم والكافيهات أمام أبناءها وبناتها كيف سيكون الحال؟ !!!

وقس يا رعاك على ذلك الكثير مما طم وعم في هذه الأزمنة!!

كيف يُطلب من فلذات الأكباد ما لم يحققه الآباء والأمهات؟ .

وقد صدق من قال:

يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيْرَهُ * هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ

تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى * كَيْمَا يَصِحُّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ

وَأَرَاكَ تُصْلِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا * أَبَدًا وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَقِيمُ

لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ * عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ[13]

فاستقامة المجتمع منوطة باستقامة الأسرة، واستقامة الأمة منوطة باستقامة المجتمع، فالكل يحمل فوق عاتقه أمانة عظيمة السؤال عنها كائن لا محالة.

وسائل التواصل الاجتماعي وغياب القدوة :

إن مما استجد في حياة الناس اليوم مع ظهور التقنيات الحديثة ومنها

وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى الخصوص وسيلة الهاتف الخلوي(الجوال) وما يضم من برامج وتطبيقات قَرَّبت البعيد وضمت القريب، ويسرت التواصل، وما ضم من الفوائد والمنافع، وما فيه من أخطار وفساد للدين والأخلاق وهتك للأعراض، وكشف للأسرار، وتلويث للسمعة وغير ذلك من الأمور التي لا تخفى على القارئ الكريم.

ألا وإن الناظر إلى أحوال من يظهرون للناس عبر هذه الوسائل، ليتضور ألماً لما يرى من التناقضات العجيبة بين هؤلاء وبين ما يتحدثون عنه، وغياب القدوة الصالحة عندهم ، وخصوصا ممن يتسلقون جدار الدعوة ويهرفون بما لا يعرفون، ويفتون بما لا يعلمون، ويأولون نصوص الكتاب والسُنة تأويلاً خاطئاً، ويلوون أعناق النصوص بما يوفق أقوالهم وأهواءهم، وبما يرافق ذلك من حركات واستخدام مفرط للغة الجسد، حتى إن أحدهم من إفراطه في ذلك لكأنما يكون على مسرحٍ بهلواني!!!!!، بما ينافي ومعطيات الدعوة وهدوء ورزانة الداعية، يستميلون الناس بمواضيع جانبية، نائين بهم عن أصول الشرع وثوابت الدين، وأصول الفقه في العبادات والمعاملات، إضافة إلى إنزال الدعوة منازل السخرية والاستهتار والتمييع، بما يخالف منهج الدعوة ، وسِيَر الصالحين، فلم يترك هؤلاء للعلماء طريقا إلى الناس، ولا للدعاة المصلحين مجالاً لتبليغ رسالة الله على الوجه الصحيح.

إن حب الظهور، وطلب الشهرة عبر هذه الوسائل قد غلب على قلوب كثيرٍ من الناس اليوم، وصارت مرضاً مستشريا في النفوس والقلوب تنافي كمال الإخلاص، وتُخرج إلى مستنقع الرياء والسمعة وطلب الدنيا، والسلامة منها سلامة للأعمال وإرضاء للرب جل وعلا.

قد يقول قائل إن هؤلاء يريدون الخير واستغلال الفرص والمشاركة في توعية الناس، واستغلال هذه الوسائل لإيصال الخير للناس!!، ونقول إنهم أصابوا في الفكرة، ولكنهم أخطأوا في الأداء وغابت عن أذهانهم قضية القدوة الصالحة، فتولد من ذلك التناقض بين الفعل والقول، وبثوا في نفوس الناس الشكوك، وأضروا بإخوانهم من القدوات الصالحة للناس، وبسببهم وصَم الناسُ أناساً مَثَّلوا القدوة الصالحة في الدين واهتدوا بهدي الله ورسوله بالتشدد وعدم مواكبة العصر وما استجد في حياة البشر، وهذه مقولة لا يقبلها من عنده ذرة من إيمان وعقل، فالإسلام صالح بهيئته وتعاليمه لكل زمان ومكان لو عمل أهله به، وطُبقت شرائعه في حياتهم.

وفي المقابل نجد ثلة من أهل الإيمان والاتباع، وهم قلة قليلة في هذا الخضم الكبير، قد حققوا قدوات صالحة في أهليهم ومجتمعهم، فنفع الله بهم على قلتهم، وكانت أحوالهم وسيرهم دعوة صامتة ومثالا يُحتذى به في الدين وهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، منهم العلماء والوعاظ والدعاة، قد طابقت أقوالهم أفعالهم، ولم يضرهم أو يصرفهم عن الحق لوم اللائمين، ولا نقد المنتقدين، صبروا وثبتوا فلهم العقبى بإذن الله في الدنيا والآخرة(فَٱصْبِرْ ۖ إِنَّ ٱلْعَٰقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)[14].

إننا في هذه الأزمنة بحاجة ماسة إلى قدوات صالحة ونماذج صامتة، تعظ الناس بلسان حالها وأفعالها، تمثل دين الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم في ظاهرها وباطنها، فلقد كان السلف الصالح أصحاب فاعلية عظيمة في الميدان الدعوي بأحوالهم وأفعالهم وسِيَرهم العطرة فنفع الله بهم واهتدى الناس بهداهم، وهكذا الأمة بحاجة إلى أمثال هؤلاء، يقول أحد الفضلاء لأخيه من الدعاة، كيف يكون الداعية مؤثرا في الناس فقال: (ألا يراه الناس على خلاف ما يقول ويفعل)، عبارة موجزة وصفت لنا الداعية القدوة، والمصلح الصامت.

وخلاصة القول فيما سبق، أننا بأمس الحاجة إلى الداعية الصامت الذي يمثل الكتاب والسُنة بأفعاله وسيرته الطيبة، وتصرفاته المعتدلة، ويكون أشد تأثيرا في الناس من الداعية المتحدث، فلا غنى للأمة والمجتمع من الإثنين، فلو اجتمع للدعوة الداعية الصامت والداعية الناطق، اللذان يمثلان القدوة الصالحة للناس، لأخذت الدعوة مسارها الصحيح، ولنفع الله بها نفعا عظيماً، يقول الحسن البصري رحمه الله(عظ الناس بفعلك، ولا تعظهم بقولك)[15].

والداعية القدوة يتمتع بشخصية طيبة وتأثير فعال، وحتى يكون كذلك لا بد له من الثبات على مبادئه، فكم رأينا من أناس عز عليهم الثبات ومالوا عن مبادئهم ، وأحدثوا شرخاً في قدوتهم، مما قادهم إلى التنازلات بحجة مواكبة العصر واستمالة الناس للخير، فكانت النتائج عكس ما يؤملون، وتأثرت سمعتهم ومبادئهم ، وصار الناس ينظرون إليهم نظرة مختلفة، وهانوا في أنظار المجتمع وأصبحوا حديث الهزل والسخرية في المجالس.

كما أننا بأمس الحاجة أن نرى آباء وأمهات قدوات صالحة لأبنائهم حتى ينشأ جيل يمثل هذا الدين تمثيلا صحيحاً، وكذلك الحاجة الماسة إلى قدوات خَيِّرة في المجتمع في التعليم وغيره يسير في ظلها المجتمع بأسره، وتنتفع بها الأمة وينتشر الخير، ويُحْفظ الدين.

ولعل ما سطرته هنا دلالة إلى ما ورائه من الأمور التي ينبغي للدعاة إلى الله التنبه لها، وليعلموا أن الدعوة الصامتة والقدوة الحسنة ، هما من أنفع الأساليب الدعوية، فالناس يحتاجون إلى أنموذجاً حيا للدين، يهتدون به ويصدقون دعوته إليه. فكن يا رعاك الله ذاك الداعية ولا تبال بما يقوله الناس ولا تلتمس رضاهم فمهما فعلت فلن يرضوا عنك، فالتمس رضاء الله دائما بما تقول وبما تفعل، فإذا كنت كذلك فسيُرْضي الله الناس عنك، قال صلى الله عليه وسلم(من التمس رِضا اللهِ بسخَطِ الناسِ ، رضِيَ اللهُ عنه ، وأرْضى عنه الناسَ ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَطِ اللهِ ، سخِط اللهُ عليه ، وأسخَط عليه الناسَ)[16].

  والله تعالى من وراء القصد، وهو أعلم وأحلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

[1] سورة البينة 5.

[2] سورة الأحزاب 21.

[3] مختصر من القصة التي رواها البخاري في صحيحه برقم 2731.

[4] مجتابي النمار: النِّمار: جمع نَمِرة، وهي الكساء من الصوف المُخطَّط، والاجتياب من الجوب، وهو القطع، ومنه قوله تعالى﴿ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴾ أي: نحتوه وقطعوه، والمراد أن هؤلاء القوم لِفاقَتِهم ورقة حالهم لبَسوا أرديتهم، أو عَباءهم (جمع عباءة)، وقد خرقوها في رؤوسهم.

 

[5] رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

[6] سورة الأنعام 90.

[7] سورة آل عمران 31-32.

[8] سورة الأحزاب 21.

[9] الخُلق الحسن في ضوء الكتاب والسنة؛ د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني .

[10] سورة الصف 2-3.

[11] رواه البخاري ومسلم.

[12] سورة التحريم 6.

[13] شطر من قصيدة نظمها أبو الأسود الدؤلي.

[14] سورة هود 49.

[15] كتاب الزهد للإمام أحمد.

[16] رواه الترمذي وابن حبان وصححه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *