الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
إن من نِعم الله العظيمة على عباده نعمة العقل، مَيَّز به الإنسان عن سائر المخلوقات، يعرف به الحق من الباطل، والخير من الشر، والهُدى من الضلال، فبدون العقل يصبح المرء كالبهيمة لا يُعَرِّف معروفاً ولا يُنْكر منكراً. ولولا العقل لما عرف ابن آدم شرع الله والمهمة التي من أجلها خُلق، ولما ميز الأدلة الشرعية، والأحوال المرعية، ولما عرف الحقوق وأداها.
ولقد مدح الله أصحاب العقول السليمة، التي قادتهم إلى الله عن طريق التفكر في مخلوقاته، كما قال عز وجل(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[1]، قال ابن كثير( أي العقول التامة الزكية، التي تُدرك الأشياء بحقائقِها على جلياتها، وليسوا كالصمِّ البكم الذين لا يعقلون، الذين قال الله فيهم( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)[2].
وذم الله أصحاب العقول الغافلة الاهية عن دينة فقال جل وعلا(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)[3]، وقال عز وجل(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[4]،فإذا فقد الإنسان عقله الذي يدله على الخير، ويجنبه الشر، أصبح كالبهيمة التي تأكل وتشرب ولا عقل لها، بل إنها خير منه كما نصت عليه الآية الكريمة، روى سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(إن الله كريم يحب الكرم، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافَها[5] )[6] .
قال ابن حبان(وإنَّ محبة المرء المكارم منَ الأخلاق وكراهته سفسافها، هو نفس العقل، فالعقل به يكون الحظ، ويؤنس الغربة، وينفي الفاقة، ولا مال أفضل منه، ولا يتمُّ دين أحد حتى يتم عقلُه، وهو من أفضل مواهب الله لعباده، وهو دواء القلوب، ومطية المجتهدين، وبذر حراثة الآخرة، وتاج المؤمن في الدنيا، وعُدَّته في وقوع النوائب، ومن عُدِم العقل لم يزدْه السلطان عزًّا، ولا المال يرفعه قدرًا، ولا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذَّة دُنياه)[7].
وَأَفْضَلُ قَسْمِ اللهِ لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ*فَلَيْسَ مِنَ الخَيْرَاتِ شَيْءٌ يُقَارِبُهْ
إِذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ*فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلاقُهُ وَمَآرِبُهْ
فالعقل زينة المرء وقوته، فإذا اجتمع للمرء دينه وعقله فقد حاز خيري الدنيا والآخرة.
ماهية العقل :
يذكر لنا ابن تيمية رحمه الله ماهية العقل فيقول(إن العقل عَرَضٌ، فهو يعني أنه ليس جوهرًا قائمًا بنفسه كما هو في لغة الفلاسفة اليونانيين، ويدلِّل ابن تيمية على مفهومِه هذا بآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في كتابه (الرد على المنطقيين):
(فالعقل في لغةِ الرسول وأصحابه وأمَّته عَرَضٌ من الأعراض، يكون مصدر عقل يعقل كما في قوله تعالى( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )،( لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا )[8] ، ولعله يقصد( فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا )[9]،والعقل في لغة فلاسفة اليونان جوهرٌ قائم بنفسه، فأين هذا من هذا؟)[10].
ويقول في موضع آخر(وقد يُرادُ بالعقل نفس الغريزة التي في الإنسان، التي بها يعلم ويميِّز، ويقصد المنافع دون المضار، كما قال أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما(العقل غريزة)، وهذه الغريزة ثابتة عند جمهور العقلاء، كما أن في العين قوَّة بها يبصر، وفي اللسان قوة بها يتذوَّق، وفي الجلد قوة بها يلمس)[11].
ويقول في موضع آخر( فالعقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل ، وأما البدن فهو متعلق بقلبه ، ولهذا قيل : إن العقل في الدماغ . كما يقول كثير من الأطباء، ونُقل ذلك عن الإمام أحمد ، ويقول طائفة من أصحابه : إن أصل العقل في القلب، فإذا كمل انتهى إلى الدماغ)[12].
إذاً العقل غريزة وفطرة أودعها الله في الإنسان يميز بها بين الخير والشر، والهدى والضلال، والضار والنافع، وقال بعض العلماء(العقل ملكة الإدراك التي تربط ما بين القلب والرأي وتتفاعل مع وظائفها)[13]، وهو سر من أسرار الله التي أودعها في الإنسان، يعجز الإنسان مهما بلغ من العلم أن يصل إلى ماهيته.
العقل السليم :
من فضل الله تعالى على عبده أن يحفظ له عقله من ملوثات الشهوات والشكوك والشبهات والآفات، فيكون سليماً من هذه العلل والأمراض التي تفسده وتُفقده قيمته.
والعقل السليم يعتمد على سلامة القلب، فإن سلامة القلب سلامة لجميع البدن والجوارح والحواس، فالقلب السليم هو الذي ينجي صاحبه في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل(وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[14]، قال محمد بن سيرين ( القلب السليم أن يعلم أن الله حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ،وقال ابن عباس ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) حيي يشهد أن لا إله إلا الله ،وقال مجاهد ، والحسن ، وغيرهما ( بقلب سليم ) يعني : من الشرك ،وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم : هو القلب الصحيح ، وهو قلب المؤمن، لأن قلب [ الكافر و ] المنافق مريض ، قال الله ( في قلوبهم مرض)[15]، وقال أبو عثمان النيسابوري : هو القلب الخالي من البدعة ، المطمئن إلى السنة)[16].
إذاً العقل السليم هو من يعلم صاحبه لما خُلِق وماذا أراد الله منه في الكتاب والسُنة ،فيقوده ذلك إلى معرفة الحق والعمل به، وتجنب كل ما فيه هلاكه وضرره في الدنيا والآخرة.
القراءة والعقل السليم :
من المؤسف حقاً أن تتلاشى قضية القراءة والثقافة في الأمة عامة وفي المجتمع خاصة، ولا تكاد تظهر إلا عند من رحم الله وقليل ما هم ، مما أدى بالكثير من الناس إلى هاوية الجهل والتخبط في الحياة، والتدني بمستوى العقل إلى سفاسف الأمور، ووحل الثقافة.
وإن مما عم وطم في هذا الزمان انصراف الكثيرون عن القراءة والاطلاع والاشتغال بما لا طائل من ورائه، وخصوصاً في صفوف الناشئة من الذكور والإناث الذين يستقون ثقافتهم من خلال ألعاب إليكترونية أو مواقع مشبوهة بحجة اللعب والاستئناس وقضاء الوقت، وهذا بحد ذاته مفسدة وأي مفسدة، فإن هذه الألعاب من شأنها تبديد الأوقات، والتأثير المباشر في عقول الأبناء والبنات، وصرفهم عن دينهم وثقافتهم وتجهيلهم فيما خُلِقوا من أجله، فنرى صغار سن وأطفال يحملون أحدث الموديلات من الهواتف المتنقلة، مزودين بالاتصال عبر النت، يتجولون هنا وهناك دون تمييز بين الخبيث والطيب، متوارين عن الآباء والأمهات، وعن الرقيب والحسيب، يُغري بعضهم بعضاً بمواقع مدمرة، ويُضل بعضهم بعضاً ويجره إلى مالا فكاك منه من الفساد، وهذا واقع مرير يحتاج إلى علاج واستئصال، وانتشال الجيل من الضياع والانفلات، والآباء والأمهات في طليعة المسئولية أمام الله عز وجل عن فلذات الأكباد(كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)[17] ، وهم السبب في توفير هذه الوسائل لأبنائهم بداعي العاطفة، دون متابعة ولا مراقبة.
ومن هنا تلوثت عقول الناشئة ولُبِّس عليها في دينها، واعْتَلت عقولها بعد ما كانت على وضع سليم وفطرة قويمة. والخروج من هذا البلاء يكمن في إعادة صياغة عقول الجيل وإعادتها إلى حال سليم، بتحبيبهم في القراءة والاطلاع في أمور دينهم وتاريخ سلفهم الصالح في المدارس والبيوت، وإلحاقهم بحلقات القرآن والذكر في المساجد، لتحصينهم ضد الأفكار الوافدة عبر الوسائل التواصلية والمواقع المدمرة، التي تسعى جاهدة لهدم دينهم ،وفساد بلادهم ومجتمعهم.
إن تفعيل هواية القراءة لدى الناشئة لا بد من أن يبدأ من ردهات التعليم ومكتباته في المدارس والجامعات والمعاهد، ويوجه الناشئة إلى القراءة الحرة وتنمية الثقافة العلمية لديهم، وصقل مواهبهم بالبحوث المقننة حسب الفئة العمرية والمستوى التعليمي، وخصوصاً في الجامعات يوجه الطلاب والطالبات إلى القراءة والاطلاع وعمل البحوث والنتائج حسب المواد العلمية المقررة، ولا يكون تقييمهم الدراسي فقط من خلال أسئلة مباشرة واختيارات كالتي يُعمل بها في المراحل الأولى من التعليم، ولا يقتصر في البحوث العلمية على الدراسات العليا فقط، وبهذا تُنَمَّى عقولهم وتستنير مداركهم بالشيء المفيد، ونحافظ على سلامة عقولهم، ونبعدهم عما يضرهم من الانهماك في غياهب التقنية التي تعطل عقولهم وتذهب بجل أوقاتهم ، وتفسد دينهم وأخلاقهم.
العُقَلاءُ ثَلاثَة :
قال يحيى بن معاذ[18] رحمه الله العقلاء ثلاثة( من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه)[19] ، وهذه الصفات الأخلاقية العالية من صفات المؤمنين الساعين لنيل أعالي المنازل، ديدنهم دائما اللهم اجعل همي رضاك والدار الآخرة، ولنا مع كلامه رحمه الله وقفات ثلاث :
الوقفة الأولى :
قوله رحمه الله(من ترك الدنيا قبل أن تتركه)وهذه الجملة تدل على كمال عقله وقوة إدراكه، وبُعد نظره، ولا يغتر بها إلا ناقص عقل وصاحب بضاعة مزجاة من الدين، وقد حط الله من قدرها، وبين مكائدها، كما قال عنها مثربا عليها(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ )[20]، وقال سبحانه(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[21] ،وقال النبي صلى الله عليه وسلم (كُنْ في الدنيا كأنَّك غريب، أو عابر سبيل)[22]، وقال عليه الصلاة والسلام(فواللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخْشَى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسِطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم)[23] .
طَالِبُ الدُّنْيَا بِحِرْصٍ وَعَجْل … إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلٍّ مُنْتَقِلْ
نَحْنُ فِيهَا مِثْلُ رَكْبٍ نَازِلٍ … لِمِقِيلٍ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلْ
ولذلك العاقل من تجافى عنها ولم يركن إليها وزينتها، وهو يعلم يقينا أنه ذاهب وتاركها ولم يبلغ بها مأمولا، أو يدرك بها سعادة، ولن يحمل منها سوى اللفافة والكفن، إن لم يتداركه الله برحمته وفضله، ويُكْبِر له عملا صالحاً قد عمله.
الوقفة الثانية :
قوله رحمه الله (من بنى قبره قبل أن يدخله) ، والقبر أول منازل الآخرة، من أفلح فيه فقد أفلح، وهو أول مواجهة بين العبد وخالقه، بكته العلماء ، وشكت من هوله الحكماء، وأُلِّفَت فيه الكتب، وسُطِّرت فيه الدواوين، قض مضاجع الخائفين، وجَفَت به النوم عيون الصالحين، بيت الظلمة ونوره العمل الصالح، وبيت الضيق إلا على أهل الصلاح والإيمان فهو سعة وفسحة وراحة، فوجب على كل ذي لُب أن يعمر قبره قبل سكناه بالعمل الصالح والتوبة الخالصة، والانقياد لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يخاف القبر وأهواله وفظاعة مطلعه وهو الذي قد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكانَ عُثمانُ بنُ عفَّانَ رضي الله عنه إذا وَقفَ على قَبرٍ يبكي حتَّى يبَلَّ لحيتَهُ ، فقيلَ لَهُ : تذكرُ الجنَّةَ والنَّارَ ، ولا تبكي ، وتَبكي مِن هذا ؟ قالَ : إنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ ، قالَ : إنَّ القبرَ أوَّلُ مَنازلِ الآخرةِ ، فإن نجا منهُ ، فما بعدَهُ أيسرُ منهُ ، وإن لم يَنجُ منهُ ، فما بعدَهُ أشدُّ منهُ قالَ : وقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ : ما رأيتُ مَنظرًا قطُّ إلَّا والقَبرُ أفظَعُ منهُ)[24] ، وفي حديث البراء الطويل، قال صلى الله عليه وسلم(فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ. فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ. قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ. قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ)[25].
ومن العجيب أن من الناس من يحرص كل الحرص على عمارة وتزيين ما مآله إلى الخراب من مساكن الدنيا، دون النظر إلى ما هو أهم من ذلك وهو عمارة البرزخ الذي هو أول منازله إلى الآخرة، والعاقل الحصيف لا يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فعمارة القبر بالعمل الصالح والقربة إلى الله، وتجنب كل ما يغضب الله ويسخطه، عمارة للآخرة، ونجاة في القبر ويوم الحشر.
ومن أعظم الأعمال الصالحة التي تُعْمَر بها القبور، الصدقة الجارية، كالوقف من تسييل ماء أو حفر بئر، أو وقف مصحف للانتفاع بقراءته ، أو مسجد يُصلى فيه وما شابه ذلك من الصدقة التي يجري على الميت أجرها في قبره، ويلقى ريعها يوم الحشر، والمرء في ظل صدقته يوم القيامة، ماتت أم سعد بن عبادة رضي الله عنه ، فقال : يا رسولَ اللهِ ! إنَّ أمي ماتت ، أفأتصدقُ عنها ؟ قال : نعم . قال : فأيُّ الصدقةِ أفضلُ . قال : سقْيُ الماءِ فتلك سقايةُ سعدٍ بالمدينةِ)[26]، (مَن حفَر بئر ماءً لم يشرب منه كبدٌ حَرَّى مِن جنٍّ ولا إنسٍ ولا طائرٍ إلَّا آجَرَهُ اللَّهُ يومَ القيامةِ)[27] ، فالصدقة شأنها عظيم ،وفيها النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة.
وكذلك العلم النافع الذي يُخلفه المسلم بعد موته فينتفع منه الناس ويستنيرون به في عباداتهم ومعاملاتهم، سواء ترك كتباً، أو مواعظ، أو منشورات، أو تسجيل يجري عليه أجره في القبر ويوم الحساب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)[28]، وكذلك الولد الصالح ينتفع به أبواه بعد موتهما ،بدعوة صالحة، أو صدقة خالصة، وصلة لصديقهما، وذكر حسن لهما بين الناس.
وقد يموت الولد الصالح، وقد تنتهي الصدقة الجارية، ولكن الذي لا ينقطع أجره عن الميت العلم النافع الذي يتركه أثرا صالحا بعده، ينتفع به الناس جيلا بعد جيل، فلذلك طلب العلم الشرعي ونشره بين الناس عبر وسائل وقنوات التواصل والنشر، مهم جدا ونافع دائم لصاحبه في الدنيا وبعد موته، وكذلك العلوم الدنيوية التي ينتفع بها المسلمون، إذا أخلص فيها لله جل وعلا ، انتفع بها وبأجرها في حياته وبعد موته،(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)[29]، قال الشيخ السعدي رحمه الله(أي: أجاب الله دعاءهم، دعاء العبادة، ودعاء الطلب، وقال: إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى، فالجميع سيلقون ثواب أعمالهم كاملا موفرا)[30].
فحري بكل مسلم أن يهتم بقبره ويعمره بما فيه نجاته ،وأن يعلم ألا نجاة فيه بعد رحمة الله إلا بالعمل الصالح ، والغافل من غفل عن هذا الأمر الجلل، وليس للعبد إلا أن ينزله ويُعاين أول منزلة له في الآخرة، يبقى فيه حتى يأذن الله بخروجه ليوم الحشر والحساب، فمن بناه بالخير ، بقي فيه على خير وسعادة، ومن بناه بالشر فقد خاب وخسر:
لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها*إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ بانيها
فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها*وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها
الوقفة الثالثة :
قوله رحمه الله(من أرضى ربه قبل أن يلقاه)، ورضا الله جل وعلا هو غاية أماني الصالحين، فإن من طلب رضاء ربه ، أطاعه في أمره ونهيه، ومن جوامع الدعاء، اللهم إني أسألك رضاك والجنة، والصالحون من العباد يطلبون رضاء الله في أقوالهم وأعمالهم وسرهم وجهرهم، ويسألون الله السداد والتوفيق والقبول، كما قال الله تعالى عنهم(وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ )[31]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله( أي عملًا تحبه وترضاه)[32]، وكذلك يسارعون لرضاء ربهم طالبين القرب منه كما قال الله فيهم(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[33] ، قال الشيخ السعدي رحمه الله(والذي عجلني إليك يا رب: الطلب لقربك، والمسارعة في رضاك)[34]، ويلتمسون رضاء الله في الأعمال الصالحة والعبادة والقربة كما قال الله عنهم(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)[35]، قال الإمام السعدي رحمه الله(وصفهم كثرة الصلاة، ومقصودهم بلوغ رضا ربهم)[36]، وقال سبحانه(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا)[37] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما(يترضَّون الله بحجِّهم)[38] ،وقال عز وجل(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)[39]، قال ابن عثيمين رحمه الله(أي يبيع نفسه في طلب رضا الله عَزَّ وَجَلَّ)[40]، وهذه الآيات وغيرها كثير تدل على حرص الصالحين من السلف والخلف على كل عمل يقربهم من رضاء الله عز وجل ، ويجتنبون كل عمل يجر غضب الله تعالى.
ومن المؤسف حقاً في حياة الكثير من الناس اليوم الذين غلبت الدنيا والمصالح الشخصية على نفوسهم وقلوبهم وإيمانهم، أن أكبروا رضاء الناس في قلوبهم، وقدموا ذلك على رضاء الله عز وجل ، من أجل حطام زائل، ومتاع بائد، وفي هذا خطر عظيم، وسخط من الله عز وجل، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(من التمس رِضا اللهِ بسخَطِ الناسِ ، رضِيَ اللهُ عنه ، وأرْضى عنه الناسَ ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَطِ اللهِ ، سخِط اللهُ عليه ، وأسخَط عليه الناسَ)[41]، فهؤلاء الذين يلتمسون رضاء الناس بسخط الله هم أصل البلاء ومكمن الداء، مُنِيَ الإسلام بأمثالهم في كل زمان ومكان.
فمنهم المنافقون الذين يُظهرون مالا يُبْطنون، ويُسرون مالا يعلنون ،ويُراؤون الناس ويزمعون أنهم مخلصون، ومنهم الجبناء المستضعفون تأخذهم من الناس حياء وهيبة فلا يُحقون حقاً ولا يُبطلون باطلاً ، رجاء عَرَض زائل أو حظ موهوم(كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا)[42].
والذي ينبغي للمسلم أن يقدم رضاء الله على رضا كل أحد، فإن الناس لن يقدموا ولن يؤخروا من أمر الله شيء، ومهما التمس المرء رضاهم فلن يرضوا عنه مهما فعل لإرضائهم، وقد أفلح ونجى من كان همه رضاء خالقه جل وعلا(وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ)[43].
والخلاصة مما سبق ذكره، أن قول الشيخ العالم والواعظ الجليل يحي بن معاذ رحمه الله ،في التفصيل في عقلاء الناس ،قول سديد، يصف فيه ثلاثة من العقلاء عرفوا قدر الدنيا فلم يعطوها أكثر مما تستحق ، وعرفوا أن العمار عمار الآخرة ومستهلها القبر، فبنوا القبور بالعمل الصالح والطاعة والعبادة، وأيقنوا أن الغاية الكبرى هي رضاء الله والدار الآخرة، فأعدوا لذلك عُدته، فالتَمَسوا ذلك في كل عمل وقربة ، ولم يصرفهم صارف عن هذا الهدف العظيم.
فحري بالمسلم أن يسعى إلى ما سعى إليه السلف، وأن يعلم أنه لا عيش إلا عيش الآخرة، ولا رضا إلا رضا الرحمن جل وعلا، فيسعى جاهدا لبلوغ أماني الصالحين، وقُرة عين المتقين، وروضة رب العالمين.
يا خاطب الحـور الحسان وطالبا*** لوصـالهن بجنـة الحيـوان
لو كنت تدري من خطبت ومن طلبـ***ـت بذلت ما تحوي من الأثمان
أو كنت تدري أين مسكنها جعلـ***ـت السعي منك لها على الأجفان
ولقد وصفت طريق مسكنها فإن***رمت الوصال فلا تكن بالواني
أسرع وحدث السير جهدك انما***مسراك هذا ساعة لزمان
فاعشق وحدّث بالوصال النفس وابـ**ـذل مهرها ما دمت ذا امكان
واجعل صيامك قبل لقياها ويوم***الوصل يوم الفطر من رمضان
واجعل نعوت جمالها الحادي وسر***تلقي المخاوف وهي ذات أمان[44]
أسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن العمل، وصلاح العبادة، وحسن الخاتمة، وأن يجعلنا جميعا ممن سعى لرضاء ربه وقدمه على رضا كل أحد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] سورة آل عمران 190.
[2] تفسير ابن كثير 3/295.
[3] سورة الأنفال 22.
[4] سورة الأعراف 179.
[5] أي دنيئها وخسيسها.
[6] رواه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني.
[7] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص 16 – 19.
[8] سورة الأعراف 179.
[9] سورة الحج 46.
[10] الرد على المنطقيين لابن تيمية ص 276.
[11] فتاوى الرياض 9/287.
[12] مجموع الفتاوى 9/303.
[13] قيمة العقل في الإسلام ص 17.
[14] سورة الشعراء 87-89.
[15] سورة البقرة 10.
[16] تفسير ابن كثير ص 371.
[17] رواه البخاري ومسلم.
[18] هو أبو زكريا يحيى بن معاذ بن جعفر الرازي، أحد علماء أهل السنة والجماعة، وصفه الذهبي بأنه «من كبار المشايخ له كلام جيد ومواعظ مشهورة ، انتقل إلى نيسابور فسكنها وبها مات.
[19] موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق ص 360.
[20] سورة الحديد 20.
[21] سورة يونس 24.
[22] رواه البخاري.
[23] رواه البخاري.
[24] رواه ابن ماجه بسند حسن.
[25] رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.
[26] رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي وصححه الألباني.
[27] أخرجه البخاري في التاريخ الكبير1/332 .
[28] مجموع الفتاوى لابن تيمية 1/191.
[29] سورة آل عمران 95.
[30] تفسير السعدي ص 162.
[31] سورة الأحقاف 15.
[32] تفسير ابن كثير ص 378.
[33] سورة طه 84.
[34] تفسير السعدي ص 317.
[35] سورة الفتح 29.
[36] تفسير السعدي ص 515.
[37] سورة المائدة 2.
[38] تفسير الإمام الطبري ص 106.
[39] سورة البقرة 207.
[40] تفسير ابن عثيمين المكتبة الشاملة ص 151.
[41] رواه الترمذي وصححه الألباني.
[42] سورة النور 39.
[43] سورة التوبة 62.
[44] من نونية ابن القيم في وصف الجنة.