الْهَمُّ الشَّبَحُ القَائِّم ….. د. ناجي بن وقدان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . وبعد:

يعيش المرء بين ماض قد أزف، وحاضر شاهد، وغد مُغَيَّب أمره، فالماضي لا يعود ولا يجد لذته ولا يحس بشدته، والغد مستقبل لا يدري ما الذي يقضيه الله فيه، فما عليه سوى أن يعيش الحاضر الذي هو فيه، فلا هو قادر على إرجاع الماضي ولا تعجيل الغد.

والعبد ما دام ذا عين يقلبها* في أعين الغيد موقوف على الخطر

والمرء في سيره إلى الله يتقلب في حياة لا يخلو فيها من مصيبة، وقلما ينفك عن مدلهمة، كما أن السعادة لا تصفوا دونما قتر، إذ تعرض له منغصات كثيرة ومشوشات حثيثة، والفرح والسرور في الحياة ذو مد وجزر، فمن خلال هذه الحوادث والمتغيرات ينشأ هاجس أقلق القلوب وأفزع الرجال والنساء، ألا إنه الهَمُّ. هذا الشبح الجاثم على القلوب والنفوس، لا تصفو معه حياة ولا يطيب معه عيش، يجول فيها ويصول، فيملأ النفوس حزنا واضطراباً ويأساً ، ينتزع منها كل أنس وفرح وسرور واستقرار واستشراف فأل، فلا تستسيغ طعاماً، ولا تلذ شراباً.

الهَمُّ الذي يُطيل ليل المرء ونهاره، وينغص عليه عيشه، ويضطرب معه نومه، ويجعل الفكر مشتتاَ، والبال مشغولاً، تضيق عليه الأرض بما رَحُبت، ويضيق صدره، وتسوء نفسيته، ولو كان في قصرٍ يسر الناظرين، يشيب قبل حِله، ويُسْلَب قوته ونظارته، كما قال المتنبي:

وَالهَمُّ يَختَرِمُ الجَسيمَ نَحافَةً**وَيُشيبُ ناصِيَةَ الصَبِيِّ وَيُهرِمُ  

ولعمري ما سَلِم أحد على ظهرها من الهَمِّ، وإن سلم من كُلِّه لم يسلم من دخنه وغباره إلا من رحم ربي، فصاحب المال يتوجس من فقدانه فيصيبه الهَمّ، وصاحب الجاه والمنصب والرياسة، يخشى من ضياعه فيصيبه الهَمّ، والوالدان يصيبهما الهَمُّ بسبب مستقبل الأبناء وحاضرهم.

ومن العجيب أن ترى وتسمع اليوم من يظن أن الهَمَّ مقصور على الفقراء والمساكين وذوي الحاجة، غائباً عن إدراكه أن الكُبراء والأغنياء وأهل الوجاهة، قد أصابهم ما أصاب غيرهم من الهَمّ والغم وضيق النفس والتوتر، بينما في المقابل نرى فقراء ومساكين راضين وسُعداء مستقرين.

وإذا كان بعض الفقراء يصاب بالهَمّ من فراغ بطنه بسبب فقره، فإننا نرى من الأغنياء من يصاب بالهَمّ بسبب تخمة بطنه إزاء إسرافه، ويقال مثل ذلك في الصبي والشاب، والذكر والأنثى، والصحيح والسقيم، والغني والفقير[1].

إنَّ الكثيرين يمتعضون مما يحصل لهم من زوابع المشقة، ومدلهمات البلايا التي تحيط بهم بين الفينة والأخرى، مع أن هذه الآلام والمتاعب، ميدان تُشْعل فيهم روح الهمة والنشاط والقوة،  إذ ما تفتقت مواهب العظماء إلا وسط ركام من المشاق والجهود المضنية.

وقد يُؤَنِّب المرء نفسه حيال ما ينزل به من الخطوب والبلايا،

ولو رجع إلى نفسه قليلاً لوجد أنه رُبَّ ضارةٍ نافعة، والأجساد لا تشفى إلا بعد جُرَع العلل، ولا تأتي المنح إلا في طيات المحن، فكم من ابتسامة تبعها غُصة، وكم من فرحة بعد ترحة.

ومهما كثٌرت الخطوب والبلايا فلن ينال العبد منها إلا ما قدره الله عليه، ولن يصرف عنه منها إلا ما كُتب أن يصرف عنه، فعلام الهم إذن؟ إن الأمور المغيبة عنك في طياتها التشابه، فقد يكون المحبوب في طيات المكروه، وقد يكون الشر في عُطف الخير (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[2]، وما أحسن ما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ذلك:

أيَّ يوميَّ منَ المرءِ أفِر *** يومَ لا يُقدَر أو يومَ قُــدِر

يومَ لا يقدرُ لا أحذَرُه *** ومِن المقدُورِ لا ينجُو الحذِر

مر إبراهيم بن أدهم على رجل مهموم فقال له(إني سائلك عن ثلاثة فأجبني، قال: أيجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟ أو ينقص من رزقك شيء قدره الله؟ أو ينقص من أجلك لحظة كتبها الله؟ فقال الرجل: لا، قال إبراهيم: فعلام الهَمّ إذن”؟[3]

إن الهَمَّ من جنود الله تعالى يبتلي به من يشاء من عباده ، لينظر كيف يعملون، وهو شعور وإحساس وتوجس يعتري النفس والقلب، فيفتك بهما أشد فتكاً ، وأعظم أثراً من المؤثرات المادية المحسوسة، ويؤكد ذلك مقولة الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما سُئِل(من أشد جند الله؟ فقال: الجبال، والجبال يقطعها الحديد، فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد، فالنار أقوى، والماء يطفئ النار، فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء، فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب، فالريح أقوى، والإنسان يتكفأ الريح بيده وثوبه، فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان، فالنوم أقوى، والهَم يغلب النوم، فأقوى جند الله هو الهَم يسلطه الله على من يشاء من عباده)[4]، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى(فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ)[5].

ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من الهَم ، فعن أنس بن مالك وأبي أمامة رضي الله عنهما قال(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من الهَمّ والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجُبن، وغلبة الدين وقهر الرجال)[6]، وذلك لأن الهَمَّ شديد القهر للنفس الإنسانية، ويبدد طاقتها، ويضعفها فتكون فريسة سهلة للشيطان وشَرَكه، يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً على حديث أبي أمامة رضي الله عنه(اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن..) بقوله(تضمّن هذا الحديث الاستعاذة من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان مزدوجان، فالهم والحزن أخوَان، والعجز والكسل أخوَان، والجبن والبُخل أخوَان، وضلع الدين وغلبة الرجال أخوَان، فإن المكروه المؤلم إذا وردَ على القلب، فإما أن يكون سببُه أمراً ماضياً فيُوجب له الحزن، وإن كان أمراً متوقعاً في المستقبل أوجبَ الهَمّ)[7].

فالهَمُّ هو ما يخشى الإنسان حدوثه، ويتوجس ماهيته، والحزن على ما فات من حظه وعمره في غير ما خُلِق من أجله، فيزرع في النفس الحزن والمحاسبة الدؤوبة على التفريط، قال ابن القيم رحمه الله (ليس الحزن من المنازل المطلوبة ولا المأمور بنزولها وإن كان لابدّ للسالك من نزولها، ولم يأت الحزن في القرآن إلا منهياً عنه أو منفياً، فالمنهي عنه كما في قوله تعالى (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا)[8] ، وقوله سبحانه(وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)[9] ، وقوله عز وجل (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[10] ، وَالْمَنْفِيُّ كقوله تعالى(فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون)[11]، وسِرّ ذلك أن الحزن موقف غير مسيّر، ولا مصلحة فيه للقلب، وأحبّ شيء إلى الشيطان أن يحزن العبد ليقطعه عن سيره، ويُوقفه عن سلوكه)[12].

وإن مما يجلو الحزن والهَمَّ عن القلب ، أن يزهد العبد في هذه الفانية، ويعلم أنها في حقيقتها لذة عابرة، من تعلق بها أردته وشغلته عما هو أنفع له في آخرته، وقد قال بعض أهل العلم(إن الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، وإن الرغبة في الدنيا تطيل الهَمَّ والحزن)[13].

وما يحصل للعبد من هموم وغموم وأحزان فإنما هي من وجهين، أولهما حب الدنيا والانهماك في زهرتها، وثانيهما التقصير في العبادة والطاعة ونواحي البر والخير، قال منصور بن زاذان( الْهَمُّ وَالْحَزَنُ يَزِيدُ فِي الْحَسَنَاتِ، وَالْإِثْمُ وَالْبَطَرُ يَزِيدُ فِي السَّيِّئَاتِ)[14].

فحب الدنيا والركض خلف حطامها يورث الذلة ،ويصرف عن الطاعة والعبادة وعن كل ما ينفع في الدنيا والآخرة، والله جل وعلا قد حذر منها وفتنتها، وبين حقيقتها أنها مجرد لهو ولعب كلعبة في يد صبي يلهو بها لتضييعه وقته ومن ثم ينصرف عنها بلا فائدة، وشبهها بغيث أعجب الكفار نباته، فقال عز وجل(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[15]، فأي عقل يعيرها أدنى اهتمام وهذه حقيقتها، وقال عز وجل وقد ضرب لنا مثلا للدنيا على هوانها وزوالها وذهاب زينتها (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً)[16].

ونبينا صلى الله عليه وسلم قد أدار لها ظهره، ولم يأخذ منها إلا بقدر ما يعينه على طاعة الله وتبليغ رسالته، وذهب عنها راهناً درعه في مُدَّي شعير، ولم يخلف وراءه سوى ابنته فاطمة التي ما لبثت وراءه طويلاً، ولكنه وَرَّث للأمة إرث الدنيا والآخرة، ونجاة الدنيا والآخرة ، وهو علم القرآن والسُنَّة، يقول عليه الصلاة والسلام (إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ)[17]، وقال عليه الصلاة والسلام (لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ)[18] .

والدنيا حقيرة عند الله، ولا قيمة لها في ميزان الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم (لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ)، والدنيا مذمومة عند الله إلا ما كان في طاعة الله أو أعان عليها من ذكر الله وطلب العلم الشرعي كما قال عليه الصلاة والسلام (أَلا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلعونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللَّه تَعَالَى ومَا وَالَاه، وَعالمًا وَمُتَعلِّمًا)[19]، وبين التابعي الجليل سعيد بن المسيب رحمه الله (أن الدنيا نذلة وهي إلى كل نذل أميل وأنذل منها من أخذها بغير حقها وطلبها بغير وجهها ووضعها في غير سبيلها)[20].

والعاقل الحصيف هو من يتجافى عن الدنيا وزخرفها فإنما هي دار غرور وحُلُم عابر، كثيرها قليل، وطويلها قصير، هذه الدنيا التي سقطت من أعين العارفين، وليأخذ منها ما يعينه على طاعة مولاه، فإنما هو عُمر قصير وينقلب إلى من فطره أول مرة(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)[21] ، وليتمثل بقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم(مالي وللدنيا إنما مثلي ومثلُ الدُّنيا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرةٍ ثم راحَ وتركها)[22].

المَخْرَج من الهَمِّ والغَم والحَزَن :

أولاً : الاستيقاظ من الغفلة:

فإن الغفلة داء عضال تُوقع المرء في براثن الهَمّ والغم وهي أصل كل شَرّ، ومرتع كل أشَر وبطر ومرح وفرح مفرط خارج عن المألوف، مما ينسي المرء نفسه وخالقه، والغفلة منهي عنها لما لها من آثار سيئة، كما قال عز وجل(وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)[23]، والغافل عن الله ظالم لنفسه، موبق لها، كما قال عز وجل(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ)[24].

ثانياً :الابتسامة والتبسم في وجوه الآخرين

التبسم سبب لانشراح الصدر، وانطلاق النفس، وانجلاء الكآبة والحزن، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله(كان صلى الله عليه وسلم – مما وُصف به – أنه كثير التبسم، دائم البِشْرِ، عليه الصلاة والسلام، فالتبسُّم يدل على الرضا وانشراح الصدر، وهو أيضًا سبب لانشراح الصدر، وانطلاق النفس، وعدم الكآبة والحزن، وجرِّب تجد)[25]،( تبسُّمُكَ في وجهِ أخيكَ صدقةٌ)[26] .

ثالثاً : التحدث بنعم الله عز وجل يدفع الهَمّ والغم:

التحدث بنعم الله تجلب السعادة والطمأنينة والراحة، وتدفع القلق والهَمَّ والحزن، لأن التحدث بها اعتراف بحق المنعم بها جل وعلا واستئناس به، (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[27] قال العلامة السعدي رحمه الله(التحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة، فإن معرفتها والتحدث بها يدفع الله به الهَمّ والغم، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها، حتى ولو كان العبد في حال فقرٍ أو مرض أو غيرهما من أنواع البلايا، فإنه إذا قابل بين نعم الله عليه التي لا يُحصى لها عدٌّ ولا حساب، وبين ما أصابه من مكروه، لم يكن للمكروه نسبه)[28].

رابعاً : أعمال البر والإحسان إلى الخلق تشرح الصدر وتزيل الهَمَّ:

الإحسان إلى الناس من الأعمال التي تشرح الصدر، وتسعد القلب، وتزيل ما عَلِق به من الهَمِّ والغم، بل تُظفي على النفس الفرح والسعادة والأنس، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(البر والتقوى يبسط النفس، ويشرح الصدر، بحيث يجد الإنسان في نفسه اتساعًا وانبساطًا عما كان عليه قبل ذلك)[29]،  وقال السعدي رحمه الله(من الأسباب التي تزيل الهَمّ والغم والقلق: الإحسانُ إلى الخلق بالقول والفعل وأنواع المعروف، وبها يدفع الله عن البَرِّ والفاجر الهمومَ والغموم بحسبها، ولكن للمؤمن منها أكمل الحظ والنصيب، ويتميز بأن إحسانه صادر عن إخلاص واحتساب لثوابه، فَيُهَون الله عليه بذل المعروف لِما يرجوه من الخير)[30].

خامساً : البعد عن التوجس والتفكير والتوقع السلبي :

حث الإسلام على التفاؤل وحسن الظن والتفكير الإيجابي المثمر، والبعد عن التوقعات السلبية التي من شأنها تثبيط العزائم، والإصابة بالخيبة والخذلان. إن الثقة بالله وبموعوده، وحسن الظن به، سبب قوي لحصول السعادة وطرد الهَمّ والغم والحزن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل )أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم)[31]، قال أحد العارفين: وهذا يعني حسب درجة تفاؤلك وحُسن ظنك بالله، ستجد في الحياة من خير وبركة ووفرة ونجاح، ولذلك الإنسان كما يفكر  يُصبح، بمعنى أن الفرد يستقبل يوميًّا الكثير من الأفكار بطريقة تلقائية، وكل فكرة تترك أثرًا، لأنها كالبذور في عقل الإنسان يمكنها أن تنتج نباتًا نافعًا، ويمكنها أن تنتج نباتًا ضارًّا، عندما تكون الأفكار إيجابية تكون المشاعر هكذا، وتكون السلوكيات والعادات والطباع أيضًا إيجابية، فتشكِّل واقعًا إيجابيًّا من خلال تفكيرك وحسن ظنك ومشاعرك الإيجابية المستمرة.

سادساً : طاعة الله تجلب السرور والسعادة :

إن أغنى الغنى ، وأزكى السعادة، ومحض السرور والحبور، ما كان في طاعة الله وعبادته، وهو يتجرد من الدنيا بأسرها، وينقاد طائعاً لله، يقف بين يديه وقد امتلأ قلبه حباً وسروراً، لا يرى شيئاً أعز ولا أحب لنفسه من مناجاة خالقه، فذاك والله هو الملك والجاه، قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله(لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السرور والنعيم، إذًا لَجالدونا عليه بأسيافهم، نحن – والله – الملوك والأغنياء، نحن – والله – الذين تعجَّلنا الراحة، لا نبالي على أي حال أصبحنا أو أمسينا إذا أطعنا الله)[32]، وقال ابن حزم رحمه الله( كل أمل ظفرت به، فعقباه حزن، إما بذهابه عنك، وإما بذهابك عنه، ولا بد من أحد هذين السبيلين، إلا العمل لله عز وجل، فعقباه سرور في عاجل وآجل، أما في العاجل فقلة الهَمّ بما يهتم به الناس، وأما في الآجل فالجنة)[33]. فالعاقل لا يفتأ ولا يفتر عن طاعة وعبادة ربه، فهي مفازة الدارين.

سابعاً : ( لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) :

الدعاء والمناجاة من أقوى الأسباب التي تجلب السعادة والسرور وتدفع الهَمَّ والغم وضيق الصدر، فإن الله يفتح بالدعاء أبوابا غلقا، وصدوراً غُماً، فيونس عليه السلام قد أصابه من الهم والغم والضيق ما الله به عليم ، وهو في ظلمات ثلاث، فبدعوة من قلب منيب خالص، خرج إلى رحاب الحياة، وكساه الله من السرور والسعادة مالا يوصف، كما قال الله عز وجل( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)[34]، قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله(قوله تعالى في هذه الآية الكريمة( وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) ، يدل على أنه ما من مؤمن يصيبه الكرب والغم، فيبتهل إلى الله داعيًا بإخلاص، إلا نجَّاه الله من ذلك الغم، ولا سيما إذا دعا بدعاء يونس هذا، وقد جاء في حديث مرفوع عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دعاء يونس المذكور(لم يَدْعُ به مسلم قط إلا استجاب له)[35] ، والآية الكريمة شاهدة لهذا الحديث شهادة قوية كما ترى)[36].

ثامناً : العمل بشريعة الله يزيل القلق والهَمّ والغم :

العمل بشرع الله وأحكامه يزيل كل هَمّ وغم وقلق، إذ أنزلها الله راحة لعباده، وتسييرا لأمورهم، ولِبَث الطمأنينة والأمان في نفوسهم، قال ابن عثيمين رحمه الله(الشريعة كل أحكامها تزيل القلق والهَمّ والغم، والشريعة كلها لإزالة الهَمّ والغم عن بني آدم، حتى يبقوا فرحين مستبشرين دائمًا، وهذا كما أنه غذاء للقلب، فإنه غذاء للنفس والروح، وفي نفس الوقت غذاء للبدن، فإن البدن يتمدد وتزول عنه الآلام والأوجاع، إذا صار فرحًا مسرورًا، وإدخال السرور والفرح أمر ينتعش معه البدن، والقلب يطمئن)[37].

تاسعاً :  ذكر الله يشرح الصدر ويزيل الهَمّ ويقوي القلب

وإن مما يُسعد النفس ويشرح الصدر ويزيل الهَمّ، ذكر الله في كل الأحوال، فإنه طمأنينة للقلب، وراحة للنفس، قال العلامة السعدي رحمه الله(من أكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينته الإكثارُ من ذكر الله، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في انشراح الصدر وطمأنينته، وزوال همه وغمه، كما قال تعالى( أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[38]، وقد سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ماذا يفعل الإنسان إذا أحس بضيق في نفسه؟ فأجاب رحمه الله(ليعلم أن من أُصيب بمثل هذا ثم أكْثَرَ من ذكر الله بلسانه وقلبه، فإنه لا بد أن تتغير حاله، ويطمئن قلبه، لقول الله تعالى( أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ، لو أن الناس كثر تعلقهم بالله سبحانه وتعالى وبذكره، لزالت عنهم هذه الأمور)[39].

عاشراً :جمع الِهَّمة في عمل اليوم مما يُدْفع به الهَمّ والقلق :

جمع الهمة في العمل الحاضر، وعدم الاشتغال بالمستقبل وما يحمله، فيه تجلية للهَمّ وذهاب للغم والحزن، قال العلامة السعدي رحمه الله(مما يُدفع به الهم والقلق اجتماع الفكر كله على الاهتمام بعمل اليوم الحاضر، وقطعه عن الاهتمام في الوقت المستقبل، وعن الحزن على الوقت الماضي، فيكون العبد ابن يومه، يجمع جده واجتهاده في إصلاح يومه ووقته الحاضر)[40]، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله(الإنسان في الحقيقة له ثلاث حالات: حالة ماضية، وحالة حاضرة، وحالة مستقبلة، فالماضية: يتناساها الإنسان، وما فيها من الهموم، انتهت بما عليه، إن كانت مصيبة، فقل: اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها، وتناساها، وحال مستقبلة: علمها عند الله عز وجل، اعتمد على الله، وإذا جاءتك الأمور فاطلب لها الحل، لكن الشيء الذي أمرك الشارع بالاستعداد له، استعد له، وحال حاضرة: هي التي بإمكانك معالجتها، حاول أن تبتعد عن كل شيء يجلب الهَمّ والغم والحزن، لتكون دائمًا مستريحًا، منشرح الصدر، مقبلًا على الله عز وجل، وعلى عبادته، وعلى شؤونك الدنيوية والأخروية، وإذا جربت هذا استرحت، أما إن أتعبت نفسك بما مضى، أو بالاهتمام بالمستقبل على وجه لم يأذن به الشرع، فاعلم أنك ستتعب، ويفوتك خير كثير)[41].

الحادي عشر : الصَلاة من انفع ما يُذْهب الهَمَّ والأحزان :

نبينا صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر من الأمور ، أو كرب من الكروب، أو هَمّ أو غم، فزع إلى الصلاة، وكان يقول عليه الصلاة والسلام أرحنا يا بلال بالصلاة[42]، فالصلاة سلوة للنفس ، وانشراح للصدر، ونور للقلب، وراحة للبدن، وشفاء من كل داء وسقم، إذا أُدِّيَت كما أراد الله عز وجل، قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله(قال الله عز وجل( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)[43]، قال بعض العلماء: هذا الذي يحزنه من كلامهم قولهم له: أنت شاعر، ساحر، مجنون، هذا الذي جئت به أساطير الأولين، لا نقبل دينك، هذا الذي يؤذيه ويضيق به صدره، ويحزنه، وقد بيَّن له الله جل وعلا في آخر سورة الحجر علاج هذا الداء من هذا الذي يقولونه له فيحزنه، وبيَّن له أنه إذا أحزنه ذلك القول الذي يقولون أنه يبادر إلى الصلاة، فإن الصلاة يعينه الله بها، ويذهب عنه ذلك الحزن، كما قال( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ )[44] ،وقال له في آخر سورة الحجر( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ)[45] ، فرتَّب على ضيق صدره بما يقولون بالفاء قوله( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)[46] ، فعرفنا أن التسبيح، والصلاة، والإنابة إلى الله هو دواء ذلك الحزن والأذى، الذي يناله منهم، ولذا كان صلى الله عليه وسلم كما في حديث نعيم بن عمار كان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة)[47].

الثاني عشر : أخْرج الدَّمْعة ولا تَحْبِسها :

مما يريح القلب ويهدئ النفس إخراج الدمعة وعدم حبسها، ففي حبسها احتقان القلب، وضيق للنفس، وتوتر للبدن، لذلك كان البكاء من خشية الله، وعند الدعاء من أنفع الأدوية، فبه يسعد المرء ، وتطمئن نفسه، ويذهب عنه كل توتر وهَمّ وحزن، قال سفيان بن عيينة رحمه الله(إن الدمعة إذا خرجت، استراح القلب)[48]، فالبكاء من خشية الله تعالى يُلَين القلب ،ويذهب عنه أدرانه، والبكاء يأتي من أمور تنتاب المرء بين الفينة والأخرى، ومن حوادث شتى يتعرض لها وفي الغالب أنها تفاجئه، وهي الفرح ، والبكاء من الحزن ، والفزع ، والرياء ، والوجع ، والشكر ، وبكاء من خشية الله تعالى ، فذلك الذي تُطفِئ الدمعة منه أمثال البحور من النار.

الثالث عشر : احذر أن تنظر إلى من هو فوقك في أمور الدنيا:

من أقوى ما يجلب الهَمَّ والغم والنكد وضيق النفس والتبرم وازدراء نعم الله، النظر إلى ما في أيدي الناس من زهرة الحياة الدنيا، ومن نظر إلى من فوقه في أمور الدنيا، اعتل قلبه، وكره واقعه، وذلت نفسه، فلا هو مساير للقوم، ولا هو معايش لواقعه وراحم لنفسه، والدنيا يعطيها الله من يحب ومن لا يحب، أما الدين فلا يعطيه إلا من يحب.

وقد نهى الله عباده عن النظر فيما في أيدي الناس لعلمه جل وعلا ما لذلك من تبعات سيئة، فقال سبحانه(لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ)[49]، وقال تعالى(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[50]، قال ابن كثير رحمه الله (يقول تعالى لنبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه : لا تنظر إلى هؤلاء المترفين وأشباههم ونظرائهم ، وما فيه من النعم فإنما هو زهرة زائلة ، ونعمة حائلة ، لنختبرهم بذلك ، وقليل من عبادي الشكور)[51]، وفحوى كلامه رحمه الله، أي: لا تمد عينيك معجباً، ولا تكرر النظر مستحسناً أحوال الدنيا والممَتَّعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء الـمُجَمَّلة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، التي تُطْلِعُها الدنيا كما يُطْلِع النباتُ زهرتَه لامعةً جذابةً.

وفي النظر لما في أيدي الناس من النعم فيه مخالفة لقول الله تعالى(وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)[52]، قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله(يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تشتهوا ما فضل الله به بعضكم على بعض)[53]، وقال الشيخ السعدي رحمه الله(ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من الأمور الممكنة وغير الممكنة، فلا تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها فضلهم على النساء، ولا صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكمال تمنيا مجردا لأن هذا هو الحسد بعينه، تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك ويسلب إياها، ولأنه يقتضي السخط على قدر الله والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة التي لا يقترن بها عمل ولا كسب، وإنما المحمود أمران: أن يسعى العبد على حسب قدرته بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية، ويسأل الله تعالى من فضله، فلا يتكل على نفسه ولا على غير ربه)[54].

وكان عون بن عبد الله بن عتبة رحمه الله يقول(كنت أجالس الأغنياء، فكنت من أكثر الناس همًّا، وأكثرهم غمًّا، أرى مركبًا خيرًا من مركبي، وثوبًا خيرًا من ثوبي فأهتم، فجالست الفقراء فاسترحت)[55]، وقال العلامة السعدي رحمه الله(من أنفع الأشياء في هذا الموضع استعمال ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، حيث قال(انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألَّا تزدروا نعمة الله عليكم)[56]، فإن العبد إذا وضع نصب عينيه هذا الملحظ الجليل، رآه يفوق قطعًا كثيرًا من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال، فيزول قلقه وهمه وغمه، ويزداد سروره واغتباطه بنِعَمِ الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها)[57].

من الناس من أسهب في النظر في أحوال أهل النعم، وأرباب الدنيا ، واشتغل بهم في ليله ونهاره، حتى خالجه الحسد، وشاطره الحقد، ونتج عن ذلك تمنيه زوال تلك النعم عن أصحابها، وهذا مخالف لأمر الله ونهيه، فإن مقسم الأرزاق هو الله عز وجل ، يعطي ويمنع، وذلك لحكم جليلة لا يدركها عقل ابن آدم إلا عن علم ودراية بشريعة الله، ولا يبلغها حسد حاسد ولا نقمة ناقم، والرضا بقسمة الله سعادة الدنيا والآخرة، فلا تنظر في حال من هو فوقك إلا العلماء، ليقودك ذلك إلى طلب العلم

وأن تكون في صفوفهم، فهذا فضل وخير.

الرابع عشر : القُرْآنُ الكَريمُ دَواءٌ للهُمُوم والغُمُوم والأَحْزَان :

مما لا يشك فيه عاقل، أن القرآن الكريم شفاء بإذن الله لكل مرض حسي ومعنوي، وخصوصاً الأمراض النفسية وما يعتري النفس من بلايا ومحن، تُلْبسها لباس الهَمِّ والحزن، فلا دواء لها سوا كلام الله عز وجل، إذا تلاه المرء متدبراً آياته، موقناً بنفعه، معتقدا بأن الله جعله شفاء وهدى ورحمة ونجاة، كما قال عز وجل(إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[58]، وقال سبحانه(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)[59]، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله(هناك أمراض لا ينفع فيها الأدوية الحسية مثل الأمراض النفسية، فلا ينفع فيها إلا القراءة، وليعلم أن الذي يشك في قراءة القارئ أو في نفثه لا يستفيد)[60].

فملازمة القرآن الكريم بالقراءة والتدبر والتغني به في غير إخلال، فيه النور والهدية والعصمة من سوء الفتن، وحصن حصين من الشياطين، وشفاء وعافية لكل سقم(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)[61]، قال القرطبي رحمه الله(قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء أعلم الله أن القرآن هدى وشفاء لكل من آمن به من الشك والريب والأوجاع)[62].

وخلاصة القول فيما سبق ، أن الهَمَّ مرض تتولد منه أمراض نفسية وعصبية، قد تتحول إلى أمراض عضوية، فيما لو طال مع المرء وصار ملازما له، ويصبح من الصعب علاجه، ولو لم يكن كذلك لما تعوذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتعوذ إلا من أمر جلل(اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين، وقهر الرجال)[63].

فعلى المسلم أن يتجافى عنه ما استطاع، وأن يبتعد عن كل سبب يوصل إليه، وليتعايش مع يومه الحاضر، ولا ينظر في غياهب الماضي، ولا في معطيات المستقبل، وليفوض الأمر كله لله، وليعلم أن ما كُتب له لن يتعداه إلى غيره، وليرضى وليقتنع بما كتبه الله له، وليتيقن أن مُقامه في الدنيا قليل، وليعمل لعيشه الدائم، ونعيمه المقيم، في مستقر رحمة الرحمن، وجنة المنان، ولا ينظر لما في أكف الناس فقد يكون استدراجاً وابتلاء قد تكون معه زلة الأقدام.

وليبتعد عن الدنيا ما استطاع، فإنها والله كظل زائل أو كضيفٍ بات ليلاً فارتحل، ودار غرور ينغر بها المغرور، يذهب يومه فيذهب بعضه. ولا يأسف على ما فات ، ولا يشغل نفسه وقلبه بما هو آت، وليعش يومه، وليستزد فيه لآخرته، وليترقب رحيله في أي لحظة، وليجتهد في الأعمال الصالحة، ويسأل الله حسن الخاتمة ، فإنما الأعمال بالخواتيم(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[64].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

[1] مقتبس من بعض كلام أحد الفضلاء.

[2] سورة البقرة 2016.

[3]المكتبة الشاملة 132/135.

[4] مجمع الزوائد 8/135. ولو أن بعض أهل العلم ضعفه إلا أنه لا بأس بالاستشهاد به لبيان خطر الهم على الإنسان.

[5] سورة الأنعام 125.

[6] رواه مسلم.

[7] الطب النبوي ص 162.

[8] سورة آل عمران 139.

[9] سورة الحجر 88.

[10] سورة التوبة 40.

[11] سورة الأحقاف 13.

[12] مدارج السالكين ص 501.

[13] المكتبة الشاملة ص 99.

[14] الزهد للإمام أحمد 1/167.

[15] سورة الحديد 20.

[16] سورة الكهف 45.

[17] رواه مسلم.

[18] رواه الترمذي.

[19] رواه الترمذي.

[20] حياة السلف بين القول والعمل ص 426.

[21] سورة الأنعام 94.

[22] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.

[23] سورة الأعراف 205.

[24] سورة الأنبياء 97.

[25] اللقاء المفتوح.

[26] رواه ابن حبان.

[27] سورة الضحى 11.

[28] الوسائل المفيدة للحياة السعيدة ص 21.

[29] المكتبة الشاملة ص 88.

[30] الوسائل المفيدة للحياة السعيدة ص 16.

[31] متفق عليه.

[32] كتاب الزهد والرقائق للخطيب البغدادي ص 133.

[33] رسائل ابن حزم ص 335.

[34] سورة الأنبياء 87.

[35] رواه أحمد والترمذي.

[36] أضواء البيان في تفسير القرآن ، سورة الأنبياء.

[37] من أقوال السلف منتدى الألوكة الإلكتروني.

[38] الوسائل المفيدة للحياة السعيدة ص 21.

[39] من فتاوى نور على الدرب.

[40] الوسائل المفيدة للحياة السعيدة ص 18.

[41] المكتبة الشاملة 9/79.

[42] رواه أبو داود.

[43] سورة الأنعام 33.

[44] سورة البقرة 45.

[45] سورة الحجر 97.

[46] سورة الحجر 98.

[47] العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير تفسير الأنعام والحجر.

[48] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ص 296.

[49] سورة الحجر 88.

[50] سورة طه 131.

[51] تفسير ابن كثير ص 321.

[52] سورة النساء 32.

[53] تفسير الطبري ص 83.

[54] تفسير السعدي ص 83.

[55] كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء حديث رقم 5763.

[56] رواه البخاري ومسلم.

[57] المكتبة السنية الشاملة ص 22.

[58] سورة الإسراء 9.

[59] سورة الإسراء 82.

[60] تفسير سورة المائدة لابن عثيمين رحمه الله.

[61] سورة فصلت 44.

[62] تفسير القرطبي ص 481.

[63] رواه مسلم.

[64] سورة التوبة 105.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *