الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
فإن الدِين يحث على مكارم الأخلاق ويمقت سفاسفها، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو المثل الأسمى والقدوة العظمى في كل خُلُق كريم(وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)[1]ولما سُئلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت(كان خلقه القرآن)[2]، أي كما هو في القرآن، ويقول عليه الصلاة والسلام(إنّما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وفي رواية لأتمم صالح الأخلاق)[3].
والأخلاق في الإسلام مبادئ وأسس وقواعد، ومنظومة من السلوك الإنساني، تُكَوِّن شخصية المسلم، وتبين سلامة قلبه ونفسه من كل خُلُق ذميم، وهذه الأخلاق الكريمة يحددها الوحي الإلهي ويوجهها التوجيه السليم لتنظيم حياة الفرد والمجتمع لحياة كريمة وعيش هنيء في هذا العالم لتحقيق الغاية والهدف من الوجود في هذه الحياة.
وبلغ الإسلام بها مكانة ومرتقى عظيماً لأهله ومعتنقيه، كما قال صلى الله عليه وسلم( إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا)[4]، وجعل حسن الخُلق سببا في ازدهار الإيمان وكماله ورسوخه في قلب العبد، كما قال صلى الله عليه وسلم( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)[5].
وللخُلُق ثِقَل عظيم في ميزان العبد وصحيفته يوم القيامة، كما
قال صلى الله عليه وسلم( ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق وإن الله يبغض الفاحش البذيء)[6]، وبحسن الخُلُق يُنزل الله صاحبه منزلة عظيمة يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم( إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم).
وحسن الخُلُق جماع كل خير كما قال عليه الصلاة والسلام ( البر حسن الخلق ، واﻹثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)[7].
وقد تظافرت نصوص الكتاب والسُنة ودعت إلى التخلق بكل خُلق فاضل، وحذرت الشريعة من كل خُلُق سيء يفرق الجمع، ويؤلب القلوب، ويشحن النفوس، كما قال عزوجل
(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ* هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)[8].
إن من أعظم المصائب أن ينشأ في المجتمع جيلٌ لا يعرف للأخلاق قدراً ولا للفضيلة وزنا، يجاهر بسوء خُلُقه، ويتبجح بقبع أفعاله، قد زَيَّن له الشيطان سوء عمله فرآه حسنا، أزمة أخلاقية عصفت بالحياء والدِّين والقِيَم، ولعل الأسرة هي المسؤول الأول عن هذا التحول الخطير في جيل اليوم، فهي المحضن الذي تربى فيه الجيل واكتسبوا تربية لا ترتقي بهم لمعالي الأخلاق، وكريم الصفات، ثم يأتي المجتمع ومحاضن التعليم في المرتبة الثانية من المسئولية( كلكم راع وكلكم مسؤولٌ عن رعيته)[9].
وللعلماء من السلف والخلف أقوال حول مساوئ الأخلاق، وسيئ الخُلُق، ومن ذلك:
قال الفضيل بن عياض(لا تخالط سيئ الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى شر )وقال أيضًا(لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلى من أن يصحبني عابدٌ سيئ الخلق)[10]، وقال الحسن( من ساء خلقه عذب نفسه)، وقال يحيى بن معاذ(سوء الخلق سيئة لا تنفع معها كثرة الحسنات، وحسن الخلق حسنةٌ لا تضر معها كثرة السيئات)[11] ،وقال سعيد بن أبي أيوب( لا تُصاحب صاحب السوء فإنه قطعة من النار لا يستقيم وُدُّه ولا يفي بعهده)[12].
وإذا أُصِيبَ القومُ في أخلاقِهم ♦♦ فأقمْ عليهم مأتماً وعَوِيلاً
وإن من مساوئ الأخلاق، وقبائح الأعمال، وذميم الخصال:
الغِيْــــــــــــــــــــبَة :
والغيبة خُلُق قبيح يهدم الأعمال ،ويورث البغضاء والشحناء، ويؤلب القلوب ويُفرق الجمع ويسبب القطيعة، وقد نهى الله عنها لبشاعتها فقال عز وجل(وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا)[13]، وشبهها بأبشع التشبيه فقال جل وعلا(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) وهي محرمة بإجماع العلماء، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله(قيل : يا رسول الله ، ما الغيبة ؟ قال( ذكرك أخاك بما يكره) قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)[14]، وبعض الناس يقول الكلام الذي قلته في فلان صحيح ويظن أنه خارج دائرة الغيبة، وهذا بلا شك من الخطأ فالرسول صلى الله عليه وسلم بين في الحديث أن ذلك من الغيبة التي يأثم بها قائلها، فليكن المسلم على حذر، فالغيبة في عمومها محرمة إلا ما استثناه الشرع مما جرت به المصلحة، واقتضته الضرورة كما في الجرح والتعديل والنصيحة، وتبيان حال مجرم وظالم وتظلم وما في حكم ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر ( ائذنوا له ، بئس أخو العشيرة، ولَمَّا دَخَلَ ألَانَ له الكَلَامَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، قُلْتَ الذي قُلْتَ، ثُمَّ ألَنْتَ له الكَلَامَ؟ قالَ: أيْ عَائِشَةُ، إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَن تَرَكَهُ النَّاسُ، أوْ ودَعَهُ النَّاسُ، اتِّقَاءَ فُحْشِهِ)[15] ، وكقوله لفاطمة بنت قيس وقد خطبها معاوية وأبو الجهم ( أما معاوية فصعلوك ، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه)[16].
والغيبة فساد في الأخلاق والأعمال، تُحبط كل عمل صالح، فاكهة كل مفسد وضال، يقول ابن الجوزيِّ رحمه الله(فكم أفسدت الغيبة من أعمال الصالحين! وكم أحبطت من أجور العامِلِين! وكم جلبت من سخط ربِّ العالمين! فالغيبة فاكهة الأرذلين، وسلاح العاجزين، مُضغةٌ طالما لفظتها ألسنة المتَّقين، ونَغمةٌ طالما مجَّتها أسماع الأكرمين)[17]، فكم شوهت من سُمْعة وكم هتكت من عِرْض ، وكم قطعت من أواصر المحبة والقُرْبى، عاقبتها وخيمة في الدارين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم(لما عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس -عياذًا بالله- يخمشون وجوههم وصدروهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)[18].
واعلم يا رعاك الله أن ثلثي عذاب القبر من الغيبة والنميمة، فمن سَلِم منها فقد سَلِم، وليحرص المسلم على الذب عن أعراض إخوانه من كل قتات ومغتاب فمن ذب عن عرض أخيه حرمه الله على النار، وليزجر من يأكل لحوم إخوانه في المجالس وليذكره بعذاب الله، حتى يتلاشى هذا الداء العضال ويندحر شره عن المجتمع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم(من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)[19].
ولعمري أن هذا المرض الخبيث(مرض الغيبة) رغم التحذير المتكرر منه في الخُطب والدروس ووسائل التواصل الاجتماعي ، إلا أن فئام من الناس لا زالوا يتعاطونه في مجالسهم، ويُزين لهم الشيطان الخوض في أعراض إخوانهم، غير مكترثين لنصوص الكتاب والسُنة، وغير مبالين بالوعيد المترتب على ذلك. والعاقل من اتعظ وعاد وتاب وأقلع عن هذا الجُرم العظيم.
ألا فليتق الله كل مسلم وليصون لسانه عن أعراض إخوانه، وليصحب تقوى الله عز وجل دائماً، فكم من هوى نفس أوقع في شر ووبال ،أعقب ندماً طويلاً.
النميـــــمة :
جاء تحريم النميمة في كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع العلماء من السلف والخلف، يقول الله تبارك وتعالى( وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)[20]، ففي هذه الآيات صَوَّر الله النمام بأبشع تصوير، فهو كثير الحَلِف كذبا وزوراً، مهين لا يحترم نفسه ولا يحترم الآخرين، يفسد على الناس معايشهم بالسعي بينهم بالنميمة، مغلاق لأبواب الخير، ومفتاح لأبواب الشر، مُتعدٍ على أعراض إخوانه، آثم ظلوم، فاحش في القول، لئيم وغليظ وجاف في المعاملة، زنيمٌ أي دعيٌ ملتصق بقوم وليس منهم، وقيل الزنيم ولد الزنى كما قال العالم الزاهد عبدالله بن المبارك رحمه الله (الزنيم ولد الزنى الذي لا يكتم الحديث)[21] ، وكان يحيى بن أكثم رحمه الله يقول(أَنَمُّ الناس ولد الزنى)[22]، وقال عز وجل(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا)[23]، أي أن خيانتهما كانتا تمشيان بالنميمة ونقل أخبار زوجيهما وأسرار بيتيهما للكفار، وقال سبحانه(وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ)[24]، والهمزة النمام والطعان الذي يعيب الناس.
وجاءت السُنَّة الشريفة بتحريم النميمة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألا أنبئكم ما العضة؟ هي النَّميمة القالة بين الناس)[25]، وهذا الحديث كاف في ذم النميمة والتشنيع بأمرها، ولقد وصف النبي صلى الله عليه النمام بأشر وصف، وأبشع عمل، ومن ذلك:
أولاً : أن النمام من أشر خلق الله، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(ألا أخبركم بشراركم؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال(المَشَّاؤون بالنَّميمة، المُفَرِّقُون بين الأحبة، الباغون للبُرَآء العنت[26])[27]، وقال قتادة رحمه الله(كان يُقال: إن من شرِّ عباد الله: كلَّ طعَّان، لعَّان، نمَّام)[28] ، فهذا الصنف من الناس شر ووبال على الأمة والمجتمع ينشر العداوات، ويسبب الخصومات، ويؤلب القلوب بعضها على بعض، وصدق القائل:
جراحاتُ السِّنانٍ لها التئام ♦♦ ولا يَلتامُ ما جرَح اللسانُ
وهذا الصنف من البشر قد أبغضه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا خير فيمن أبغضه رسول الله عليه الصلاة والسلام حين قال(وإن أبغضكم إليَّ المشَّاؤون بالنَّميمة، المُفرِّقُون بين الحبة، الملتمسون للبرآء العيب)[29]، قال يحي بن أبي كثير(النمام يفسد في ساعة ما لا يفسد الساحر في شهر)[30].
ثانياً : النمام منسلخ من دينه خاسر أعماله، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال(إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة) وفي رواية (لا أقول: تحلق الشعر، ولكن أقول: تحلق الدين)[31].
تنحَّ عن النَّميمة واجتنبها * فإن النَّمَّ يُحبط كُلَّ أجر
يثير أخو النَّميمة كُلَّ شرٍّ * ويكشف للخلائق كل سِرِّ
ويقتل نفسه وسواه ظُلْمًا * وليس النَّمُّ من أفعال حرّ [32]
ثالثاً : النمام وكيل للشيطان يقوم بمهامه :
يخدم النمام الشيطان ويقوم بالمهمة عنه في التحريش بين الناس، وإيقاع الخصومات بينهم، والفرق بينهما أن الشيطان يثير الضغائن والتحريش والخصومات عن طريق الوسوسة، بينما النمام يقوم بذلك مواجهة وعلانية، فعن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(إن الشيطان قد أيِسَ أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)[33]، فالنمام هو الساعد الأيمن للشيطان يعرض عنه البضاعة الخاسرة ويتلقفها ضعاف النفوس، أصحاب البضاعة المزجاة في الدين الذين ينساقون وراءه، ويستجيبون لإفساده، فيحصل بذلك شرور كثير.
رابعاً : النَّمَّام ذو وجهين :
وهذه سِمَة ظاهرة في ذي الوجهين، إذ أنه يجلس مع أخيه يتبسط معه في الوجه، ويزين له المنطق والكلام لكسب مودته وثقته، ثم إذا ذهب عنه نقل كلامه وغير فيه وبدل إلى الآخرين بهدف الإفساد وإيقاع الخصومات والتقاطع ، وهذا النوع من الناس من أشر الخلق عند الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (تجدون الناس مَعادن[34]، خِيارُهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقهوا[35]، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدَّهم له كراهية، وتجدون شرَّ الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)[36] ،وهذا هو النفاق بعينه، فذو الوجهين يميل مع مصالحه، وتميل نفسه الخبيثة إلى الإفساد وقلب الكلام، فقد سأل أناس ابن عمر رضي الله عنهما فقالوا: إنا نَدخل على سلاطيننا فنقول لهم بخِلاف ما نتكلَّم إذا خرَجنا من عندهم، فقال ابن عمر رضي الله عنهما(كنا نعدُّ هذا نفاقًا على عهد رسول الله)[37].
وذو الوجهين خبيث القلب والنفس، متملق يثير الفتن، ويشحن النفوس، وينشر الدسائس بين المتخاصمين، فهو من شرار الناس، قال النووي رحمه الله(وهو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها ويظهر له أنه منها في خير أو شر ، وهي مداهنة محرمة)[38] ، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله(إنما كان ذو الوجهين أشرَّ الناس، لأن حاله حال المنافق، إذ هو متملِّق بالباطل وبالكَذِب، مدخلٌ للفساد بين الناس، فيَأتي كلَّ طائفة بما يُرضيها على جهة الإفساد، ويُظهر لها أنه منها ومخالفٌ لضدها، وهذا عمل النفاق والخداع، وكذبٌ وتحيُّل على أسرار الطائفتين، وهي مداهنة مُحرَّمة، فأما مَن يقصد الإصلاح بين الناس فذلك محمود، وهو أنه يأتي كلَّ طائفة بكلام فيه صلاحُ الطائفة الأخرى، ويعتذر لكل واحدة عند الأخرى، وينقل إليها من الجميل ما أمكَنه، ويستر القبيح، أما المذموم فهو بالعكس)[39]، وقال ابن عقيل(وفي قوله تعالى( كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي: مقطوعة مُمالةٌ إلى الحائط، لا تقوم بنفسها ولا هي ثابتة، إنما كانوا يَستندون إلى مَن ينصُرهم، وإلى مَن يتظاهرون به)[40].
وإذا كان ذو الوجهين بهذه الخطورة على الفرد والمجتمع، كان جزاؤه يوم القيامة أن يَجعل الله له لسانين من نار كما أخبَر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث قال(مَن كان له وجهان في الدنيا، كان له يوم القيامة لسانان من نار)[41]، وفي رواية عند ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(مَن كان ذا لسانين، جعل الله له يوم القيامة لسانين من نار)[42].
والخلاصة ، أن هذا الداء وهذا المرض له توابعه وخطورته على البلاد والعباد، فمن ابتلي به فليبادر بالتوبة الخالصة إلى الله، وليتخلص من براثنه، وليصلح ما أفسد على عباد الله، فإن العاقبة وخيمة في الدنيا والآخرة.
خامساً: النمام لك وعليك :
اعلم أيها الموفق أن من نَمَّ لك فإنه سينُم عنك مع غيرك، وهذه حقيقة لا جدال فيها، فإن النمام لا يثبت على حال، يدور مع المفسدة أينما دارت، يقول الحسن البصري رحمه الله(مَن نقل إليك حديثًا، فاعلم أنه ينقل إلى غيرك حديثك)[43] ، وقول الحسن رحمه الله فيه إشارة إلى أن النَّمَّام ينبغي بغضه ونزع الثقة منه وترك صداقته، وكيف لا يُبغَض وهو ذاك المجترئ على الغيبة والكذب، والغدر والخيانة، والغل والحسد، والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة، وهو ممَّن يسعى في قطع ما أمر الله به أن يُوصل ويفسد في الأرض؟! كما قال عز وجل( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[44]، والنَّمَّام لا يخرج عن هؤلاء عياذ بالله من ذلك.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال (إن شرَّ الناسِ مَن تركه الناس، أو وَدَعَه الناسُ، اتقاء فحشه)[45]، والنَّمَّام من أشر خلق الله، وقد صدق من قال فيه:
لا تَقْبَلنَّ نميمة بُلِّغْتَها**وتحَفَّظن من الذي أَنْبَاكَها
إن الذي أهدى إليك نميمةً**سينمُّ عنك بمثلها قد حاكها[46]
فالحذار من هذا النوع الخبيث المظهر والمخبر من البشر(النمام ذو الوجهين) فقد وصفه أهل العلم والفضل بكل صفة وضيعة فهو مُداهن متملق، مهين لئيم، منافقٌ منحطُّ الأخلاق، خبيث الطبع، فلا وازع يردعه، ولا ضمير يؤنبه، ولا خوف من الله يزجره، وذلك لأنه ينقل الأخبار الكاذبة بين الناس، فيَزيد الجفاء والنفور ويوغر الصدور، ويغرس الضغائن والأحقاد، فتشتعل نار العداوة والبغضاء بينهم، لذا فهو شر عباد الله كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه(شر عباد الله، لأنه يمشي بالنَّميمة ويفرق بين الأحبة)[47].
سادساً : النَّمَّام وعذاب القبر :
النَّمَّام يعمل في خفاء وسرية خوفاً من لوم الناس وتثريبهم عليه، فلو انكشف أمره لتصدى الناس له وكشفوا عواره ،
ولكن الله قد فضح أمره في القرآن الكريم في خشيته للناس دون خشيته من رب الناس جل وعلا، وهذا هو حال المنافقين كما قال سبحانه( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)[48]، قال ابن كثير رحمه الله(هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم ، ويجاهرون الله بها لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم)[49]، وإذا كان هذا هو حال النمام في الإفتان بين الناس ونشر العداوة والبغضاء بينهم في السِّر بعيدا عن أنظار الناس، فكذلك يخصه الله بعذاب في القبر حال نزوله فيه بعيدا عن أنظار الناس جزاء وفاقاً، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال(إنهما يعذبان، وما يُعَذَّبَان في كبير[50]، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنَّميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر[51] من بوله)[52] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا على قبرين فقام فقمنا معه، فجعل لونه يتغيَّر حتى رَعَدَ كُمُّ قميصِهِ[53] قلنا: ما لك يا رسول الله؟ فقال(أما تستمعون ما أسمع؟) فقلنا: وما ذاك يا نبي الله؟ قال(هذان رجلان يُعَذَّبَان في قبورهما عذابًا شديدًا في ذنب هين[54]، قلنا: فيم ذاك؟ قال(كان أحدهما لا يستنزه من البول، وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه، ويمشي بينهم بالنَّميمة)، فدعا بجريدتين من جرائد النخل، فجعل في كل قبر واحدة، قلنا: وهل ينفعهم ذلك؟ قال(نعم، يخفف عنهما ما دامتا رطبتين[55] )[56].
وصدق القائل حيث قال:
كم في المقابر من قتيل لسانه♦قد كان هابَ لقاءه الشجعان
والعاقل من عارض هوى نفسه والشيطان، وخاف هذا العذاب المهين، وعَمِل لما بعد الموت.
سابعاً : النَّمَّام محروم من الجنة :
من أشد الحرمان أن يُحْرم النَّمَّام دخول الجنة مع الداخلين بداية، حيث يُحَوَّل إلى النار فيعذب فيها بقدر ما اقترف من هذه الكبيرة من كبائر الذنوب التي أفسد بها أيما إفساد، ولعل ذلك يكون زجراً له فيتقي الله ويتوب قبل الممات، وينتهي عن هذا الخُلُق الذميم، ويُصْلح ما أفسد في حياة الناس، فعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(لا يدخل الْجَنَّة نمَّام)[57]، وفي رواية(لا يدخل الْجَنَّة قتَّات)[58].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله قوله(لا يدخل الْجَنَّة)، أي: في أول وهلة، كما في نظائره)[59]، وهذا التأويل موافق لمنهج أهل السُنَّة والجماعة، فهم لا يُكفِّرُون أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ ما لم يستحلَّه، بخلاف الخوارج الذين يستدلون بمثل هذه الأحاديث على تكفير مرتكب الكبيرة.
والسلف الصالح رحمهم الله ورضي عنهم، كانوا يمقتون النمام ويكرهونه، ويحذرون من هذا الخلق الذميم، ومن ذلك أن رجلاً سعى إليه برجل، فقال له علي(يا هذا، نحن نسأل عما قلت، فإن كنت صادقًا مقَتناك، وإن كنت كاذبًا عاقبناك، وإن شئتَ أن نُقيلك أقَلناك، فقال(أقِلْني يا أمير المؤمنين)[60] ، وجاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله(فذكر له عن رجلٍ شيئًا، فقال له عمر: إن شئتَ نظَرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية ( إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا )[61] ، وإن كنت صادقًا، فأنت من أهل هذه الآية( هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ)[62] ، وإن شئت عفوت عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا )[63] ، وغير هذا كثير من القصص والأقوال مما لا يتسع له المقام، ولعل فيما سبق دلالة إلى ما وراءه ، وبُلْغة للمذنب إلى التوبة والإنابة قبل مفارقة الدنيا وهجوم الأجل.
التَجَسُس :
من الأخلاق الذميمة، والصفات الرديئة خُلُق التَجَسُس ، فمن الناس من لا همّ ولا شغل له سوى تتبع عورات المسلمين، وتصيّد زلاتهم، وعَدّ أخطاءهم، يتفنن في التجسس وفضح الآخرين، والفرح بانكشاف ما ستروه، والمسارعة في إبداء ما أخفوه! دون مصلحة تتحقق، ولا مفسدة تُتَّقى، وإنما بهدف الفضيحة وهتك الأستار وإبداء العيوب والأخطاء، إما بدافع الفضول وحب الاستطلاع، أو بدافع الحسد وإرادة الانتقام، أو طمعاً في حطام الدنيا الزائل.
ومع توافر وسائل التواصل والاتصال، أصبح من السهل نشر الفضائح والأسرار وعورات الناس، وبثها في كل مكان واتجاه في وقت يسير، وهذا من الخطورة بمكان.
والتَجَسس في معناه العام هو البحث عن العورات والعيوب، وكشف ما ستره الله على عباده وستره الناس، والتفتيش عن المعايب والأسرار لنشرها بين الخلائق والإضرار بأهلها.
التَجَسُس الممنوع والتجسس المشروع :
التَجَسس الممنوع : والمقصود به أن يتتبعُ عورات الناس ويكشف أسرارهم ويظهرُ معايبهم، من غير أن يكون له غرض مباح أو منفعة راجحة أو دفع مفسدة متوقعة.
التَجَسُس المشْرُوع :
وهو ما يهدف إلى مصلحة ومنفعة راجحة كحفظ الأمن وتتبع وكشف المجرمين من المفسدين في الأرض ، وحماية البلاد والعباد، وتنقية المجتمع وتطهيره من أهل الشر والفساد،
ولذلك فرَّق العلماء بين من يتتبع العورات والزلات والمخالفات التي ضررها مقتصر على مرتكبها فهذا تجسس محرم منهي عنه، وبين من يحافظ على الأمن والاستقرار من تتبع لآثار المجرمين المنحرفين، فهناك القتل والسرقة وغيرها من الجرائم التي يباح من أجلها لأهل الاختصاص تتبعُ ومراقبة مرتكبيها حتى يحولوا بين المجرم وجريمته قبل وقوعها، وهذا معروف ولا خلاف فيه، وليس ذلك لكل أحد من الناس، وإنما لمن ولاه الله الأمر في ذلك، وهذا لا يُعَدّ من تتبع العورات، وإنما هو أمر واجب لدفع المفسدة والحفاظ على أمن العباد والبلاد.
آثار ومخاطر التَجَسُس المذموم والمحرم :
نهى الله تبارك وتعالى عن التجسس على أعراض الناس لما لذلك من آثار قبيحة على الفرد والمجتمع، ويحصل بسببه من المفاسد الشيء الكثير، ولذلك أنزل الله في ذلك آية محكمة تنهى عن هذا الخُلُق المحرم ، والجريمة العظيمة، فقال جل وعلا(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ )[64] ، قال ابن جرير رحمه الله أي( ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره) ثم نقل قول ابن عباس رضي الله عنهما قوله (نهى الله المؤمن من أن يتتبع عورات المؤمن)[65]، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التجسس، لما له من مفاسد وأضرار على المجتمع في قطع الصلات بين المؤمنين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً)[66].
والتَجَسُس دليل على ضعف الإيمان وضعف الوازع الديني وانتفاء التقوى ومراقبة المولى جل وعلا، وهو دليل على دناءة النفس وخستها، وضعف همتها، وانشغالها بالتافه من الأمور عن معاليها وغاياتها ، يقول أبو حاتم رحمه الله (التجسس من شعب النفاق، كما أن حسن الظن من شعب الإيمان)[67]، وقال المَهْدويُّ (نهى اللهُ عز وجل عن التجسسِ على أحدٍ من المُسلِمين، فينبغي أن يحسن الظَّن بالمسلمين، وأن تستر زلَّة من زَل منهم، ويوعَظ، ويُخَوف)[68] .
وللتَجَسُس أضرار ومفاسد على الدين والفرد والمجتمع، ومن ذلك:
أولاً : يولد العداوة والبغضاء والكراهية، ويقطع الصلات والروابط الأخوية.
ثانياً : بالتَجسس تُفْتَقد القدوة ، وتزول الهيبة، وتضمحل الثقة وخصوصاً في الصالحين والعلماء، بما يُنْشر عنهم مما لا يخلوا منه أحد من الناس، من التقصير والغفلة والذنب والإساءة والنسيان، فهم بشر ويعتريهم ما يعتري البشر، فَيُسِيئ المتجسس سمعتهم ويُفْقِد الناس علمهم وصلاحهم ونصحهم، وقد أحسن القائل:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها* كفى المرءَ نبلا أن تعد معايبُهْ
ثالثاً : التجسس مرض يفسد العيش، ويملأ حياة الناس ونفوسهم شكوكا وتخوفات، فلا يهنئون بعيش ،ولا يأمنون على خصوصياتهم وأسرارهم، بل حياتهم قلق ورعب لا ينتهي، فعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول(إنّك إن اتّبعتَ عوراتِ النّاس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم) فقال أبو الدرداء(كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها)[69]، وفي رواية أخرى عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(أعرضوا عن الناس، ألم تر أنك إن ابتغيت الريبة في الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم)[70].
رابعاً : التَجَسُس سبب للكراهية والبغضاء، ودافع إلى العداوة والانتقام، وهذا مرتع خصب للشيطان يتدرج بالناس حتى يوقعهم في العداوة والبغضاء والخصام والنزاع، والتَجَسُس سبيل إلى إشاعة الفاحشة بين المسلمين، وذلك بسبب نشر ما استتر من الفضائح، وإظهار الخفي من السوءات.
المجتمع المثالي :
إن المجتمع المثالي الذي يريده الإسلام، هو ذلك المجتمع الذي يرقى ويسمو فوق سفاسف الأمور، وقبائح الأفعال والأقوال وعن كل ما يوجب الضغينة، ويورث العداوة، مجتمع يبحث عن الإيجابيات، ويتسامى عن السلبيات، فيما يعود على أفراده بالخير والترابط والألفة، ولذلك توعّد الله تعالى ذلك الصَلِف الذي يَفْرح وتُسَرّ نفسه بظهور عورات المسلمين بالعذاب الأليم، فقال عز من قائل( إنَّ الذِينَ يُحِبّونَ أن تشِيعَ الفاحِشة فِي الذِينَ آمَنوا لهُمْ عَذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرة )[71]، قال ابن كثير رحمه الله(أي : يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح ، ( لهم عذاب أليم في الدنيا ) أي : بالحد ، وفي الآخرة بالعذاب)[72]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم(لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ، ولا تطلبوا عوراتهم ، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم ، طلب الله عورته ، حتى يفضحه في بيته)[73].
وللتجسس على حرمات الناس صورا متعددة نذكر بعضها للحذر منها والتوقي من شرها ونتائجها الوخيمة، ومنها:
أولاً : التجسس على بيوت الناس وخصوصياتهم :
مرض خبيث ابتلي به كثير من الناس، حيث يمارس التجسس على الناس في منازلهم وبيوتهم، ليتكشف عوراتهم وسوءاتهم، سواء بالاستماع من وراء الأبواب والنوافذ، أو بالنظر فوق الأسطح، أو بالدخول في البيوت على حين غفلة من أهلها، أو باستئذان لغرض كاذب تافه كشرب الماء مثلاً والمقصود غيرُ ذلك، وكل ذلك من قبائح الأفعال التي نهى الله عنها ورسوله.
والله جل وعلا شرع الاستئذان قبل الدخول على الناس ، حمايةً لخصوصياتهم، وحفظاً لأسرارهم وعوراتهم، فقال عز وجل( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ)[74]، قال الشيخ السعدي رحمه الله(يرشد الباري عباده المؤمنين، أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم بغير استئذان، فإن في ذلك عدة مفاسد: منها ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال( إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) فبسبب الإخلال به، يقع البصر على العورات التي داخل البيوت، فإن البيت للإنسان في ستر عورة ما وراءه، بمنزلة الثوب في ستر عورة جسده.
ومنها: أن ذلك يوجب الريبة من الداخل، ويتهم بالشر سرقة أو غيرها، لأن الدخول خفية، يدل على الشر، ومنع الله المؤمنين من دخول غير بيوتهم حَتَّى يَسْتَأْنِسُوا أي: يستأذنوا، سمي الاستئذان استئناسا، لأن به يحصل الاستئناس، وبعدمه تحصل الوحشة، { وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } وصفة ذلك، ما جاء في الحديث( السلام عليكم، أأدخل)؟{ ذَلِكُمْ } أي: الاستئذان المذكور { خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } لاشتماله على عدة مصالح، وهو من مكارم الأخلاق الواجبة، فإن أذن، دخل المستأذن)[75].
وقد ظهرت الحكمة من الاستئذان في فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه حيث قال( اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ(لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ البَصَر)[76]، أي حتى لا يقع بصرُ الطارقِ على ما لا يريد أهل ذلك البيت أن يراه أحد.
ثانياً : الاستماع إلى كلام الناس خفية منهم :
وهذا من التعدي والامتهان وفيه وعيد شديد وعذاب أليم من الله جل وعلا، فإن من يستمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، فقد وقع في عذاب الله ونقمته، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(…وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ، صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ[77] يَوْمَ القِيَامَةِ)[78].
والعاقل يتورع عن هذه الأخلاق الرذيلة، ويحفظ حقوق إخوانه وخصوصياتهم، ويتسامى عن حقاير الأمور، ولا يخالف هدي الله وهدي رسوله عليه الصلاة والسلام، يقول الإمام أبو حاتم ابن حبان رحمه الله (الواجبُ على العاقلِ لزومُ السلامةِ بتركِ التجسّس على عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسِه، فإنّ مَن اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره، أراح بدنه ولم يُتعب قلبه، فكلما اطلع على عيبٍ لنفسِه، هانَ عليه ما يَرَى مثله مِن أخيه، وإنّ مَن اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه، عَمِيَ قلبُه، وتعِبَ بدنه، وتعذَّرَ عليه تركُ عيوب نفسِه، وإنّ مِن أَعْجَزِ الناس مَن عابَ الناس بما فيهم، وأعجزُ منه من عابهم بما فيه، ومَن عاب الناس عابوه)[79].
لا تلتمسْ من مساوي الناس ما سَتروا*فيهتك الناسُ سترا من مساويكا
واذكرْ محاسِنَ ما فيهم إذا ذُكِروا*ولا تعِبْ أحدا عيبا بما فيكا
ثالثاً : التجسس على الناس وتصويرهم خِلْسَة :
من صور التجسس المحرم، تصوير الناس في بيوتهم، أو أحواشهم، أو منتزهاتهم، أو أعمالهم، أو في المناسبات والأعراس والحدائق وخصوصا عند النساء خلسة وخفية دون علمهم ، وهذا من التعدي على خصوصياتهم، وهذا بلا شك أمر محرم قد اشتمل على محظورات عدة، ومنها:
أولاً : أن ذلك يعتبر من التعدي على حدود الله ، كما قال تعالى( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) .
ثانياً : فيه تلصص على العورات وهو محرم ، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ ، فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ )[80].
ثالثاً : فيه هتك لحُرمة المسلم وكرامته، واستباحة لعرضه، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ )[81].
رابعاً : في تصوير الناس دون علمهم وإذنهم خيانة للأمانة ونشر للعورات، وخيانة الأمانات محرم بالكتاب والسُنة، كما قال عز وجل(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)[82] ، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ )[83].
خامساً : في التصوير دون علم أو سماح، أذية للمؤمنين والمؤمنات ، وقد توعد الله تعالى من آذى المؤمنين والمؤمنات بغير جرم منهم اكتسبوه بقوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً )[84] ،قال الشيخ السعدي رحمه الله(بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أي بغير جناية منهم موجبة للأذى (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً) حيث آذوهم بغير سبب (وَإِثْماً مُبِيناً) حيث تعدوا عليهم ، وانتهكوا حرمة أمر الله باحترامها)[85] .
سادساً : إذا كان التصوير على جار وعلى بيته وأهله وخصوصيته، فإن الجُرْم والأذية تعظم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ( لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ[86] )[87]، وفي رواية(واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ. قيلَ: ومَن يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: الذي لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوايِقَهُ)[88].
سابعاً : في التصوير خِلْسَة تشبه بالمنافقين الذين كانوا يتعرضون للمؤمنين والمؤمنات ، فتوعدهم الله عز وجل بقوله( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ[89] بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا )[90]، ولم تذكر الآية الفعل الذي قاموا به ليكون ذلك أشمل وأعم ما توسوس لهم أنفسهم وتدعو إليه من الشر والذي بسبِّ الإسلام وأهله ، والإرجاف بالمسلمين ، وتوهين قواهم ، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة ، وغير ذلك من المعاصي الصادرة من أمثال هؤلاء[91] .
ثامناً : مخالفة الشرع الذي أوجب الاستئذان قبل دخول البيوت ، قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )[92].
تاسعاً : إذا احتفظ المصور خلسة بالصور كان ذلك من الإصرار على المعصية وانتهاك حرمات الله ، فتكون التوبة بعيدة عن صاحب المعصية ، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما (لا كَبِيرَة مَعَ اِسْتِغْفَارٍ، وَلا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار)[93]، ومعنى كلامه رحمه الله، أَنَّ الْكَبِيرَة تُمْحَى بِالاسْتِغْفَارِ ، وَالصَّغِيرَة تَصِير كَبِيرَة بِالإِصْرَارِ، وقال ابن القيم رحمه الله(الإصرار على الصغيرة : قد يساوي إثمه إثم الكبيرة، أو يُربِي عليها)[94].
عاشراً : وإذا قام المختلس بنشر ما اختلسه من الصور لعباد الله، كان مجاهرة بالذنب الذي اقترفه ، فيكون بعيداً عن رحمة الله وعفوه ومغفرته، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَيَقُولَ : يَا فُلانُ ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا ! وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ)[95].
فليكن المسلم على حذر تام من هذا الداء الخبيث وهو التصوير خلسة وأذية عباد الله، وليبتعد عما يُغضب الله وينتهك حُرماته، ليلقى الله تعالى وهو راض عنه، ويسلم من حقوق عباد الله فإنها سُم قاتل.
الكَذِبْ :
الكذب صفة ذميمة انصرفت بصاحبها عن طريق الاستقامة، ومادت به إلى بحر الفجُور، فالكذب يضم الشَّر كله، فما من صفة ذميمة إلا والكذب لها خطام أو زمام، والكذب طريقه قصير يوصل الكذاب إلى النار والعياذ بالله، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذبَ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتَحرَّى الكَذِب حتى يكتب عند الله كذابًا)[96] ، وهذه الصفة الخبيثة حبلها قصير سرعان ما يوقع صاحبه في الفضيحة، وينشر له بين الناس مهنة الكذب، فلا يُقبَل منه قول، ولا تؤخذ منه ثقة، والطامة الكبر عندما يُرفع له في السماء عند الملأ الأعلى
أنه كذاب.
والكذب يحدو بصاحبه إلى براثن النفاق العملي، ويدخله في عداد المنافقين متخلق بأخلاقهم، وذلك بأن يخالف ظاهره باطنه، وسره علنه، وقوله فعله، وكل ذلك موجود في الكذَّاب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)[97].
جزاء الكذَّاب :
للكذاب عقوبة معجلة في الدنيا، وعقوبة مؤجلة في البرزخ ويوم الحشر، فأما عقوبة الدنيا فكراهية الناس له وعدم تصديقه والثقة به، وانسداد أبواب التوفيق في وجهه، وعاش عيشة النكد والضنك والضيق، وأما في البرزخ فعقوبته وردت في الحديث الطويل الذي رواه سمرة بن جندب رضي الله عنه ، وفيه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى صلاةً أقبل علينا بوجهه، فقال(من رأى منكم الليلة رؤيا؟) قال: فإن رأى أحدٌ قصَّها، فيقول: ما شاء الله، فَسَألنا يومًا، فقال(هل رأى أحد منكم رؤيا؟) قلنا: لا، قال(لكني رأيت الليلة رجلين (جبريل وميكائيل في صورة رجلين)، أتَيَاني، فأخذَا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدَّسة، فإذا رجلٌ جالسٌ، ورجلٌ قائمٌ بيده كَلُّوبٌ من حديد، يُدْخل ذلك الكَلُّوبَ في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا، فيعود فيصنع مثله(قال النبي صلى الله عليه وسلم) قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ، فأخبراني عما رأيت، قالا: نعَم، أما الذي رأيتَه يشق شدقه فكذَّاب، يحدث بالْكَذْبَةِ فتُحْمَل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة)[98].
ويوم القيامة يلقى الله وهو عليه غضبان، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من حلف على يمين كاذبًا، ليقتطع مال رجل – أو قال: أخيه – لقي الله، وهو عليه غضبان)[99] ، وهذه هي عقوبة اليمين الغموس وسميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في جهنم والعياذ بالله.
ومما يجر إلى الكذب مما شاع وانتشر اليوم بين الباعة إلا من رحم الله، وهو إنفاق المبيع بالحلف الكاذب، ويُظهر المبيع بخلاف الواقع تزييفا وكذبا، فيصدقه المشتري ويشتري ثقة في حَلِف البائع الكذاب، فهذا وإن أنفق سلعته بالحلف الكاذب، فقد محق الله بركة ما يأخذ فيها، ولن ينتفع به مع ما ينتظره عند الله من العقوبة، فعَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سَمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(الحلف منفقة للسلعة، ممحَقة للبركةِ)[100].
التربية بالكذب :
وهذا النوع من التربية فاشل بكل المقاييس، إذ يعمد كثير من الأباء والأمهات، والمربين والمربيات، والمعلمين والمعلمات إلى الكذب على الناشئة، ويطلبون منهم ذلك إما للتسلية والضحك، وإما لتلافي أمور قد تحصل، كقولهم إذا سأل أحد عن شخص (قل: هو غير موجود أو نائم)، أو حينما يَعِدون الصغار بشيءٍ ثم لا يفون بذلك، فيجمعون بين الكذب وبين تربية الناشئة على الكذب، فمتى يستقيم الظل والعود أعوَجُ؟!
فليتنبه هؤلاء إلى خطر التربية إذا انصرفت عن الجادة، وانطبع ذلك في عقول وقلوب الناشئة، فسينشئون عليه في حياتهم ويتربون ويُربون غيرهم عليه.
أقبح وأشنع الكذب :
إن من أشنع الكذب وأقبحه، الكذب على الله ورسوله، والقول على الله ورسوله بلا علم، والاجتراء على الفتيا بغير علم وإضلال الناس، فالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على غيره، والكذب عليه افتراء دين جديد لم يأذن به الله، والإحداث في الدين ما ليس منه، وقد حرم الله ذلك في كتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وجعله قرين الشرك بالله، كما قال عز وجل ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[101]، وعن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول(إن كذبًا عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار)[102].
ومن الناس من ينسب كل ما سمعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يشعر، حيث يتبادر إلى ذهنه أن ذلك من هديه والأمر ليس كذلك، فليس كل ما سمعه الإنسان وارد عن النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يكون ضعيفاً أو غير صحيح، ومن الناس بدافع العاطفة والمحبة وحُب الخير، ينشر أحاديث وروايات عبر وسائل التواصل وهي واهنة أو ضعيفة أو منكرة وموضوعة، وهذا ما لاحظناه يحدث كثيراً، والواجب التثبت والتمحيص والروية وعدم العجلة في النشر ، فالناس يأخذون ويُطبقون على أن ما وصلهم صحيحاً وهو خلاف ذلك.
استثناء بداعي المصلحة والضرورة :
من الكذب ما يكون جائزاً بدافع المصلحة الراجحة، والضرورة المتحتمة، ومن ذلك:
أولاً : في الإصلاح بين الناس :
والإصلاح بين الناس من أعظم القربات إلى الله تعالى، إذ أن فيه نبذ الخلاف والفرقة والتقاطع بين الناس ، وخصوصاً بين الأقارب والأرحام، وقد حث الإسلام على هذا المبدأ العظيم، كما قال الله عز وجل( لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[103]، قال الشيخ السعدي رحمه الله(أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه. ثم استثنى تعالى فقال( إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ) من مال أو علم أو أي نفع كان، ( أَوْ مَعْرُوفٍ ْ) وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه، { أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ْ} والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض)[104]، وقال عز وجل( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ)[105] والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله.
ومن أجل ذلك تسامح الشرع في الكذب من أجل الإصلاح، فعن أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ: أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ(لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا)[106]، وعند الإمام مسلم ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ (وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا)[107]، فالكذب من أجل الإصلاح مفسدة صُغرى، ولكنها تنغمر في جانب مصلحة كُبرى وهي إصلاح ذات البين، وجمع القلوب، ودفع التقاطع والتدابر بين المسلمين، فهنا يجوز الكذب كأن يقول لأحد المتخاصمين عن خصمه ، إن فلان يذكرك بالخير ويمتدحك في فعل الخير ويدعو لك، ومثل هذه العبارات، ويقول للآخر مثل ما قال للأول، من أجل تليين النفوس وتهيئتها لقبول الإصلاح.
وفي هذا العمل جمع للقلوب، ونبذ للفرقة والخلاف، وفيه أجر عظيم من الله للساعي في ذلك.
ثانياً : في الحرب :
وفي الحرب أيضاً يستساغ الكذب، شريطة ألا ينتقض به عهد، ولا يتم به غدر، ولا يُخل به أمان، لأن (الحرب خدعة)[108] كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا احتيج إلى الكذب في الحرب بما تتحقق به المصلحة وتُنتفى المفسدة فلا بأس بذلك.
ثالثاً : كذب الزوج على زوجته أو العكس :
وليس هذا على إطلاقه ، فليس كل كذب بينهما يسوغ استعماله، يقول الإمام النووي رحمه الله (وأما كذبه لزوجته، وكذبها له، فالمراد به في إظهار الود والوعد بما لا يلزم، فأما المخادعة في منع ما عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها، فهو حرام بإجماع المسلمين)[109]، ويقول ابن حزم رحمه الله (ولا بأس بكذب أحد الزوجين للآخر فيما يستجلب به المودة)[110]، ويقول محمود الإستانبولي (وأرى أن جواز الكذب هنا بين الزوجين يكون في تظاهر كل منهما بالحب، في حال عدم ميل أحدهما للآخر، ولعل هذا الميل المتصنع ينقلب إلى حب حقيقي بعد ذلك، وما عدا ذلك فينبغي أن يسود الصدق بينهما، وإلا زالت الثقة التي تتعذر الحياة الزوجية بدونها)[111].
والتعريض والتورية أولى من الكذب فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال(أَمَا في المعاريض ما يكفي المسلم الكذبَ؟)[112] ، وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال(إن في معاريض الكلام[113] لمندوحة[114] عن الكذب)[115]، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال(ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم)[116]، ويقول ابن الجوزي رحمه الله عند قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام( … بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا… )[117] المعاريض لا تُذمُّ، خصوصًا إذا احتيج إليها)[118]، والتعريض يكون لمصلحة شرعية تستدعي ذلك ويكون صدقا لا كذبا.
فهذه الأحوال الثلاثة يجوز الكذب فيها بما تتحقق به المصلحة وتُنتفى المفسدة، وما عداها فهو كذب محض لا يجوز العمل به، والمسلم دائما يتخلق بخلق الصدق في جميع أحواله، فهو مرآة العبد ونجاته في الدنيا والآخرة(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[119].
الإِفْسَاد :
خُلُق ذميم، وعمل قبيح، لا يصدر إلا من قليل الدين وضعيف الإيمان، يحمل نفساً خبيثة، وقلباً مريضاً مظلماً، لا يهنأ بعيش ، ولا يرتاح له بال وهو يرى من حوله في ستر الله ونعمته، يستجلب النقم، ويتسبب في رفع النعم عن البلاد والعباد، يرى في الإفساد راحة ومندوحة، ويسعد بإفساد الود بين الأخ وأخيه، وبين الزوج وزوجته، وبين الجار وجاره، وبين الابن وأبيه، متناسياً نظر الله وغضبه ونقمته.
والإفساد: هو تغيير الشيء من حاله المحمود إلى حال سيئ، يقول أبو البقاء الحنفي( الإفساد هو جعل الشيء فاسدًا خارجًا عمَّا ينبغي أن يكون عليه، وعن كونه مُنتفعًا به، والإفساد في الحقيقة: إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح)[120].
وقد نفى الله محبته عن الإفساد والمفسدين، وعدم رضاه عنهم في مواضع من كتابه الكريم فقال عز وجل( وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ )[121] ، وقال تعالى( وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[122] ، وقال سبحانه( إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[123]، ولا خير فيمن خسر محبة خالقه جل وعلا.
والفساد والإفساد كلمتان تدلان على جوانب عده من معناهما، وهذا الذي دلت عليه كثير من نصوص الكتاب والسُنة، وهذه الجوانب هي :
أولاً : الكفر بالله جل وعلا :
كما في قوله تعالى(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[124] فإفسادهم في الأرض: باستدعائهم إلى الكفر، والترغيب فيه، وحمل الناس عليه، وتعويقهم وصدّهم للنَّاس عن الإيمان، والاستهزاء بالحقِّ، وقطع الوُصل التي بها نظام العالم وصلاحه[125]، وقوله عز شأنه(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ)[126]، أي: من هؤلاء الذين بُعثتَ إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن، ويتَّبِعُك وينتفع بما أُرسلت به،( وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) بل يموت على ذلك ويبعث عليه،( وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي: المكذِّبين المصرِّين على كفرهم، ولفظ الآية يشمل جميع أهل الكفر[127]، وقال تعالى(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[128] أي: بالكفر والظلم، )بعد إصلاحها( بإقامة الشرائع وظهور العدل، فلفظ الفساد هنا يعمُّ دقيق الفساد وجليله[129].
ثانياً : النفاق :
والنفاق رأس كل بَلِيَّة فهو الفساد بعينه، وما دب النفاق في قوم إلا أفسد عليهم معايشهم، وقطع وصالهم، وفرَّق جمعهم، ولقد أظهر الله كيد المنافقين وفسادهم في الأرض، وبَيَّن خُبث سرائرهم في كتابه الكريم، فقال جل وعلا (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ)[130]، وذلك أن من أخلاقهم وصفاتهم إذا قال لهم أهل التقوى والصلاح( لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ) بالمعاصي والفساد والطغيان على أهل الإسلام والإيمان، وتهييج الحروب والفتن، وإظهار الهرج والمرج والمحن، وإفشاء أسرار المسلمين إلى أعدائهم الكافرين، ( قَالُوا ) في جوابهم الخبيث( إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) فيسمون الفساد إصلاحاً تحريفاً للكَلِم عن مواضعه، ينفون عن حالهم وفعلهم الفساد، وهو عين الإفساد ،وهم في الحقيقة مفسدون، قال صاحب البحر المديد(فلا تصحُّ مخاطبتنا بذلك، فإن من شأننا الإصلاح والإرشاد، وحالنا خالص من شوائب الفساد، فردّ الله عليهم ما ادَّعوه من الانتظام في سلك المصلحين بأبلغ ردّ، من وجوه الاستئناف الذي في الجملة، والاستفتاح بالتنبيه، والتأكيد بإن وضمير الفعل، وتعريف الخبر، والتعبير بنفي الشعور، إذ لو شعروا أدنى شعور لتحقَّقوا أنهم مفسدون)[131].
ثالثاً : المعاصي :
والمعاصي داء عضال ينخر في كيان الأمة والمجتمع، ويجلب البلايا والنقم والنكبات، ويذهب بالنعم. والمعاصي من أعظم معاول الفساد والإفساد في الأرض، وقد نهى الله عنها وحرمها في كتابه الكريم، فقال عز وجل( وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[132] أي: لا تفسدوا في الأرض بالمعاصي الموجبة لفساد العالم بالقحط والفتن، بعد إصلاحها بالخصب والأمان، بما يحقِّق منافع الخلق ومصالح المكلَّفين، فالنهي هنا عامّ يشمل كلَّ فساد قلَّ أو كَثُر، ومن أنواعه: إفساد النفوس والأنساب والأموال والعقول والأديان[133]، وفي الآية فائدة عظيمة وهي أن إقامة الشرائع وظهور الدِّين من علامة إصلاح الأرض وبهجتها وخصبها وعافيتها، وترك الشرائع وظهور المعاصي من علامة فساد الأرض وخرابها[134].
وقال سبحانه(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[135]، قال الإمام الطبري رحمه الله( وإفسادهم في الأرض: عملهم بمعاصي الله، وتهييج الفتن)[136]، وقال عز وجل( تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[137] أي: عملاً بالمعاصي، قال ابن كثير رحمه الله( لا يريدون علوا في الأرض ) تعظما وتجبرا ، ( ولا فسادا ) : عملا بالمعاصي)[138].
رابعاً : المُنْكَر :
ومن ذلك قوله تعالى( فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ)[139]، قال ابن كثير رحمه الله(فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض، وقوله : ( إلا قليلا ) أي : قد وجد منهم من هذا الضرب قليل ، لم يكونوا كثيرا ، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غيره ، وفجأة نقمه; ولهذا أمر تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، كما قال تعالى( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )[140]، ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب)[141].
خامساً : فساد البر والبحر :
فساد البر والبحر بما في ذلك الهواء والماء والمزروعات والثمرات، وانتشار الأمراض والعلل بها، وضعف الانتفاع بها، وقلة الأمطار، وانتفاء البركة، وكثرة الجدب والقحط، بسبب ما اقترفت أيدي بني آدم على اليابسة والماء من المعاصي والآثام، التي اكتوى بلظاها الأخضر واليابس والعجماوات في البر والبحر، وقد نبأنا الله بهذا الفساد في كتابه الكريم في قوله تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[142]، قال الإمام الطبري رحمه الله(ظهرت المعاصي في برّ الأرض وبحرها بكسب أيدي الناس ما نهاهم الله عنه)[143] وفساد البرّ خرابه، وغور مياهه، وقلَّة نباته، وقلة أمطاره، وكثرة السباع العادية والحشرات المؤذية فيه، وكثرة الحرق والغرق، ومحق البركات وكثرة المضار، أمَّا فساد البحر: فبكثرة الرياح القاصفة، وكثرة الغرق، وقلة السلامة، وانقطاع الصيد، وكلا الفسادين بشؤم ما كسبت أيدي الناس من المعاصي والذنوب[144].
ولا سلامة للبلاد والعباد من ذلك إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والكف عن اجترار المعاصي والذنوب، ومخالفة أمر الله ونهيه، فإن تابو وأقلعوا فإن رحمة الله قريب من عباده(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[145]، قال ابن كثير رحمه الله(هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها ، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر)[146].
فليحذر المسلم من الذنوب والمعاصي فإنها شر وفساد كلها، وليكثر من التوبة والاستغفار فإنها جلاء لأكدار المعاصي ودخنها، فالمخالفة تجلب النقم والبلايا، كما قال عز وجل(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[147].
سادساً : فساد الضمائر :
ضمير الإنسان حقيقة هو قلبه الذي ينبض بالحياة، بل الإنسان
حقيقة هو القلب، فجسد لا قلب فيه، لا حياة فيه، والإنسان بلا قلب يُعتبر في عداد الموتى ولو كان يمشي على الأرض، ولذلك جاء التعبير عن القلب بالضمير لأن القلب مكان للخواطر، فما اتصف به القلب وما حوى فاض على الأعضاء، فَحُق له أن يُسمى ملك الأعضاء وهي جنوده المجندة، تعمل بما يمليه عليها القلب، فإذا فسد هذا القلب وامتلأ ظلمة وضلالاً، فسدت الأعضاء كلها والجسد وانبعثت منها القبائح من الأقوال والأفعال، ولذلك اهتم الدين بصلاح القلب ونقائه من الشوائب، وجعل القلب السليم هو محط قبول الأعمال، ومعين الخير، وقارب النجاة في الدنيا ولآخرة، فعن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(..ألاَ وَإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألاَ وَهِيَ القَلْبُ)[148]، فصلاح المرء مرهون بصلاح قلبه، واستقامة جوارحه مرهونة باستقامة قلبه.
ولذلك جاء في المعجم الوسيط أن الضمير هو(استعداد نَفسِي لإدراك الْخَبيث وَالطّيب من الْأَعْمَال والأقوال والأفكار، والتفرقة بَينهَا، واستحسان الْحسن واستقباح الْقَبِيح مِنْهَا)[149]، وهذا كله مكمنه القلب، وإذا مات الضمير ماتت معه كل المبادئ والأخلاق ، ومات العقل ، وذهبت الرحمة، وغابت الحكمة.
فهنيئاً لمن حمل ضميراً يقِضاً ،وقلبا حياً، خالياً من براثن الفساد، عرف الآخرة فقدر لها قدرها، وعرف الدنيا فلم يحمل همها، فهذا ضمير وقلب قد وقر فيه حب الله ورسوله فحمله ذلك على الطاعة والانقياد.
سابعاً : مَعَاوِل الفساد والإفساد :
أولاً : الاستجابة لوساوس الشيطان واتباع طُرقه :
لا يشك أحد في عداوة الشيطان وذريته لبني آدم، وهذا متأصل فيه منذ أن عصى الله في السجود لآدم، وقد أخبر الله عباده وحذرهم من عداوة الشيطان لهم(يا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا)[150]، وقال عز وجل(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[151] وأخذ عدو الله على نفسه إفساد العباد بالتزيين والإغواء والإغراء، فأوقعهم في الفواحش والمنكرات إلَّا من عصم الله تعالى من عباده المخلَصين، وقد حذَّر الله عبادَه منِ اتِّبَاع الشيطان وطاعته، والوقوع في شباكه، فقال تعالى(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ )[152] ، وقال سبحانه( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)[153]، فالمعاصي والذنوب ومخالفات الشرع المطهر، هي من خطوات الشيطان، لأنَّها عمل من أعماله وأثر من آثار إغوائه وتزيينه، ومن يتبع طرائق الشيطان ومسالكه وما يأمر به يفعل الفحشاء والمنكر، لأنَّ الشيطان يأمر النَّاس بفعلهما، والسوء والفحشاء: هو ما أنكره العقل واستقبحه الشرع، والعطف بينهما لاختلاف الوصفين، فإنَّه سوء لاغتمام العاقل به فهو يسوء صاحبَه بسوء عواقبه، وفحشاء باستقباحه إيَّاه، أمَّا المنكر: فهو ما تنكره الشَّريعة وينكره أهلُ الخير[154].
ومنه قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ)[155] أي: إنَّ رجوع أهل النِّفاق إلى الكفر، وارتكابهم لقبائح الأفعال والأحوال، بعد ظهور الدلائل الواضحة، والمعجزات القاهرة، إنَّما كان بسبب اتِّباعهم لوساوس الشيطان وإغواءاته، حيث سهَّل لهم ركوبَ العظائم، واقترافَ الكبائر، والسّول: هو الاسترخاء، أي: أَرْخى لهم العنانَ، حتى جرَّهم إلى مُراده، ومدَّ لهم في الآمال والأماني[156].
ولذلك ينبغي للمسلم أن يبتعد عن خطوات الشيطان كم حذره
الله، ولا ينخدع بما يزينه الشيطان له من المُتَع الزائلة، التي تذهب لذتها وتبقى مآسيها، وليلزم الكتاب والسُنة وسيرة السلف الصالح ففي ذلك النجاة والسلامة من الشيطان وشَرَكه، وكذلك ذكر الله والتحصنات اليومية والمحافظة على الصلوات كل ذلك
حصن حصين ودرع متين من كيد إبليس وذريته.
ثانياً : اتباع الهوى :
اتباع الهوى والشهوات من أعظم معاول الفساد والإفساد، فأكثر المفاسد إنما سببها اتباع الهوى والشهوة مع ضعف في العلم والفقه في الدين، ولقد بين الله في كتابه الكريم أن اتباع الهوى يوصل المرء إلى بحر الضلال والتيه والتخبط في الحياة فقال عز وجل( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)[157]، قال الإمام الطبري رحمه الله(معنى ذلك: أفرأيت من اتخذ دينه بهواه, فلا يهوى شيئا إلا ركبه, لأنه لا يؤمن بالله, ولا يحرِّم ما حَرَّمَ, ولا يحلل ما حَللَ, إنما دينه ما هويته نفسه يعمل به)[158].
واتباع الهوى يقود صاحبه إلى إضلال غيره، وينشر الضلال بين الناس، كم قال تعالى( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ)[159] أي: إن كثيراً منَ الكفار المجادلين في المطاعم وغيرها ليُضلون أتباعهم بالتحريم والتحليل، من غير علم منهم بصحَّة ما يقولون، ولا برهان عندهم بما فيه يجادلون، إنما ركوباً منهم لأهوائهم، واتباعاً لشهواتهم، وطاعة لشيطانهم[160]،
وقال عز وجل( بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)[161] ، وقال سبحانه( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)[162] ، وكل ذلك منشئه اتباع الهوى والشهوات أوقع أهله في الضلال والإضلال بلا هدى ولا علم.
والعاقل لا يحكم الهوى في أمور دنياه وآخرته ،بل يحكم الشرع وما جاء به الكتاب والسنة، وهذا هو سبيل الصالحون من العباد.
ثالثاً : التقليد الأعمى :
التقليد في عمومه غير مُحَبذ عند العقلاء، فكيف إذا كان التقليد على غير هدى من الله ولا بصيرة من علم، فالمفسدون في الأرض يستدلون على فسادهم بأنهم على ما كان عليه أسلافهم من الآباء والأجداد، دون تَعقُل وتبصر بفساد ما كان عليه أولئك الأسلاف، إنما هو التقليد الأعمى دون أي بيّنة أو دليل، كما قال تعالى( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)[163] ، وقوله عز وجل( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)[164] ، بل تجاوزت أقوالهم إلى الافتراء والكذب على الله بأنه هو الذي أمرهم بشنيع أفعالهم، كما قال تعالى( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ )[165](تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا) ، فالله تعالى لا يأمر إلا بمحاسن الأمور ومكارم الأخلاق من الأقوال والأعمال، قال البيضاوي( وقد جرت عادة الله سبحانه وتعالى أن لا يأمر عباده إلَّا بمحاسن الأفعال ومكارم الخلال)[166].
ونجد في زماننا من يسلك المسار نفسه بتقليد من لا خلاق لهم والتشبه بهم في أقوالهم وأفعالهم، والسير على منهجهم دون تبصر بسوء ما يفعلون، وما ذاك إلا تقليد أعمى، واتباع للهوى، ونكوص عن المنهج القويم، ولو تخلى أحدهم عن الهوى والتقليد الأعمى ، لاكتشف حقيقة ما يفعل، وسوء ما يرتكب، ولزدرى نفسه وبكى على خطيئته، فليحذر المسلم من هذا المرض الفتاك، وليكن عنده شخصية المسلم الحق في منهجه وتصرفاته،
ليكون قدوة حية لإخوانه ومجتمعه، وعضوا فعالاً في الخير.
رابعاً : الغِنَى :
من أشد معاول الفساد والإفساد، كثرة المال والغِنى، إن لم يكن عند أصحابها تقوى الله وخشيته، فستكون من أعظم عوامل الطغيان والفساد ، وما قصة قارون بغائبة عن الأذهان ولا سيما أنها من أشهر قصص القرآن الكريم، فقد أخبرنا الله في كتابه عن غناه الفاحش وكثرة الأموال عنده، حيث دفعه غناه إلى الطغيان والبغي والتكبر على عباد الله، كما حكى الله عنه بقوله تعالى( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ)[167]، ومع كثرة النصح والتذكير له من قومه بشنيع ما يفعل ( وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[168]، قال ابن كثير رحمه الله( أي: لا تكنْ همتك وقصدك بما أنت فيه من نِعَم الدُّنيا أن تفسد به الأرض، بالظلم والبغي وإنفاق المال في المعاصي والإساءة إلى خلق الله، فهذه الأفعال لا يحبُّها الله ولا يرضى عن فاعليها)[169]،
والله تعالى قد بين أن الإنسان محل طغيان بالمال والغِنى والاستغناء بعرض الدنيا وزينتها، وأنه سيعتريه الشر والبطر والغرور بنعم الله عليه، وينسى حق الله عليه تجاهها، كما قال سبحانه( كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى)[170]، قال الإمام البغوي رحمه الله( أي: حقًّا إِنَّ الإنْسَانَ ليتجاوز حدَّه ويستكبر على ربِّه لرؤية نفسه مستغنياً)[171]، وقال بن عاشور رحمه الله( وعلَّة هذا الخُلق: أنَّ المُستغني تُحدِّثُه نفسُه بأنَّه غير محتاج إلى غيره، وأنَّ غيره محتاج إليه، فيرى نفسَه أعظم من أهل الحاجة، ولا يزال ذلك التوهُّم يربو في نفسه حتى يصير خُلقاً، حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح، فيطغى على النَّاس، لشعوره بأنَّه لا يخاف بأسهم، لأنَّ له ما يدفع به الاعتداء عن نفسه، من سلاحٍ وخدمٍ وأعوان، ومنتفعين بماله من شركاء وعُمَّال وأُجراء، فهو في عزَّة عند نفسه)[172].
ومعاول الفساد والإفساد كثيرة جدا، وقد أوردنا أهمها وأكثرها خطرا على أصحابها، وفيها دلالة على غيرها، ليكون المسلم على حذر منها وهو في سيره إلى الله والدار الآخرة، ويكفي أهل الفساد نكاية أن الله لا يحبهم، ومن لا يحبه الله، فهو الشقي في دنياه وآخرته، ومن عاد وتاب تاب الله عليه.
فعلى المسلم أن يبتعد عن الفساد وأهله، ولا يتبع سبيلهم، حفاظا على دينه وإيمانه، كما قال موسى عليه السلام لأخيه هارون(وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)[173].
الرَّشْوة :
من مساوئ الأخلاق، وخبيث الفعال، خُلُق الرشوة الذي استطار شرره في هذه الأزمنة المتأخرة، وفي ذلك دلالة على ضعف الإيمان، وخلو القلب من العلم والتقوى، وقلة الخشية. والرّشوة كبيرةٌ من كبائر الذنوب، وصاحبُها آخذاً كان أو معطياً أو وسيطاً، إذا لم يتبْ منها فهو على خطر عظيم، ويكفيه عقوبةً لعْنُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم له بأن يُطرد من رحمة الله، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال(لَعَن رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم الرَّاشي والمرتشي)[174]، وفي أثر(والرائش) وهو الوسيط بين الراشي والمرتشين كلهم في الإثم سواء.
وللرشوة أثر سلبي وسيئ على الفرد والمجتمع، وفيها فساد كبير للأعمال والأموال وضياع الحقوق، وتنتشر بها الأحقاد والبغضاء بين أفراد المجتمع، وقد تصل إلى القتل تشفياً من المرتشي الذي أضاع الحقوق، ناهيك عن الفساد الإداري الذي يحصل بسببها ، فتتعطل المصالح، ويتعثر سير التنمية في المجتمع، وبالرِّشوة تُسلب الأمَّةُ أمنَها الحسيَّ والمعنويَّ، وتنتشر بين أفرادها البلايا
والمفسدات والمخاطر، فليس عند المرتشي وَرَع عن أخذ ما يوفر به الشر والبلاء للبلاد والعباد.
أسماء وصور التمويه والتدليس :
يُسَمي أقطاب الرشوة الثلاثة( الراشي والمرتشي والرائش) الرشوة بأسماء مختلفة للتلبيس على الناس لاستحلالها، وإيهام الناس أنها لا شيء فيها، فتارة يُلبسونها لباس الهدية، وتارة بلباس الأتعاب، وتارة بلباس الخدمة، وأياً كان الاسم أو الصورة ، فهي في الأصل والمضمون رشوة محرمة، لأنها تُحق الباطل وتُبطل الحق، وتُعطي الراشي ما لا يحق له، وتُمكنه مما لا يسوغ له، فكلُّ مال سواء كان نقدًا أم عينًا، أم منفعة أم تسهيلات، أم خصومات خاصَّة تُدفع لِمَن يُمَكِّن الراشي مما ليس له مباشرة، أو بواسطة طَرَف آخر، فهو رشوة وسُحت وحرام.
هَدَايا العُمَّال:
وهم المكلفون بأعمال ويأخذون عليها رواتب من بيت المال،ومنهم من تضعف نفسه أمام المال فيأخذون الرشوة باسم الهدية، أو العطية، أو الأتعاب، مقابل عمل يمكنون الراشي من خلاله بما لا يحق له، وفي هذا فساد كبير وإهدار لمقدرات البلاد والعباد، وهذا من الغلول الذي يحرم عليهم أخذه، فعن بريدةَ رضي الله عنه عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: (مَن استعملناه على عملٍ فرزقناه رِزْقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)[175]، فالهدية مقابل عمل يُنجز لأحد الناس تُعد من الرشوة المحرمة، وقد أُثِر أن العالم الزاهد والخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه اشتهى شيئاً من التفاح، فلم يجد في بيته ما يشتري به، فركب راحلته وخرج، فتلقَّاه غُلمان الدِّير بأطباق تفَّاح، فتناول واحدة فشمَّها ثمَّ ردَّ الأطباق، فقل له بعض من معه في ذلك فقال(لا حاجةَ لي فيه، فقالوا: ألم يكن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وأبو بكر وعمر يَقبلون الهديَّة؟ فقال: إنَّها لأولئك هديَّة، وهي للعمَّال بعدَهم رِشوة)[176].
والمقصود ، أن الرشوة وباء وبلاء وذنب كبير يجب على كل مسلم حريص على دينه وإيمانه ورضاء ربه، أن يبتعد عنها، ويُطهر نفسه وماله وأهله من دخنها، وأن يحرص على المال والكسب الحلال، وأن يجنب مجتمعه شرر العقوبات والنقمات، وأن يُنكر هذا المنكر العظيم، ويُؤخذ على يد المرتشي الخالي من القِيَم والمبادئ والأخلاق الفاضلة، وان تُبَلغ عنه الجهات المسئولة للأخذ على يده وكف شره عن المجتمع، كما قال عزوجل( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[177]، قال الإمام الطبري رحمه الله(يعني : ولا يعن بعضكم بعضا على الإثم , يعني : على ترك ما أمركم الله بفعله( والعدوان) يقول : ولا على أن تتجاوزوا ما حد الله لكم في دينكم , وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم)[178].
الحَسَــــد :
لم يبق منبر دعوي أو اجتماعي، ولا قناة من قنوات التواصل إلا وتحدثت عن هذا المرض الفتاك، الذي يفتك بالنفوس والأبدان والأعمال، ويذهب بالأخضر واليابس، وتَحُل معه البلايا والأمراض والنكبات، ولا زال مستشرياً في جسد الأمة والمجتمع ينفث سمومه في الأجساد والأموال، ولا يخلو منه جسد كما قيل: ما خلا جسد من حسد، لكنّ اللّئيم يبديه، والكريم يخفيه.
والحسد في أصله وماهيته ثوَران النفس لغير الحق، وحقد دفين في الصدور، وغلٌّ كامن في دواخل النفس، ولؤم مستور في القلب، كلها سهام مصوَّبة نحو الكرم، والنبل، والشهامة، والفضيلة، والنجاح، والعلم، التي تستحيل على الحاسد أن ينالها، أو يرقى إلى محاسنها، أو يتحلَّى ببعض صفاتها.
ولا شك أن الحسد خُلُق سيئ، وصفة قبيحة، لا يتلبس بها إلا ضعيف دين، ومضمحل إيمان، لا يعبأ بحياة الناس ولا بما يحدث لهم من مآسي ومصائب بسببه، والحاسد عدو النجاح، يُحَمِّل الآخرين نتائج فشله وعثراته في الحياة، يعتصر قلبه ألماً وبغضاً عندما يرى نعمة أنعمها الله على أحد من المسلمين، فلا يترك سبيلاً للإضرار بصاحب النعمة إلا سلكه، ولا أذى إلا فعله، ولا شراً إلا نفثه، أعمى بصر وبصيرة، لا تؤثر فيه طاعة، ولا تُلين قلبه عبادة، حسناته وأعماله تذهب إلى سجل المحسود، لا يجني منها سوى العناء والتعب.
قال ابن رجب رحمه الله( الحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل)[179]، وقال معاوية رضي الله عنه(كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها)[180]، وقد صدق القائل:
كل العداوات قد تُرجى إماتتها*إلا عداوة من عاداك عن حسد
الحَاسِد عَدُو النِّعْمَة :
لن تجد عدوا للنعم أشد من الحاسد، وقد بارز الله بالعداوة من عدة أوجه :
الأول : أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره.
الثاني : أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول ربي لما قسمت هذه القسمة.
الثالث : أنه ضَادَّ الله بفعله أي أن فضل الله يؤتيه من يشاء وهو يبخل بفضل الله تبارك وتعالى.
الرابع : أنه خذل أولياء الله أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم وهذا من الخذلان.
الخامس : أنه أعان عدوه إبليس.
فالحاسد ممقوت ومنبوذ في المجالس وإن ضحك الناس له وجاملوا، فلا ينال معهم إلا الندامة، ولا يحظى عند الملائكة إلا بالغضب والمقت، حياته نكد وشتات وتيه في الأرض وغم وجزع، ولا ينال في الآخرة إلا مقتاً من الله وبُعداً، قد تضاد الإيمان والحسد في قلبه فلا يجتمعان، قال النبي صلى الله عليه وسلم( لا يجتمع في جوف عبد مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم ولا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد)[181]، وقال عبد الله ابن مسعود: (لا تعادوا نعم الله. قيل له ومن يعادي نعم الله، قال: الذين يحسدون الناس على ماآتاهم الله من فضله يقول الله تعالى في بعض الكتب: (الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راضٍ بقسمتي…..)[182].
أيا حاسدًا لي على نعمتي * أتدري على مَنْ أسأت الأدبْ؟
أسأت على الله في حُكمه * لأنك لم ترضَ لي ما وهبْ
فأخزاك ربي بأن زادني * وسَدَّ عليك وجوه الطلب
ادْفَع شَر الحَاسِد :
قال ابن القيم رحمه الله ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعدة أمور:
الأول : التعوذ بالله من شره، والتحصن واللجأ إليه.
الثاني : تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، قال تعالى( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)[183].
الثالث : الصبر على عدوه، وألا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلًا.
الرابع : التوكل على الله، فمن توكل على الله فهو حسبه.
الخامس : الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه في خواطر نفسه.
السادس : تجريد التوبة من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه.
السابع : الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإن لذلك تأثيرًا في دفع العين وشر الحاسد.
الثامن : وهو من أصعب الأسباب، إطفاء نار الحاسد بالإحسان إليه.
التاسع : تجريد التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، الذي أزِمَّة الأمور بيده سبحانه[184].
والمقصود ، أن خُلُق الحسد خُلق ذميم، وصفة قبيحة يجب على المسلم تجنبها، استجابة لأمر الله ورسوله، وبعداً عن مشابهة عدو الله إبليس، لكي يعيش المجتمع حالة من الأمن والسلامة من البلايا والمحن وضنك العيش، والأمراض والعلل.
اللَّعْن :
انتشر هذا الخُلُق الذميم بين الناس، الكبير والصغير ،والذكر والأنثى، كانتشار النار في الهشيم، وما ذاك إلا لضعف الوازع الديني والإيمان والتقوى في قلوب الكثيرين، وغياب القدوة الصالحة بداية من الوالدين ونهاية بالمجتمع، فالأبناء ينشئون على ما عليه الوالدين، فإن كان الأب والأم كثيري اللعن في كل شاردة وواردة، استنسخ الأبناء هذا الخُلُق السيئ، وأصبح خُلُق ينتقل من جيل إلى جيل، فيا ليت الوالدان والمجتمع يُدركون هذه الحقيقة المُرة.
واللَّعْن في حقيقته ومعناه هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهي في مفهومها دعوة تُطلق في لحظة غضب يغيب عن الوالدين فيها أنهم يطردون فلذات الأكباد عن رحمة الله وفضله، فيا لله ما أتعس الآباء والأمهات حين يطيب لهم طرد أبناءهم من فضل الله ورحمته، وهي دعوة تُصيب ولا سيما إذا وافقت ساعة استجابة، وكذلك لعن المسلمين بعضهم بعضا، وطردهم لإخوانهم عن رحمة الله، جراء نزوة نفس، واستجابة للهوى والغضب والشيطان، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد سَرَّح ناقةً لعنتها صاحبتها فلم يعد لها فيها حق، فكيف بلعن الولد أو أحد المسلمين، فعن عمران بن حصين رحمه الله قال(يْنَما رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ في بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَامْرَأَةٌ مِنَ الأنْصَارِ علَى نَاقَةٍ، فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا، فَسَمِعَ ذلكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَقالَ: خُذُوا ما عَلَيْهَا وَدَعُوهَا، فإنَّهَا مَلْعُونَةٌ. قالَ عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَرَاهَا الآنَ تَمْشِي في النَّاسِ، ما يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ. وفي رواية: قالَ عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهَا، نَاقَةً وَرْقَاءَ. وفي رواية: فَقالَ: خُذُوا ما عَلَيْهَا وَأَعْرُوهَا، فإنَّهَا مَلْعُونَةٌ)[185].
أحْكَام اللَّعْن :
جعل الشرع المطهر للَّعْن أحكاماً شرعية ليرجع الناس إليها، ويسيرون على مضامينها، ومن هذه الأحكام :
أولاً : حكم الوجوب :
هذا الحكم يكون بين الزوج وزوجته ،وذلك عندما يقوم الزوج بقذف زوجته، ويحصل منها الإنكار والنفي، فيقومان بالتلاعن فيما بينهما، كما قال تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)[186]، وصفته أن يبدأ الزوج فيقول أربع مرات(أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنى) يشير إليها إن كانت حاضرة، ويسميها إن كانت غائبة، ثم يزيد في الخامسة(أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ) ،
ثم تقول الزوجة أربعاً(أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى) ثم تزيد في الخامسة(أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ).
ثانياً : حُكْم الحَرَام :
وفيه يَحرم اللَّعْن ، وذلك حين يلعن إنسان إنساناً دون مبرر، أو جراء حسد وحقد وبغضاء، وهو كبيرة من كبائر الذنوب، قال النبي صلى الله عليه وسلم( لعن المؤمن كقتله)[187]، وقال عليه الصلاة والسلام( إن اللَّعَانِين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)[188] ، وقال عليه الصلاة والسلام(سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)[189] ، والمقصود ، أن يبتعد المسلم عن هذه الصفة الخبيثة، ويترفع بلسانه عن تعاطيها ، وأن يكون قدوة صالحة لأهل بيته ومجتمعه، فإن نصف الدعوة إلى الله إن لم تكن كلها هو القدوة الصالحة في القول والعمل، كما قال عز وجل(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)[190]، وقال سبحانه(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[191].
ثالثاً : حُكْم الجَواز :
وهذا الحكم يكون اللَّعْن فيه على العموم دون التخصيص إلا فيما نص عليه الدليل، كلعن الظالمين، ولعن الكافرين، ولعن اليهود والنصارى، كما قال عز وجل(أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[192]، وقوله تعالى(فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)[193]، وقوله عليه الصلاة والسلام(لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)[194]، وقال ابن مفلح (ويجوز لعن الكفار عامة)[195].
أما لعن المُعَيَّن ، كلعن فلان بعينه فلا يجوز قال ابن عثيمين رحمه الله(الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم ؛ فالأول (لعن المعين) ممنوع ، والثاني (لعن أهل المعاصي على سبيل العموم) جائز ، فإذا رأيت محدثا ، فلا تقل لعنك الله ، بل قل : لعنة الله على من آوى محدثا ، على سبيل العموم ، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صار يلعن أناسا من المشركين من أهل الجاهلية بقوله : (اللهم ! العن فلانا وفلانا وفلانا ) نهي عن ذلك بقوله تعالى : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون )[196] .
أخطار اللَّعَن :
1 من أخطار اللَّعن أنه يعود على اللاعن إذا كان ظلماً، فعن ابن عباس رضي الله عنهما(أن رجلًا نازعته الريح رداءه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلعنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم(لا تلعن الريح، فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئًا ليس له بأهل، رجعت اللعنة عليه)[197]، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم(إن العبد إذا لعن شيئًا، صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينًا وشمالًا، فإذا لم تجد مساغًا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان لذلك أهلًا، وإلا رجعت إلى قائلها)[198]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(إن اللعنة إذا وجهت إلى من وجهت إليه، فإن أصابت عليه سبيلًا أوجدت مسلكًا، وإلا قالت: يا رب، وُجِّهت إلى فلان، فلم أجد فيه مسلكًا، ولم أجد عليه سبيلًا، فيقال لها: ارجعي حيث جئت)[199].
2 لِخَصْلَة اللَّعْن الخبيثة أثر مباشر خطير على الإيمان، وتنفي الإيمان عمن يقترفها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(ليس المؤمن بالطَّعَّان، ولا اللَّعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء)[200]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(لا يكون المؤمن لَعَّانًا)[201]، ولذلك حريٌ بالمرء أن يحافظ على إيمانه من أي مؤثر سلبي يخرجه عن مساره، ويوبق صاحبه دنيا وآخرة.
الصادقون لا يتصفون بصفة اللَّعْن :
المؤمن الصادق ليس باللَّعَان ولا الفاحش البذيء، إنما يقترف معصية اللَّعْن من خلا قلبه من الإيمان، وجانب لسانه الصدق، فعن
أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(لا ينبغي لصِدِّيقٍ أن يكون لعَّانًا)[202].
3 اللَّعَان لا يكون شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة :
اللَّعَان محروم من الشفاعة والشهادة يوم لقاء الله، وهذا أمر خطير جداً، حري بكل مسلم أن يبتعد عن هذه الخصلة الذميمة، فعن
أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يكون اللَّعَّانون شُفعاء، ولا شُهداء يوم القيامة)[203]، وفي رواية(إنَّ اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)[204].
سوء عاقبة اللَّعْن :
لا يأتي من هذا الخُلُق الذميم(اللَّعْن) إلا كل أمر سوء، وعاقبته وخيمة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا هلاك الأنفس والأموال والأسرة ودعوة بالطرد من الرحمة الله، وفي الآخرة غضب الرحمن وحلول العذاب.
يذكر السيوطي في ترجمته للزمخشري، قال(لما دخل الزمخشري بغدادَ اجتمع بالدامغاني الفقيه فسأله عن قطع رجله فقال له: دعاء الوالدة، وذلك أني في صبايَ أمسكتُ عصفورًا وربطتُه بخيطٍ في رجله، وأفلتَ من يدي فأدركتُه وقد دخل في خرقٍ فجذبتُه فانقطعتْ رجلُه في الخيط، فتألَّمتْ والدتي لذلك وقالتْ: قطعَ اللهُ رجلَك كما قطعتَ رجلَه، فلما وصلتُ إلى سنِّ الطلب ارتحلتُ إلى بخارى، فسقطتُ عن الدابة، فانكسرتْ رجلي، وعملتْ على عملٍ أوجبَ قطعها)[205]، فانظر كيف وقعت الدعوة في وقت إجابة فأصابت، فالعاقل الحصيف لا يستعجل الغضب ويتصرف تصرفاً تكون معه الندامة والحسرة، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم(لا تدعوا على أنفسِكم، ولا تدعوا على أولادِكم، ولا تدعوا على خدمِكُم، ولا تدعوا على أموالِكُم، لا تُوافقُوا من اللهِ تعالى ساعة نيْلٍ فيها عطاء فيستجيب لكم)[206].
[1] سورة القلم 4.
[2] رواه أحمد وصححه الألباني.
[3] رواه أحمد وصححه الألباني.
[4]رواه البخاري
[5] رواه الحاكم في المستدرك على شرط مسلم.
[6] رواه أبو داود وأحمد والترمذي بسند صحيح.
[7] رواه مسلم.
[8] سورة القلم 10-13.
[9] رواه البخاري ومسلم.
[10] روضة العقلاء 64-65.
[11] إحياء علوم الدين 3/57.
[12] روضة العقلاء ص 166.
[13] سورة الحجرات 12.
[14] رواه مسلم وأبو داود.
[15] رواه البخاري.
[16] رواه مسلم.
[17] التذكرة لابن الجوزي ص 124.
[18] صحيح الترغيب للألباني.
[19] رواه الترمذي وأحمد.
[20] سورة القلم 10-13.
[21] إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 7/561.
[22] مساوئ الأخلاق للخرائطي ص 96.
[23] سورة التحريم 10.
[24] سورة الهمزة 1.
[25] رواه مسلم.
[26] (الباغون للبرآء العنت) وفي رواية(الباغون للبرآء العيب) أي: الطالبون العيوب القبيحة للشرفاء، المُنزَّهُون عن الفواحش.
[27] رواه أحمد.
[28] تنبيه الغافلين ص 135.
[29] رواه الطبراني وحسنه الألباني.
[30] رواه البيهقي في شعب الإيمان 13/447.
[31] رواه الترمذي وأبو داود.
[32] موارد الضمآن 3/385.
[33] رواه مسلم.
[34] معادن: أي ذوي أصول ينسبون إليها ويتفاخرون بها.
[35] فَقِهُوا: بضم القاف ويجوز كسرها؛ أي: علموا الأحكام الشرعية.
[36] رواه البخاري ومسلم.
[37] رواه البخاري.
[38] شرح مسلم 156/16.
[39] فتح الباري 10/ 475.
[40] المكتبة الشاملة 132/294.
[41] رواه البخاري وأبو داود وصححه الألباني.
[42] صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
[43] تنبيه الغافلين ص 130.
[44] سورة الشورى 42.
[45] رواه البخاري ومسلم.
[46] موارد الظمآن للسلمان 3/ 386.
[47] رواه أحمد.
[48] سورة النساء 108.
[49] تفسير ابن كثير ص 96.
[50] وما يعذبان في كبير؛ أي: كبير في زعمهما، وقيل: كبير تركه عليهما. (قاله القسطلاَّني)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلى) أي: نعَم، إنه كبير من جهة المعصية.
[51] (لا يستتر): أي لا يجعل بينه وبين بوله ساتر، يعنى: لا يتحرز من البول، فتوافق رواية: (لا يستنزه)، لأنها من التنزُّه، وهو الإبعاد.
[52] رواه البخاريومسلم.
[53] رَعَدَ كُمُّ قميصِهِ: أصابته رِعدة ورعشة.
[54] في ذنب هين؛ أي: هين عندهما وفي ظنِّهما، لا أنه هيِّن في نفس الأمر، وقد تقدَّم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما(بلى إنه كبير) وقد أجمعت الأمة على تحريم النميمة، وأنها من أعظم الذنوب عند الله تعالى.
[55] رطبتين: أي فيهما خضرة ونداوة.
[56] رواه ابن حبان.
[57] رواه البخاري ومسلم.
[58] والقتَّات والنَّمَّام بمعنى واحد، وقيل: النَّمَّام الذي يكون مع جماعة يتحدَّثُون حديثًا فينم عليهم، والقتَّات: الذي يتسمَّع عليهم، وهم لا يعلمون، ثم يَنِمُّ.
[59] فتح الباري10/473.
[60] إحياء علوم الدين 3/ 209.
[61] سورة الحجرات 6.
[62] سور القلم 11.
[63] إحياء علوم الدين 3/208.
[64] سورة الحجرات 12.
[65] تفسير الطبري ص 517.
[66] رواه البخاري ومسلم.
[67] روضة العقلاء 1/126.
[68] الآداب الشرعية 1/35-36.
[69] رواه أبو داود وابن حبان وصححه الألباني.
[70] رواه البخاري في الأدب المفرد.
[71] سورة النور 19.
[72] تفسير ابن كثير ص 351.
[73] رواه أبو داود وصححه الألباني.
[74] سورة النور 27.
[75] تفسير السعدي ص 352.
[76] رواه البخاري.
[77] الآنك: الرَّصاص المُذاب.
[78] رواه البخاري.
[79] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص 125.
[80] رواه الترمذي وحسنه الألباني.
[81] رواه مسلم.
[82] سورة الأنفال 27.
[83] رواه أحمد وصححه الألباني.
[84] سورة الأحزاب 58.
[85] تفسير السعدي ص 1120.
[86] أَيْ دَوَاهِيَهُ، وَالْمُرَادُ الشُّرُورُ كَالظُّلْمِ وَالْغِشِّ وَالْإِيذَاءِ .
[87] رواه مسلم.
[88] رواه البخاري.
[89] لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ: أي نأمرك بعقوبتهم وقتالهم ، ونسلطك عليهم .
[90] سورة الأحزاب 60-61.
[91] ينظر تفسير السعدي رحمه الله ص 1121.
[92] سورة النور 27.
[93] شرح النووي لمسلم2/ 86 .
[94] إغاثة اللهفان 2/151 .
[95] متفق عليه.
[96] رواه مسلم.
[97] رواه البخاري ومسلم.
[98] رواه البخاري.
[99] رواه البخاري ومسلم.
[100] رواه البخاري ومسلم.
[101] سورة الأعراف 33.
[102] رواه البخاري ومسلم.
[103] سورة النساء 114.
[104] تفسير السعدي ص 97.
[105] سورة النساء 128.
[106] رواه البخاري.
[107] رواه مسلم.
[108] رواه البخاري.
[109] شرح مسلم5 /465.
[110] المحلى 10 /75.
[111] تحفة العروس ص 188.
[112] رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
[113] المعاريض: من (التعرض)، وهو كلام له وجهان: من صدق وكذب، أو ظاهر وباطن.
[114] مندوحة: أي: فسحة ومتسع، ومعنى الحديث(إن في المعاريض من الاتساع ما يغني عن الكذب).
[115] رواه البخاري.
[116] إغاثة اللهفان 1 /381.
[117] سورة الأنبياء 63.
[118] زاد المسير في علم التفسير 3/196.
[119] سورة التوبة 119.
[120] الكليات ص 154.
[121] سورة البقرة 205.
[122] سورة المائدة 64.
[123] سورة القصص 77.
[124] سورة البقرة 27.
[125] ينظر تفسير ابن عطية 1 99و تفسير القرطبي : 247.
[126] سورة يونس 40.
[127] ينظر تفسير الطبري 15/94و تفسير ابن كثير 4/ 270.
[128] سورة الأعراف 85.
[129] ينظر الجامع لأحكام القرآن 7/ 248.
[130] سورة البقرة 11-12.
[131] البحر المديد لابن عجيبة 1/ 51.
[132] سورة الأعراف 56.
[133] ينظر تفسير البغوي 3/ 238.
[134] ينظر البحر المديد 2/518.
[135] سورة الرعد 25.
[136] تفسير الطبري 16: 428.
[137] سورة القصص 83.
[138] تفسير ابن كثير ص 395.
[139] سورة هود 116.
[140] سورة آل عمران 104.
[141] تفسير ابن كثير ص 234.
[142] سورة الروم 41.
[143] تفسير الطبري ص 408.
[144] ينظر المحرر الوجيز 4/ 394و الجامع لأحكام القرآن 14/ 41 .
[145] سورة الزمر 53.
[146] تفسير ابن كثير ص 464.
[147] سورة النور 63.
[148] رواه البخاري ومسلم.
[149] المعجم الوسيط 1/544.
[150] سورة الأعراف 27.
[151] سورة فاطر 6.
[152] سورة البقرة 168-169.
[153] سورة النور 21.
[154] ينظر انظر تفسير القرطبي 2/ 208 – 210و تفسير ابن كثير 1/479.
[155] سورة محمد 25.
[156] ينظر تفسير ابن عجيبة 7/173.
[157] سورة الجاثية 23.
[158] تفسير الطبري ص 501.
[159] سورة الأنعام 119.
[160] ينظر تفسير أبي حيان 4/ 214.
[161] سورة الروم 29.
[162] سورة محمد14.
[163] سورة البقرة 170.
[164] سورة المائدة 104.
[165] سورة الأعراف 28.
[166] تفسير البيضاوي 3/ 15.
[167] سورة القصص 76.
[168] سورة القصص 77.
[169] تفسير ابن كثير 6/254.
[170] سورة العلق 6.
[171] تفسير البغوي 8 / 479.
[172] التحرير والتنوير 30/ 444 – 445.
[173] سورة الأعراف 142.
[174] رواه الإمام أحمد بسند حسن.
[175] رواه أبو داود والحاكم بسند صحيح.
[176] رواه ابن سعد 5/377.
[177] سورة المائدة 2.
[178] تفسير الطبري ص 106.
[179] جامع العلوم والحكم، ص ٢٦٠-263.
[180] موسوعة الأخلاق الإسلامية 2/221.
[181] رواه النسائي وصححه الألباني.
[182] مختصر منهاج القاصدين ص 185.
[183] سورة آل عمران 120.
[184] التفسير القيم لابن القيم ص ٥٨٥.
[185] رواه مسلم.
[186] سورة النور 6-9.
[187] متفق عليه.
[188] رواه مسلم.
[189] متفق عليه.
[190] سورة الأنعام 90.
[191] سورة الأحزاب 21.
[192] سورة هود 18.
[193] سورة البقرة 89.
[194] رواه البخاري ومسلم.
[195] الآداب الشرعية 1/203 .
[196] القول المفيد 1/226.
[197] رواه أبو داود والترمذي.
[198] رواه أبو داود.
[199] رواه أحمد.
[200] رواه الترمذي.
[201] رواه البخاري والترمذي.
[202] رواه مسلم.
[203] رواه مسلم وأحمد.
[204] رواه مسلم.
[205] تحفة الأديب في نحاة مغني اللبيب 1/ 378.
[206] رواه أبو داود.