الشرح الممتع على زاد المستقنع للشيخ/ محمد بن عثيمين

 بابُ الآنية
قوله: «باب» الباب: هو ما يُدخَلُ منه إلى الشَّيء، والعُلماء رحمهم الله تعالى يضعون: كتاباً، وباباً، وفصلاً.
فالكتاب: عبارة عن جملة أبواب تدخل تحت جنس واحد، والباب نوع من ذلك الجنس كما نقول: «حَبٌّ» فيشمل الشعيرَ، والذُّرةَ، والرُّزَّ، لكنَّ الشعير شيءٌ، والرُّز
شيءٌ آخر.
فمثلاً: كتاب الطَّهارة يشمل كلَّ جنس يصدق عليه أنه طهارة، أو يتعلَّق بها.
لكن الأبواب أنواع من ذلك الجنس، كباب المياه، وباب الوُضُوء، وباب الغسل ونحو ذلك.
أما الفصول: فهي عبارة عن مسائل تتميَّز عن غيرها ببعض الأشياء، إِما بشروط أو تفصيلات.
وأحياناً يُفَصِّلون الباب لطول مسائله، لا لأن بعضها له حكمٌ خاصٌّ، ولكن لطول المسائل يكتبون فصولاً.
قوله: «الآنية»، جمع إِناء، وهو الوعاء، وذكرها المؤلِّفُ هنا، وإِن كان لها صلة في باب الأطعمة ـ لأن الأطعمة لا تؤكل إِلا بأوانٍ ـ لأنَّ لها صلة في باب المياه، فإِن

الماء جوهر سيَّال لا يمكن حفظه إلا بإِناء؛ ولذلك ذكروا باب الآنية بعد باب المياه، ومعلوم أنَّ من الأنسب إِذَا كان للشيء مناسبتان أن يُذكرَ في المناسبة الأولى
ويُحَالُ عليه في الثَّانية؛ لأنَّه إِذا أُخِّرَإِلى المناسبة الثَّانية فاتت فائدتُه في المناسبة الأولى، لكن إِذا قُدِّم في المناسبة الأولى؛ لم تَفُتْ فائدته في المناسبة الثانية اكتفاءً بما تقدَّم.
والأصل في الآنية الحِلُّ، لأنها داخلة في عموم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ومنه الآنية؛ لأنها مما خُلِقَ في الأرض، لكن
إِذا كان فيها شيء يوجب تحريمها، كما لو اتُّخذت على صورة حيوان مثلاً فهنا تحرم، لا لأنها آنية، ولكن لأنها صارت على صورة محرَّمةٍ.
والدَّليل من السُّنَّة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وما سَكَتَ عنه فهو عَفْوٌ» رواه الحاكم 2/375.
وقوله أيضاً: «إن الله فَرَض فرائض فلا تضيِّعوها، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها» رواه الطبراني في الكبير 22/589.
فيكون الأصل فيما سَكَتَ اللَّهُ عنه الحِلَّ إِلا في العبادات،فالأصل فيها التَّحريم؛ لأن العبادة طريقٌ موصلٌ إلى الله عزّ وجل، فإذا لم نعلم أن الله وضعه طريقاً إليه حَرُمَ علينا أن نتَّخذه طريقاً، وقد دلَّت الآيات والأحاديث على
أن العبادات موقوفةٌ على الشَّرع.
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، فدلَّ على أن ما يَدينُ العبد به ربَّه لا بُدَّ أن يكون الله أَذِنَ به.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إيَّاكم ومحدثات الأمور، فإِن كُلَّ بدعةٍ ضلالة» رواه أحمد 4/126.
ولا فرق في إِباحة الآنية بين أن تكونَ الأواني صغيرةً أو كبيرةً، فالصَّغير والكبير مباح، قال تعالى عن نبيه سليمان صلّى الله عليه وسلّم: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ
مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13].
الجَفْنَة: تشبه الصَّحفة. وقوله: «وقُدورٍ راسيات» لا تُحْمل لأنَّها كبيرة، راسية لكثرة ما يُطبخ فيها، فتبقى على مكانها، ولكن إذا خرج ذلك إلى حدِّ الإِسراف صار
محرَّماً لغيره، وهو الإِسرافلقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

كُلُّ إِناءٍ طَاهِرٍ، ولو ثَمِيناً …………
قوله: «كلُّ إناءٍ طاهر»، هذا احتراز من النَّجس، فإِنَّه لا يجوز استعماله؛ لأنَّه قذر، وفيما قال المؤلِّفُ نظر، لأن النَّجس يباح استعمالُه إِذا كان على وجه لا يتعدَّى،
والدَّليل على ذلك حديث جابر رضي الله عنه أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال حين فتح مكَّة: «إِن الله حرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام»، قالوا: يا
رسول الله؛ أرأيت شُحوم الميتة، فإِنَّها تُطلى بها السُّفن، وتُدهن بها الجلود، ويَستصبح بها النَّاس، فقال: «لا، هو حرام» رواه البخاري2236. فأقرَّ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم
هذا الفعل مع أنَّ هذه الأشياء نجسة، فدلَّ ذلك على أن الانتفاع بالشيء النَّجس إذا كان على وجه لا يتعدَّى لا بأس به، مثاله أن يتَّخذ «زِنْبِيلاً» نجساً يحمل به
التُّراب ونحوه، على وجهٍ لا يتعدَّى.
قوله: «ولو ثميناً»، «لو»: إِشارة خلاف، والمعنى: ولو كان غالياً مثل: الجواهر، والزُّمرُّد، والماس، وما شابه ذلك فإنه مباح اتَّخاذه واستعماله.
وقال بعضُ العلماء: إِنَّ الثمين لا يُباح اتِّخاذه واستعماله، لما فيه من الخُيلاء، والإِسراف ، وعلى هذا يكون تحريمُه لغيره لا لذاته، وهو كونُه إسرافاً وداعياً إِلى
الخُيلاء والفخر، لا لأنَّه ثمين.يُبَاحُ اتخاذُهُ واستِعْمَالُه، إلا آنيةَ ذَهَبٍ وفضَّةٍ، ……………
قوله: «يُباحُ اتِّخاذه واستعماله»، «يُباحُ»: خبر المبتدأ وهو قوله: «كلُّ إِناء»، والتَّركيب هنا فيه شيء من الإِيهام؛ لأن قوله: «يُباح اتِّخاذُه واستعمَالُه» قد يَتَوَهَّم
الواهم أنَّها صفة لا أنها خبر، ويتوقَّعُ الخبرَ، ولهذا لو قال: يُباح كُلُّ إِناءٍ طاهر ولو ثميناً. لكان أَوْلَى، ولكن على كُلِّ حالٍ المعنى واضح.
وقوله: «اتِّخاذُه واستعمَالُه»، هناك فرق بين الاتِّخاذ والاستعمال، فالاتِّخاذ هو: أن يقتنيَه فقط إِما للزِّينة، أو لاستعماله في حالة الضَّرورة، أو للبيع فيه والشِّراء، وما
أشبه ذلك.
أما الاستعمال: فهو التلبُّس بالانتفاع به، بمعنى أن يستعمله فيما يستعمل فيه.
فاتِّخاذها جائز، وإِن زادت على قَدْرِ الحاجة، فلو كان عند إِنسان إِبريق شاي وأراد أن يشتريَ إِبريقاً آخر جاز له ذلك، بمعنى أنه يجوز اتِّخاذه وإِن لم يستعمله الآن،
لكن اتَّخذه لأنه رُبَّما يحتاجه فيبيعه، أو يستعيره منه أحد، أو يفسد ما عنده، أو يأتي ضيوف لا يكفيهم ما عنده.
قوله: «إلا آنيةَ ذهب وفضَّة»، من القواعد الأصولية: «أَن الاستثناء معيار العُمُوم».
يعني: لو أنَّ أحداً استثنى من كلام عام فإِن ما سوى هذه الصُّورة داخل في الحكم، وعلى هذا فكلُّ شيء يُباحُ اتِّخاذه إِلا آنيةَ الذَّهب والفضَّة.
وذكر بعض الفقهاء استثناءً آخر فقال: إلا عظم آدميٍّ وجلده، فلا يُباح اتِّخاذه واستعماله آنيةً، لأنَّه محترمٌ بحرمته كشاف القناع 1/50، وقد قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «كَسْرُ عظمِ الميِّتِ ككسره حيًّا» رواه أحمد 6/58، وإِسناده صحيح.
قوله: «ذهب» معروف؛ وهو المعدِن الأحمر الثَّمين الذي تتعلَّقُ به النُّفوس، وتحبُّه، وتميل إِليه، وقد جعل الله في فطر الخلق الميلَ إلى هذا الذَّهب؛ وكذلك الفضَّة،
وهي في نفوس الخلق دون الذَّهب؛ ولهذا كان تحريمُها أخفَّ من الذَّهب.
وقوله: «إلا آنية ذهبٍ وفضَّةٍ» يشمل الصَّغير، والكبير حتى الملعقة، والسِّكين.

ومُضَبَّباً بهما، فإنه يحرُمُ اتخاذُها واستعمالُها، ولو على أنثى …………..
قوله: «ومُضَبَّباً بهما، فإِنه يحرُمُ اتخاذُها واستعمالُها، ولو على أنثى»، الضبَّةُ: التي أخذ منها التضبيب، وهي شريطٌ يَجْمَعُ بين طرفي المنكسر، فإِذا انكسرت
الصَّحفَةُ من الخشب يخرزونها خرزاً، وهذا في السَّنوات الماضية، فيكون المضبَّبُ بهما حراماً، وسواءٌ كان خالصاً أو مخلوطاً إِلا ما استُثني. والدَّليل: حديث حذيفة
رضي الله عنه: «لا تشربوا في آنية الذَّهب والفضَّة، ولا تأكلوا في صحافها، فإِنَّها لهم في الدُّنيا ولكم في الآخرة»رواه البخاري5426. حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها: «الذي يشربُ في آنية الفضَّة فإنما يجرجرُ في بطنه نارَ جَهنَّمَ» رواه البخاري 2062، والنهي للتَّحريم، وفي حديث أمِّ سلمة توعَّده بنار جهنَّم،
فيكون من كبائر الذُّنوب.
فإن قيل: الأحاديث في الآنية نفسِها، فكيف حُرِّم المضبَّبُ؟
فالجواب: أنه ورد في حديث رواه الدَّارقطني: «إِنَّه من شَرِب في آنية الذَّهب والفِضَّة، أو في شيء فيه منهما» رواه الدارقطني (1/ 40).
وأيضاً: المحرَّم مفسدةٌ، فإِن كان خالصاً فمفسدتُه خالصة، وإِن لم يكن خالصاً ففيه بقدْرِ هذه المفسدة.ولهذا فكلُّ شيء حرَّمه الشَّارع فقليله وكثيره حرام؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» رواه البخاري7288.
وعندنا هنا ثلاث حالات: اتِّخاذ، واستعمال، وأكل وشرب.
أمَّا الأكل والشُّرب فيهما فهو حرام بالنَّص، وحكى بعضهم الإجماع عليه المجموع شرح المهذب(1/ 249).
وأما الاتِّخاذ فهو على المذهب حرام، وفي المذهب قول آخر الإِنصاف (1/ 145)، وهو محكِيٌ عن الشَّافعي رحمه الله أنه ليس بحرام .المغني (1/ 103).
وأما الاستعمال فهو محرَّم في المذهب قولاً واحداً.
والصَّحيح: أن الاتِّخاذ والاستعمال في غير الأكل والشُّرب ليس بحرام؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن شيء مخصوص وهو الأكل والشُّرب، ولو كان
المحرَّم غيرَهما لكان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو أبلغُ النَّاس، وأبينهم في الكلام ـ لا يخصُّ شيئاً دون شيء، بل إِن تخصيصه الأكل والشرب دليل على أن ما
عداهما جائز؛ لأنَّ النَّاس ينتفعون بهما في غير ذلك.
ولو كانت حراماً مطلقاً لأَمَر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بتكسيرها، كما كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لا يدعُ شيئاً فيه تصاوير إلا كسره أو هتكه رواه البخاري5954، لأنها إِذا كانت محرَّمة في كل الحالات ما كان لبقائها فائدة.
ويدلُّ لذلك أن أمَّ سلمة ـ وهي راوية الحديث ـ كان عندها جُلجُل من فِضَّة جعلت فيه شعَرات من شعر النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان الناس يستشفون بها،
فيُشفون بإِذن الله، وهذا في «صحيح البخاري 5896، وهذا استعمال في غير الأكل والشرب.
فإن قال قائل: خصَّ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم الأكل والشرب لأنَّه الأغلب استعمالاً؛ وما علِّق به الحكم لكونه أغلب لا يقتضي تخصيصه به كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23]، فتقييد تحريم الرَّبيبة بكونها في الحجر لا يمنع التَّحريم، بل تَحرُمُ، وإِن لم تكن في حِجره على قول أكثر
أهل العلم ؟
قلنا: هذا صحيح، لكن كون الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم يُعلِّق الحكم بالأكل والشُّرب؛ لأن مَظْهَرَ الأمة بالتَّرف في الأكل والشُّرب أبلغُ منه في مظهرها في غير
ذلك، وهذه عِلَّة تقتضي تخصيص الحكمبالأكل والشُّرب، لأنه لا شكَّ أنَّ الذي أوانيه في الأكل والشُّرب ذهب وفِضَّة، ليس كمثل من يستعملها في حاجات تَخْفَى على كثير من النَّاس.
وقوله: «ومضبَّباً بهما  إلخ» يشمل الرِّجال والنِّساء، فلا يجوز للمرأة أواني الذَّهب والفِضَّة.
فإن قيل: أليس يجوز للمرأة أن تتحلَّى بالذَّهب؟
فالجواب: بلى، ولكن الرَّجل لا يجوز له ذلك.
فإن قيل: فما الفرق بين اتِّخاذ الحُلي واتِّخاذ الآنية واستعمالها فأُبيح الأوَّل دون الثاني؟
فالجواب: أنَّ الفرق أنَّ المرأة بحاجة إلى التجمُّل، وتجمُّلها ليس لها وحدها، بل لها ولزوجها، فهو من مصلحةِ الجميع، والرَّجل ليس بحاجة إِلى ذلك فهو طالب لا
مطلوب، والمرأة مطلوبة، فمن أجل ذلك أُبيح لها التَّحلِّي بالذَّهب دون الرَّجل، وأما الآنية فلا حاجة إِلى إِباحتها للنِّساء فضلاً عن الرِّجال.

وتَصِحُّ الطهارةُ منها، ……………….
قوله: «وتصحُّ الطَّهارة منها»، يعني: تصح الطَّهارة من آنية الذَّهب والفضَّة، فلو جعل إِنسان لوضوئه آنيةً من ذهب، فالطَّهارة صحيحةٌ، والاستعمال محرَّمٌ.
وقال بعض العلماء: إِن الطَّهارة لا تصحُّ الإنصاف 1/149، وهذا ضعيف؛ لأنَّ التَّحريم لا يعود إِلى نفس الوُضُوء، وإِنما يعود إلى استعمالإِنائه، والإِناء ليس شرطاً للوُضُوء، ولا تتوقَّف صِحَّة الوُضُوء على استعمال هذا الإِناء.
فالطَّهارة تصحُّ من آنية الذهب والفِضَّة، وبها، وفيها، وإِليها.
منها: بأن يغترف من الآنية.
بها: أي يجعلها آلةً يصبُّ بها، أي: يغرف بآنية من ذهب فيصبُّ على رجليه، أو ذراعه.
فيها: بمعنى أن تكون واسعة ينغمس فيها.
إليها: بأن يكون الماء الذي ينزل منه؛ ينزل في إِناء من ذهب.
فحروف الجرِّ هنا غيَّرت المعنى، وهذا دليل على قُوَّة فقه اللُّغة العربية.

 إلا ضَبَّةً يسيرةً من فضةٍ لحاجةٍ ……………..
قوله: «إِلا ضبَّةً يسيرةً من فِضَّة لحاجةٍ»، هذا مستثنى من قوله: «يَحْرُم اتِّخاذها واستعمالها».
فشروطُ الجواز أربعةٌ:
1 ـ أن تكون ضبَّةً.
2 ـ أن تكون يسيرةً.
3 ـ أن تكون من فضَّةٍ.
4 ـ أن تكون لحاجةٍ.
والدَّليل على ذلك: ما ثبت في «صحيح البخاري» من حديث أنس رضي الله عنه: «أن قدح النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم انكسرفاتَّخذ مكان الشَّعْب سلسلة من فِضَّة» رواه البخاري3109.
فيكون هذا الحديث مخصِّصاً لما سبق.
فإن قيل: من أين أخذتم اشتراط كونها يسيرة؟
قلنا: إن هذا هو الغالب في القدح، يعني كونه صغيراً، والغالب أنَّه إِذا انكسر، فإِنه لا يحتاج إلى شيء كثير، والأصل التَّحريم، فنقتصر على ما هو الغالب.
فإن قيل: أنتم قلتم ضبَّة، وهي ما يُجْبَرُ بها الإِناء، فلو جعل الإنسان على خرطوم الإِبريق فِضَّة؛ فَلِمَ لا يجوز؟
أُجِيبَ: بأن هذا ليس لحاجة، وليس ضَبَّة، بل زيادة وإِلحاق.
فإن قيل: لماذا اشترطتم كونها من فضَّة: لِمَ لا تقيسون الذَّهب على الفِضَّة؟
نقول: إِن النصَّ لم يرد إِلا في الفِضَّة، ثم إِن الذَّهب أغلى وأشدُّ تحريماً، ولهذا في باب اللِّباس حُرِّم على الرَّجُل خاتمُ الذَّهب، وأُبيح له خاتمُ الفِضَّة، فدلَّ على أن
الفِضَّة أهون، حتى إِن شيخ الإسلام رحمه الله قال في باب اللِّباس: إِن الأصل في الفِضَّة الإِباحة وأنها حلال للرِّجَال، إِلا ما قام الدَّليل على تحريمهمجموع الفتاوى25/64-65.
وأيضاً: لو كان الذَّهب جائزاً لجَبَر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم به الكسر؛لأن الذَّهب أبعد من الصدأ بخلاف الفِضَّة، ولهذا لما اتَّخذ بعض الصَّحابة أنفاً من فِضَّة ـ لما قُطعَ أنفُه في إِحدى المعارك (يوم الكُلاب في الجاهليَّة) ـ أنتن، فأمرهُ
النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أن يتَّخذ أنفاً من ذهب رواه أحمد5/25، لأنه لا يُنتن.
ومأخذ اشتراط الحاجة في الحديث: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يتَّخذْها إِلا لحاجة، وهو الكسر.
قوله: «لحاجة»، قال أهل العلم: الحاجة أن يتعلَّق بها غرضٌ غير الزِّينة الإنصاف 1/154، بمعنى أن لا يتَّخذها زينة. قال شيخ الإِسلام: وليس المعنى: ألا يجدَ ما يجبر به الكسرَ سواها؛ لأنهذه ليست حاجة، بل ضرورة مجموع الفتاى21/81، والضَّرورة تُبيحُ الذَّهبَ والفضة مفرداً وتبعاً، فلو اضطر إِلى أن يشرب في آنية الذَّهب فله ذلك، لأنَّها ضرورة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *