وتُكْره مباشرتُها لغير حاجةٍ ………………
قوله: «وتُكره مباشرتها لغير حاجة»، أي: تُكره مباشرة الضَّبَّة اليسيرة، ومعنى مباشرتها: أنَّه إِذا أراد أن يشرب من هذا الإِناء المضبَّب شرب من عند الفِضَّة،
فيباشرها بشفتيه وهي حلال. والمكروه عند الفقهاء: ما نُهي عنه لا على سبيل الإِلزام بالتَّرك. وحكمه: أنه يُثابُ تاركُه امتثالاً، ولا يُعاقبُ فاعلُه، بخلاف الحرام،
فإن فاعله يستحقُّ العقوبة، وهذا في اصطلاح الفقهاء.
أما في القرآن والسُّنَّة، فإن المكروه يأتي للمحرَّم، ولهذا لما عدَّد الله تعالى أشياء محرَّمة في سورة الإسراء قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا *} [الإسراء].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله كَرِهَ لكم قيل وقال، وكَثْرَةَ السُّؤال، وإِضاعة المال» رواه البخاري.
والكراهة: حُكم شرعيٌّ لا تثبت إِلا بدليل، فمن أثبتها بغير دليل، فإِننا نردُّ قوله، كما لو أثبت التَّحريم بلا دليل، فإِننا نردُّ قوله.
وبناءً على هذه القاعدة ننظر إلى كلام المؤلِّف، قال: «تُكرهمباشرتها لغير حاجة»، فإن احتاج إِليها بأن كان الإِناء يتدفَّق لو لم يشرب من هذه الجهة، أو جعل الإِناء على النَّار، وصارت الجهة التي ليست فيها الضَّبَّة حارَّة لا
يستطيع أن يشرب منها، وشرب من الجهة الباردة التي فيها الضَّبَّة، فهذه حاجة فله أنْ يشربَ، ولا كراهة.
فإِن لم يحتج فكلام المؤلِّفِ صريح في أنه تُكره مباشرتها.
والصَّواب: أنه ليس بمكروه، وله مباشرتها؛ لأن الكراهة حكم شرعيٌّ يُحتاج في إِثباته إِلى دليل شرعي، وما دام ثبت بمقتضى حديث أنس المتقدّم أنها مباحة، فما
الذي يجعل مباشرتها مكروهة؟ وهل ورد أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يتوقَّى هذه الجهة من قدحه؟
الجواب: لا، فالصَّحيح أنَّه لا كراهة؛ لأن هذا شيء مباح؛ ومباشرة المباح مباحة.
وتُبَاحُ آنيةُ الكُفَّارِ ـ ولو لم تحلَّ ذَبَائِحُهُم ـ وثيابهم إن جهل حالها.
قوله: «وتُباح آنية الكفار»، قوله: «آنية» بالرَّفع على أنها نائب فاعل.
قوله: «ولو لم تحلَّ ذبائحهم»، بالرَّفع على أنها فاعل «تحلَّ».
قوله: «وثيابهم إِن جُهل حالها»، بالرَّفع على أنها معطوفة على «آنية» وكلام المؤلِّف رحمه الله يوهم أنها معطوفة على «ذبائحهم».
ولو قال: وتُباحُ آنيةُ الكفَّار وثيابُهم إِن جُهِلَ حالها، ولو لم تحلَّ ذبائحهم. لسَلِمَ من هذا الإيهام.وقوله: «الكفَّار» يشمل الكافر الأصلي والمرتد.
وقوله: «ولو لم تحِلَّ ذبائحُهُم» إِشارة خلاف الإنصاف 1/156. والكفَّار الذين تَحِلُّ ذبائحُهم هم اليهود والنَّصارى فقط. لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ
وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. والمراد بطعامهم ذبائحهم كما فسَّر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما رواه البخاري، وليس المراد خبزهم وشعيرهم وما أشبه ذلك؛ لأن
ذلك حلال لنا منهم ومن غيرهم، ولا تحلُّ ذبائح المجوس، والدَّهريِّين، والوثنيِّين وغيرهم من الكفار، أما آنيتهم فتحلُّ. فإن قال قائل: ما هو الدَّليل؟
قلنا: عموم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، ثم إن أهل الكتاب إذا أباح الله لنا طعامهم، فمن المعلوم أنهم يأتون به إلينا
أحياناً مطبوخاً بأوانيهم، ثم إِنَّه ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعاه غلام يهوديٌّ على خبز شعير، وإِهالة سَنِخَة رواه أحمد، فأكل منها. وكذلك أكل من الشَّاة
المسمومة التي أُهديت له صلّى الله عليه وسلّم في خيبر رواه البخاري. وثبت أنَّه صلّى الله عليه وسلّم توضَّأ وأصحابه من مزادة امرأةمشركة رواه البخاري، كلُّ هذا يدلُّ على أن ما باشر الكُفَّار، فهو طاهر.
وأما حديث أبي ثعلبة الخشني أن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تأكلوا فيها، إلا ألا تجدوا غيرها، فاغسلوها وكلوا فيها» رواه البخاري.
فهذا يدلُّ على أن الأَوْلَى التنزُّه، ولكن كثيراً من أهل العلم حملوا هذا الحديث على أناس عُرفوا بمباشرة النَّجاسات من أكل الخنزير، ونحوه، فقالوا: إن النبيَّ صلّى
الله عليه وسلّم منع من الأكل في آنيتهم إِلا إذا لم نجد غيرها، فإِننا نغسلها، ونأكل فيها فتح الباري 9/606. وهذا الحمل جيد، وهو مقتضى قواعد الشَّرع.
وقوله: «وثيابهم»، أي تُباحُ ثيابُهم، وهذا يشمل ما صنعوه وما لبسوه، فثيابهم التي صنعوها مباحة، ولا نقول: لعلهم نسجوها بمنْسَج نجس؛ أو صَبغُوها بصبغ
نجس؛ لأنَّ الأصل الحِلُّ والطَّهارة، وكذلك ما لبسوه من الثياب فإنَّه يُباح لنا لُبسه، ولكن من عُرِفَ منه عدم التَّوقِّي من النجاسات كالنَّصارى فالأَوْلَى التنزُّه عن ثيابهم
بناءً على ما يقتضيه حديث أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه.
وقوله: «إن جُهل حالها» هذا له مفهومان:
الأول: أن تُعلَمَ طهارتُها.الثاني: أن تُعلَمَ نجاستُها، فإن عُلِمَتْ نجاستُها فإِنها لا تُستعمل حتى تُغسل. وإِن عُلمتْ طهارتُها فلا إِشكال، ولكن الإِشكال فيما إِذا جُهل الحال، فهل نقول: إِن
الأصل أنهم لا يَتَوَقَّوْنَ النَّجاسات وإِنَّها حرام، أو نقول: إِن الأصل الطَّهارة حتى يتبيّن نجاستها؟ الجواب هو الأخير.
ولا يَطْهرُ جلْدُ ميتةٍ بِدِباغٍ …………….
قوله: «ولا يَطْهر جلدُ ميتة بدِبَاغ»، الدَّبغ: تنظيف الأذى والقَذَر الذي كان في الجلد بواسطة مواد تُضاف إلى الماء.
فإِذا دُبِغَ جلدُ الميتة فإِنَّ المؤلِّف يقول: إِنه لا يطهرُ بالدِّباغ.
فإن قيل: هل ينجُس جلد الميتة؟
فالجواب: إن كانت الميتة طاهرة فإِن جلدها طاهر، وإِن كانت نجسةً فجلدها نجس.
ومن أمثلة الميتة الطَّاهرة: السَّمك لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «صيده ما أُخِذَ حيًّا، وطعامه ما أُخِذَ ميتاً» رواه ابن جرير الطبري.
فجلدها طاهر.
أما ما ينجُس بالموت فإِن جلده ينجُس بالموت لقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُرِجْسٌ} [الأنعام: 145] أي نَجِسٌ، فهو داخل في عموم الميتة.
فإن قيل: إن الميتة حرام، ولا يلزم من التَّحريم النَّجاسة؟
فالجواب: أنَّ القاعدة صحيحة، ولهذا فالسُّمُ حرام، وليس بنجس، والخمر حرام وليس بنجس على القول الرَّاجح، ولكن الله لما قال: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ} [الأنعام: 145]، علَّل ذلك بقوله: «رِجْسٌ» والرِّجس النَّجس، وهذا واضح
في أن الميتة نجسة. فإِذاً الميتة نجسة؛ وجلدها نجس؛ ولكن إِذا دبغناه هل يطهُر؟.
اختلَفَ في ذلك أهلُ العلم الإنصاف 1/161-162، فالمذهب أنه لا يطهُر، قالوا: لأن الميتة نجسة العين، ونجس العين لا يمكن أن يطهُر، فروثة الحمار لو غُسِلت بمياه البحار ما
طَهُرت، بخلاف النَّجاسة الحُكمية، كنجاسة طرأت على ثوب ثم غسلناه، فإنه يطهُر.
وهذا القياس مع أنَّه واضح جداً إِلا أنه في مقابلة النصِّ، وهو حديث ميمونة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَرَّ بشاةٍ يجرُّونها، فقال: هلاَّ أخذتم
إِهابها؟ قالوا: إنها ميتة، قال: يُطهِّرها الماءُ والقَرَظُ» رواه أحمد، وهذا صريح في أنَّه يَطْهُر بالدَّبغ.ولكن قالوا: هذا الحديث منسوخ بما يُروى عن عبد الله بن عُكَيْم قال: «إن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كتب إِلينا لا تنتفعوا من الميتة، بإِهابٍ ولا عَصَب» رواه أحمد.
زاد أحمد وأبو داود: «قبل وفاته بشهر».
والجواب على ذلك:
أولاً: أنَّ الحديث ضعيف، فلا يقابل ما في «صحيح مسلم» رواه مسلم.ثانياً: أنَّه ليس بناسخ؛ لأننا لا ندري هل قضيَّة الشَّاة في حديث ميمونة قبل أن يموتَ بشهر، أو قبل أن يموت بأيَّام؟ ومن شرط القول بالنسخ العلم بالتَّاريخ.
ثالثاً: أنَّه لو ثبت أنه متأخِّر، فإِنه لا يُعارض حديث ميمونة؛ لأن قوله: «لا تنتفعوا من الميتة بإِهاب ولا عصب» يُحمَلُ على الإِهاب قبل الدَّبغ، وحينئذٍ يُجمع بينه وبين
حديث ميمونة.
فإن قال قائل: كيف تقولون لو دُبِغَ اللحمُ ما طَهُرَ؛ ولو دُبِغَ الجلدُ طَهُرَ؟ وكلها أجزاء ميتة، ونحن نعرف أن الشريعة الحكيمة لا يمكن أن تفرِّق بين متماثلين؟
أجيب من وجهين:
الأول: أنَّه متى ثبت الفرق في الكتاب والسُّنَّة بين شيئين متشابهين، فاعلم أن هناك فرقاً في المعنى، ولكنَّك لم تتوصَّل إِليه؛ لأن إحاطتك بحكمة الله غير ممكنة،
فموقفك حينئذ التَّسليم.
الثاني: أن يُقالَ: إِنه يمكن التَّفريق بين اللحم والجلد، فإِن حلول الحياة فيما كان داخل الجلد أشدُّ من حلولها في الجلد نفسه، لأن الجلد فيه نوع من الصلابة
بخلاف اللحوم، والشُّحوم، والأمعاء، وما كان داخله فإِنه ليس مثله، فلا يكون فيه من الخَبَثِ ـ الذي من أجله صارت الميتة حراماً ونجسة ـ مثل ما في اللحم ونحوه.
ولهذا نقول: إنه يُعطَى حكماً بين حكمين:
الحكم الأول: أَنَّ ما كان داخل الجلد لا يَطْهُر بالدِّباغ.الحكم الثاني: أن ما كان خارج الجلد من الوبر والشَّعر فإِنه طاهر، والجلد بينهما، ولهذا أُعطي حكماً بينهما.
وبهذا نعرفُ سُمُوَّ الشريعة، وأنها لا يمكن أن تُفرِّق بين متماثلين، ولا أن تَجمَع بين مختلفين، وأن طهارة الجلد بعد الدَّبغ من الحكمة العظيمة، ونجاسته بالموت من
الحكمة العظيمة؛ لأنه ليس كالشَّعر والوبر والرِّيش، وليس كالشحم واللحم والأمعاء.
ويُبَاحُ استعمالُه بَعْدَ الدَّبْغِ في يَابِسٍ …………..
قوله: «ويُباحُ استعمالُه بعد الدَّبغ في يَابِسٍ»، يعني: يباح استعمال جلد الميتة بعد الدَّبغ في يابس.
فأفادنا المؤلِّفُ أن استعماله قبل الدَّبغ لا يجوز في يابس، ولا غيره؛ لأنه نجس.
وظاهر كلامه أن الاستعمال لا يجوز ولو بعد أن نَشفَ الجلد وصار يابساً، وهذا فيه نظر؛ لأنَّنا نقول: إِذا كان يابساً، واستُعمل في يابس فإن النَّجاسة هنا لا تتعدَّى
كما لو قدَّدناه، وجعلناه حبالاً لا يباشر بها الأشياء الرَّطبة، فإن هذا لا مانع منه.
قوله: «في يَابِس»، خرج به الرَّطب فلا يجوز استعماله فيه، مثل أن نجعل فيه ماءً أو لبناً، ولا أيَّ شيء رطب، ولو بعد الدَّبغ؛ لأنَّه إِذا كان نجساً، ولاقاه شيء رطب
تنجَّس به، أما إذا كان في يابس، والجلد يابس فإِنه لا يتنجَّس به؛ لأن النَّجاسة لا يتعدَّى حكمها إِلا إِذا تعدَّى أثرها، فإِن لم يتعدَّ أثرها فإِن حكمها لا يتعدَّى، وإذا
قلنا بالقول الرَّاجح: وهو طهارته بالدِّباغ فإنه يُباح استعماله في الرَّطب واليابس.