عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم ) رواه البخاري ومسلم .
الصحابي الجليل أبو هريرة هو/عبدالرحمن بن صخر الدوسي على أصح الأقوال ، رضي الله عنه،من قبيلة دوس في منطقة الباحة، ودوس في الأصل من الأزد النازحين من اليمن عندما تهدم سد مأرب، هاجر إلى المدينة النبوية وأسلم سنة 7 للهجرة وشهد خيبر مع النبي صلى الله عليه وسلم، روى الكثير عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عاش رضي الله عنه في فقر شديد ، وكان له هرة تلازمه وتصاحبه حتى أن من العلماء من قال أنه كان يضعها في كمه، ولذلك اشتهر بكنيته بها. والسيرة مليئة بمناقب هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه.
( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) نهي من النبي صلى الله عليه وسلم نهي تحريم، يدل على الكف عما نهى عنه، والنبي عندما ينهى أمته عن شيء فإنما فيه دلالة على علو شأنه ومرتيته عليهم فيأمر الأعلى الأدنى بفعل أمر أو ترك آخر. وفي الجملة جاءت (ما) إسم الشرط وفعلها نهيتكم وجواب الشرط فاجتنبوه، والأمر باجتناب الشيء يقتضي الابتعاد عنه، والنهي يستطيعه كل الناس ولا يعسر على أحد، كما قال عز وجل( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ولذلك ليس للمؤمن خيار في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ،بل عليه السمع والطاعة والرضا،كما قال عز وجل( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا).
(وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) (ما)إسم شرط وفعلها أمرتكم وجواب الشرط فأتوا منه ما استطعتم.وهنا دقة عجيبة في لفظ الحديث، ومعجزة لغوية نبوية ظاهرة، وهي أنه عليه الصلاة والسلام لم يقل بالاستطاعة في قضية النهي، وقال بها في قضية الأمر، وذلك لأن النهي والكف عن المحذور الكل يستطيعه بينما الأمر قد يعجز المرء عنه أو عن بعضه، وهذا مبني على قاعدة( فاتقوا الله ماستطعتم) وقاعدة ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) فلذلك كان للفظ الحديث تلك الدقة والإعجاز.والحقيقة أنه عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بما يستطاع وأمور الشرع سهلة يسرة على من يسرها الله عليه ، إذا لم يلتفت المسلم إلى الصوارف التي تصرفه عنها، فالمقصود أن تعبير النبي صلى الله عليه وسلم تعبير دقيق وكأنه يعلم ما يعرض للمسلمين في هذه الأزمنة العصيبة من الفتن والصوارف مما يجعلهم حائرين في تطبيق أمور دينهم التي تهدف نهاية إلى حصول التقوى والانقياد لله عز وجل.
(فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم) (إن) للتوكيد و (ما) إسم موصول وتقدير الكلام فإن الذي أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، والذين من قبلهم هم اليهود والنصارى لوجود قرينة تؤيد القول بذلك وهي قول الله عز وجل( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) فالذي ينمي إلى أذهان الصحابة رضي الله عنهم عند تلاوة الآية أنهم اليهود والنصارى وليس كل الأمم، والمعروف أن اليهود هم أشد مجادلة ومخاصمة وكثرة مساءلة لأنبياءهم ، كما في سورة البقرة عندما أمرهم موسى بذبح بقرة أكثروا عليه من الجدال والمخاصمة والسؤال، كما قال تعالى( قالوا يا موسى ادع لنا ربك يبين لنا ماهي………إلى آخر الآيات) ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه( إن الله كتب عليكم الحج فحجوا) فقام الأقرع بن حابس رضي الله عنه قال: أفي كل عام يارسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام( لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) رواه أحمد، فالاختلاف على الأنبياء وكثرة الأسئلة تؤدي إلى التشديد على السائلين وهلاكهم، ولذلك نهى القرآن الكريم عن ذلك كما قال سبحانه( ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا عنها) لأن السؤال قد يجر إلى فرض وتكليف السائل مالا يطيق ، أو يهدف إلى إعجاز المسئول فيحصل الخلاف والتنازع والفرقة، أوقد يهدف لأمر آخر وهو إظهار السائل لنفسه تعالما ومكابرة وعُجْب وهذه صفة مذمومة تؤدي إلى إشعال ضغائن القلوب، يقول ابن رجب رحمه الله( كلام السلف قليل لكن فيه بركة) بمعنى يلتزمون الشرع ولا يخرجون عنه بكثر مساءلةأو اختلاف.