للسيرة مكانة وأهمية عظيمة في دين الإسلام ، وذلك أنها التفسير والبيان العملي للقرآن الكريم ، بل الموجه الأساسي والأصيل للمسلم في حياته ومعاشه وحركاته وسكناته في ليله ونهاره ، ولا يتأتى له ذلك إلا بدراستها والعلم بها وتطبيقها تطبيقا عمليا في جميع شئون حياته ، وفي أخلاقه وسلوكه ، واستخراج ما تحويه من فوائد وعبر ودروس تظهر واقعا ملوموسا في قوله وعمله.وهذا مما يدل دلالة واضحة على أهميتها وأهمية دراستها ، بل إن مما يزيد ذلك أهمية ما نقرأه ونلاحظه من مؤلفات وكتابات ودراسات تولي السيرة أهمية كبيرة تحاول الإفادة منها بصورها المختلفة ، ويحاول أصحاب هذه المؤلفات والكتابات من التأثير في الناس بأطر منهجية منضبطة تحكمها ضوابط كثيرة تكفل لها السير والإستمرار في وضع صحيح ومرتب.
ولقد تعرضت روايات السيرة النبوية إلى كثير من النقد ، واختلفت الآراء حول مصداقيتها وما إذا كان يصلح الإستدلال بها في إثبات الوقائع والحوادث وغيرها أم لا؟ وتباينت آراء العلماء من السلف والخلف حول الأخذ بها كأدلة قطعية على حقيقة تلك الوقائع والأحداث ، وانقسم الناس في ذلك إلى ثلاثة آراء ، يحسن بنا في هذا المبحث بسطها ، ثم بيان ما يترجح من تلك الأقوال والآراء ، وذلك للخروج من الخلاف وإبقاء العمل بهذا الثراء العظيم من سيرة رسول اللهr وسيرة أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وهذه الآراء وتلك الإختلافات كما يلي:
الرأي الأول: يقول أصحاب هذا الرأي أنه لابد من الصحة في الرواية من جهة السند ومن جهة العدالة ، شأنها شأن الأحاديث النبوية ، سواءً في الأحكام المشتملة على العقيدة والعبادة ، أو في الوعظ والقصص والسير التاريخية وغيرها ، حيث أن السند وسيلة علمية يتميز بها الصحيح من الضعيف من الرواية أو الحديث ، والعدالة صفة للراوي والمحدث ينتفى معها الجرح والقدح ويمثل هذا الرأي الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله ، إذ أنه يشترط الصحة في السند والعدالة في الراوي والمحدث ، ويستبعد كل ما ضعف أو وضع من الروايات والأحاديث حفاظا على تراث السيرة مما لايصح ولا يثبت ، ولذلك يقول رحمه الله”وقد يظن بعضهم أن كل ما يُروى في كتب التاريخ و السيرة أن ذلك صار جزء لا يتجزأ من التاريخ الإسلامي الرائع الذي يتميز عن تواريخ الأمم الأخرى بأنه هو وحده الذي يملك الوسيلة العلمية لتمييز ما صَح منه مما لم يَصح، و هي نفس الوسيلة التي يميز بها الحديث الصحيح من الضعيف، ألا و هو الإسناد الذي قال فيه عبدالله بن المبارك: “لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”رواه مسلم. و لذلك لمّا فقدت الأمم الأخرى الوسيلة العظمى امتلأ تاريخها بالسخافات و الخرافات”السلسلة الصحيحة للألباني، وفي موضع آخر يقول رحمه الله:” والصواب في أمره مجانبة ما علم أنه أخطأ فيه ، و الاحتجاج بما يرويه ، سواءوافق الثقات ” أولا ” ، لأنه داخل في جملة أهل العدالة ، و من صحت عدالته لم يستحق القدح و لا الجرح ، إلا بعد زوال العدالة عنه بأحد أسباب الجرح وهذا حكم كل محدث ثقة صحت عدالته ، و تيقن خطؤه “السلسلة الصحيحة للألباني.
الرأي الثاني: وهم من قالوا بالتساهل والتخفيف في مرويات السيرة ، والقصص ، وأقوال الصحابة والتابعين ، وهؤلاء يرون بعدم التشدد في الأسانيد و المرويات التي لا تضع حكما أو ترفعه ، ولا تتصل بأسماء الله وصفاته ، ولذلك يجوز للمؤرخ سوق الحديث الضعيف والإفادة منه في أمور كالترغيب والترهيب ونحو ذلك ، مع ملاحظة التنبيه على درجة ضعفه ، يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى:” إذا روينا عن رسول اللهr في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشدَّدنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبيr في فضائل الأعمال، وما لا يضع حكمًا أو يرفعه تساهلنا في الأسانيد”الكفاية في عم الرواية، ويقول الحافظ بن رجب الحنبلي رحمه الله:” وقد ذهب عامة أهل العلم إلى التساهل والتخفيف في مرويات السيرة ، والقصص ، وأقوال الصحابة والتابعين التي لا ينبني عليها عقيدة أو شريعة”شرح علل الترمذي، ويقول سفيان الثوري رحمه الله : “لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان ، ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ”الكامل في ضعفاء الرجال،وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي عبدة قال : وقيل لابن المبارك – وروى عن رجل حديثاً – فقيل : هذا رجل ضعيف فقال : يحتمل أن يروي عنه هذا القدر أو مثل هذه الأشياء قلت لعبدة : مثل أي شئ كان ؟ قال : في أدب في موعظة في زهد.شرح علل الترمذي، وقال أحمد في ابن إسحاق : يكتب عنه المغازي وشبهها شرح علل الترمذي،.وقال ابن مفلح الحنبلي :”والذي قطع به غير واحد ممن صنف في علوم الحديث حكاية عن العلماء أنه يعمل بالحديث الضعيف في ما ليس فيه تحليل ولا تحريم كالفضائل”الآداب الشرعية، ويقول الإمام النووي رحمه الله : “قدمنا اتفاق العلماء على العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال دون الحلال والحرام”المجموع شرح المهذب وقال الحافظ ابن الصلاح في مقدمته:” يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات الله تعالى وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما . وذلك كالمواعظ والقصص وفضائل الأعمال وسائر فنون الترغيب والترهيب وسائر ما لا تعلق له بالأحكام والعقائد وممن روينا عنه التنصيص على التساهل في نحو ذلك : ( عبد الرحمن بن مهدي ) و ( أحمد بن حنبل ) رضي الله عنهما. .”مقدمة ابن الصلاح، وقال ابن قدامة المقدسي الحنبلي في المغني :”النوافل والفضائل لا يشترط صحة الحديث لها”المغني لابن قدامة، وقال الإمام الصنعاني:”الأحاديث الواهية جوزوا أي أئمة الحديث التساهل فيه ، وروايته من غير بيان لِضعفه إذا كان وارداً في غير الأحكام وذالك كالفضائل والقصص والوعظ وسائر فنون الترغيب والترهيب”توضيح الأفكار للصنعاني وقد عقد الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه “الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع” فصلاً بعنوان: “ما لا يفتقر كتبه إلى الإسناد”، ومما قال فيه: “وأما أخبار الصالحين وحكايات الزهَّاد والمتعبِّدين ومواعظ البلغاء وحكم الأدباء فالأسانيد زينة لها، وليست شرطًا في تأديتها”الجامع لأخلاق الراوي.
الرأي الثالث: وهم من قالوا بالتوسط في ذلك وهو عدم اشتراط الصحة في السند والعدالة في الراوي ، إلا فيما يتصل بالعقائد والأحكام الشرعية ، أما الأخبار والسير التاريخية فلا يشترط لها ذلك ولا تعامل كما تعامل الأحاديث ، وفي هذا يقول الدكتور أكرم ضياء العمري:” أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسف كثير ، والخطر الناجم عنه كبير ؛ لأن الروايات التاريخية التي دونها أسلافنا المؤرخون لم تُعامل معاملة الأحاديث ، بل تم التساهل فيها ، وإذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثل هوّة سحيقة بيننا وبين ماضينا مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع ، لكن ذلك لا يعني التخلي عن منهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية ، فهي وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة ، كما أنها خير معين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا ، ولكن الإفادة منها ينبغي أن تتم بمرونة ، آخذين بعين الاعتبار أن الأحاديث غير الروايات التاريخية ، وأن الأولى نالت من العناية ما يمكنها من الصمود أمام قواعد النقد الصارمة” دراسات تاريخية، ويقول في موضع آخر ” المطلوب اعتماد الروايات الصحيحة ، وتقديمها ثم الحسنة ، ثم ما يعتضد من الضعيف لبناء الصورة التاريخية لأحداث المجتمع في عصر صدر الإسلام ، وعند التعارض يقدم الأقوى دائماً ، أما الرويات الضعيفة التي لا تقوى أو تعتضد فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة على ألا تتعلق بجانب عقدي أو شرعي ؛ لأن القاعدة : “التشدد فيما يتعلق بالعقيدة أو الشريعة ” ،ولا يخفى أن عصر السيرة النبوية والخلافة الراشدة مليء بالسوابق الفقهية ، والخلفاء الراشدون كانوا يجتهدون في تسيير دفة الحياة وفق تعاليم الإسلام ؛ فهم موضع اقتداء ومتابعة فيما استنبطوا من أحكام ونظم لأقضية استجدت بعد توسع الدولة الإسلامية على إثر الفتوح”أصول وضوابط في دراسة السيرة، ويقول الدكتور عبدالعزيز الحميدي “أما ما يؤخذ من الروايات التاريخية فهو ما اتفق عليه الإخباريون أما اشتراط الصحة في كل خبر تاريخي والذي مشى عليه بعض المُؤلفين في السيرة فاختزلوا كثيرا من أحداثها فإن ذلك يترتب عليه تضييع ثروة علمية كبرى، وإهدار الاستفادة منها في مجالات تربوية وإدارية ونحوها ، حيث تضعف الثقة في كل ما استنبط منه”التاريخ الإسلامي .
ومن خلال النظر فيما سبق من الآراء والأقوال ، يترجح عندنا أن من توسطوا في الرأي وقالوا بالتساهل في الجانب السردي والتاريخي فيما لا ينبني عليه حكما عقديا ولا شرعيا ، وذلك حفاظا على هذا الموروث العظيم من السير النبوية والأحداث التاريخية ، وهذا الرأي هو الذي أميل إليه ، لأننا لوسلمنا بعدم قبول ما ضعف من الأخبار في السير والتاريخ واكتفينا بالصحيح لضاع علينا الكثير من سير الأسلاف وأحداث المعارك والغزوات ، وقد يكون فيما ضعف من الأخبار صحة وحسنا قد غاب عن دراية الناقلين لها ، وما دامت أنها لا تمس العقيدة ولا الأحكام الشرعية فلا مانع من إيرادها باعتبار ما سبق من المنافع ، مع الأخذ بالتنبيه على الضعيف أو الإشارة إليه ما أمكن وتبين يقول الدكتور أكرم العمري ” وهذا هو المنهج المعتبر عند الأئمة المحققين، يشهد به صنيع الذهبي في تاريخ الإسلام، وابن سيد الناس في عيون الأثر وابن حجر في الفتح وكذلك ابن القيم وابن كثير.” السيرة النبوية أكرم العمري، والله تعالى أعلم.