شبهات المستشرقين حول قصص القرآن الكريم والرد عليها. د. ناجي بن وقدان

مفهوم القصص في اللغة والاصطلاح:

أولا: القصص في اللغة:

قال الجوهري: قَصَّ أثرَه، أي تتبَّعه. قال الله تعالى: “فارْتَدَّ على آثارِهما قَصَصاً. اقْتَصَّ أثرَه، وتَقَصَّصَ أثرَه، والقِصَّةُ الأمرُ والحديث، وقد اقْتَصَصْتُ الحديث: رويته على وجهه، وقد قَصَّ عليه الخبرَ قَصَصاً، والقِصَصُ، بكسر القاف: جمع القِصَّةِ التي تُكْتَبُ.(الصحاح في اللغة للجوهري مادة قصص.)

وقال ابن منظور: والقِصّة: الخبر، وهو القصص. وقصّ عليّ خبره يقُصُّه قصًّا وقصَصاً: أورده، والقَصصُ: الخبر المقصوص، بالفتح، وُضع موضعَ المصدر حتى صار أغلب عليه، والقِصَص بكسر القاف: جمع القِصّة التي تكتب، والقِصة: الأمر والحديث، والقاصّ: الذي يأتي بالقصّة على وجهها كأنّه يتتبّع معانيها وألفاظها، فالقِصّة: التي تكتب، والجملة من الكلام، والحديث، والأمر، والخبر، والشأن، وأصل القصص عند العرب تتبّع الأثر، فالعالم بالآثار يسير وراء من يريد معرفة خبره، وتتبّع أثره، حتى ينتهي إلى موضعه الّذي حلّ فيه.(لسان العرب لابن منظور، مادة قصص.)

وفي القاموس المحيط: قَصَّ أثَرَه قَصّاً وقَصيصاً: تَتَبَّعَه، وقص الخَبَرَ: أعْلَمَهُ،{فارْتَدَّا على آثارِهِما قَصَصًا}، أي: رَجَعا من الطَّرِيقِ الذي سَلَكاهُ يَقُصَّانِ الأَثَرَ، و{نحنُ نَقُصُّ عليك أحْسَنَ القَصَصِ} نُبَيِّنُ لك أحْسَنَ البَيانِ.(القاموس المحيط ، مادة قصص.)

قال ابن فارس: القاف والصاد أصلٌ صحيح يدلُّ على تتبُّع الشَّيء. من ذلك قولهم: اقتصَصْتُ الأثَر، إذا تتبَّعتَه، ومن ذلك اشتقاقُ القِصاص في الجِراح، وذلك أنَّه يُفعَل بهِ مثلُ فِعلهِ بالأوّل، فكأنَّه اقتصَّ أثره، ومن الباب القِصَّة والقَصَص، كلُّ ذلك يُتَتَبَّع فيذكر.(مقاييس اللغة لابن فارس مادة، قصص)

ﻭﻗﺎل ابن سيدة: والقصة الخبر ، وهو القصص.(المحكم والمحيط الأعظم،إبن سيدة)

ثانيا: تعريف القصص في الاصطلاح:

قال الحرالي: القصص: تتبّع الوقائع بالإخبار عنها شيئاً بعد شيء في ترتيبها في معنى قصّ الأثر، وهو اتباعُهُ حتى ينتهي إلى محلّ ذي الأثر.

وقال الدكتور عمر سليمان الأشقر في تعريف القصة بأنها: “فنّ حكاية الحوادث والأعمال بأسلوب لغوي ينتهي إلى غرض مقصود”.

ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن القصص في الاصطلاح تدل على أخبار سالفة طويلة يخبر عنها، بتتبع وقائعها مرتبة.

 

 أنواع القصص وأهميته في الدعوة إلى الله:

أولا: أنواع القصص في القرآن الكريم.

أ) قصص الأنبياء, وقصص الأنبياء في دعوتهم لأقوامهم كثيرة, والمعجزات التي أيدهم بها الله في تلك القصص عظيمة, ومن خلال هذا القصص تتضح مواقف المعاندين والمكابرين منهم ومن دعوتهم, وكذلك يتبين طرائق ومراحل الدعوة وتطورها وجزاء المؤمنين وعقاب المكذبين, ومن بين هذه القصص على سبيل الإجمال لا الحصر ، وضرب للأمثال ، نذكر قصة نوح وإبراهيم, وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.

1) قصة نوح عليه السلام مع قومه ،حيث ذكر ابن كثير –رحمه الله- أن نوح عليه السلام هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ ، وهو إدريس بن يرد بن مهلائيل بن قينن بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر عليه السلام، وكان مولده بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة ، وعلى تاريخ أهل الكتاب المتقدم يكون بين مولد نوح وموت آدم مائة وست وأربعون سنة ، وكان بينهما عشرة قرون، وقد أورد ذلك ابن حبان في صحيحه عن أبي أمامةt  أن رجلا قال : يا رسول الله أنبي كان آدم ؟ قال : (نعم ، مكلم . قال : فكم كان بينه وبين نوح ؟ قال : (عشرة قرون.  

       وكان السبب في مبعث نوح عليه السلام ،هو أنه لما عُبدت الأصنام والطواغيت ، وشرع الناس في الضلالة ، والكفر بعثه الله رحمة للعباد فكان أول رسول بعث إلى أهل الأرض . 
وقد ذكر الله قصته وما كان من قومه ، وما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان ، وكيف أنجاه وأصحاب السفينة في غير ما موضع من كتابه العزيز ، كما قال عز وجل (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ) الأعراف ٥٩ – ٦٤ ، وقال سبحانه وتعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ *فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ *فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ) يونس ٧١ – ٧٣ ،وقال عز وجل( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ *فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ )العنكبوت ١٤ – ١٥ ، إلى غير ذلك من الآيات التي تحدثت عن قصته عليه السلام مع قومه.

وقد تحدثت السنة الشريفة أيضا عن قصته عليه السلام مع من خالفه ، ففي حديث ابن جريج ، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عند تفسير قوله تعالى( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) نوح ٢٣  قال : (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت . قال ابن عباس : وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد). وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا للرسولr تلك الكنيسة التي رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية ، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها قال : أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ، ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل .

      وخلاصة القول أن الفساد لما انتشر في الأرض ، وعم البلاء بعباد الأصنام فيها بعث الله عبده ورسوله نوحا عليه السلام يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وينهى عن عبادة ما سواه ، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، كما ثبت في حديث الشفاعة عن أبي هريرةرضي الله عنه ، عن النبي  r قال : (فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، وأسكنك الجنة ، ألا تشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا ، فيقول : ربي قد غضب غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، ونهاني عن الشجرة فعصيت ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح . فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبدا شكورا ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ، ألا ترى إلى ما بلغنا ، ألا تشفع لنا إلى ربك عز وجل فيقول : ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله . نفسي نفسي) .  

2) قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه، وهو إبراهيم بن آزر (وقيل بن تارخ ، وقيل بن تارح) والأصوب هو ظاهر الآية وصريحها أنه (آزر) بن ناحور  بن ساروغ  بن راغو  بن فالغ بن عابر بن شالح  بن ارفخشذ  بن سام  بن نوح عليه السلام. وقد ارتحل إبراهيم عليه السلام مع زوجته سارة قاصدين أرض الكنعانيين، وهي بلاد بيت المقدس، فأقاموا بحران وهي أرض الكلدانيين في ذلك الزمان، وكذلك أرض الجزيرة والشام أيضا. وكانوا يعبدون الكواكب السبعة. والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين، يستقبلون القطب الشمالي ويعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الأفعال والأقوال، ولذلك كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل لكوكب منها، ويعملون لها أعياد وقرابين. وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والأصنام وكل من كان على منهجهم من الكافرين، سوى إبراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه لوط عليهم السلام. ولذلك كان إبراهيم الخليل عليه السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور وأبطل به ذاك الضلال، فإن الله سبحانه وتعالى آتاه رشده في صغره، وابتعثه رسولا، واتخذه خليلا في كبره، كما قال عز وجل(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) الأنبياء ٥١  ،أي كان أهلا لذلك، وكقوله تعالى     (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ۖ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ۖ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ) العنكبوت ١٦ – ١٨. وكان أول دعوته لأبيه، وكان أبوه ممن يعبد الأصنام، لأنه أحق الناس بإخلاص النصيحة له كما قال تعالى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا )مريم ٤١ – ٤٨ ، فذكر سبحانه ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة، وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة وأحسن إشارة، بين له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها ولا تبصر مكانه فكيف تغني عنه شيئا، أو تفعل به خيرا من رزق أو نصر؟ ثم قال له منبها ومذكرا بما أعطاه الله من الهدى والعلم النافع وإن كان أصغر سنا من أبيه (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا )مريم ٤٣    أي مستقيما واضحا، سهلا حنيفا، يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك، فلما عرض هذا الرشد عليه وأهدى هذه النصيحة إليه، لم يقبلها منه، ولا أخذها عنه، بل تهدده وتوعده كما قال تعالى  (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) مريم ٤٦  أي واقطعني وأطل هجراني، فعندها وقف إبراهيم عليه السلام ، ذلك الابن البار وقال (سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ )أي لا يصلك مني مكروه ولا ينالك مني أذى، بل أنت سالم من ناحيتي، وزاده خيرا فقال، (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)   قال ابن عباس وغيره: “أي لطيفا، يعني في أن هداني لعبادته والإخلاص له” . وقد استغفر له إبراهيم عليه السلام كما وعده في أدعيته، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما قال عز وجل (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) التوبة ١١٤ ، وعن أبي هريرة عن النبي  rقال: “يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال يا إبراهيم انظر ما تحت رجليك؟ فينظر، فإذا هو بذبح متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار”.

وفي مقام المناظرة التي دارت بينه عليه السلام وبين قومه، التي أبطل فيها معتقداتهم الباطلة ، وأقام عليهم الحجج الدامغة ، وبين لهم أن هذه الأجرام المشاهدة من الكواكب النيرة، لا تصلح للألوهية، ولا أن تعبد مع الله عز وجل، لأنها مخلوقة ومصنوعة مدبرة مسخرة، تطلع تارة وتأفل أخرى، فتغيب عن هذا العالم، والرب تعالى لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية، بل هو الدائم الباقي بلا زوال، لا إله إلا هو ولا رب سواه.

فبين لهم أولا عدم صلاحية الكوكب لذلك ، ثم ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ منها، وأبهى من حسنها، ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياء وسناء وبهاء، فبين أنها مسخرة مسيرة مقدرة مربوبة ،كما قال عز وجل (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ *وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ *فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ *وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ *وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )الأنعام ٧٤ – ٨٣  .وبهذا ألجمهم بقوة حجته ، وأبطل ما هم عليه من عبادة الأصنام والأوثان ، وأظهر الله به الحق ، ونجاه بفضله من كيدهم وبطشهم وضلالهم ، ولقصصه عليه السلام مع قومه ، ودعوته لهم إلى الحق مواطن كثيرة من القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ *إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (* قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَىٰ ذَٰلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ* وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ*فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ *قَالُوا مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ* قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ* قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)الأنبياء ٥١ – ٧٠ فكانت العاقبة للحق واهله ، والخسران عاقبة الكفر وأهله ، ونجاه الله من بطشهم وكيدهم ، وجعل النار بردا وسلاما عليه.

3) قصة موسى عليه السلام مع قومه ، وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وقد ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة متفرقة من القرآن الكريم، نذكر منها ما يدل على قصته على وجه الاختصار ، كما في قوله تعالى (طسم *تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ *وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) القصص ١ – ٦ ، يذكر تعالى ملخص القصة ثم يبسطها بعد هذا فذكر أنه يتلو على نبيه خبر موسى وفرعون بالحق، أي بالصدق الذي كأن سامعه مشاهد للأمر معاين له، (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) القصص ٤ ، أي تجبر وعتا وطغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، وأعرض عن طاعة الرب الأعلى، وجعل أهلها شيعا، أي قسم رعيته إلى أقسام وفرق وأنواع، يستضعف طائفة منهم، وهم شعب بني إسرائيل، الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله، وكانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض. وقد سلط عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر يستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع والحرف وأرداها وأدناها ومع هذا (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) القصص ٤ ، وكان الحامل له على هذا الصنيع القبيح أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما يأثرونه عن إبراهيم عليه السلام من أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه وذلك – والله أعلم – حين كان جرى على سارة امرأة الخليل من ملك مصر من إرادته إياها على السوء وعصمة الله لها، وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل فتحدث بها القبط فيما بينهم ووصلت إلى فرعون فذكرها له بعض أمرائه وأساورته وهم يسمرون عنده فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل حذرا من وجود هذا الغلام ولن يغني حذر من قدر، ولهذا قال الله تعالى (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) القصص ٥ وهم بنو إسرائيل ، أي الذين يؤول ملك مصر وبلادها إليهم (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) القصص ٦   أي سنجعل الضعيف قويا والمقهور قادرا والذليل عزيزا، وقد جرى هذا كله لبني إسرائيل كما قال تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)  الأعراف ١٣٧ .   

والمقصود مما سبق من قصة موسى وفرعون ، أن فرعون احترز كل الاحتراز أن لا يوجد موسى على وجه الأرض، والقضاء عليه بأي حال ، حتى جعل رجالا وقوابل يدورون على الحبالى ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكرا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته، ولكن الله بفضله وقوته خيب مساعي فرعون وجنده ، وقطع آمالهم ، وأمضى الحق ، ونصر أهله (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) التوبة ٣٢.

4) قصة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه ، و هو سيدنا محمد بن عبدالله بن عبد المطلب ابن هاشم ابن عبد مناف ابن قصيّ ابن كلاب ابن مُرّة ابن كعب ابن لؤي ابن غالب ابن فهر ابن مالك ابن النَّضْر ابن كنانة ابن خزيمة ابن مُدرِكة ابن إلياس ابن مُضَر ابن نِزار ابن مَعَدّ ابن عدنان.

المرحلة الأولى: من جهاد الدعوة إلي الله ، ثلاث سنوات من الدعوة السرية، حيث قام r بعد نزول قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ *)المدثر ١ – ٧، بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وحيث إن قومه كانوا جفاة لا دين لهم إلا عبادة الأصنام والأوثان، ولا حجة لهم إلا أنهم ألفوا آباءهم على ذلك، ولا أخلاق لهم إلا الأخذ بالعزة والأنفة، ولا سبيل لهم في حل المشاكل إلا السيف، وكانوا مع ذلك متصدرين للزعامة الدينية في جزيرة العرب، ومحتلين مركزها الرئيس، ضامنين حفظ كيانها، فقد كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية، لئلا يفاجئ أهل مكة بما يهيجهم ، وهكذا مرت ثلاثة أعوام، والدعوة لم تزل مقصورة على الأفراد، ولم يجهر بهاصلى الله عليه وسلم في المجامع والنوادي، إلا أنها عرفت لدى قريش، وفشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به الناس، وقد تنكر له بعضهم أحيانًا، واعتدوا على بعض المؤمنين، إلا أنهم لم يهتموا به كثيرا حيث لم يتعرض رسول اللهصلى الله عليه وسلم لدينهم، ولم يتكلم في آلهتهم . ثم تلى ذلك المرحلة الثانية من الدعوة ،وهي مرحلة الجهر بها،

بعد ما تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون، وتتحمل عبء تبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها نزل الوحى يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعلان الدعوة، ومجابهة الباطل بالحسنى

وذلك بقوله تعالى ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )  الشعراء ٢١٤ ، وقد ورد في سياق ذكرت فيه أولًا قصة موسى عليه السلام، من بداية نبوته إلى هجرته مع بني إسرائيل، وقصة نجاتهم من فرعون وقومه، وإغراق آل فرعون معه، وقد اشتملت هذه  القصة على جميع المراحل التي مر بها موسى عليه السلام، خلال دعوة فرعون وقومه إلى الله ،وكأن هذا التفصيل تشابه مع أمر الرسولصلى الله عليه وسلم بجهر الدعوة إلى الله، ليكون أمامه وأمام أصحابه مثال لما سيلقونه من التكذيب والاضطهاد حينما يجهرون بالدعوة، وليكونوا على بصيرة من أمرهم منذ البداية .

       وبعد تأكد النبي r من تعهد أبي طالب بحمايته وهو يبلغ عن ربه، صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا، فعلا أعلاها حجرًا، ثم جعل ينادى بطون قريش، ويدعوهم قبائل تلو الأخرى ، ” يا بني فهر، يا بني عدى، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب” ، فلما سمعوا قالوا : من هذا الذي يهتف ؟ قالوا : محمد . فأسرع الناس إليه، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش ، فلما اجتمعوا قال : ” أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي بسَفْح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيَّ ؟ ” ، قالوا : نعم، ما جربنا عليك كذبًا، ما جربنا عليك إلا صدقًا ،

قال : ” إني نذير لكم بين يدى عذاب شديد، إنما مثلى ومثلكم كمثل رجل رأي العَدُوّ فانطلق يَرْبَأ أهله ” ، ثم دعاهم إلى الحق، وأنذرهم من عذاب الله، فخص وعم فقال :” يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضرا ولا نفعا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا ، يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا معشر بني قصى، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضرا ولا نفعا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا ، يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا معشر بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا، سلوني من مالي ما شئتم ، لا أملك لكم من الله شيئًا ،

يا عباس بن عبد المطلب، لا أغنى عنك من الله شيئًا ، يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله، لا أغنى عنك من الله شيئًا ، يا فاطمة بنت محمد رسول الله، سليني ما شئت من مالي، أنقذى نفسك من النار، فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا، ولا أغنى عنك من الله شيئًا ،غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلاَلها”.

      ولما تم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا، ولا يذكر عنهم أي ردة فعل، سوى أن أبا لهب واجه النبي r بالسوء، وقال : “تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا ؟” فنزل قوله تعالى (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) المسد ١ كانت هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد أوضح الرسولr لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه وبينهم، وأن عصبة القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله عز وجل .

ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر ٩٤   ، فقام رسول اللهr  يجهر بالدعوة إلى الإسلام في مجامع المشركين ونواديهم، يتلو عليهم كتاب الله، ويقول لهم ما قالته الرسل لأقوامهم ( (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)  الأعراف ٥٩   ،وبدء يعبد الله تعالى أمام أعينهم، فكان يصلى بفناء الكعبة نهارًا جهارًا وعلى رءوس الأشهاد .

      وقد نالت دعوته مزيدًا من القبول، ودخل الناس في دين الله واحدًا بعد واحد ، وحصل بينهم وبين من لم يسلم من أهل بيتهم تباغض وتباعد وعناد واشمأزت قريش من كل ذلك، وساءهم ما كانوا يبصرون .وهذا اختصار شديد لقصته عليه الصلاة والسلام مع قومه ، وذلك حتى لا يخرج البحث عن مساره.

ب) قصص تتعلق بحوادث غابرة, ومن ذلك أشخاص لم تثبت نبوتهم ,كقصة الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وطالوت وجالوت, وأهل الكهف وغيرهم ، ولعلنا نقتصر في الحديث على وجه الاختصار عن هؤلاء درءًا للإطالة ، وتحقيقا للمطلوب.

1) قصة الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، يقول الحافظ ابن كثير- رحمه الله- حول قول الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) البقرة ٢٤٣ ” إن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه بعد يوشع ، خلف في بني إسرائيل حزقيل بن بوذى ، وهو ابن العجوز ، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكرهم الله في كتابه ، فيما بلغنا(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ) فروا من الوباء ، فنزلوا بصعيد من الأرض ، (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ۚ )فماتوا جميعا ، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع ، فمضت عليهم دهور طويلة ، فمر بهم حزقيل ، عليه السلام ، فوقف عليهم متفكرا ، فقيل له : أتحب أن يبعثهم الله وأنت تنظر؟ فقال : نعم . فأمر أن يدعو تلك العظام أن تكتسي لحما ، وأن يتصل العصب بعضه ببعض . فناداهم عن أمر الله له بذلك ، فقام القوم ، أجمعون ، وكبروا تكبيرة رجل واحد .  

        وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي-رحمه الله- ” يقص تعالى علينا قصة الذين خرجوا من ديارهم على كثرتهم واتفاق مقاصدهم، بأن الذي أخرجهم منها حذر الموت من وباء أو غيره، يقصدون بهذا الخروج السلامة من الموت، ولكن لا يغني حذر عن قدر، (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ۚ)إما بدعوة نبي أو بغير ذلك، رحمة بهم ولطفا وحلما، وبيانا لآياته لخلقه بإحياء الموتى، ولهذا قال  (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ )   أي: عظيم                                                     (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)  فلا تزيدهم النعمة شكرا، بل ربما استعانوا بنعم الله على معاصيه، وقليل منهم الشكور الذي يعرف النعمة ويقر بها ويصرفها في طاعة المنعم”.

ج) قصص تتعلق بحوادث وقعت زمن رسول الله rكغزوة بدر وأحد في سورة آل عمران, وغزوة حنين وتبوك في سورة الثوبة ، ولعله من المناسب هنا الحديث عن واقعة بدر على وجه الاختصار ، كشاهد حي على هذا النوع من القصص المبارك ، وهي من أعظم المشاهد ، حيث كان النبي r في المدينة فجاءه خبر أن عيرا لقريش عظيمة فيها أموال لهم كثيرة مقبلة من الشام إلى مكة معها ثلاثون أو أربعون رجلا رئيسهم أبو سفيان بن حرب وفيهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل الزهري فندب رسول الله  r المسلمين إلى تلك العير وأمر من كان ظهره حاضرا بالخروج ولم يحتفل  r في الحشد لأنه أراد  العير ولم يعلم أنه يلقى حربا فوصل الخبر أبا سفيان أن رسول الله  r قد خرج في طلبهم فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة مستصرخا لهم إلى نصر عيرهم فنهض إلى مكة وهتف بها واستنفر، فخرج أكثر أهل مكة في ذلك النفير ولم يتخلف من أشرافهم إلا أقلهم وكان فيمن تخلف من أشرافهم أبو لهب وخرج رسول الله  r من المدينة لثمان خلون من رمضان واستعمل على المدينة عبدالله بن أم مكتوم العامري ليصلي بالمسلمين ثم رد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ودفع الراية الواحدة إلى علي والثانية إلى رجل من الأنصار وكانتا سوداوين وكانت راية الأنصار يومئذ مع سعد بن معاذ وكان مع أصحاب رسول الله r يومئذ سبعون بعيرا يتعقبونها فكان رسول الله r وعلي ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرا وكان حمزة وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة موالي رسول الله r يعتقبون بعيرا وكان أبو بكر وعمر وعبدالرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا وجعل رسول الله r على الساقة قيس بن أبي صعصعة من بني النجار وسلك رسول الله r طريق العقيق إلى ذي الحليفة إلى ذات الجيش إلى فج الروحاء إلى مضيق الصفراء فلما قرب من الصفراء بعث رسول الله r بسبس بن عمرو الجهني حليف بني ساعدة وعدي بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار إلى بدر يتجسسان أخبار أبي سفيان وعيره واستخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن جبلي الصفراء هل لهما اسم يعرفان به فأخبر عنهما وعن سكانهما بأسماء كرهها بنو النار وبنو حراق بطنان من غفار فتركهما على يساره وأخذ على يمينه فلما خرج من ذلك الوادي وأتاه الخبر بخروج نفير قريش لنصر العير ، أخبر أصحابه بذلك واستشارهم فيما يعملون فتكلم كثير من المهاجرين فاستمر رسول الله r في مشورته ، وهو يريد ما تقول الأنصار فبدر سعد بن معاذ وقال يا رسول الله والله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك فسر بنا يا رسول الله على بركة الله حيث شئت فسر رسول الله r قوله وقال سيروا وأبشروا فإن الله عز وجل قد وعدني إحدى الطائفتين وسار رسول الله r حتى نزل قريبا من بدر ، وسأل عن قريش قيل له هم وراء هذا الكثيب، فسأل كم ينحرون كل يوم من الإبل قيل له عشرا من الإبل يوما وتسعا يوما فقال رسول الله r القوم ما بين التسعمائة إلى الألف وكان بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء اللذان بعثهما رسول الله r مستخبرين قد وصلا إلى ماء بدر فأناخا بقرب الماء ثم استقيا في شنهما ومجدي بن عمرو بقربهما لم يفطنا به فسمع بسبس وعدي جاريتين من جواري الحي وإحداهما تقول للأخرى أعطيني ديني فقالت الأخرى إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فأعمل لهم ثم أقضيك فصدقهما مجدي وكان عينا لأبي سفيان ورجع بسبس وعدي إلى النبي r فأخبراه بما سمعا ولما قرب أبو سفيان من بدر تقدم وحده حتى أتى ماء بدر فقال لمجدي هل أحسست أحدا فقال لا، إلا راكبين أناخا إلى هذا التل واستقيا الماء ونهضا فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى فقال هذه والله علائف يثرب فرجع سريعا حذرا فصرف العير عن طريقها وأخذ طريق الساحل فنجا وأوحى إلى قريش يخبرهم بأنه قد نجا هو والعير فارجعوا فأبى أبو جهل وقال والله لا نرجع حتى نرى ماء بدر ونقيم عليه ثلاثا فتهابنا العرب أبدا ، فسبق رسول الله r قريشا إلى ماء بدر ومنع قريشا من السبق إليه ، وأنزل الله عليهم عظيم ولم يصب منه المسلمين إلا ما شد لهم وهد الوادي وأعانهم على السير فنزل رسول الله r على أدنى ماء  من مياه بدر إلى المدينة فأشار عليه الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح بغير ذلك وقال لرسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة فقال عليه الصلاة والسلام بل هو الرأي والحرب والمكيدة فقال يا رسول الله إن هذا ليس لك بمنزل فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من القليب ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء فنشرب ولا يشربون فاستحسن رسول الله r ذلك من رأيه وفعله وبني لرسول الله r عريش يكون فيه ومشى عليه الصلاة والسلام على مواضع الوقعة يعرض على أصحابه مصارع رءوس وصناديد الكفر من قريش مصرعا يقول هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان فما عدا واحد منهم مصرعه ذلك الذي حدده رسول الله r فلما نزلت قريش فيما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فحزر لهم أصحاب رسول الله r وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا منهم فارسان المقداد والزبير ، وبدأت الحرب فخرج عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يطلبون البراز فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبدالله بن رواحة الأنصاري فقالوا لستم لنا بأكفاء وأبوا إلا قومهم فخرج إليهم حمزة بن عبدالمطلب وعبيدة بن الحارث وعلي ابن أبي طالب فقتل الله عتبة وشيبة والوليد وسلم حمزة وعبيدة وعلي إلا أن عبيدة ضربه عتبة فقطع رجله وارتث منها فمات بالصفراء وعدل رسول الله r الصفوف ورجع إلى العريش ومعه أبو بكر وسائر أصحابه بارزون للقتال إلا سعد ابن معاذ في قوم من الأنصار فإنهم كانوا وقوفا على باب العريش يحمون رسول الله r وكان أول قتيل قتل من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب أصابه سهم فقتله وسمع عمير بن الحمام رسول الله r يحث على القتال ويرغب في الجهاد ويشوق إلى الجنة وفي يده تمرات يأكلهن فقال بخ بخ أما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم رمى بالتمرات وقاتل حتى قتل، المسلمين النصر وهزم المشركين وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن محصن فأعطاه رسول الله r جذلا من حطب وقال له دونك هذا فصار في يده سيفا لم يكد الناس يرون مثله أبيض كالملح فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل في الردة رضي الله عنه وكانت وقعة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان ثم أمر رسول الله r بقتلى المشركين فسحبوا إلى القليب ورموا فيه وضم عليهم التراب ثم وقف عليهم فناداهم هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا فقيل له يا رسول الله تنادي أقواما أمواتا قد جيفوا فقال ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون.

ثانيا: منزلة القصص من الدعوة إلى الله.

      القصة وسيلة سهلة الفهم ، كما أنها تحظى بالقبول من العامة والخاصة على السواء، ومن ثم فقد لازمت الإنسان منذ وجوده ، فالإنسان بفطرته مولع بالقصص وميال بطبعه إليه ،وقد حفل كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ، وأخبار الصالحين من الصحابة والتابعين بالكثير من الأحداث ذات الطابع القصصي الجميل، التي تشد الناس نحو مبادئ الدين ، وتعاليمه السامية ، متعاونة في هذا مع وسائل الدعوة الأخرى في إيجاد الفرد الصالح والمجتمع السليم ، بل إن القصص المستمد من الوحيين لا تكتفي النفوس بقراءته مرة واحدة، بل إنها تشتاق إلى تكرار قراءته، ، وفي كل مرة تجد فيه من العبر والعظات والقربة من الله ما لم تجده في مرات سابقة، وربما تأثرت في مواقع منه لم تتأثر به في مواقع سابقة.
      والقصص الرباني أسلوب دعوي يختصر الكثير من المسافات التي ربما لا تقطعها الكلمات والمواعظ، حيث تندمج الأفكار الإيجابية ضمن سياق القصة، فيتلقاها المتلقي بيسر وسهولة ، وتستقر في خاطره أيما استقرار، وسرعان ما تترك آثارها على سلوكه وتصرفاته.

      إن الواقعية والمعقولية في إيراد القصص مطلب أساسي ، وواقع دعوي ، يتحتم على الداعية إلى الله أن يتحرى الصدق في ما ينقله من قصص وأخبار وحوادث، لعامة الناس ، فالصدق والواقعية طريقان سريعان للتقبل والعمل ، ليس على الأمد القريب فحسب، بل حتى البعيد أيضا ، وهذا هو واقع كتاب الله عز وجل ، إذ أن كل قصصه حقيقية لامرية فيها ، كما قال تعالى (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ۚ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)  آل عمران ٦٢ ،وقد ما يقوله الداعية إلى الله من قصص حق وواقعي من الكتاب والسنة ، ولكن إذا رأى أن فيه غرائب قد يفتتن بها عامة الناس ، أو لا تدركها عقولهم ومداركهم العلمية فليمسك عنها ، ولذلك كان سلف الأمة يفرون من غرائب الأخبار ، يقول أيوب السختياني-رحمه الله-” إِنَّمَا نَفِرُّ أَوْ نَفْرَقُ مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِب”، بل كانوا يقرنونها بالمناكير من الأحاديث ، ومن ذلك قول الترمذي- رحمه الله- : ” زِيَادُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَثِيرُ الْغَرَائِبِ وَالْمَنَاكِيرِ “. ولذلك كان للقصص فوائد دعوية ، وآثار توعوية ،وأهداف إيمانية، توضح الأسس والركائز في الدعوة إلى الله ، وبيان لأصول التشريع التي بعث بها كل نبي إلى قومه ، ومن هذه الفوائد والآثار ما يلي:

أولا: تثبيت قلب رسول الله r وقلوب الأمة الإسلامية على دين الله وتقوية ثقة المؤمنين بنصرة الحق كما قال (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) هود ١٢٠ ،ففي أخبار المرسلين وتكذيب أقوامهم تسلية وتصبير لقلب النبيr وللمؤمنين والدعاة من بعده على ما يلقاه من أذى المشركين وتكذيبهم , كما قال تعالى (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ *وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) الأنعام ٣٣ – ٣٤ .

ثانيا: إثبات صدق النبي r في رسالته ، لأن دعوة الأنبياء واحدة ومنهجهم واحد , ولذلك فإن النبي r كما قال تعالى عنه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل ٤٣. وهو عليه الصلاة والسلام، ينبئ بأخبار الأمم السابقة والقرون الساحقة مما لا يعلمه أحد من كتاب العرب فضلا عن أميٍّ مثلِهِ ،وهذا ما أشار إليه ربنا تبارك وتعالى، حيث قال (تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)  هود ٤٩.

ثالثا: أخذ العظة والعبرة من خلال النظر في سنة الله النافذة في هذا الكون , فالعاقبة دائما للمتقين , والبوار والخزي دائماً على الظالمين , وما أكثر الآيات التي تأمرنا بالسير في الأرض للنظر والاعتبار من عواقب وآثار الماضين , وفي هذا يقول عز وجل (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يوسف ١١١ ، ومعنى العبرة: هو التأمل والاتعاظ والاعتبار بأن نقيسَ أنفسنا على السابقين ممن قصَّ الله علينا نبأهم بالحق , فنعلمَ أنَّ سنة الله ماضية فينا كما خلت في الذين من قبلنا , إن خيراً فخير.. وإن شراً فشر.

رابعا: تصحيح العقائد الفاسدة وتثبيت العقائد الصحيحة التي مرتكزها الإيمان بالله وحده, والإيمان بالبعث بعد الموت, وهذا ظاهر من خلال دعوات الرسل والأنبياء جميعاً لأقوامهم.

خامسا: تقويم الخلق والسلوك الفردي والجماعي , وتحقيق خلافة الإنسان في الأرض, وهذا ظاهر من خلال معالجة كل نبي لصفة معينة في قومه عدا الكفر كان يسعى لإصلاحها ، فالقصص يصوِر مثلا شناعة ما كان عليه قوم لوط، وأهل مدين، والطغاة والمفسدون من ظلم وجور ومنع للفقراء، وتصوِر أيضا شناعة الحسد الذي حمل أحد ابني آدم على قتل أخيه، وشناعة طبائع اليهود، وفي جانب آخر تصور ما كان عليه الأنبياء والصالحون من صبر وعدل وعطاء ، وكيف حقق سيدنا سليمان عليه السلام وغيره الخلافة في الأرض على أساس من العدل والخلق والاستقامة.

سادسا: وثمة أهداف أخرى كثيرة لمن تأملها من أولي الألباب , مثل التوكل على الله , لاسيما بالنسبة للدعاة والمصلحين , وانتهاج الأسوة الحسنة في الأنبياء, والتجمل بمكارم الأخلاق , وتعلم آداب الحوار , والجدال بالحسنى , وأساليب الدعوة إلى الله تعالى , وكيف يدخل الداعية إلى قلوب المدعوين , ومعرفة طبائع الناس عامةً عند كفرهم وإيمانهم , وطبائع أقوام بعينهم مثل بني إسرائيل , وكيفية التعامل معها , وتشخيص أمراض المنحرفين والمعاندين , وكيفية معالجتها , وغير ذلك .

       ومما سبق يتضح لنا فوائد وآثار القصص في الدعوة إلى الله، وأنه من الوسائل الأكثر فعالية في إيصال مضامين الدعوة إلى المدعوين ، وبلوغ الأهداف التي يطمع الداعية إلى الله في تحقيقها ، ولا سيما إذا كان القصص مستمد من الكتاب والسنة وحياة السلف والتابعين ، فإن له أبلغ الأثر في نفوس المستهدفين بالدعوة، وصدق الله تبارك وتعالى حين قال  (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يوسف ١١١  ، يقول الإمام الطبري- رحمه الله- “لقد كان في قصصهم عبرة لأهل العقول ، يعتبرون بها ، وموعظة يتعظون بها ، وهذا خبر عام عن جميع ذوي الألباب ، أن قصصهم لهم عبرة، وغير مخصوص بعض به دون بعض” .فالقصص له نتائج وآثار على الداعية والمدعو في السلوك والأخلاق والتعامل ، للثبات على الصراط المستقيم، وكذلك آثاره على مضمون الدعوة، حيث يقوم بإيصاله إلى أمة الدعوة لبلوغ أهدافه ومقاصده.  

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *