مصادر المستشرقين ومواقفهم من مصادرهم في كتاباتهم عن قصص القرآن الكريم… د. ناجي بن وقدان

 

يعتمد المستشرقون في كتاباتهم عن الإسلام وتراثه عموما، وعن علوم القرآن الكريم بما في ذلك القصص بوجه خاص، مصادر ومنابع ومراجع هي في الغالب مراجع لمستشرقين آخرين، تفتقد في غالبيتها إلى المصداقية البحثية والعلمية، وقد يحيلون أحيانا إلى مراجع عربية تفتقد أيضا الدقة في النقل والتوثيق، وقد لا تكون معتمدة عند علماء المسلمين، وقد يكون هذا التنوع والاختلاف في المراجع والمصادر عند أولئك المستشرقين راجع إلى عوامل ومؤثرات عدة، لعل من أبرزها التفرغ التام لدراسة القرآن الكريم وعلومه من قراءات وقصص وغيره، وساعدهم في ذلك إلمامهم التام باللغات الأوربية ، واطلاعهم الواسع بالآداب العربية.

      ومن يطلع على مؤلفاتهم وكتاباتهم يجد أنهم مجرد نقلة بطرق مختصرة لمؤلفات سابقيهم من المستشرقين، مرددين ما قاله أولئك، ويلاحظ أيضا أن كتاباتهم حول التفسير والقصص وغيرها تتأرجح بين لغات أوروبية مختلفة ، كالفرنسية والألمانية والانجليزية، فهم لا يتكلمون العربية في الأصل، حتى من عاش منهم بين ظهراني العرب ، يجد صعوبة كبيرة في فهم العربية عوضا عن أن يكتب بها، ولذلك يرجعون في كتاباتهم إلى ما ألفه سابقيهم من المستشرقين ولا يرجعون إلى المصادر المعتمدة لدى علماء الإسلام. ولذلك نرى اعتمادهم في كتاباتهم ومصادرهم على صنفين من الموارد ، أحدهما مصادر ومراجع باللغة العربية لم تترجم إلى اللغات الأوربية، ولكنها قليلة بالنسبة إلى غيرها من المترجمة من الكتابات الاستشراقية، منها مذاهب التفسير الإسلامي  المنشور في ليدن سنة 1920 م ، ومنها أيضا مادة  قرآن  ضمن الموسوعة الإسلامية ، الطبعة الثانية مكتبة بريل ليدن 1981 م ، والآخر تلك الكتابات الاستشراقية في علوم القرآن الكريم وهي الأكثر شيوعا، كلها بدون استثناء من كتابات المستشرقين أو تلامذتهم بشتى اللغات الأوربية.[1].

 والمتتبع لهذه المصادر يجد أن الصنف الأول تحكمه التوجهات والأهداف الاستشراقية في قضية الفوائد المرجوة منه، فنرى المستشرق جولد تسيهر في كتابه (مذاهب التفسير) عند حديثه عن القراءات يحيل في التوثيق إلى كتاب الكشاف للزمخشري، مع أن هذا الكتاب ليس مرجعا معتمدا عند المسلمين في القراءات، وإنما هو كتاب تفسير فقط، وقد يجد القارئ في هذا الكتاب ما يدل على تعصب الزمخشري لرأيه مع إيراده لقراءات شاذة ومردودة، ففي هذه الحالة يستغل المستشرق الفرصة، ويستعمل هذا الأمر في التدليس والتلبيس والتشكيك في مضامين القرآن الكريم، ويمكن القول فيما سبق، أن التصورات الخاصة لدى بعض المستشرقين ، هي التي تحكم كل ما يأخذونه عن المراجع والمصادر العربية لعلوم القرآن الكريم، بل إن المتتبع لكتاباتهم يجد أحيانا نوع كذب وتدليس ينسبونه إلى تلك المصادر لترويج بضاعتهم الفاسدة في التشكيك والصد عن دين الإسلام.ودراسات المستشرقين لمضامين القرآن والسنة من قصص وغيره لا يمكن الاعتماد عليها كمصادر علمية وبحثيه صحيحة، بل لا يمكن الوثوق بها، وذلك لافتقارها إلى المصداقية والموضوعية العلمية، ولا تخضع لأبسط معايير البحث العلمي، وقد يستشهدون ويقتبسون في دراساتهم باستشهادات منقولة من أمهات الكتب المعتمدة عند المسلمين، ولكن هذه النقول يعتريها سوء النقل وسوء الاستشهاد إذا أنها تفتقر إلى الأمانة والدقة والتجرد والموضوعية، ويعتريها الكذب والتدليس والتشكيك والتحريف. وللوقوف على بعض الأمثلة في ذلك وإثباتا لما سبق نرى المستشرق هاملتون جب في كتابه النظم والفلسفة والدين في الإسلام[2] الذي ملأه بالكثير من المغالطات التي يلاحظها كل من قرأ له من عامة الناس عوضا عن علمائهم، يقول هذا المستشرق حول القرآن الكريم، والرسول صلى الله عليه وسلم” سأتحدث في المقالة الثانية عن المشارب الجديدة التي يسرها القرآن للطاقات الشعورية والخيالية لدى العرب وعن أثرها في المواقف الدينية الإسلامية، أما في هذا المقام فإن ما يهمنا هو جمهور العرب الوثنيين الذين تقبلوا التعاليم القرآنية دون أن يتخلوا تمام التخلي عن معتقداتهم القديمة، فكان ما حققه محمد لديهم هو أنه فرض قوة سيطرة عليهم باسم الله القوي المتعال وجعلها فوق ما عندهم من حصيلة ، وبذلك ظل الموروث العربي القديم قائماً تحت هيمنة ذلك القادر الأعلى، وظل لديهم إيمانهم بالسحر وبالقوى الغيبية، وبخاصة الشرير منها كالجن وبالقرينة أو التابع  كل هذه المعتقدات وأشباهها ظلت قائمة مصبوغة بصبغة إسلامية تكثف هنا أو ترق هناك، لتلعب دوراً كبيراً في أفكار المسلمين من العالم”[3]. والقارئ لهذه المقولة سيتبين له جليا مصادرها ومشاربها ، وأنها مأخوذة مما قاله أسلافه من المستشرقين، دونما اعتماد على مصادر علمية صحيحة، إضافة إلى ركاكة الأسلوب وعدم الوضوح فيما أورده من كذب وافتراء ومخالفة للحقائق.

مواقف المستشرقين من مصادرهم في الكتابة عن قصص القرآن الكريم:

تنوعت واختلفت مصادر ومراجع المستشرقين حول الإسلام والقرآن الكريم ومضامينه وحول السنة الشريفة، ولعل هذا التنوع والاختلاف يدل على اتجاهاتهم نحو الإسلام وتراثه، من أجل دراسته وبث الشكوك حوله، والطعن في أصالته ومنبعه، وتلك المصادر  هي في الغالب مراجع لمستشرقين آخرين، تفتقد في غالبيتها إلى المصداقية البحثية والعلمية، بل ومجانبة للأمانة العلمية التي يجب أن يتحلى بها كل باحث ومنصف، وقد يحيلون أحيانا إلى مراجع عربية تفتقد هي أيضا إلى الدقة في النقل والتوثيق، وقد لا تكون معتمدة عند علماء المسلمين، ويتضح موقف المستشرقين من هذه المصادر، من خلال تقسيمهم إلى فريقين:

الفريق الأول: هم أقل شأنا من الفريق الثاني في موقفهم من المصادر الإسلامية فيقبلون صحة عامتها، ولكنهم لا يهتمون بإسناد الروايات وغير ذلك من عوامل صحتها، ويميلون إلى استخدام تلك الروايات التي تؤيد وجهات نظرهم بدون نقد أو اعتراض وينتقدون تلك التي تتعارض مع آرائهم واتجاهاتهم.

الفريق الثاني: هم أولئك المتطرفون في موقفهم من المصادر، ويقولون إنها ليست معاصرة وقابلة للاعتماد عليها، في الحديث عن التاريخ الإسلامي للقرنين الأول والثاني، ومع أن الكثيرين من الفريق الأول يقومون بدحض مزاعم الفريق الثاني في المصادر، ومع أن العلماء المسلمين أيضا يقومون بدحض هذه المزاعم، فإنهم أي الفريق الثاني، يصرون على موقفهم وذلك خصوصا من أجل النيل من القرآن والإسلام، ويبذلون جهدهم في النفي والتشكيك والصد عن هذا الدين الحنيف.

أما بالنسبة للموقف من القرآن على وجه الخصوص وما يتضمنه من وقائع وقصص وأخبار لا تقبل الكذب والتشكيك، فإن الفريقين متساويان، فالفريق الأول يحاول بشتى الوسائل والحجج إثبات أن القرآن من تأليف محمد r وأنه مقتبس من اليهودية والنصرانية والديانات القديمة الأخرى، والفريق الثاني يبني على هذه الاستنتاجات ومن ثم يذهب إلى أبعد الحدود ويقول إن المصادر التاريخية الإسلامية لا يمكن الاعتماد عليها للقرنين الأولين والقرآن ليس فقط من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم ، بل إنه تطور عبر قرنين ثم اتخذ شكله الحالي في نهاية القرن الثاني أو بعده.

كما أن الفريقين يهدفان إلى جعل القرآن مساويا لما يسمَّى بالكتاب المقدس من حيث التاريخ، أو كما يقولون: إن للقرآن تاريخا كما للكتاب المقدس تاريخ، والله عز وجل قد أبطل تلك الاستنتاجات والأقوال والحجج بقوله (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ *فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) يونس ١٥ – ١٧، يقول الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي-رحمه الله- ” فقد لبثت فيكم عمرا طويلا قبل تلاوته ، وقبل درايتكم به، وأنا ما خط ببالي ولا وقع في ظني، حيث لم أتله في مدة عمري، ولا صدر مني ما يدل عل ذلك، فكيف أتقوله بعد ذلك، وقد لبثت فيكم عمرا طويلا، تعرفون حقيقة حالي، بأني أمي، لا أقرأ ولا أكتب، ولا أدرس ، ولا أتعلم من أحد، فأتيتكم بكتاب عظيم، أعجز الفصحاء، وأعيا العلماء”[4].

إن جميع استنتاجات الفريقين فاسدة وباطلة، لكن المنتمين إليهما لا يشعرون بذلك، وفي الآونة الأخيرة كثفوا جهودهم في بسط آرائهم وترويجها، فيقومون بإعادة طبع كتابات المستشرقين القدماء في هذا الموضوع من ناحية ، وفي إعداد منشورات جديدة أخرى من ناحية ثانية. يخبرنا توبي ليستر ” أن المستشرقين الأوروبيين والأمريكيين قد تبنوا مشروعا لإعداد ما يسمونه بـ”الموسوعة القرآنية” والتي ستتضمن جميع ما توصل إليه علماء الغرب في القرن المنصرم في الدراسات القرآنية”[5] ولهذا كانت هذه هي مواقفهم من مصادرهم، إذ المهم عندهم هو ما يؤيد أقوالهم ويدعم حربهم الفكرية على كل ما يتصل بالإسلام والقرآن، ويحقق لهم ما يصبون إليه من التشويه والتشكيك، والصد عن هذا الدين، ومع ذلك كانت أعمالهم عليهم هباء منثورا، إذ أن الإقبال على الإسلام كبير، والداخلين فيه كثير، و ليتمن الله ما أراد م علو كلمته، وانتشار دينه، كما قال جل وعلا (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) التوبة ٣٢ ، ولذلك فإنه من الضروري متابعة ما يكتبونه وينشرونه ومواجهتهم في ساحتهم وذلك بدحض كل استنتاجاتهم وشبههم وافتراءاتهم، وردها عليهم.

[1] وللتوسع ينظر مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، الرياض، العدد 67، من رجب إلى شوال 1423ه، الصفحة 144-147.

[2] النظم والفلسفة والدين في الإسلام، هاملتون جب، المركز العربي للكتاب، دمشق، ص 108.

[3] النظم والفلسفة والدين في الإسلام ص 58.

[4] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 2/308-309.

[5] وللتوسع ينظر مزاعم المستشرقين حول القرآن الكريم، محمد مهر علي، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، 1421 ه، 1/36 . 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *