شُبُهَاتِ المسْتَشْرِقينَ حَولَ قَصَصِ القُرآنِ الكَرِيم والرَّد عَليْها ( الشُبْهة الأولى) ….. د. ناجي بن وقدان

   أولا: عرض الشبهة وتوثيقها.

“زعمهم تشابه القرآن واليهودية في القصص مثل قصة ابني آدم وقصة إبراهيم، يقول المستشرق اليهودي المجري إجناتس جولد تسيهر” كان هناك ما ورد في الكتب السابقة من مختلف القصص التي أجملها محمد، وقدمها في منتهى الإيجاز وأحيانا على وجه متداخل، ليذكر على سبيل الإنذار والتمثيل بمصير الأمم السابقة الذين سخروا من رسلهم ووقفوا في طريقهم”[2].

ثانيا: الرد عليها ردا إجماليا.

     إن مما أثبته القرآن الكريم هو ثبوت نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وتنوعت دلائل ذلك من بشارات في الكتب السابقة، وإرهاصات نبوته قبل مبعثه، وإعجاز القرآن الكريم، والمعجزات الكثيرة الدالة على صحة رسالته، وما يُعلم من مسيرته، كما قال تعالى( لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )الأعراف: ١٥٧، ولذلك دلت الآية على أنه عليه الصلاة والسلام كان أميا وهذا معلوم من سيرته، وهذا أبلغ في استبعاد أن يكون استقى من أهل الكتاب وغيرهم، وأنه لم يطلع على التوراة والإنجيل، ولم يقرأها أحد عليه، كما أنهr لم يتلق عن أهل الكتاب ما زعموه مطلقا، ولم يكن يجالس أهل الكتاب قبل البعثة، ولقاءاته بهم بعد بعثته صلى الله عليه وسلم كانت على قلتها عامة بغرض دعوتهم، لا للتلقي عنهم، كما حدث مع نصارى نجران ويهود المدينة، وعلى افتراض أنه r جلس مع أهل الكتاب سرا، فإنه من المستحيل أن يكون هذا الدين العظيم بما فيه من عقائد وشرائع وأخبار وآداب هو حصيلة تلك الاجتماعات مطلقا، وقد ذكر ابن تيمية-رحمه الله- بقوله” وقد علم بالتواتر أن المشركين من قريش وغيرهم، لم يكونوا يعرفون هذه القصص، ولو قدر أنهم كانوا يعرفونها، فهم أول من دعاهم إلى دينه فعادوه، وكذبوه، فلو كان فيهم من علمه، أو يعلم أنه تعلم من غيره لأظهر ذلك، ولو كانت هذه القصص المتنوعة قد تعلمها صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب مع عدوانهم له، لكانوا يخبرون بذلك ويظهرونه ولو اظهروا ذلك، لنقل ذلك وعرف، فإن هذا من الحوادث التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها “[3] .

      وأما قولهم بالتشابه بين قصص القرآن الكريم، وقصص التوراة، فهذا لا يدل أبدا على الاقتباس من التوراة، وإنما يدل على وحدة المصدر بين الكتب السماوية، بأنها في أصلها وحي من الله تعالى إلى أنبيائه ورسله، ثم إن هناك اختلاف بين قصص التوراة وقصص القرآن الكريم، إذ أن المقْتَبِس لابد أن ينقل الفكرة من القصة أو بعضها، وهذا خلاف القرآن الكريم، فإنه يتجاوز ذلك فيأتي بجديد لم يذكر في قصص التوراة والإنجيل، بل ويصحح خطأ وقع فيها، ولهذا تحداهم الله في القرآن الكريم، أن يأتوا بآية من مثله، فكيف يكون مستقى من التوراة؟ كما قال سبحانه ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ) الطور: ٣٤، فإذا كانوا لا يستطيعون ولن يستطيعون وهم بشر، فكيف يتأتى للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي به من عنده وهو بشر مثلهم؟، وهذا رد إجمالي على هذه الفرية لعله اتضح في عمومه وإجماله بطلان ما يدَّعون.[4]

ثالثا: الرد عليها ردا تفصيليا. 

       إن المزاعم التي يدعيها ويفتريها المستشرقون وتلامذتهم في العالمين العربي والإسلامي، ترجع في أصولها إلى ما كان يدعيه ويزعمه مشركوا مكة حول أصالة ومصدرية القرآن الكريم، ولذلك فإن القرآن الكريم تصدى ووقف بحزم وصرامة في وجه تلك المزاعم والافتراءات، فاضحا أمرها، ومبينا بطلانها، وذلك من خلال ما يلي:

أولا: أن القرآن الكريم تحدى أولئك المعاندين، أصحاب اللجاجة والجدل العقيم، الذين لا ينقادون للحقائق والأمور المسلم بها، والذين يرفضون عمدا وإصرارا على الباطل، أي برهان أو دليل حق وإلزام وحجة بالغة ودامغة، فقد تحداهم القرآن كما قال تعالى (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الإسراء: ٨٨  ، قال ابن كثير-رحمه الله- ” أخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل الله على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثال ولا عديل له”[5]، وقوله عز وجل(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) هود: ١٣  ،وقوله سبحانه (  أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )يونس: ٣٨، وقوله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ۖ كَفَىٰ بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۖ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الأحقاف: ٨، إلى غير ذلك من الأدلة والآيات التي تحدى الله فيها أولئك القوم أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم، فكيف للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي به من عنده وهو بشر مثلهم؟ فإن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد استطاع بمساعدة أهل الكتاب أن يأتي بالقرآن من عند نفسه، فليحاول أهل الكتاب أنفسهم ومعهم الثقلان من الجن والإنس أن يأتوا بمثل القرآن إن كانوا صادقين في زعمهم مبدأ الإفادة، وهذا التحدي بلا شك مبطل لكل دعاوى أهل الاستشراق والتنصير، يقول د. عبدالراضي محمد عبدالمحسن ” وهذا التحدي القرآني لمجادلي التنصير يشتمل على دليل بطلان مزاعمهم، إذ التحدي مكلَّل بفشلهم وهو دليل على بطلان دعواهم”[6].

ثانيا: خلو القرآن الكريم تماما من التناقض والتضارب والاختلاف، فلو حصل هناك مقارنة لوجدنا كتب التوراة والإنجيل التي بأيدي المستشرقين، مليئة بالمتناقضات والاختلافات والاضطراب، لما لحقها من التحريف والتبديل والتغيير، فلم تعد هي الأصل الذي نزل من السماء، أما القرآن الكريم فهو على أصله لم يعتريه أي تحريف ولا تغيير، فهو يدعو إلى تأمل آياته وقصصه وأخباره، فلو حصل هذا التأمل والتفكر ، لوجدنا نتيجة لا يشوبها شك ولا ريب بأن القرآن الكريم منزه عن كل خلل وعيب ونقص ، وهذا دلالة قاطعة على أصالته وأنه وعلى مدار القرون والسنين لم يعتريه أي تغيير، بل ولم يستطع أي كائن بشري مهما علت رتبته العلمية أن يغير فيه أو يبدل، وهذا وحده كاف على أنه كتاب معجز وأنه ليس من تأليف البشر، ولم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، أما غيره فيشتمل على وجوه من الاختلاف والتضارب، ولهذا قال تعالى مثبتا إعجاز القرآن الكريم وأصالته (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء: ٨٢   ، وقوله عز وجل (  لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصلت: ٤٢، قال ابن كثير-رحمه الله- ” أي ليس للبطلان إليه سبيل ، لأنه منزل من رب العالمين”[7]، ومن جهة أخرى نرى القرآن الكريم، قد ألجم مجادليه من المستشرقين وغيرهم من أهل الأهواء، بحقيقتين تاريخيتين، وحجتين دامغتين، أولاهما بيانه لأمية النبيr وأنه لا يعرف قراءة ولا كتابة، وإذا كان كذلك فكيف يكون القرآن من تأليفه؟ كما قال سبحانه وتعالى   (  وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) العنكبوت: ٤٨، و الحقيقة الأخرى وهي زعمهم أن الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن هو الحداد الأعجمي، يقول د. عبدالراضي محمد عبدالمحسن ” فالحداد الذي نسبوا إليه تعليم النبي r كان لسانه أعجميا لا يجيد العربية بينما القرآن في أعلى طبقات الفصاحة التي سجد لها بعض الأعراب، والتي لا يستقيم عقلا أن يتعلمها النبي صلى الله عليه وسلم من أعجمي، كما قال تعالى( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) النحل: ١٠٣”[8] يقول الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي-رحمه الله- ” يخبر تعالى عن قول المشركين المكذبين لرسوله( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ)   أي هذا الكتاب الذي جاء به بشر، وذلك البشر الذي يشيرون إليه أعجمي اللسان، وهذ القرآن ( لسان عربي مبين) هل هذا القول ممكن؟ أو له حظ من الاحتمال؟ ولكن الكاذب، يكذب، ولا يفكر فيما يؤول إليه كذبه، فيكون في قوله من التناقض والفساد، ما يوجب رده، بمجرد تصوره”[9].

     إن هذه المزاعم التي لا تعدو عن كونها كذب وافتراء نابعين عن حقد دفين ، وحسد ذميم، قد تهاوت وتكسرت على جدار الحقيقة، وصلابة الإسلام والقرآن، الحقيقة التي أثبتت أن القرآن الكريم لم يأخذ عن النصرانية ولا اليهودية في قصصه ومضامينه، وإنما العكس هو الصحيح، إذ كان التأثير عكسيا، حيث تأثرت النصرانية واليهودية بالقرآن والإسلام، يقول د. عبدالراضي محمد عبدالمحسن ” وهذا الاتجاه التأثيري العكسي وإن كان على غير المألوف إلا أن له ما يسوغه، حيث جاءت اليهودية والنصرانية دعوة مرحلية لجماعات قبلية محدودة من البشر، فلمّا أرادت تجاوز طبيعتها وأهداف رسالتها احتاجت إلى عناصر تمكنها من ملاءمة الدائرة الزمانية والمكانية والثقافية الجديدة التي أرادتها لنفسها، ولمّا كانت تفتقد إلى تلك العناصر التي لم تتوفر إلا للإسلام بحكم طبيعة رسالته العالمية الخاتمة، فإن اليهودية والنصرانية تلمّستا تلك العناصر في الإسلام واقتبستها منه”[10]، ويقول مالك بن نبي[11]” حتى إننا لا ندري إلى أيّ مدًى يمكن أن تكون ثورات الفكر المسيحي منذ الحركة الألبية حتى حركة الإصلاح البروتستانتي محسوبة كنتائج مباشرة أو غير مباشرة لمفهوم العقيدة في القرآن “[12].

       ولقد شهدت مؤلفات المستشرقين بذلك، وأثبتت أن الإسلام هو المؤثر القوي في غيره، وأخفقت تلك المزاعم الاستشراقية، ففي قاموس ( برتلس مان لديانات العالم) ” لقد أثَّر الإسلام تأثيرا عظيما في العقيدة المسيحية والفلسفة، وقاد على سبيل المثال إلى نقاش جديد حول عبادة الصور وتقديسها في المسيحية “[13].

        ولقد كان تأثير الإسلام عاما على العقائد والشرائع والكتب المقدسة اليهودية والمسيحية، وذلك من خلال المبادئ الثلاثة عشر التي جعلها موسى بن ميمون[14] أساس الدين اليهودي وأركان الإيمان فيه، فصاغها على غرار أصول الإيمان في الإسلام، وأدرج فيها بعض أصول الإيمان الإسلامية مما لم يكن معروفا في اليهودية من قبل أو مدرجا في العهد القديم، كالاعتقاد بأن الله عالم، وبالثواب والعقاب في الآخرة، والاعتقاد في بعث الموتى ، وهذا يؤكد اقتباس ابن ميمون هذه الأصول من الإسلام.[15] وأما زعمهم بأن قصص القرآن الكريم مستنسخ ومكرر من قصص التوراة والإنجيل، فهذه الفرية متهاوية ومتصدعة كالدعوى التي قبلها، إذ أن معاشر المستشرقين وتلامذتهم وسفراءهم في العالمين العربي والإسلامي، يتجاهلون عمدا ذلك التباين والبون الشاسع بين قصص القرآن الكريم، وبين ما ورد في التوراة والإنجيل، وذلك يتجلى من خلال ما يلي:

أولا: الاختلاف الواضح البين بين المنهج القصصي في القرآن الكريم، عن المنهج القصصي في التوراة والانجيل، شكلا ومضمونا، ولغة ودراية، وذلك يتبين جليا من سياق ما يلي:

أ) أن المصدرية القصصية في القرآن الكريم هي من عند الله جل وعلا، فمنه أتى ونزل، وهو كلمه الطيب المحكم، وهو أحسن القصص على الإطلاق وأجمله، شكلا ومعنى ومضمونا، الذي لا يعتريه نقص ولا خلل، كما قال سبحانه عن نفسه ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) يوسف: ٣ ، أورد الإمام الطبري وابن كثير- رحمهما الله-” عن ابن مسعود أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا : لو قصصت علينا يا رسول الله ، فنزلت هذه الآية ، ثم ملوا ملة أخرى فقالوا : لو حدثتنا يا رسول الله ، فنزلت(تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)الزمر: ٢٣ “[16] وقوله جل شأنه ( نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) الكهف: ١٣ ، أما في كتب التوراة والإنجيل، فالله متحدث عنه بطريق الحكاية لتعريف الناس به. 

ب) الاختلاف الواضح البين بين المنهج القصصي في القرآن الكريم، عن المنهج القصصي في التوراة والانجيل، وذلك من خلال الخيال القصصي، فالخيال القصصي في التوراة والانجيل يقوم بدور كبير  في تأليف وصياغة القصص، سواء كان ذلك في الأسلوب أم في العرض، وهذا التأليف وهذه الصياغة لم يكتشفها الباحثون من العلماء المسلمين فحسب، بل اكتشفها الباحثون الغرب أنفسهم، ومنهم جيمس فريزر[17] عن الفلكلور[18] في العهد القديم، الذي كشف في دراسة له، خفايا هذا التأليف وهذه الصياغة، وتعد هذه الدراسة من  المرجعيات في هذا الأمر.[19] وهناك أيضا دراسة لا تقل شأنا من تلك، وتعد أيضا مرجعا مهما عند الغرب، وهي دراسة زينون كاسيدوفسكي  عن الحقيقة والأسطورة في التوراة والتي لخّص فيها مكانة الخيال والخرافة في القصص التوراتي، بقوله: ” تناقل اليهود تراثهم الديني من جيل إلى جيل، وساهم الطابع الفلكلوري لنقل الروايات الحقيقية بتطعيمها بكثرة من الخرافات والأساطير والأمثال والأقصوصات، جعلت من الصعب الآن التمييز بين الواقع والخرافة فيها “[20] ، وهذا شهادة حق شهد بها شاهد من أهلها، على خرافة القصص التوراتي والإنجيلي المحرف، تكون حجة على أولئك المستشرقين من أوساطهم ومن ذواتهم.

       ولم تعد الأساطير والخرافات مقتصرة على العهد القديم للتوراة والانجيل، بل انتقلت بتحريفاتها إلى العهد الجديد، ولذلك قام أحد رواد مدرسة الأشكال الأدبية وتاريخ الأديان رودولف بولتمان، بتطهير العهد الجديد من براثن الخرافات والأساطير، وهذا إثباتا على أنها موجودة في كتبهم المحرفة، حتى يكون لها قيمة (على حد زعمه)، وإن مما قاله في ذلك ” تقف المسيحية اليوم أمام خيار عسير، فبمطالبتها الإيمان بعقائدها فإنها تشق على البشرية بإلزامها التسليم بقصص وخرافات أسطورية عفا عليها الزمن”[21].

        أما القرآن الكريم فيختلف عن ذلك تمام الاختلاف، فلا مكان للخيال القصصي فيه، ولا طريق له إليه، فقصصه كله حق ، حيث يلجأ القرآن في قصصه إلى الاحتكام لمعياره النقدي في نقل الأخبار كما قال عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) الحجرات: ٦، فهو ينقل أخبار ووقائع وقصص واقعية لا مجال فيها للكذب والتدليس، تحكي أحداثا تاريخية صادقة ظاهرة للعيان، واضحة جلية لا غموض فيها ولا خفاء كما قال سبحانه( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)آل عمران: ١٣٧، ولقد أثبت القرآن الكريم صدق ما جاء فيه من قصص وحوادث ووقائع في الأمم السابقة لسوق العظة والاعتبار لتجنب ما وقعت فيه ، وذلك من خلال آثار القصص القرآني الشاهدة على الصدق التاريخي، مثل آثار سيل العرم الذي هدّم سد مأرب باليمن، فلا زالت آثار الجنتين الواقعتين عن يمين السد وشماله ماثلة حتى اليوم تؤكد صحة قصة سبأ كما أخبرنا الله عن ذلك بقوله( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)سبأ: ١٥ ، قال ابن كثير –رحمه الله- في شأن هذه الواقعة ” كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام من جملتهم، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم، وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى، ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ ، شذر مذر”[22]، وفي الجانب الآخر، اكتشف علماء الآثار النقوش الثمودية في أرض تبوك ومدائن صالح وتيماء ولا زالت مرفقا سياحيا وموقع عظة واعتبار حتى اليوم[23] .

      إن هذه الوقائع لتدل على صدق القرآن الكريم، وحقيقة قصصه( إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ۚ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) آل عمران: ٦٢ ، ولهذا جاء القرآن الكريم ليصف قصصه بأنه ﭽ ﯔ  ﯕ      ﭼ يوسف: ٣ ، وذلك لتوافر الخبر والعلم والمعاينة في آن واحد ﭽ ﮐ  ﮑ  ﮒﮓ  ﮔ  ﮕ            ﮖ   ﭼ الأعراف: ٧  ، ولقد دأب القرآن الكريم على التعبير بالصورة المحسوسة الحقيقية، وهذا المنهج القرآني الفريد هو الأداة المفضلة في عرض القصص . وكذلك تفرد القرآن الكريم بخاصيتي التصريح والتلميح، فتارة يصرح وأخرى يلمح، بما يبرز فيه من أدق التفاصيل النفسية والشعورية لشخصيات القصص، فيعرض للقارئ والمستمع تلك المشاهد والتفاصيل دون التعرض لذكر الأسماء، كما هو الحال في قصة (العبد الصالح) و ( فتى موسى) و قصة ثمود( إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا) الشمس: ١٢ و ( مؤمن آل فرعون) ، وهذه الخصائص وغيرها لا تتوافر في أي كتاب منزل إلا القرآن الكريم، مما يؤكد كذب وافتراء المستشرقين في ما أوردوه من الشبهة حوله، يقول د. حسين علي محمد “وقد يكون هذا التلميح إلى جانب ملاءمته للمنهج القصصي الذي يهتم بإبراز الحدث وقيمته ومغزاه لكونه الهدف من القصّ، فإنه يناسب طبيعة التشريع الإسلامي فيما يخصُّ أسماء النساء مثلا: امرأة نوح وامرأة لوط وامرأة فرعون ، وكذلك زوجة إبراهيم هاجر وسارة ، وأسماء زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، والمجادلة في زوجها “[24] .

وإن مما يثبت صدق قصص القرآن الكريم وحقيقته، وأن ليس بينه وبين القصص التوراتي والانجيلي أي تشابه، التجريد الزماني والمكاني، حيث لا يحدد القرآن زمن الحدث أو مدته أو مكانه إلا ما كان محوريا في الحدث أو مسرحا له كمصر في قصة يوسف ، وكذلك في قصة الإسراء والمعراج من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وكما في قصة نوح عليه السلام، وقصة أصحاب الكهف في نومهم، وكما في قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها في سورة البقرة، ولعل من أسباب وجود التجريد الزماني والمكاني في قصص القرآن الكريم، العناية التي أولتها القصة للحدث الذي وقع فيها، إذ أنها تقرر الحقائق وتستقل بها عن ذكر الأشخاص بعينهم، ويمكننا من خلالها الإفادة من الحكمة والمغزى لهذه القصة في كل زمان ومكان بما يتناسب وعالمية القرآن الكريم واستمرارها ، فما دور الأشخاص في هذه الحال إلا أمثلة لتلك الحقائق التي تضمنتها تلك القصة المقصودة لذاتها، وكذلك نجد أن الإيجاز الغير مخل، قد تحقق في قصص القرآن ، إيجاز في العبارة وإيجاز في السرد لا نجد شبيها له في غيره من الرسالات، وهذا بلا شك دلالة على الإعجاز العظيم الذي يتمتع به هذا الكتاب العزيز.[25]   

       وإن مما تفرد به القرآن الكريم، وبرهن على صدقه وأصالة مصدريته، التنويع بين الإجمال والتفصيل، فيذكر في قصصه تارة، التحذير من العناد والتكذيب والإصرار على الباطل، والتخويف من مصائر المكذبين، يكون بالإيجاز والفواصل القصيرة دون ذكر للأسماء أو للمحاورات ، فعلى سبيل المثال يورد القرآن الكريم ، تسع آيات من سورة الفجر فيها ثلاث قصص لمكذبي الرسل تشمل أعمالهم وعقابهم، كما قال عز وجل(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*لَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ) الفجر: ٦ – ٨ والقصة الثانية في قوله سبحانه (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ) الفجر: ٩ والقصة الثالثة في قوله جل شأنه( وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ*الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ*فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ*فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ*إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) الفجر: ١٠ – ١٤ ، وهذا الذي لا ند له ولا نظير في كتب التوراة و الإنجيل، فهو يثبت يقينا أنه ليس من تلقاء بشر، وأنه لم يقتبس أو يأخذ من كتب التوراة والإنجيل شيئا، وأن الشبهة مردودة على أهلها بقوة الدليل، وثبوت الحقيقة.[26]

       كما أن ختام القصة وعاقبتها في القرآن الكريم، يكون في الغالب في قالب من  العبرة والعظة  والحكمة، وتقرير موجز ، كما في قصة موسى عليه السلام والسامري والعجل كما قص الله علينا ذلك بقوله(إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) طه: ٩٨ ، وكذلك في قصة أهل الكهف كما في قوله تعالى(قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) الكهف: ٢٦ ، وأيضا في قصة يوسف عليه السلام( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) يوسف: ١٠٠ .

       وفي قصة مريم وابنها كما في قوله تعالى( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ*مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)مريم: ٣٤ – ٣٥ ، فيعطي القارئ والسامع خاتمة قصصية تتجلى فيها معاني العظة والعبرة، وبأسلوب واضح جلي، يتسم بالإيجاز والجمال، بينما الختام في قصص التوراة والإنجيل، يختلف تمام الاختلاف، حيث تختم القصة مع نهاية السفر أو الإصحاح، ففي قصة يوسف مثلا يفترض أن تكون الخاتمة في لقاء يوسف بأبيه يعقوب الذي صورته التوراة على النحو التالي” فشد يوسف مركبته وصعد لاستقبال إسرائيل أبيه إلى جاسان[27]، ولما ظهر له وقع على عنقه وبكى على عنقه زمانا، فقال إسرائيل ليوسف أموت الآن بعد ما رأيت وجهك أنك حيّ بعد.[28] يقول د. حسين محمد علي ” ومع أن عبارة يعقوب لم تمس سبب العقدة الأصلية في القصة وهي رؤيا يوسف وتآمر إخوته عليه، فإن القاصّ في التوراة يكمل الأحداث بعد هذا اللقاء ليصف لقاء يعقوب بالفرعون، والمكان الذي أقطعه لبني إسرائيل، ومرض يعقوب وموته”[29]، ومن هنا يتبين لنا الاختلاف بين المنطق التعبيري القصصي للقرآن الكريم ، ومنطق التوراة، حيث أثبت هذا الاختلاف استقلالية القرآن الكريم في قصصه ومضمونه، وأنه وحي من الله تعالى لم يعتريه تحريف ولا تبديل، مثل ما حصل للتوراة والإنجيل، وأن القرآن الكريم لم يستقي قصصه لا من التوراة ولا من الإنجيل.

      وللتباين في الأهداف دور كبير في هذا الاختلاف، إذ أن أهداف القصة في القرآن الكريم، تختلف تماما عن أهداف القصة في التوراة والإنجيل، وذلك من خلال ما يلي:

أولا: يشكل العهد القديم والعهد الجديد سجلا تاريخيا لحياة الشعب الإسرائيلي والنصراني، فهو كتاب تاريخ للاعتقاد والرؤساء والأنساب والتقاليد والنظم الاجتماعية والعلاقات الشخصية، لذلك جاءت عناوين الأسفار ملخّصة لمضمون تاريخها، مثل سفر التكوين الذي يؤرخ لبدء الخليقة، وسفر الخروج الذي يؤرخ لخروج اليهود من مصر، وسفر العدد الذي يحصي أعدادهم، وسفر اللاويين الذي يؤرخ لأحكام الكهنة من بني لاوي، وسفر التثنية الذي يعيد الأحكام والفروض والوصايا، ولما كان الهدف من الكتابين التأريخ جاءت القصص فيهما في إطار الهدف العام، فجاءت سردية تاريخية متنوعة ما بين التأريخ للأنساب كما في الإحصاءات التي يقوم بها العهد القديم لأعداد بني إسرائيل الداخلين إلى مصر والخارجين منها والداخلين إلى فلسطين والمهجّرين منها.[30] ويتضح مما سبق ، أن القصص التوراتي والإنجيلي لا يعدوا عن كونه سرد تاريخي بأحداث تاريخية، ليس لها أي أثر إيجابي في النفس والوجدان، ولا تملك أدني درجات التشويق لمن يقرأها أو يسمعها، تضم كلاما ركيكا غريبا لا تكاد النفس أن تصل إلى ما يرمي إليه ، ولا إلى الهدف الذي يريد تحقيقه في النفس البشرية.

ثانيا: أن القصص القرآني جاء لأهداف وغايات عظمى، لمن أمعن النظر، وأطال التفكير، وأدرك المعاني بالتأمل، وليس مسوقا لذاته ، أو مجرد سوق وسرد تاريخي بحت، لأنه مبني على توجيه رباني كريم، فليس من كلام البشر ولا منقولا من كتب وأسفار ومعاجم، كما قال تعالى ﭽ ﯦ  ﯧ   ﯨ  ﯩ  ﯪﭼ الأعراف: ١٧٦، وجاء القصص أيضا ليحقق هدفا أسمى، وغاية عظمى، وهي تحقيق التوحيد والعقيدة والدلالة عليهما، كما تبين ذلك من خلال قصة نوح مع قومه، وإبراهيم مع أبيه وقومه، وموسى مع فرعون، كما قال تعالى(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)الأنعام: ٧٤، وقوله عز وجل( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ) المؤمنون: ٢٣،( وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ*حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)الأعراف: ١٠٤ – ١٠٥، وفي قصص القرآن الكريم تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين على الدين، ودفعا لهم في المضي قدما لنشر دعوة التوحيد وجهاد الأعداء، وتثبيت دعائم الإسلام، رغم ما يلقونه من الأذى وتعنت المشركين، وتكبد كل عناء ومشقة، وبذل النفس والنفيس في سبيل الله، فالله يقص على رسوله والمؤمنين أنباء ما قد سبق ليكون لهم زاد وبلاغا إلى حين، كما قال تعالى(وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ)هود: ١٢٠، وفي قصص القرآن الكريم فصلا للخلاف والاختلاف والتضارب في قصص التوراة والإنجيل، كما قال عز وجل( إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) النمل: ٧٦ ، وهذا الهدف يختلف عما قبله، إذ أنه يرد الشبهة التي تقول إن القرآن يستمد قصصه من التوراة والإنجيل والعهد القديم، وفيه دليل قاطع على تهافت الجدليات التنصيرية، بأن القرآن الكريم، تكرار للقصص في التوراة والإنجيل، يقول د. عبدالراضي محمد عبد المحسن ” لأنه ( أي القرآن الكريم ) يتضمن التفسير المقنع لمواضع التشابه بين القصص القرآني وقصص الكتب السابقة، فما جاءت به الكتب السابقة في مقام ادعاء المدعي، أما قصص القرآن فهو حقيقة الحدث الذي جرى يحكيه القاضي الفاصل في دعوى المدّعي، مبيِّنا به وجه الخطأ والصواب في مزاعم الادعاء ومقررًا الحقيقة التاريخية في الحدث لكل العالمين”[31].

      ومن أهداف القصص القرآني أيضا، تحقيق العظة والاعتبار في النفس البشرية، لتعتبر بمن سبق وتأخذ الحيطة والحذر، وتكف عن غيها وتماديها في الخطأ والعصيان، كما قال عز وجل(  لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يوسف: ١١١، ولعل معظم قصص القرآن الكريم، جاء للعظة والاعتبار، من باب القياس الطردي أو القياس العكسي، فيما يقع بالمشركين، ومن خالفوا الرسل من عقوبات وجزاءات ، أنها ستكون مرصادا لكل من حذا حذوهم أو سار في طريقهم، أو فعل فعلهم.

ولذلك عندما يقص علينا القرآن الكريم ما اقترفته الأمم السابقة من فساد أخلاقي، فإنه يقرن ذلك القصص بما استحقه المفسدون من عقاب وعذاب أليم، ويلازم ذلك الطلب من الناس بالتفكر والتأمل فيما حصل من أجل العظة والاعتبار والتخويف، كما قال عز وجل في قصة قوم لوط عليه السلام ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)الأعراف: ٨٤  ، وفي قصة ثمود قوم صالح عليه السلام، بين القرآن الكريم جزاء من يفعل السيئات مثلهم، وذلك في مقام الترهيب من الوقوع في فعلهم، ورغب في الجانب الآخر في ثواب من آمن واتقى وأصلح وابتعد عن العصيان والمخالفة، كما في قوله تعالى(  فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ*فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ*وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) النمل: ٥١ – 53 ، ولقد تميز القرآن الكريم عن غيره من الكتب السماوية، بخاصية القوة في الحجة والإقناع فيما يورده من القصص، وذلك بعرض القصة المناسبة للموقف المناسب، مضمنة الحوار الهادئ ، المتضمن لدعاوى المخالفين والمعاندين للأنبياء والرسل، ثم تورد القصة دور الأنبياء في ردودهم المشتملة على القوة الإقناعية العامة، التي كأن القائل لها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو أي داعية إلى الله من السلف أو الخلف، وذلك لأن دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام واحدة، ومنهجهم واحد، ومن الأمثلة على ذلك للتوضيح ، لا للحصر ، الحوار التي جرى بين نوح عليه السلام وقومه، كما في  قول الله عز وجل( وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ ۖ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ)هود: ٣١ ، وقوة القرآن الكريم في إقناع الخصم، دلالة على قوة المصدر، وأنه كلام الله تعالى، وليس مأخوذا من التوراة ولا من الإنجيل، وفي هذا إبطال لشبهة المستشرقين ، في أن قصص القرآن الكريم مأخوذا من قصص التوراة والإنجيل والعهد القديم.

ومما يثبت أن قصص القرآن الكريم، ليس مأخوذا من غيره من الكتب، إثبات قدرة الله تعالى المطلقة، من خلال عرض القصص، ومن ذلك ما جاء في قصة خلق آدم عليه السلام من العدم، كما قال تعالى( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) آل عمران: ٥٩ ، أو قصة خلق عيسى بن مريم عليه السلام من دون أب ، كما قال عز وجل(فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا*قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا*قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا*قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا*قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) مريم: ١٧ – ٢١ ، وكذلك إثبات قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، كما في قصة إبراهيم عليه السلام مع الطير، قال تعالى( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) البقرة: ٢٦٠ ، وقصة البعث والنشور في قصة الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه،(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)البقرة: ٢٥٩ ، وفي هذه الأدلة وغيرها ، رد قاطع على فرية القول بأخذ القرآن من قصص أهل الكتاب، وإبطال لها بقوة الحجة، وعلو الدليل.

     والقرآن الكريم قد انفرد بقصص لا يوجد له نظير ولا شبيه في كتب التوراة والإنجيل، وهذا دليل قوي جدا ورد قاطع على شُبه المستشرقين، وإثباتا لبطلانها، يقول د. عبدالجواد المحص ”  

يعد هذا الدليل من أبرز أدلة ( نقد النص ) وأهمها في بيان تهافت دعوى تكرار القرآن لقصص التوراة والإنجيل، بسبب كون المصدر المزعوم الإفادة منه يفتقد مادة المرويات القصصية ويجهل كل شيء عنها، وذلك في حالة القصص الكاملة التي انفرد بها القرآن، ويزيد الأمر قوة في الإثبات والإفحام عندما تتعلق المرويات ببعض التفاصيل الدقيقة التي أتى بها القرآن الكريم في القصص المتناظرة مما لم تذكره كتب العهدين”[32]، ومن الأمثلة والأدلة القوية على انفراد القرآن الكريم بالقصص، القصص الكاملة ، مثل قصة صالح و هود و شعيب و الخضر و ذي القرنين وغيرها، وما فيها من التفاصيل الدقيقة، التي خالف فيها كتب التوراة والإنجيل، ومن ذلك أمْر الله تبارك وتعالى للملائكة بالسجود لآدم ، وامتناع إبليس عن ذلك، ومن ذلك أيضا تحطيم إبراهيم عليه السلام لأصنام قومه ونظرته في النجوم، وقوله إني سقيم، ومحاجته لهم، ومحاولتهم إحراقه بالنار، وإسكانه لزوجه هاجر وابنه إسماعيل بجوار المسجد الحرام، واشتراكه هو وابنه إسماعيل في رفع قواعد البيت العتيق، وكذلك محاورة نوح عليه السلام مع ابنه الكافر، ومحاولته إنقاذ ابنه من الهلاك ورغبته في إسلامه والنجاة من النار، ومحاورة نوح مع الله في قضية ابنه.

      وكذلك قصة امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام وتمزيقها لقميصه، ودعوتها للنساء بعدما سمعت بحديثهن عنها وعن يوسف، وتقطيع أيديهن، وقصة سحرة فرعون والتقام العصا بعدما انقلبت بأمر الله حية عظيمة التي التهمت حبالهم وعصيهم، وسجودهم وإيمانهم بالله، ومحاورتهم لفرعون، وقصة الرجل الثاني الذي أراد موسى عليه السلام أن يبطش به، في حال أن العهد القديم يدعي أن هذا الشخص عبراني، وأيضا قصة السامري الذي صنع العجل لبني إسرائيل في حين أن التوراة تذكر أنه هارون عليه السلام، وأيضا ما ذكرة القرآن الكريم عن الرجل المؤمن من آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، ودافع عن موسى حين هموا بقتله، وذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى فنصح موسى بالخروج من أرض مصر، وكذلك ما ذكره القرآن الكريم من قصة موسى مع شيخ آل مدين من أن للشيخ ابنتان، بينما تذكر التوراة أن له سبع، ومحاورة فرعون وهامان في بناء الصرح، وأمر موسى لقومه بذبح البقرة ومحاورتهم معه، وقصة أصحاب السبت ومسخهم قردة بعد أن اعتدوا فيه، وما قصه القرآن الكريم من تسخير الله الشجر والطير والحديد لداود عليه السلام، وتسخير الجن والريح لسليمان عليه السلام، وقصة الهدهد، وكتاب سليمان لملكة سبأ وإسلامها وإحضار عرشها بلمح البصر من قبل الذي عنده علم الكتاب، وكلام عيسى في المهد، وما صنعه عيسى من الطين كهيئة الطير وصيرورته طيرًا بإذن الله، وقصة المائدة، كل ذلك دليلا قاطعا وحجة دامغة على أن القرآن الكريم كلام الله المباشر إلى رسوله r ، وأنه لم يتلقى قصصه من التوراة والإنجيل ولا من العهد القديم.[33]

      وبالمقارنة بين قصص القرآن الكريم وقصص التوراة والإنجيل في نتائج القصص المتناظر، نجد نتيجة حتمية ، ومعيارا موضوعيا، تتهاوى معهما جدليات ومزاعم المستشرقين والمنصرين، التي تزعم كذبا وافتراء تكرار قصص القرآن الكريم لقصص العهد القديم والجديد، وذلك لما ظهر من اختلاف جوهري وتفصيلي واضح أثناء المقارنة والمقابلة بين النصوص في الكتب الثلاثة، مما يحسم بشكل قاطع بطلان هذه الشبهة وردها على أعقابها. وبهذا يتبين جليا أن القصص القرآني قد خالف القصص التوراتي والإنجيلي في تفصيلات دقيقة، وأن مقررات العلوم، الطبيعية والفيزيائية والإنسانية والأثرية، قد وافقت التفصيلات القرآنية بينما خطّأت الروايات التوراتية والإنجيلية، فسوف يكون ذلك أنصع برهان علمي على تهافت مزاعم الجدل التنصيري حول القصص القرآني خاصة، وحول أصالة القرآن عامة.

      وفي جانب آخر من الجوانب التي تثبت ثبات القرآن الكريم على ما هو عليه منذ أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتريه نقص ولا تغيير، ولم تدخله أية اقتباسات أو إضافات من كتاب آخر، وأنه مختلف تماما عن الكتاب المقدس والتوراة والإنجيل، سرده لقصة ابني آدم وقتل الأخ لأخيه، فبينما يذكر سفر التكوين الاسمين الصريحين لقابيل وهابيل، بينما اكتفى  القرآن الكريم بذكر قصتهما ولم يذكر الأسماء إذ لا حاجة ولا مصلحة لذكرهما، وإنما العبرة بالعظة والاعتبار والبعد عن الحسد والبغضاء واقتراف الذنب من قتل وغيره، وقد جاء ذكرهما في الآثار فلا حاجة للتكرار، ومهما تكن أسماؤهما، فالقصة تتحدث عن ابني آدم “الإنسان”، وهذه الجريمة الأولى تم توظيفها مباشرة في القرآن لفرض تحريم عام، كما قال تعالى( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ*لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ)المائدة: ٢٧ – ٢٩  بينما نرى في الكتاب المقدس أن أول ما أُعطيت هذه الوصية للبشر كان عن طريق موسى عليه السلام ، والقرآن يعترف أن الإسرائيليين هم أول من تسلّم هذه الوصية، مثبّتاً أهميتها ، كما قال عز وجل(مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)المائدة: ٣٢، لا يوضح الكتاب المقدس سبب رفض الله لتقدمة قابيل[34]، ويشير القرآن الكريم إلى تعديات سابقة له أدّت إلى عدم قبول تقدمته( قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) .

         وإذا أتينا إلى نهاية القصة، نجدها مختلفة تماما عنها في القرآن الكريم، وذلك أن الكتاب المقدس يذكر أن القاتل هرب واختفى، دون أن يتحدث عن صفح الله عنه، بينما القرآن الكريم يذكر كيف أن القاتل تعلم من الغراب كيف يدفن أخاه، فيندم على ما فعل، ولم تقف النهاية في القرآن الكريم عند هذا الحد فحسب، بل أسس عقوبة صارمة كعقاب لمن تجرأ على قتل نفس بريئة بغير حق ، حفظا للنفس البشرية، ودرءاً للظلم، كما قال عز وجل(مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ*إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) المائدة: ٣٢ – ٣٣.

        وخلاصة القول في الرد على هذه الفرية أن قصص القرآن الكريم، قصص موحى من الله تبارك وتعالى العالم بما كان وما يكون وما سيكون، إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه قصص حق فيما تضمنه من حوادث ووقائع منذ أن خلق آدم وأهبطه إلى الأرض، ثم بَعْثه لرسله عليهم الصلاة والسلام، وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنها كلها صحيحة وموافقة لمقتضى الحال والدليل، وموافقة لمقتضى العقل البشري، بخلاف القصص التوراتي والإنجيلي الذي تتابعت على تحريفه أيدي البشر، فصار قصصا خياليا لا يتوافق والحقائق ولا يستوعبه ويصدقه العقل البشري، بل إنه يفتقد الدليل العلمي والبحثي الصحيح، فكيف والحال هذه أن يستمد منه القرآن مضمونه القصصي؟ ولا سيما تلك الاختلافات الكثيرة التي وجدناها خلال استعراض الرد على الشبهة بين القرآن الكريم، والتوراة والإنجيل، والعهد القديم والجديد. فتبين لنا بطلان تلك  الشبهة والفرية التي أريد منها خلط قصص القرآن الكريم بقصص التوراة والإنجيل، لإثارة الشكوك حول القرآن والإسلام، وخصوصا فيما هو متعلق بالقصص، بهدف التشويه لصورة القصص وصد الناس عن دين الإسلام، ولكن ومع كل هذه المحاولات المستميتة لإظهار الإسلام في صورة قاتمة ومشوهة، إلا أنه وبفضل الله تبارك وتعالى، تأتي النتائج عكسية لما يأملون، فينتشر الإسلام والقرآن، ويدخل الناس فيه أفواجا، كما قال عز وجل( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) الصف: ٨  .يقول أحد المستشرقين المنصفين وهو واشنطن إيرفينغ[35]” القرآن الكريم يعتبر من أعجز وافضل ما قدم للبشرية من نص مكتوب، لا يمكن ولا بأي حال من الأحوال مقارنته بسواه من النصوص”[36]

[2] مذاهب التفسير الإسلامي، ص 75 و العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 15.

[3] ينظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، دار العاصمة ، الرياض

، 1414 ه، 5/326.

[4] وللتوسع يُنظر المستشرقون والقرآن الكريم ، د. محمد أمين حسن محمد بني عامر، دار الأمل للنشر والتوزيع، الأردن، 2004م، ص 268 و الاسلام في مواجهة الاستشراق، د. عبدالعظيم المطعني ،  دار الوفاء،  المنصورة،  1407هـ ، ص  549 .

[5] تفسير ابن كثير 3/60.

[6] الغارة التنصيرية على أصالة القرآن الكريم، د. عبدالراضي محمد عبدالمحسن، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، 1421ه، 1/68.

[7] تفسير ابن كثير 4/91.

[8] الغارة التنصيرية على أصالة القرآن الكريم ص 1/68.

[9] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 3/85.

[10]  الغارة التنصيرية على أصالة القرآن الكريم ص 1/69.

[11]ترجم له ص 116.

[12] الظاهرة القرآنية، د. مالك بن نبي، ترجمة عبدالصبور شاهين، دار الفكر، بيروت، 1420ه-2000م، ص 192.

[13] Religionen der Welt , Bertelsmann Handbuch , S: 183 , ders

[14] موسى بن ميمون  بن يوسف بن إسحاق، أبوعمران القرطبى، طبيب فيلسوف يهودي، ولد وتعلم في قرطبة، وتنقل مع أبيه في مدن الاندلس، وتظاهر بالاسلام، وقيل، أكره عليه، فحفظ القرآن وتفقه بالمالكية، ودخل مصر، فعاد إلى يهوديته، وأقام في القاهرة 37 عاما كان فيها (من سنة 567 هـ رئيسا روحيا لليهود، كما كان في بعض تلك المدة طبيبا في البلاط الأيوبي، ومات بها ودفن في طبرية (بفلسطين) له تصانيف، الأعلام للزركلي 7/329.

[15] وللمزيد ينظر الغارة التنصيرية على أصالة القرآن الكريم ص 52-53.

[16] تفسير الطبري 6/4462-4463 وابن كثير 2/425 و المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي ،تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية ، بيروت، 1422 هـ ، 3/477و سيكولوجية القصة في القرآن، د. التهامي النقرة، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، 1974م، ص 80.

[17] چيمس چورج فريزر James George Frazer  أخد لقب سير Sir ، ولد في جلاسجو، اسكوتلاندا, 1 يناير سنة 1854، توفى في جلاسجو، اسكوتلندا 7 مايو سنة 1941م ، عالم انثروبولوجيا إسكوتلندي، الف كتابه المشهور و الضخم ” الغصن الذهبي ” The Golden Bough  وهو عباره عن دراسة في السحر و الدين ، الموسوعة الحرة ويكيبيدياو كتاب الغصن الذهبي، جيمس فريزر، ترجمة د. أحمد أبو زيد، الهيئة المصرية للكتاب، مصر، 1971م، ص 9-11.

[18] الفلكلور مجموعة الفنون القديمة والقصص والحكايات والأساطير المحصورة في مجموعة سكانية معينة في أي بلد من البلاد، ينظر معجم المعاني مادة فلكلور.

[19] يُنظر الفلكلور في العهد القديم ، جيمس فريزر ، ترجمة نبيلة إبراهيم ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973م .

[20] الحقيقة والأسطورة في التوراة، زينون كاسيدوفسكي، الأبجدية للنشر، دمشق 1990م ص 52.

[21] Rudolf Bultmonn , Neues Testament und MyThologie , S : 21 , in  Kergma und MyThos, Hrsg . von : Hans – Werner Hamburg 1960.

[22] تفسير ابن كثير 3/494.

[23] ينظر مصادر التاريخ، سيدة إسماعيل كاشف، دار الرائد العربي، بيروت – لبنان ، 1983 م ص 16.

[24] القرآن ونظرية الفن، د. حسين علي محمد، القاهرة، 1413 هـ ، 1992م، ص 112.

[25] يُنظر أدب القصة في القرآن الكريم، عبد الجواد المحص، الدار المصرية، الاسكندرية، 1420هـ -2000م، ص 255.

 

[26] وللمزيد ينظر سيكلوجية القصة في القرآن، التهامي نقرة، ص 91.

[27] اختلف علماء الآثار في تحديد المنطقة التي أقام بها أسباط يعقوب عند مجيئهم إلى مصر، منذ حوالي 34 قرناً مضت، وبينما تطلق التوراة اسم جاسان على مكان سكنى اخوة يوسف فعندما وافق ملك مصر على حضور عائلة يوسف الصديق للإقامة في بلاده، لم يسمح لهم بالتجول فيها كما يشتهون، بل حدد لهم موقعاً معيناً يعيشون فيه، بالقرب من الحدود المصرية في سيناء. وبحسب ما جاء في سفر التكوين التوراتي، فإن الأرض التي سكنها آل يعقوب كانت تسمى =«جاسان». وبالرغم من وجود اتفاق عام بين الباحثين على أن أرض جاسان لا بد وأن تكون في شرق الدلتا، فإنهم اختلفوا في تحديد موقعها، ينظر جريدة الشرق الأوسط، العدد 7943، الاحـد 26 جمـادى الاولـى 1421 هـ 27 اغسطس 2000 م.

 

[28] ينظر الموسوعة الكنسية لتفسير العهد القديم، سفر التكوين، كهنة وخدام كنيسة مار، مطبعة دير الشهيد ، مصر ، ۲۰۰٦م، 46 / 29 ـ 30 .

[29] القرآن ونظرية الفن، ص 113.

[30] ينظر الغارة التنصيرية على أصالة القرآن الكريم 1/107-108.

[31] الغارة التنصيرية على أصالة القرآن الكريم 1/110.

[32] أباطيل الخصوم حول القصص القرآني، د. عبد الجواد المحص، الدار المصرية، الإسكندرية، 1420هـ – 2000م،

ص 46 – 48.

[33] ينظر الغارة التنصيرية على أصالة القرآن الكريم 1/113-116.

[34] ينظر سفر التكوين 4/1-10.

[35] هو واشنطن إيرفينغWashington Irving  1783م-1859م كاتب ومؤلف أمريكي ولد في نيويورك لأب اسكتلندي، ويعرف بـكاتب سير ومؤرخ دوبلوماسي وكان مشهورا في الأوساط الأمركية وخارجها، ينظر الموسوعة العربية ، الدخول الساعة الخامسة مساء الثلاثاء 8/8/1436ه.

[36] ينظر محمد وخلفاؤه ، واشنطن إرفينغ، ترجمة هاني يحى نصري، المركز الثقافي العربي، نيويورك، 1999م، ص 453.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *