أولا: عرض الشبهة وتوثيقها.
دعوى إفادة القرآن من العهد القديم، يقول المستشرق جولدتسيهر ” لقد أفاد محمد من تاريخ العهد القديم وكان ذلك في أكثر الأحيان عن طريق قصص الأنبياء، وإن محمداً أخذ يجمع ما وجده في اتصاله السطحي أثناء رحلاته التجارية مهما كانت طبيعة هذا الذي وجده، ثم أفاد من دون أي تنظيم”[1] .
ثانيا: الرد عليها ردا إجماليا.
تهاوت هذه الدعوى والفرية أمام أدلة القرآن الكريم، وحججه الدامغة، وأمام الحقائق العلمية، إذ ليس لدى هؤلاء المستشرقون أمثال جولد تسيهر، ما يثبت دعواهم سوى براهين ملفقة وواهنة مستميتة لا تقف ولا تصمد أمام الأدلة القطعية، والبراهين النقلية، والحقائق العلمية العقلية، وقضية التشابه التي يدعيها المستشرقون إنما هي في أصل الرسالات ومنبعها، إذ أنها ترجع في أصلها إلى مصدرية واحدة وهي أنها من عند الله تبارك وتعالى، وأنها تدعوا في عمومها إلى دين واحد وملة واحدة وهي الإسلام، الذي مضمونه الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك، ولكنها تختلف في مضامينها وشرائعها، فالقرآن الكريم كتاب مستقل في طبيعته ومضمونه وما يحويه من الشرائع والعبادات، وخصوصا فيما يتضمنه من القصص الحق الموافق للعقل والمنطق وللحقائق العلمية، فلا مجال فيه للخيال ولا للكذب ، لأنه كلام الله تعالى المحفوظ على مر السنين والقرون، فلم ولن يعتريه نقص ولا خلل ولا تغيير، فأنى لمثل هذا الكتاب وبهذه الصفات الكمالية ، أن يأخذ قصصه ومضامينه من كتب قد اعتراها التغيير والتحريف والتبديل عن أصلها الذي نزلت به؟ فهذه الشبهة مردودة شكلا ومضمونا، لأنها لا ترقى بأي حال إلى أدنى درجات البحث العلمي الصحيح، يقول الله عز وجل ﭽ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﭼ الرعد: ١٧ ، يقول ابن كثير –رحمه الله- ” أي لا ينتفع به، بل يتفرق ويتمزق، ويذهب في جانبي الوادي، ويعلق بالشجر، وتنسفه الرياح، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس، يذهب ولا يرجع منه شيء، ولا يبقى إلا الماء ، وذلك الذهب الذي ينتفع به”[2] ، وهذا شأن الشبهات التي لا تستند إلى قاعدة علمية صحيحة، ودليل ومستند صحيح، فإنها تذهب جفاء وهباء أمام سحائب الأدلة القاطعة، والحجج الدامغة، والبراهين الساطعة.
ثالثا: الرد عليها ردا تفصيليا.
الإسلام واليهودية والنصرانية وغيرها من الديانات السماوية، في أصلها نزلت من السماء من منبع واحد ومصدر واحد، وكل ديانة لها صفاتها وشرائعها الخاصة بها ، لكن الجميع يدعو إلى أصل واحد وهو الإسلام، وقد أوكل الله حفظ الرسالات السماوية إلى البشر ، ما عدا القرآن الكريم الرسالة العامة إلى كل البشر، فقد أوكل حفظه إليه عز وجل، فلم يعتريه أي نقص أو تغيير أو تحريف، كما أثبت ذلك بقوله
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر: ٩ ، بينما الرسالات السابقة، لحقها تبديل وتحريف وتغيير، فلم تعد على أصلها البتة، وتفرعت منها كتب كثيرة محرفة، تحمل الوهن والتناقض والتضاد في متونها، فلم يعد بها أي ثقة حتى من أهلها، والرسالات التي جاء بها الأنبياء جميعا منزلة من عند الله العليم الحكيم الخبير، ولذلك فإنها تمثل صراطا واحدا يسلكه السابق واللاحق، ومن خلال استعراضنا لدعوة الرسل التي أشار إليها القرآن نجد أن الدين الذي دعت إليه الرسل جميعا واحد هو الإسلام(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ )آل عمران: ١٩ ، والإسلام الذي جاء به القرآن ليس اسما لدين خاص، وإنما هو اسم للدين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء، فالإسلام شعار عام كان يدور على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر النبوة المحمدية، ويتحقق الإسلام بالطاعة والانقياد والاستسلام لله تعالى بفعل ما يأمر به، وترك ما ينهى عنه، ولذلك فإن الإسلام في عهد نوح يكون باتباع ما جاء به نوح عليه السلام، والإسلام في عهد موسى عليه السلام يكون باتباع شريعة موسى، والإسلام في عهد عيسى عليه السلام يكون باتباع الإنجيل، والإسلام في عهد محمد صلى الله عليه وسلم يكون بالتزام ما جاء به الرسول الكريم [3]
وإننا عندما نقابل بين نصوص قصص القرآن الكريم، ونصوص القصص في التوراة والإنجيل، نجد دليلا قاطعا، وحجة قوية تبطل معها الشبهة والفرية التي أثارها المستشرقون زورا وكذبا، إذ أن هذه المقابلة تُعَد دليلا موضوعيا، وذلك لأنها تكشف لنا فوارق، واختلافات، وتباين تفصيلية وجوهرية، بين متون القصص في القرآن الكريم ، والتوراة والإنجيل، مما يؤكد قطعا بطلان تلك الدعوى وفشلها، وأن القرآن الكريم لم يقتبس في قصصه شيئا من التوراة والإنجيل ، لا في قصص الأنبياء ولا في غيرها، ويمكن لنا تأكيد ذلك من خلال الاعتبارات التالية:
أولا: أن المقتبس للمعرفة أو القصص وغيره، يقع في مشكلة تكرار الأخطاء الموجودة في مصادره، فيستنسخ الخطأ في الشيء المقْتَبس دون وعي أو إدراك لما سينتج جراء ذلك.
ثانيا: وقوع المقتبس في الخطأ عند محاولته مخالفة المصدر الأصلي ، نظرا لبعد المدة الزمنية التي تفصله عن الأحداث مع قرب المصدر زمنيا من تلك الأحداث ، بل وافتراض معايشته لبعضها ، فإذا ما أضيف إلى تلك الاعتبارات بُعْد موضوعي آخر يتمثل في الاسترشاد بمقررات العلوم ونتائج مكتشفات علماء الحفريات والآثار فيما يخص مرويات القصص المتعلقة بالحقائق الكونية أو التاريخية ، فإنّ جوانب الموضوعية ولوازم المنهجية العلمية ودواعي الإفادة تكون قد توفرت في ذلك النهج ، فإن قادت نتائجه إلى أن القصص القرآني قد خالف القصص التوراتي والإنجيلي في تفصيلات دقيقة ، وأن مقررات العلوم : الطبيعية والفيزيائية والإنسانية والأثرية ، قد وافقت التفصيلات القرآنية بينما خطّأت الروايات التوراتية والإنجيلية ، فسوف يكون ذلك أنصع برهان علمي على تهافت مزاعم الجدل التنصيري حول القصص القرآني خاصة ، وحول أصالة القرآن عامة .[4]
ومن المواضع التي يمكن أن تتم من خلالها المقارنة والمقابلة بين قصص القرآن الكريم وبين قصص التوراة والإنجيل ، المواضع القصصية التالية:
أولا: قصة خلق العالم.
في كتب التوراة ورد ذكر خلق العالم في روايتين من سفر التكوين ، إحداهما تسمى الرواية الكهنوتية التي كتبت بواسطة الكهنة في عصر المنفى[5] ، والأخرى رواية (يهودية) ، أي من بين النصوص التوراتية التي تستخدم لفظ (يهوه) للتعبير عن اسم الإله ، وهي أقدم تاريخيا من الرواية الأولى وإن جاءت في النصوص تالية لها .[6]
تقول الرواية الأولى الكهنوتية التي كتبت بواسطة الكهنة في عصر المنفى.
” في البدء خلق الله السماوات والأرض ، وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه ، وقال الله ليكن نور فكان نور ، ورأى الله النور أنه حسن ، وفصل الله بين النور والظلمة ، ودعا الله النور نهارًا والظلمة دعاها ليلا ، وكان مساء وكان صباح يوما واحدا ، وقال الله ليكن جلد في وسط المياه ، وليكن فاصلا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد ، وكان كذلك ، ودعا الله الجلد سماء ، وكان مساء وكان صباح يوما ثانيا ، وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة ، وكان كذلك، ودعا الله اليابسة أرضًا ، ومجتمع المياه دعاه بحارا ، ورأى الله ذلك أنه حسن، وقال الله لتنبت الأرض عشبًا وبقلا يبزر بزرًا وشجرا ذا ثمر يعمل ثمرًا كجنسه بزره فيه على الأرض ، وكان كذلك ، فأخرجت الأرض عشبًا وبقلا يبزر بزرا كجنسه وشجرا يعمل ثمرا بزره فيه كجنسه ، ورأى الله ذلك أنه حسن ، وكان مساء وكان صباح يوما ثالثا ، وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل ، وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين ، وتكون أنوارا في جلد السماء لتنير على الأرض ، وكان كذلك ، فعمل الله النورين العظيمين ، النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل ، والنجوم وجعلها الله في جلد السماء لتنير على الأرض ولتحكم على النهار والليل ولتفصل بين النور والظلمة ، ورأى الله ذلك أنه حسن ، وكان مساء وكان صباح يومًا رابعا ، وقال الله لتفض المياه زحّافات ذات نفس حية وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء ، فخلق الله التنانين العظام وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها وكل طائر ذي جناح كجنسه، ورأى الله ذلك أنه حسن ، وباركها الله قائلا أثمري وأكثري واملأي المياه في البحار ، وليكثر الطير على الأرض ، وكان مساء وكان صباح يومًا خامسًا ، وقال الله لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها ، بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها ، وكان كذلك ، فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها والبهائم كأجناسها وجميع دبابات الأرض كأجناسها ، ورأى الله ذلك أنه حسن ، وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض ، فخلق الله الإنسان على صورته ، على صورة الله خلقه ، ذكر وأنثى خلقهم ، وباركهم الله وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض ، وقال الله إني قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزرا على وجه الأرض وكل شجر فيه ثمر شجر يبزر بزرًا ، لكم يكون طعامًا ، ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية أعطيت كل عشب أخضر طعامًا ، وكان كذلك ، ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا ، وكان مساء وكان صباح يومًا سادسا ، فأكملت السماوات والأرض وكل جندها ، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل ، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل ، وبارك الله اليوم السابع وقدسه ، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقا .[7]
و تقول الرواية الثانية، التي أخذت من بين النصوص التوراتية التي تستخدم لفظ (يهوه) للتعبير عن اسم الإله.
” هذه مبادئ السماوات والأرض حين خلقت ، يوم عمل الرب الإله الأرض والسماوات كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض وكل عشب البرية لم ينبت بعد ، لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض ، ولا كان إنسان ليعمل الأرض ، ثم كان ضباب يطلع من الأرض ويسقي كل وجه الأرض ، وجبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض ، ونفخ في أنفه نسمة حياة ، فصار آدم نفسًا حية ، وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا ، ووضع هناك آدم الذي جبله ، وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل”[8]
وأما قصة خلق العالم التي جاء بها القرآن الكريم، فلم تأت مجتمعة في مكان واحد، شأنها شأن غيرها من القصص القرآني ، وإنما جاءت متفرقة وفي مواضع متعددة، وهي كما يلي:
أولا: ذكر خلق السماوات والأرض في مراحل ستة ، كما قال تعالى(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ)
ق: ٣٨، قال الإمام الطبري-رحمه الله- ” أي ولقد خلقنا السموات السبع والأرض وما بينهما من الخلائق في ستة أيام، وما مسنا من إعياء”[9].
ثانيا: التداخل في مراحل خلق السماوات مع مراحل خلق الأرض كما قال عز وجل (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوكَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فصلت: ٩ – ١٢ .
ثالثا: خلق الكون من كومة أوليّة فريدة متماسكة كما قال تعالى ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) الأنبياء: ٣٠ ، قال ابن كثير –رحمه الله- ” كانت السماء واحدة ففتق منها سبع سموات، وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبه أراضين ، لكن السماء والأرض كانتا متماستين”[10] .
رابعا: تنوع وتعدد السماوات والكواكب التي تشبه الأرض، كما قال سبحانه (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)) الطلاق: ١٢ .
خامسا: خلق الله بين السماء والأرض عالَم وسيط، كما قال عز وجل (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ)) طه: ٦ .
ومن الملاحظ في هذه المقابلة بين قصص القرآن الكريم، وقصص التوراة والإنجيل، اتفاقهما في أمرين مهمين، وهما:
أ) عدد أدوار الخلق الستة .
ب) جعل النجوم مصدر النور .
هذا في التوافق بينهما ، أما جوانب الاختلاف فكثيرة يمثل كل منهما خطأ علميا وقعت فيه الرواية التوراتية ، وتأكيدا علميا على صحة الرواية القرآنية ، وهذه الجوانب هي :
أولا: أن القرآن الكريم قد انفرد ببيان الكيفية التي تمت بها نشأة الكون وما فيه من الكتلة الأولية التي تفتقت بفعل الانفجار الكبير الذي يطلق عليه العلم الحديث نظرية الانفجار العظيم The Big Bang[11] .
ثانيا: المراحل الست في القرآن مراحل زمنية مديدة وليست ستة أيام بشرية بحساب تعاقب شروقين أو غروبين ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ*يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) السجدة: ٤ – ٥ ، يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي –رحمه الله- ” الظاهر أن معنى قوله (فِي أربعةأَيَّامٍ )أي: في تتمة أربعة أيام، وتتمة الأربعة حاصلة بيومين فقط، لأنه تعالى قال ( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) فصلت 9 أي: في تتمة أربعة أيام، ثم قال ( فِي أربعةأَيَّامٍ ) فتضم اليومين إلى الأربعة السابقة، فيكون مجموع الأيام التي خلق فيها السماوات والأرض وما بينهما ستة أيام، وهذا التفسير الذي ذكرنا في الآية لا يصح غيره بحال، لأن الله تعالى صرح في آيات متعددة من كتابه بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أياما “[12] ،ولكن الخلاف الحاصل هو في ماهية هذه الأيام الستة، هل هي مثل أيامنا هذه ، أم أنها مراحل زمنية طويلة الأمد، والله عز وجل قادر على خلقها في أقل من ذلك، حيث يقول للشيء كن فيكون، ومرادها إلى الله عز وجل هو الذي يعلم ماهيتها، ولكن هنا بعض الآراء حول ذلك مثل قول الإمام القرطبي – رحمه الله-” في تفسير الأيام: “في ستة أيام” أي من أيام الآخرة أي كل يوم ألف سنة لتفخيم خلق السماوات والأرض، وذكر هذه المدة ولو أراد خلقها في لحظة لفعل، إذ هو القادر على أن يقول لها “كوني فتكون” ولكنه أراد أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور، وحكمة أخرى من خلقها في ستة أيام لأن لكل شيء عنده أجلا”[13]، وهذا ما يؤكده علماء الفيزياء الكونية من أن انفصال الأرض عن الشمس كان منذ خمسة الآف مليون سنة تقريبا ، وأن الأرض ظلت مئات الألوف من السنين كي يبرد سطحها[14]، ويقابل ذلك ما جاء في كتب التوراة من الخطأ الشنيع، وهو حصر المراحل الست في ستة أيام بشرية وتأكيد ذلك، تبدأ بالأحد وتنتهي بالجمعة، ويعقبها يوم السبت المقدس يوم الراحة الذي استراح الله تعالى فيه من عملية الخلق، وباركه وقدسه ( تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا)، ويرى جيمس فريزر[15] عالم الديانات المقارنة الشهير أسباب وقوع الرواية التوراتية في هذا الخطأ العلمي الشنيع ، بأن رواية خلق العالم في التوراة لم تكن سوى تمهيد من الكهنة لخلع القداسة على يوم السبت يوم العبادة والراحة لدى اليهود وكان المصدر الذي استقى منه الكهنة تقديس اليوم السابع من أيام الخلق هو ملحمة خلق العالم البابلية[16].
وقد ترتب على هذا الخطأ في رواية الخلق التوراتية خطأ آخر وقعت فيه روايات العهد القديم وكذلك العهد الجديد كما يبدو في تصور إنجيل لوقا لشجرة أنساب المسيح ألا وهو حساب عمر الإنسان على الأرض بأنه بدأ في التاسعة صباح يوم الثالث والعشرين من شهر تشرين الأول عام 4004 قبل الميلاد ، أي قبل ستة الآف سنة من عامنا هذا[17] .
ثالثا: يشير القرآن الكريم إلى حالة غازية في بداية عملية الخلق، كما قال عز وجل (ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) فصلت: ١١ ، وقد جاء العلم الحديث، ليؤكد ويطابق مع ما جاء به القرآن الكريم، وفي هذا دليل آخر قاطع على صدق القرآن الكريم، وبما جاء به من القصص والمضمون الحق، وأنه لم يستق من غيره من كتب التوراة والإنجيل شيئا[18].
رابعا: وجود العوالم الوسطية التي أخبر القرآن بخلقها بين السماوات والأرض، كما قال عز وجل( أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ)سبأ: ٩ وقوله سبحانه ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)فصلت: ٥٣ ،ويسميها العلم الحديث بالبواقي أو المادة الكونية المنتشرة بين النجوم ، ويصفها بأنها ذات كتل هائلة.[19]
خامسا: أن العهد القديم يشتمل على عدد من الأخطاء، تثبت عدم أهليته لأن يكون كتابا صحيحا يأخذ منه غيره، بل لم يعد هو الكتاب الصحيح الذي نزل على موسى عليه السلام. ومن هذه الأخطاء:
1) الإشارة إلى وجود المياه في المرحلة الأولى من مراحل الخلق .
2) ذكر النور في اليوم الأول قبل أن تخلق النجوم .
3) ذكر الليل والنهار في اليوم الأول قبل وجود الأرض ودورانها حول الشمس .
4) وجود العالم النباتي في اليوم الثالث قبل خلق الشمس في اليوم الرابع .
5) خلق الشمس والقمر بعد خلق الأرض ، وذلك يناقض المعلومات الأساسية عن تشكل النظام الشمسي .
6) الإشارة إلى عالم الحيوان والطيور في اليوم الخامس مع أن وجود الطيور تال لوجود عالم الحيوان .[20]
ثانيا: قصة الطوفان، الذي أغرق الله به قوم نوح عليه السلام.
وبالمقابلة والتوافق بين القرآن الكريم والتوراة، نجد أن هناك توافق محصور في الأمور التالية:
أ) أسباب الطوفان ، ونعني به الأمطار الغزيرة ، وانفجار الأرض بالينابيع القوية، كما بين ربنا ذلك في قوله تعالى( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ*وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) القمر: ١١ – ١٢.
ب) قصة صنع نوح للسفينة التي أنجاه الله ومن آمن معه فيها، كما قال عز وجل( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) هود: ٣٧ .
ج) حمولة السفينة ومن كان معه على متنها من البشر وبعض الحيوانات، كما بين ذلك عز وجل بقوله( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)هود: ٤٠ . هذا فيما اتفقت عليه الروايتان ، أما أوجه الاختلاف فتتلخص في أمرين أساسيين، وهما:
الأول : ماهية الطوفان وقوته وحجمه ، فأما في القرآن الكريم، فإن الطوفان أتى عقوبة من الله لقوم نوح خاصة، على تكذيبهم وعنادهم، وعدم استجابتهم لنداء الله، وذلك شأن غيرهم من مكذبي الرسل، كما أوضح ذلك ربنا جل وعلا بقوله( وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ۖ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) الفرقان: ٣٧ ، أما في التوراة فجاء ذكر الطوفان على أنه عقاب عالمي لكل البشرية، ففي سفر التكوين جاء ” فقال الله لنوحٍ نهاية كل بشر قد أتت أمامي لأن الأرض امتلأت ظلمًا منهم ، فها أنا مهلكهم مع الأرض . اصنع لنفسك فلكًا فها أنا آتٍ بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء ، كل ما في الأرض يموت”[21]، وهذا الذي جاء في التوراة، بأنه هلاك شامل لكل أهل الأرض، لا يمكن قبوله بحال وذلك من خلال المرحلة التاريخية ، فبحسب تقويم العهد القديم يرجع تاريخ الطوفان إلى القرن الحادي أو الثاني والعشرين قبل الميلاد وهو يقابل تاريخ وجود الأسرة الحادية والعشرين من أسر الفترة الوسطى في مصر[22] ، وكذلك من الناحية العلمية فإن القول بوقوع تدمير شامل للكرة الأرضية يتعارض مع أبسط مبادىء الجيولوجيا[23] ، ولهذا فسر ذلك جيمس فريزر بأنه مناسبة خلقها الكهنة لإقامة عهد بين الرب وفئة الناجين المنتقاة حسب الشروط الكهنوتية .[24]
الثاني : موقع الطوفان.
تحدد التوراة مكان استقرار سفينة نوح عليه السلام في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أرارات[25]، وهذا مخالف لنص القرآن الكريم، إذ أن القرآن ذكر تصريحا اسم الجبل بأنه الجودي، دون ذكر مكانه تحديدا، وما تناقلته بعض الكتب ووسائل الإعلام بأنه في شمال شرق تركيا، أو غيرها لا يستند إلى دليل علمي صحيح، والقرآن الكريم لم يذكر المكان إذ ليس في ذكره مصلحة دنيوية أو أخروية، ولو كان هناك مصلحة لعباده في ذكره لذكره وبينه، كما قال عز وجل( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) هود: ٤٤، ولكن الذي يهمنا هنا هو كشف أخطاء كتب التوراة والإنجيل فيما تنقله من الأخبار والمرويات التي لا تستند إلى دليل علمي صحيح.
ثالثا: قصة يوسف عليه السلام.
وفي قصة يوسف عليه السلام دليل قاطع على بطلان الشبهة، وإثبات لصحة ما جاء في القرآن الكريم من القصص، وقصة يوسف هي القصة القرآنية الوحيدة التي جاءت في مكان واحد من سورة تحمل اسم النبي يوسف بن يعقوب عليهما السلام ، لذلك يسهل وضعها بالتوازي في مقابلة القصة التوراتية للوقوف على وجوه تباين واختلاف التفاصيل بين القصتين ، وذلك من خلال النقاط التالية:
أولا: جاءت قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم في إطار ديني تنفذ منه أشعة روحية إلى النفس ببيان العبرة والعظة التربوية والأخلاقية التي من أجلها أنزل الله القصة ، بينما التوراة والعهد القديم ، قد وضعت القصة في إطار عائلي ، يحمل طابع السرد التاريخي المجرد ، دون أن يشير إلى ما وراء الأحداث من عظات .
ثانيا: بين لنا القرآن الكريم أن إخوة يوسف قد أصابهم الضيق والملل، من حب والدهم له ولأخيه كما قال الله عنهم( ذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) يوسف: ٨ ، بينما التوراة لم تشر أو تذكر الأخ بشيء .
ثالثا: رؤيا يوسف التي قصَّها على أبيه كما في النص القرآني تتلخص في أنه رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين كما في قوله تعالى( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)يوسف: ٤ ، بينما الذي جاء في التوراة أن يوسف رأى قبلها رؤيا ، فقد رأى أنه وإياهم يحزمون حزما في الحقل في الصحراء ، فإذا حزمته قامت وأحاطت بحزم إخوته فسجدت لحزمته حزمهم فقال له إخوته : لعلك تملك علينا ملكا ؟ أم تتسلط علينا تسلطا ؟ وازدادوا بغضا له من أجل أحلامه ومن أجل كلامه .
رابعا: لم تذكر التوراة أن الإخوة تفاوضوا على قتل يوسف أو أنهم راودوا أباهم لإخراجه معهم ، ولكن الأب يرسل يوسف لينظر سلامتهم وسلامة الغنم ثم يرد لأبيه الخبر فذهب إليهم ، وعندما رأوه تفاوضوا في شأنه .
خامسا: جاء في القرآن الكريم تآمر إخوة يوسف عليه إما قتلا أو طرحا أو إلقاءه في الجب كما قال الله عنهم( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) يوسف: ٩ بينما الذي جاء في التوراة أن أحد الإخوة راؤبين استبعد فكرة القتل وأشار بالطرح في البئر التي في البرية ، لا لتلتقطه السيارة ، ولكن ليغافلهم ويستخرجه من البئر ليعيده إلى أبيهم .
سادسا: ورد في القرآن الكريم أن إخوة يوسف جاءوا على قميص أخيهم بدم كذب وجاؤوا أباهم وقت العشاء يبكون أخاهم فأجابهم كما في قوله تعالى(وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ *قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ*وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) يوسف: ١٦ – ١٨ ، بينما الذي ورد في التوراة أنهم لم يجيئوا إلى أبيهم بل أرسلوا القميص الملون المغموس بالدم وأحضروه لأبيهم بواسطة الرسول الذي أرسلوه .
سابعا: جاء في القرآن الكريم أن يعقوب تجلد للمصاب الجلل وما زاد على أن قال كلمات سامية من قلب مؤمن صابر محتسب، راض بقدر الله، تعالج الموقف بحكمة ، وترضي الله عز وجل(وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) يوسف: ١٨ ومثل هذا الموقف الرجولي الإيماني الرفيع هو اللائق بالنبي الكريم عليه السلام ، بينما ورد في التوراة أن يعقوب عليه السلام مزق ثيابه ووضع مسحا على حقويه وناح على ابنه أياما كثيرة .
ثامنا : لم يرد في التوراة من قول العزيز لامرأته أكرمي مثواه ، بل تجتاز ذلك مباشرة إلى قول المرأة ليوسف عندما دخل بيتها الخاص ورفعت عينيها إليه وقالت : اضطجع معي ، وليس في التوراة ذكر تعرض المرأة له بالمراودة غير ما ذكر ولا تغليق الأبواب ولا قَدّ الثوب ولا استباق الباب ، ولكن فيها أن المرأة أمسكت بثوب يوسف فتركه عندها وخرج ، بل ورد في القرآن الكريم ما يخالف ذلك تماما، كما بينه الله عز وجل بقوله( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ*وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ*وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ*وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ*فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ*يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)يوسف: ٢٣ – ٢٩، وهذا السرد لأحداث القصة أبلغ وأكمل ويناسب الحدث والسياق.
تاسعا: لم يرد في التوراة قصة الشاهد على روعة مغزاها ، وليس فيها خبر النسوة على الرغم من دوره في النسيج القصصي ، ولكن الذي في التوراة بعد أن حمي غضب العزيز أنه أخذ يوسف ووضعه في بيت السجن .
عاشرا: في التوراة أن رؤيا الملك حصلت بعد سنتين من خروج الساقي( أي الذي يسقي الملك الخمر) ، وهذا التحديد مخالف لما جاء في القرآن الكريم، إذ أن يوسف لبث في السجن بضع سنين، وهذه المدة كما قال ابن كثير-رحمه الله- هي من الثلاث إلى التسع، وعن ابن عباس أنها ثنتا عشرة سنة، وقيل أكثر[26]، كما قال عز وجل(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) يوسف:٤٢.
الحادي عشر: وفي مجيء إخوة يوسف إلى مصر، فالتوراة تذكر أن يوسف حبسهم وسلك معهم مسلك إعنات حتى يأتوه بأخيهم وقال لهم : جواسيس أنتم ، لتروا عورة الأرض جئتم ، بهذا تمتحنون وحياة فرعون لا تخرجون من هنا إلا بمجيء أخيكم الصغير، وهذا شيء لا يصدقه عقل، ولا يقر به من عنده أدنى درجات العلم، إذ كيف يصدق على نبي الله أن يحلف بغير الله، وكيف يتأتى له وهو نبي موصوف بكل خلق عظيم وعطف وتسامح، أن يغلظ على إخوته، ويقسوا عليهم، ويصفهم بالجواسيس، فهذا مخالف تماما لما ينبغي أن يكون عليه أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، فهذا خطأ فادح في التوراة، وقد جاء القرآن الكريم بخلاف ذلك تماما، فقال سبحانه( وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ ۚ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ*فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلَا تَقْرَبُونِ*قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ)يوسف: ٥٩ – ٦١ .
الثاني عشر: جاء في ختام قصة يوسف عليه السلام ، حيث تقول التوراة بعد أن ذكرت موت يعقوب ودفنه ، واستخلف يوسف عليه السلام في بني إسرائيل قائلا : الله سيفتقدكم فتصعدون عظامي من هنا ، ثم مات يوسف وهو ابن مائة وعشر سنين وحنطوه ووضع في تابوت في مصر ، هكذا تنتهي القصة في التوراة بخاتمة فيها من الركاكة وضعف التعبير، وسوء الجانب الفني، وافتقاد الثقة في السرد، وخلوها من المصداقية العلمية، بينما جاءت الخاتمة لسورة يوسف في القرآن الكريم، في غاية الروعة في التعبير والسوق الفني الجميل، تحكي وقعا حقيقيا ملموسا، بعيدة عن الخيال والخلل العلمي، كما أوردها الله تعالى بقوله(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ*رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) يوسف: ١٠٠ – ١٠١.
وأما من الناحية العلمية التاريخية، فإننا نجد أن هناك بعض أوجه الاختلاف، ومنها:
أولا: الوسائل التي امتطاها أبناء يعقوب عليه السلام أثناء ترحالهم لجلب حاجاتهم المعيشية ، لأهليهم من بلاد مصر بعد أن عم بهم الجدب والقحط ، إذ ذكر القرآن الكريم أن وسيلتهم في ذلك هي العير[27] بما فيها الإبل والبغال والحمير، أما التوراة فذكرت أن وسيلتهم في السفر وحمل الطعام هي الحمير فقط، وهذا لا يمكن قبوله لأمرين:
1) أن الحمار حيوان حضريّ غير مألوف في البادية وحياة الصحراء كوسيلة انتقال ولذلك لم يعرفه بنو إسرائيل إلا في الحياة الحضرية الزراعية بمصر .
2) من غير المعقول أن يستطيع الحمار قطع المسافة من كنعان في بادية الشام إلى مصر مخترقا فيافي وصحراوات شاسعة ، أوعرها شبه جزيرة سيناء ، كل ذلك وهو محّمل بالحبوب والغلال يعاني جفاف الصحراء وقيظ الحر الشديد .
ثانيا: الاختلاف والتفاوت بين القرآن الكريم والتوراة في من هو حاكم مصر في ذلك الحين، فتذكر التوراة أنه فرعون ، ويصرح القرآن أنه (ملك) وليس فرعونا ، وهذا ما أكّدته الدراسات التاريخية المعاصرة التي أجراها عالم المصريات الفرنسي (بيير مونتيه) استنادا إلى تحديد العاصمة التي كان يحكم منها يوسف وهي (أفاريس) الواقعة في دلتا النيل قرب قرية سان الحجر المعاصرة ذات الكتابات الهكسوسية الغزيرة وهو ما يقطع بأن قصة حياته تعود إلى فترة حكم الهكسوس[28]،لأن فراعنة الأسرة الثامنة عشرة نقلوا العاصمة إلى طيبة بعد طرد الهكسوس .[29]
كذلك تذكر الوثائق المصرية التي ترجع تاريخها إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد القبائل الكنعانية الرعوية التي جاءت واستقرت في مصر ، ويذكر المؤرخ اليهودي يوسفس فيلافيوس[30] أن الهكسوس أجداده[31].
وهنا بعض التطابق فيما ذكرنا من نتائج هذه الدراسات التاريخية مع بعض إشارات النص التوراتي ، حيث جاء في سفر التكوين في سياق القصة أن المصريين كانوا يعدُّون العبرانيين رجسًا ، فيكون من غير الطبيعي والمنطقي أن يسمح حكام مصر من الفراعنة أن يتسلط على المصريين من يعدونه رجسًا ، بل الشيء المنطقي الوحيد أن يكون الهكسوس المحتلون الأجانب عن مصر قد استعانوا بآسيوي أجنبي مثلهم في حكم البلاد .[32]
قلت وهذه الشبهة التي أوردها كل من المستشرق اليهودي جولد تسيهر، و المستشرق اليهودي فنسنك وغيرهم ، شبهة منبعها ما تنطوي عليه سرائر هؤلاء من الحسد والبغضاء للإسلام والقرآن، مما نتج عنها إثارة الشكوك حول الإسلام والقرآن وحول مصدرية القصص القرآني، بل والتشكيك في مصداقية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله تبارك وتعالى، بهدف الصد عن هذا الدين القويم، ولقد تبين من خلال الرد على الشبهة الاختلاف الواضح البين بين مضامين القصص والقرآن ، وبين ما جاء في التوراة والإنجيل مما لا يصدقه عقل ولا ينطوي عليه يقين، وذلك لأن التوراة والإنجيل قد توارثتها الأيدي بالتحريف والتغيير والحذف وإدخال ما لم تتضمنه من أخبار حال نزولها من السماء، حيث أصبحت مجافية لأصلها، بعيدة عن محتواها الأصلي، فخالجها التناقض والتضاد وافتقاد الثقة حتى من أهلها ، فهم أهل التحريف والنقض للعهود والتبديل لكلام الله كما حكى الله عنهم في كتابه وبين حقيقة أمرهم بقوله عز وجل ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﭼ المائدة: ١٣ ، قال ابن كثير -رحمه الله- ” أي فسدت فهومهم، وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، وتركوا العمل به رغبة عنه”[33] .
[1] العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 15و25، و مذاهب التفسير الإسلامي ، ص 75.
[2] تفسير ابن كثير 2/464.
[3] ينظر الرسل والرسالات، د. عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، الكويت، 1403ه-1983م، ص 1/243-244.
[4] ينظر الغارة التنصيرية على أصالة القرآن الكريم 1/115-116.
[5] كان النفي عام 586 قبل الميلاد عندما دمر نبوخذ نصر ملك بابل بيت المقدس، ونفى معظم بني إسرائيل من أرض إسرائيل وأبعدهم إلى بابل، ينظر تأملات في سفر عزرا، د. نبيه أسحق، دار الأخوة للنشر، مصر، 1998م، الفصل 2.
[6] ينظر سفر التكوين ، كهنة وخدام كنيسة مار مرقص بمصر الجديدة ، مطبعة دير الشهيد مار مينا العجائبى ، مصر،۲۰۰٦ م ، 1/1 و 2/9.
[7] سفر التكوين 1/1.
[8] سفر التكوين 2/9.
[9] تفسير الطبري 9/7590.
[10] تفسير ابن كثير 3/168.
[11] ينظر الكون ، كارل ساغان ، سلسلة عالم المعرفة (178) ، وزارة الإعلام بالكويت، ص 124 .
[12] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي، دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع، بيروت ، 1415 هـ – 1995 مـ، 7/12.
[13] الجامع لأحكام القرآن ، 7/219.
[14] ينظر ndon 1938. 3 – 37 lo pp . K . Outlines of geoloical History, Wells و الكون، كارل ساغان ص 124.
[15] سبقت ترجمته ص 200.
[16]ينظر الواقع والأسطورة في التوراة ، زينون كاسيدوفسكي ، الأبجدية للنشر ، دمشق،1990م ، ص 23 .
[17] ينظر المرجع السابق ، ص 24.
[18] ينظر القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ، موريس بوكاي ، مكتبة مدبولي، القاهرة،1996م، ص 171- 172 .
[19] ينظر المرجع السابق، ص 170-171.
[20] ينظر المرجع السابق ، ص 45-46.
[21] سفر التكوين 6/13-17.
[22] ينظر القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ، موريس بوكاي ، ص 53-54.
[23] ينظر الفلكور في العهد القديم ، جيمس فريزر ،1 /92 .
[24] ينظر المرجع السابق 1/108.
[25] جبل أرارات (بالتركية:Ağrı Dağı، هو أعلى قمة جبلية (5165 م) بتركيا، جبل أرارات بركان نائم تغطيه الثلوج، يقع في شمال منطقة شرق الأناضول بمحافظة أغري، على بعد 16 كلم من الحدود مع إيران و 32 كلم من الحدود مع أرمينيا، يبلغ قطر جبل أرارات حوالي 40 كيلومتر يحاذي حدود إيران وتركيا وأرمينيا وأذربيجان، الموسوعة الحرة ويكيبيديا.
[26] ينظر تفسير ابن كثير 2/437.
[27] جاء في القاموس المحيط، أن كلمة عير تعني عند العرب الإبل والبغال والحمير، ينظر القاموس المحيط مادة عير.
[28] الهكسوس هم شعوب بدوية من أصول مختلفة دخلت مصر من الشرق في فترة ضعف خلال نهاية حكم الدولة الوسطى تقريباً في نهاية حكم الأسرة الرابعة عشر، لم يتفق خبراء التاريخ على أصلهم، ولكن الراجح أنهمأصحاب أصول آسيوية متعددة، ينظر وصف مصر، ب. س. جيرار ، ترجمة زهير الشايب، منى زهير الشايب، دار الشايب للنشر، القاهرة، 1992م، و معالم تاريخ وحضارة مصر الفرعونية، سيد توفيق، دار النهضة العربية، القاهرة ، 1990م.
[29] ينظر الحقيقة والأسطورة في التوراة ، زيتون كاسيوفسكي ، ص 80.
[30] يوسفوس فلافيوس أو يوسيپوس أو باسمه العبري الأصلي يوسف بن ماتيتياهو كان أديبا مؤرخا وعسكريا يهوديي الدين رومانيا عاش في القرن الأول للميلاد واشتهر بكتبه عن تاريخ منطقة يهودا، والتمرد اليهودي على الإمبراطوية الرومانية والتي تلقي الضوء على الأوضاع، ينظر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، د. عبدالوهاب المسيري، 1/25.
[31] ينظر الحقيقة والأسطورة في التوراة ، زينون كاسيوفيسكي ص 78.
[32] ينظر الغارة التنصيرية على أصالة القرآن الكريم ص 77.
[33] تفسير ابن كثير 2/ 31-32.