الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
القرآن الكريم كلام الله تعالى على وجه الحقيقة، فيه الهدى والنور ، وهو حبله المتين ، وصراطه المستقيم ، وهو ذكره الحكيم ، من تمسك به نجا ، ومن حاد عنه هلك ، يقول الله عز وجل فيه (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) الإسراء 10 ،فيه الخبر الصادق،والقول العادل، فيه خبر ما كان وما سيكون وماهو كائن،فيه الوعد والوعيد،والتوعد والتنديد،قامت به الحجة وانقطعت به المعذرة، كل ما كان فيه سيظهر للعباد عيانا في يوم المعاد،يقول الله فيه(ولتعلمن نبأه ) أي خبر القرآن الكريم على سبيل التأكيد أن ما جاء فيه كائن لا محالة،( بعد حين ) أي : عن قريب، كما قال عز وجل(إنهم يرونه بعيدا* وَنَرَاهُ قَرِيبًا)أي : وقوع العذاب وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع ، بمعنى مستحيل الوقوع ،وأما المؤمنون فإنهم يعتقدون أنه قريب ، وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله عز وجل ، لكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة، كما قال عز وجل(إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ ۖ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) الأنعام134 ،أي أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون به من أمر المعاد كائن لا محالة وقال قتادة،( بعد حين ) أي بعد الموت ،وقال عكرمة يعني يوم القيامة ولا منافاة بين القولين ، فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة ،وقال الحسن رحمه الله ( يا ابن آدم ، عند الموت يأتيك الخبر اليقين).
ومما نبأ به القرآن الكريم أنه حق وأن ما جاء فيه هو الحق،وأن وقوع الساعة كائن،واجتماع البشرية جمعاء على اختلاف ألوانهم ومعتقداتهم،الكبير والصغير والذكر والأنثى والأسود والأحمر والأبيض،كلهم في صعيد واحد، الأبصار شاخصة،والقلوب واجفة،والغم والهم والقلق والبكاء والعويل،تخيم على أهل المحشر،فلا تسمع إلا همسا،وتطول الوقفة،وترتفع الحرارة،ويغشاهم العرق، فيتمنى المفلسون الغافلون لو يُقضى عليهم ولو إلى النار،عندها ترجع بهم الذاكرة إلى الدنيا،فيحل معها الندم على التفريط،والحسرة على التسويف،ويتمنون العودة،لتدارك ما فات ولكن هيهات،قد قال الخالق وقوله نافذ أنهم إليها لا يرجعون،فما بقى لهم سوى التسليم بما حواه السجل المبين،ويؤملون الآمال،فمؤمل قد قربته صحيفته من بلوغ الأمل،وتناول النجاة، ومؤمل قد انقطعت به السبل،وخذلته الأعمال والأماني،فيالها من لحظات يتمنى فيها الكافر والمشرك والمنافق والمستشرب لكئوس المعاصي والمجاهرة بها لو يكونون ترابا،للفرار من لواهيب العذاب،وشدة الأغلال ،وضيق المكان.
فالواجب على ذي اللب الحصيف،أن يَقْدر للأمر قَدْره،وأن يحتاط لأمره،وأن يترك حبل الكذب والتسويف،وأن يَجِد في العمل،ويغنم العمر،وينتهز الفرص،فكل يوم ذاهب بما حمل،وكل يوم جديد شاهد بما يقع،واليوم ميدان للعمل وغدا بيداء للحساب،فيتزود من ميدان العمل،للنجاة في يوم الحساب،(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ)، يقول الحسن البصري رحمه الله( الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل وإن اللبيب بمثلها لا يُخْدع) ،ويقول ابن القيم رحمه الله( من عشق الدنيا نظرت إلى قدرها عنده، فصيرته من خدمها وعبيدها وأذلته، ومن أعرض عنها نظرت إلى كبر قدره فخدمته وذلت له) وقال بعض الحكماء( كانت الدنيا ولم أكن فيها وتذهب الدنيا ولا أكون فيها فلا أسكن إليها فإن عيشها نكد وصفوها كدر وأهلها منها على وجل إما بنعمة زائلة أو بلية أو منية قاضية) وقال الفضيل( لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان ينبغي لنا أن نختار خزفاً يبقى على ذهب يفنى).
وما المال والأهلون إلا ودائع**ولا بد يوماً أن ترد الودائع
وقيل لإبراهيم بن أدهم: كيف أنت فقال:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا **** فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فالواجب الحذر والجد والعمل واستشراف المستقبل وما عساه أن يكون،فالأيام والليالي تتسابق والعمر يتهافت،فما يستدرك ابن آدم نفسه إلا وقد وقع في شراك الموت،وانغلاق العمل،وختم الصحف فيدخل عندها في غياهب القيامة ويعاين ما أخبره به الكتاب العزيز.فاللهم اختم لنا منها بخير واجعل عواقب أمورنا كلها إلى خير ياكريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.