المنهج الإجتماعي في كتابات المستشرقين عن قصص القرآن الكريم…. د. ناجي بن وقدان

الحياة الاجتماعية لكل أمة هي الميدان الأرحب للبحث والدراسة ، واستخلاص النتائج والتوصيات، والحياة الاجتماعية لأمة الإسلام بما تتسم به من الخير والسعادة والعيش الرغد، والتمسك بتعاليم الدين الإسلامي، وتنفيذ أحكامه، هي المرتع الخصب لأعداء الإسلام من المستشرقين وسفرائهم في كل بلد إسلامي، بهدف النيل من الحياة الإسلامية الاجتماعية، وتغيير البنية الأساسية لها، وتحويل المجتمع المسلم إلى حياة اجتماعية غربية، خالية من القيم والأخلاق، لا هم لأهلها سوى الانهماكية المادية، والصراعات الحضارية، وتكوين الطبقات الاجتماعية، وإثارة النعرات الجاهلية، والحروب الأهلية، وجعلوا من القصص القرآني الاجتماعي ميداناً للتحريف والتحوير والتكذيب والتشكيك، يقول المستشرق ريتشارد بل مؤلف كتاب مقدمة القرآن” أن النبي  قد اعتمد في كتابه على الكتاب المقدس، وخاصة على العهد القديم في قسم القصص، فبعض قصص العقاب كقصة عاد وثمود مستمد من مصادر عربية، ولكن الجانب الأكبر من المادة التي استعملها محمد ليفسر تعاليمه ويدعمها قد استمده من مصادر يهودية ونصرانية “[الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، ص84] ، وقال في موضع آخر “ولقد كان هذا الصنيع الأدبي مما ألفه القوم من المدنيين، خاصة أهل الكتاب ذلك لأنه الصنيع الذي جرت عليه التوراة وجاء به الإنجيل ومن هنا لم ينكروه، وهو في أعلى ما عرفت العربية من طبقات البلاغة وأدب القائلين”[هجمة علمانية جديدة ومحاكاة النص القرآني]، ومن أتباع وسفراء المستشرقين في بلاد الإسلام من يحذو حذوهم، ويدعم شبهاتهم، ويؤيد باطلهم، ومن هؤلاء د. محمد خلف الله يقول “إن المعاني التاريخية ليست مما بلغ على أنه دين يتبع، وليست من مقاصد القرآن في شيء، ومن هنا أهمل القرآن التاريخ من زمان ومكان وترتيب للأحداث” وكذلك يصف القرآن بأنه أساطير الأولين كما وصفه به المشركون ، ويستدل بذلك بقوله تعالى(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) الفرقان ٥ “[الفن القصصي في القرآن الكريم]. إن القرآن الكريم بعيد كل البعد عما قاله وأوله د. خلف الله ، إذ بقوله هذا يريد إخضاع آيات القرآن الكريم وقصصه وينزله منازل المعايير الأدبية، والتفسيرات المادية التاريخية، بل وانتزع وألغى قدسية كتاب الله تعالى وكلامه، فالقرآن الكريم هو كلام الله الموحى إلى رسولهr فهو كتاب مقدس وله حرمته وقدسيته، فلا يمكن بحال أن يخضع للمعايير البشرية، بل المعايير البشرية تخضع له، فالقرآن الكريم يركز في سرده قصصه على أخذ العبرة والعظة، والانقياد لله تعالى والعمل بطاعته والحذر من مخالفة أمره، والقرآن العظيم مليء بالأمثلة والدلالات القصصية على ذلك.[وللمزيد ينظر القصص القرآني، د. فضل عباس]. 

       إن المستشرقين عندما يدرسون المجتمعات العربية والإسلامية، فإنهم يستخدمون هذا المنهج الذي من خلاله يثيرون النعرات الجاهلية ، والنزعات العرقية، لعلمهم أن هذه كفيلة بتمزيق النسيج المجتمعي لأمة الإسلام، ولعل مما التزم به المستشرقون في دراساتهم للمجتمعات الإسلامية من خلال هذا المنهج، هو أن أي مشكلة تهم المجتمع المسلم، يبثها أحد أفراده، فإن هذه المشكلة تكون محل اهتمام المستشرقين لعرضها على المتخصصين منهم لدراستها وإيجاد الحلول لها ، ولكن ليس لصالح المسلمين ، بل لصالح الاستعمار والتنصير الغربي وبما يخدم مصالحهم ويوصل لأهدافهم، يقول د. مالك بن نبي ” وهناك قاعدة عامة التزم بها المستشرقون إزاء المشكلات التي يعاني منها المجتمع العربي والإسلامي ، وهي أنه عندما يطرح مسلم أو بعض المسلمين مشكلة ما تهم مجتمعهم، فإن هذه المشكلة تكون قد طرحت أو ستطرح عاجلا في أوساط المتخصصين في الدراسات لحساب الاستعمار وتحت إشراف منه، وكلما يتقدم هذا المفكر المسلم أو هؤلاء المسلمون بحل هذه المشكلة، يسرع من طرف آخر هؤلاء المختصون لدراسة هذا الحل وإن كان فيه ما يفيد ، ويحولون جهدهم التقليل من شأنه وتخفيض قيمته حتى لا يفيد”[إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث] .

       ومن جانب آخر نجد المستشرقين يمارسون مهنة التشويه والتزوير وتلفيق التهم بالمجتمع العربي والإسلامي، فالمستشرقون يصفون المجتمع العربي والإسلامي على مر العصور ، وخصوصا العصر الأول بالتفكك والانحلال تسوده الأنانية وحب الذات ، وينظرون إلى حاضره نظرة انتقاص ويصفون العرب والمسلمين بالجهل والعجز، يقول المستشرق فؤاد سزكين” إن العرب لم يعودوا يفهمون التضامن ولا التضحية ولا احترام الوعد الذي يفهمه الغربيون”[الاستشراق ومناهجه في الدراسات الإسلامية] ويقول أيضا عن المجتمع العربي والإسلامي في موضع آخر” كل شيء في غير محله، الفكر الديني، الفكر الاجتماعي، المثقفون”[الاستشراق ومناهجه في الدراسات الإسلامية] .

       ولكن ما هي الأسباب أو الدوافع التي تدفع المستشرقين لسلوك هذه المنهجية المتحاملة على كل ما هو عربي وإسلامي؟ إن المتبصر في أحوال القوم ودراساتهم وبحوثهم تجاه الإسلام وأهله، يجد أن الأسباب لا تكاد تخرج عن أمور جوهرية، تلخص لنا مضامين الفكر الغربي وتوجهاته ومقاصده تجاه العالم العربي والإسلامي، ومنها:

أولا: التعصب الديني الذي تدين به المنهجية الاستشراقية ، سواء كان هذا التعصب ناتجا عن الإيمان الكامل بالكنيسة الغربية، أو الإيمان باليهودية العالمية والولاء لها.

ثانيا: تحقيق المصالح الغربية في البلاد العربية والإسلامية، وتقديم هذه المصالح الاستعمارية على المصالح العلمية واستبعاد المنهجية العلمية عن الساحة إذا كانت المصالح متعلقة بالبلدان الغربية.

ثالثا: النظرة الحضارية الاستعلائية تجاه العالم العربي والإسلامي، لما يشعر به الاستشراق الغربي والبلدان من التفوق الحضاري، الذي هو في الأساس مأخوذ ومسروق من الحضارة الإسلامية في شتى المجالات العلمية والحضارية التي شهدت بها الأندلس وغيرها، وهذه حقيقة يعرفها الغربيون أنفسهم، والتي تعكس مدى ما وصلت إليه  الحضارة العربية والإسلامي من التفوق والتقدم القابلين للاستمرارية في كل زمان ومكان.

      والمقصود أن هذه المنهجية التي يمتهنها المستشرقون تسعى جاهدة لتشويه الصورة الحقيقية الناصعة لدين الإسلام والصد عنه، والتي ينتهجها المستشرقون من قديم وحديث والتي لا ينفكون عنها في بحوثهم ودراساتهم للمجتمع العربي والإسلامي، وهي ملازمة لهم ملازمة الظل، يقول أحدهم وهو وليم مونتغمري واط ” جد الباحثون منذ القرن الثامن عشر في تعديل الصورة المشوهة التي تولدت في أوربا عن الإسلام، وعلى الرغم من الجهد العلمي الذي بذل في هذا السبيل في أوربا لا تزال قائمة، فالبحوث والدراسات الموضوعية لم تقدر بعد على اجتنابها”[الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ص 73].

      ولعل من الأمثلة ما أثاره المستشرقون حول قصص القرآن الكريم ، واستخدموا فيه هذا المنهج، قصة وجود الإسلام وأنه ظاهرة اجتماعية لا وحي من السماء، وقد جاء ذلك في كتاب قصة الحضارة[قصة الحضارة، ويليام جيمس ديورانت] لـ ويليام جيمس ديورانت بقوله” يزعم بعض المغالطين أن رسالة النبيr إنما كانت دعوة جماعية، وأن الاضطراب الذي انتاب الحياة العربية قبل الإسلام يحتم أن تظهر حركة إصلاحية تعالج أسبابه، وربما يزيدون على ذلك أن محمداr  في جملة تعاليمه لم يتعد العقلية العربية في تطلعاتها ومطامحها. وهذا صريح في أن الإسلام ليس وحيا من السماء، وإنما هو تصحيح اجتماعي تلتمس دواعيه على الأرض”[موسوعة بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات] . وهذا المثال أو هذه الصورة لا تعدوا أن تكون شبهة وزوبعة من الزوابع التي يثيرها المستشرقون حول الإسلام والقرآن وهدي المصطفىr ، ومن المعلوم لدى كل ذي لب ، أن الإسلام الذي يشهد لانتشاره العالم بأسره، فلم يبق بيت مدر ولا حجر ولا سهل ولا جبل إلا ووصلته رسالة الإسلام، وهذا مصداق حديث النبيr الذي رواه تميم الداري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ” ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر الا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر” ، أكبر وأوسع من أن يحدد بظاهرة اجتماعية نبتت في بيئة محدودة لا تتناسب والاسلام الذي انتشر انتشارا واسعا وصالحا لكل زمان ومكان، ثم إن أي مقولة أو بحث تسوده الذاتية، فإنه ولا محالة سيفقد حقيقته العلمية، ومنهجيته السليمة مما سيؤدي إلى نتائج وخيمة وغير عادلة، كما أن التفسيرات المادية للتاريخ الإسلامي ستنتج للعالم نتائج خاطئة من الناحيتين العلمية والمنطقية وذلك لعمى بصرها وبصيرتها عن إدراك الحقائق والثوابت، لأنها تعتمد في منهجيتها على أدوات مادية بشرية قاصرة. يقول مصطفى السباعي-رحمه الله- ” يرى المستشرقون أن التاريخ الإسلامي سلسلة من الأكاذيب، فهم يفسرون أحداثه وفق أهواءهم واقتراحاتهم الفاسدة أحيانا، وهم يستنبطون الأحكام الكلية من حوادث جزئية ، فيكون حكمهم آنذاك قائم على استقراء ناقص لا يثبت دليلا يعتمد عليه، ويعتمدون الأخبار الضعيفة أو الأخبار الثابتة والبناء عليها، حيث تقودهم إلى استنتاجات ونتائج غير صحيحة، ويغفلون الروايات التي تناقض النتائج التي يقرونها ، وهم يعرضون مقاطع مشوهة عن التاريخ الإسلامي بعيدا عن الحقيقة كتصويرهم للمعارك الإسلامية بغير صورتها الإسلامية وليس التاريخ في نظرهم إلا السيف والدم”[السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص 297].

     وخلاصة  القول فيما سبق ، أن هذا المنهج هو سمة من سمات المستشرقين، بهدف تشويه صورة القصص القرآني ، بل وتشويه صورة الإسلام والقرآن وسنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، وذلك لصد الناس عنه وعن الدخول فيه، ومع ذلك كله إلا أن المؤشرات تقول إن الإسلام ينتشر بشكل كبير رغم محاولات الصد، والداخلين فيه في ازدياد وهذا من فضل الله ومنته ان يجعل هذا الدين حقيقة لا خيال، وصدقا لا مراء، وأنه منزل من عند الله، وان الله حافظه وأهله مهما تطاولت الألسن، وتكالبت الذئاب (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) التوبة ٣٢.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *