الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
تعاني الكثير من الأسر المسلمة في المجتمعات الإسلامية من ضعف وتفكك حاد فيما يخص القوامة والقيادة والإدارة الأسرية،وذلك بتأثير الانفتاح الدنيوي والتكنولوجي ،وظهور المخترعات الإلكترونية،وتوفر وسائل التواصل على اختلاف أنواعها التي بدورها ساهمت في التباعد الأسري،والتفكك المجتمعي،مما ساهم في ظهور مخرجات متفككة،وصلات هشة،وعصيان وتمرد،ومشاكل لا حصر لها، وبها ضَعُفت القوامة الأسرية ولم تعد إلا مجرد مظاهر لا دور لها ولا أثر في قيادة الأسرة،والأخذ بأسباب نجاتها وصلاحها، ومن هنا نرى الفنون القيادية الأسرية الناجحة قد تجلت في سورة التحريم،التي وضعت الحلول والفنون بطرق شرعية لكل ما يطرأ على الأسرة من تغيرات ومشاكل،من أخذها وعمل بها فقد أخذ بحظ وافر.
التعريف بسورة التحريم:
سورة التحريم من أعظم سور القرآن الكريم،وفيها من الآيات والعبر الشيء الكثير وخصوصا فيما يتصل بالتربية الأسرية السوية. سُميت بأسماء متعددة منها سورة التحريم،وسورة النبي صلى الله عليه وسلم،وسورة (لم تحرم) وغير ذلك،تقع في إثنتي عشرة آية إجماعا، وعدد كلماتها مائتان وسبع وأربعون كلمة، وحروفها ألف ومائة وستون حرفًا كحروف سورة الطلاق[الإتقان في علوم القرآن جـ 1 ص 55].
نزلت هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم لبناء المجتمع الإسلامي البناء القوي المحكم.
سبب نزول السورة: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بنْتِ جَحْشٍ، ويَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا، فَتَوَاصَيْتُ أنَا وحَفْصَةُ: أنَّ أيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَلْتَقُلْ: إنِّي أجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ علَى إحْدَاهُما فَقالَتْ ذلكَ له، فَقالَ: لَا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بنْتِ جَحْشٍ ولَنْ أعُودَ له فَنَزَلَتْ: (يَا أيُّها النبيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ)، (إنْ تَتُوبَا إلى اللَّهِ)،( لِعَائِشَةَ وحَفْصَةَ )وَإِذْ أسَرَّ النبيُّ إلى بَعْضِ أزْوَاجِهِ حَدِيثًا، لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا)[رواه البخاري ومسلم].
جوانب التربية والقيادة الأسرية في السورة:
أولا: جانب الغيرة عند النساء والعلاج النبوي:
تتميز المرأة بغريزة وقَّادة قلما تنفك عنها وهي فطرة فُطرت عليها، وهي كذلك موجودة لدى الرجل ولكنها أقل حرارة وشدة من المرأة،وكذلك تتفاوت هذه الغيرة من امرأة لأخرى،فغيرة المرأة صفة ركبها الله في طباعها وتصرفاتها عندما تحصل أسبابها ،وهذه الغيرة قد تخرجها عن دائرة العقل وتدبر العاقبة فيحصل بذلك ما لا يحمد عقباه، وكما يقال المرأة سريعة الثوران والغضب سريعة العودة والندم. والغَيرة في معناها العام هي عامل يؤثر ويحدث تغيرا في القلب ،ويُهيج نار الغضب في النفس بسبب المشاركة فيما هو من اختصاصها، ويحصل غالبا بشدة بين الزوجين. والغيرة تكمن في كراهة الرّجل والمرأة على حد سواء اشتراك غيرهما فيما هو من حقّهما، وهي غريزة بين الجنسين ولكنها عند المرأة أشد. وقد وقعت هذه الغيرة من فاضلات النساء وأزواج الأنبياء وأمهات المؤمنين، ومن ذلك ما حدث للسيدة سارة زوج إبراهيم عليه السلام من الغيرة من هاجر وولدها إسماعيل، وهذه الغيرة هي التي دفعت إبراهيم عليه السلام أن يبعدهما عن نظر سارة (فإن سارة امرأة الخليل عليه السلام غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة فإنها كانت جارية فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة فأمر الله جل وعلا إبراهيم أن يبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة لتبرد عن سارة حرارة الغيرة وهذا من رحمته تعالى ورأفته)[زاد المعاد ص 26] ،وتلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تغار على النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تغار من ضرائرها أمهات المؤمنين بل إنها كانت تغار من خديجة رضي الله عنها التي ماتت قبل أن تراها وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُكثر من ذكر خديجة رضي الله عنها، (وأصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة)[فتح الباري 7/136-137] ، فكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة جعلت عائشة تغار منها رضي الله عنهما، فعن عائشة رضي الله عنها قالت(ما غِرتُ على أحدٍ من نساءِ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما غِرتُ على خديجةَ، وما رأيْتُها، ولكن كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثرُ ذِكرَها، وربما ذبح الشاةَ، ثم يُقَطِّعُها أعْضاءً، ثُمَّ يَبْعَثُها في صَدائِقِ خديجَةَ، فربما قُلْت له: كأنهُ لم يكُن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجةُ، فيقول(إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولدٌ)[رواه البخاري]، وفيه دليل على(ثبوت الغيرة وأنها غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء فضلا عمن دونهن)[فتح الباري 7/136-137].
وفي سورة التحريم،نتناول قضية غيرة النساء وحيلهن لكسب قلب الزوج وحرمان ضرائرهن من عطفه وشفقته وحبه واستئثارهن به، وهو جانب آخر ذو خطورة لأنه يتعلق ببيت النبوة ونمط المعيشة فيه وكيفية إنشاء العلائق المنزلية بين أفراد الأسرة ومن هذا البيت يستمد التشريع للأمة وهو البيت النموذج والمثل الإنساني الكامل.
ولقد غارت عائشة رضي الله عنها من ضرتها زينب بنت جحش،حيث يأتيها النبي صلى الله عليه وسلم ويشرب عنها عسلا ويمكث عندها ما شاء الله أن يمكث،فتواطأت هي وحفصة واتفقتا إذا دخل النبي صلى الله عليه وسلم على إحداهما فلتقل له أكلت مغافير؟ إني أجد منك ريح مغافير،وهذا أصح ما ورد في قصة نزول أوائل سورة التحريم،فقد روى البخاري رحمه الله في باب التفسير عن عائشة رضي الله عنها قالت(كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينت بن جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير؟ إني أجد منك ريح مغافير[مغافير: بغين معجمة، وفاء بعدها ياء وراء، جمع مغفور بالضم كعصفور، أي صمغاً حلواً له رائحة كريهة، ينضحه شجر يقال له العرفط، بضم العين المهملة والفاء، يكون بالحجاز له رائحة كرائحة الخمر. انظر النهاية لاين الأثير 4/374]، قال: ولكني كنت أشرب عسلاً عند زينت بن جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا، فنزلت ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) إلى قوله تعالى ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) التحريم 1- 4 .
ولقد عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم حينما حلف عن المباح وتحريم ذلك على نفسه بغية إرضاء أزواجه، وهذا منتهى التلطف مع الزوجات،ومعالجة الغيرة في حينها بأفضل الحلول والسعي لإسعادهن ولو بهضم شيء من حق النفس، وعندما علم الله من نبيه الإخلاص في علاج ما انفتق من الجدار الأسري بسبب الغيرة،جعل لنبيه فرجا ومخرجا،ففرض كفارة اليمين له عليه الصلاة والسلام ولأمته من بعده اقتداء به للتحلل من اليمين،كما قال عز وجل (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) التحريم 2،قال الإمام القرطبي رحمه الله(قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم تحليل اليمين كفارتها أي إذا أحببتم استباحة المحلوف عليه ، وهو قوله تعالى في سورة(المائدة)فكفارته إطعام عشرة مساكين)[8]،وقال الإمام الطبري رحمه الله(قد بين الله عزّ وجلّ لكم تحلة أيمانكم،وحدّها لكم أيها الناس(وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ) يتولاكم بنصره أيها المؤمنون(وَهُوَ الْعَلِيمُ ) بمصالحكم (الْحَكِيمُ ) في تدبيره إياكم، وصرفكم فيما هو أعلم به) تفسير الطبري ص 560 .
ثانيا: جانب علاج الخطأ الناتج عن الغيرة:
وكما قلنا من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر حفصة الا تفشي سره لأحد من أزواجه حتى تنطفئ نار الغيرة ويهدأ الإشكال، كما قال عز وجل(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) التحريم 3 ، وفي هذه الآية جملة من الوقفات، ومنها:
الوقفة الأولى:
أن البيوت لها أسرار،وإن من العبث أن تفشي المرأة أسرار بيتها وزوجها،وما يُنْعم به الخالق جل وعلا عليهما من مال وولد وصحة وغيرها،وكذلك ما يحصل في بيتها من الخلافات التي لا تخلوا منها البيوت، فإن الناس عند سماع مثل هذه الأخبار ما بين شامت يترقب للتشفي ونشر الأسرار وفضح البيوت،وبين محب صادق يفرح للنعم ويحزن للمصيبة،وما أكثر هذه الظواهر وخوصا مع توفر وسائلها التي تتسارع في نشرها وتعجل بتطايرها بين الناس،كوسائل التواصل الاجتماعي كالجوالات والسنابات وغيرها مما تسببت في خلافات ومشاكل أسرية ومجتمعية لا حصر لها،فكثير من الزوجات والأزواج بدافع التشفي والانتقام ،أو بداعي اللعب والترف ينشرون بين الأقارب والمعارف والأصحاب ما يدور في بيوتهم من خير أو شر،ويصورون ما حباهم الله به من النعم وينشرونها مما سبب لهم الأمراض والعلل وانقلاب بيوتهم رأسا على عقب بالخلافات والمشاكل، فكما قيل كل ذي نعمة محسود، ولذلك كان لإفشاء حفصة سر النبي صلى الله عليه وسلم دور في إثارة الفتنة،وإحراج النبي عليه الصلاة والسلام مع بقية أزواجه كما قال تعالى(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي أخبرت به وأفشته،وذلك بإخبارها لعائشة رضي الله عنها وإفشاء السر.
وفي هذا إشارة وتنبيه إلى كل مسلم ومسلمة، وزوج وزوجة أن يكونوا أكثر وعي وحذر،فكم من قول أو فعل يستهين به المرء ،فيكون بابا لتصعيد المشاكل وتفخيمها،وأن تكون المرأة حافظة لأسرار بيتها وزوجها،فذلك من الرعاية التي كلفها الله بها كما قال صلى الله عليه وسلم(والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)[رواه البخاري].
الوقفة الثانية:
في قوله تعالى(وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ) أي أن الله تعالى بسمعه وبصره قد عَلِم فعل حفصة رضي الله عنها بإفشاء سر النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر رسوله بذلك وأطلعه الله عليه،وبذلك أخبر عليه الصلاة والسلام حفصة بفعلها وتفاجأت بعلم النبي صلى الله عليه وسلم به،وقد اتفقت مع عائشة ألا يعلم بذك أحد،فسبحان من يعلم السر وأخفى. ولذلك كان من كرم النبي عليه الصلاة والسلام عندما أخبرها ببعض الأمر،أن يمتن عليها بالكتمان والإعراض عن بقيته، لأن الهدف قد تحقق بأن يُعْلمها بأن الله عالم بسرائر الأمور ولا تخفى عليه خافية.قال الإمام القرطبي رحمه الله(فلما نبأت به أي أخبرت به عائشة لمصافاة كانت بينهما ، وكانتا متظاهرتين على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ،وأظهره الله عليه أي أطلعه الله على أنها قد نبأت به ، وقرأ طلحة بن مصرف( فلما أنبأت) وهما لغتان : أنبأ ونبأ ،ومعنى عرف بعضه وأعرض عن بعض عرف حفصة بعض ما أوحي إليه من أنها أخبرت عائشة بما نهاها عن أن تخبرها به ، وأعرض عن بعض تكرما)[تفسير القرطبي ص 560].
ويؤخذ من هذا أن على المرأة المسلمة أن تعلم ان الله مطلع على أفعالها وسرائرها وتعاملاتها تجاه زوجها،بأن لا تُبَيِّت له إلا الخير،ولا ترضى له إلا الخير،وأن عليها كتمان أسرار بيتها وزوجها وألا تفشيها لأحد مهما كانت قرابته منها،ومهما كانت من مصلحة إلا بإذن زوجها. نقول هذا في زمن تساهلت فيه كثير من النساء بحقوق زوجها وبيتها وأسراره، فأخرجت كل ما يدور في بيتها للناس حتى ومع الأسف الشديد الأمور الخاصة بينهما، خاصة في المجالس النسائية،وهذه من الأمور التي يؤاخذها الله ويحاسبها عليها.
الوقفة الثالثة:
في قوله تعالى(فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي عندما أخبر زوجته حفصة بما فعلت ،تفاجأت بوصول الخبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلم عنه أحد وقد أثارتها الشكوك حول عائشة في إفشاء السر، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأن من أخبره هو الله عز وجل، قال ابن جرير الطبري رحمه الله(فلما خبر حفصة نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بما أظهره الله عليه من إفشائها سرّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى عائشة (قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا ) يقول: قالت حفصةُ لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: من أنبأك هذا الخبر وأخبرك به (قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) يقول تعالى ذكره: قال محمد نبيّ الله لحفصة: خبرني به العليم بسرائر عباده، وضمائر قلوبهم، الخبير بأمورهم، الذي لا يخفى عنه شيء،وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل)[تفسير الطبريص 560].وفي هذا فائدة للمرأة المسلمة ،وتذكير لها بمراقبة الله عز وجل في السر والعلن،وتقواه في القليل والكثير وأنه عز وجل مهما أسر العبد وأخفى من أموره عن الناس فإن الله لا يخفى عليه شيء من أمور عباده،كما قال عز وجل(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) النساء 108.
وقوله تعالى(إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ) التحريم 4،قال الإمام الطبري رحمه الله(إن تتوبا إلى الله أيتها المرأتان فقد مالت قلوبكما إلى محبة ما كرهه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من اجتنابه العسل، وتحريمه على نفسه، أو تحريم ما كان له حلالا مما حرّمه على نفسه بسبب حفصة، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل)[تفسير الطبري ص 560]،وقال الشيخ السعدي رحمه الله(الخطاب للزوجتين الكريمتين من أزواجه صلى الله عليه وسلم عائشة وحفصة رضي الله عنهما، كانتا سببًا لتحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ما يحبه، فعرض الله عليهما التوبة، وعاتبهما على ذلك، وأخبرهما أن قلوبهما قد صغت أي: مالت وانحرفت عما ينبغي لهن، من الورع والأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، واحترامه، وأن لا يشققن عليه)[تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 873].
وفي هذا توجيه للمرأة المسلمة بأن تلزم التقوى والأدب والورع مع زوجها،وألا تُحدث ما يَصْدع جدار الحياة الزوجية،ويتسبب في إيقاع الزوج فيما يكره،وأن تكبت نار الغيرة التي لا يأتي من وراءها إلا سوء التصرف والوقوع فيما يغضب الله تعالى.
وقوله تعالى(عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) التحريم 5 ،قال الشيخ السعدي رحمه الله(وهذا فيه من التحذير للزوجتين الكريمتين ما لا يخفى، ثم خوفهما أيضا، بحالة تشق على النساء غاية المشقة، وهو الطلاق، الذي هو أكبر شيء عليهن، فقال( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ) ،أي: فلا ترفعن عليه، فإنه لو طلقكن، لم يضق عليه الأمر، ولم يكن مضطرًا إليكن، فإنه سيلقى ويبدله الله أزواجًا خيرًا منكن، دينا وجمالًا، وهذا من باب التعليق الذي لم يوجد، ولا يلزم وجوده، فإنه ما طلقهن، ولو طلقهن، لكان ما ذكره الله من هذه الأزواج الفاضلات، الجامعات بين الإسلام، وهو القيام بالشرائع الظاهرة، والإيمان، وهو: القيام بالشرائع الباطنة، من العقائد وأعمال القلوب)[تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 560].
وصفات الزوجات المذكورة في الآية (قَانِتَاتٍ)والقنوت هو دوام الطاعة واستمرارها ( تَائِبَاتٍ )أي عما يكرهه الله، فوصفهن بالقيام بما يحبه الله، والتوبة عما يكرهه الله، ( ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) أي: بعضهن ثيب، وبعضهن أبكار، ليتنوع صلى الله عليه وسلم، فيما يحب، فلما سمعن رضي الله عنهن هذا التخويف والتأديب، بادرن إلى رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الوصف منطبقًا عليهن، فصرن أفضل نساء المؤمنين، وفي هذا دليل على أن الله لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أكمل الأحوال وأعلى الأمور، فلما اختار الله لرسوله بقاء نسائه المذكورات معه دل على أنهن خير النساء وأكملهن.
وفيه إرشاد للمرأة المسلمة الساعية إلى كمال الإيمان والتقوى والأدب،أن تسعى وتوافق زوجها فيما لا معصية فيه،فتحب ما يحبه وتكره ما يكرهه، ولا تخالفه في أمر مشروع وأن تتغلب على نار الغيرة ما استطاعت ،وفي ذلك دوام للحياة الزوجية،والعشرة الطيبة.
ثم يأتي التوجيه والإرشاد من الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين بإقامة القيادة الأسرية بمقتضى نصوص الكتاب والسنة،والأخذ بالأسرة إلى ساحل النجاة،ووقاية أفرادها من التفلت والضياع، الذي يجر إلى العذاب والنكال في الآخرة ،فقال سبحانه آمرا لهم(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم 6 ،فاستهل الآية بنداء التشريف والتكريم والتذكير للمؤمنين،بوقاية أنفسهم أولا وأهليهم ثانيا،من النار يوم القيامة،وفي ذلك إشارة إلى الولاية والقيادة والقدوة الصالحة من الرجل لأهل بيتة،وذلك أن الله حَمَّله الولاية،وأسند إليه القيادة الأسرية،والأمانة الثقيلة،التي لا بد من سؤاله عنها يوم المثول بين يدي الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم(ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)[متفق عليه].
فالمسلم إذا كان قدوة صالحة لأهل بيته،مجنبا لهم سبل الردى،مشفقا عليهم،رحيما بهم،معلما لهم ومفقها في دين الله عز وجل،فذاك قد نجى وأنجى من معه،فالرجل الصالح يحفظ الله أهله وذريته من بعده،ويرفعهم معه يوم القيامة في الجنة،كما قال عز وجل(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) الطور 21،قال الإمام الطبري رحمه الله(والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان, ألحقنا بهم ذرياتهم المؤمنين في الجنة, وإن كانوا لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم, تكرمة لآبائهم المؤمنين, وما ألتنا آباءهم المؤمنين من أجور أعمالهم من شيء)[تفسير الطبري ص 524]، وقال ابن عباس رضي الله عنهما(إن الله تبارك وتعالى يرفع للمؤمن ذريته, وإن كانوا دونه في العمل, ليقرّ الله بهم عينه)[تفسير الطبري ص 524].
ثم بين سبحانه أن النار ليس لها وقود سوى حجارة الأصنام وأجساد البشر،حراسها شداد أقوياء غلاظ ليس في قلوبهم رحمة ولا رافة، ينفذون أوامر الله ولا يعصونه طرفة عين،كما قال عز وجل(عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم 6 قال ابن كثير رحمه الله(أي طباعهم غليظة قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله “شداد” أي تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج)[تفسير ابن كثير ص 560].
وإذا كان الأمر بهذه الحال من الفضاعة،فإن الأليق برب كل أسرة أن يستحضر أمانته،ويرعى مسئوليته،ويحقق قوامته،ويُفَعِّل قيادته لأسرته،ويحفظ من ولاه الله أمرهم،ويربطهم بدين الله وشريعته،قبل أن يأتي ذلك اليوم الذي لا تقال فيه العثرات،ولا تنفع العبرات،وإنما حساب وعذاب فإما نجاة وإما هلاك.
فرب الأسرة يسعد بأسرته وأبنائه ويبتهج بهم في الدنيا،وقد تجره محبتهم إلى ترك الحبل على الغارب لهم ليفعلوا ما يشاؤون،ولكنهم يوم القيامة يكونون أعداء له،يجادلونه ويحاسبونه ويقاضونه بين يدي الله عز وجل،ويصبحون له في ذلك الموقف أعداء بعد أن كانوا له أصحاب وأحباب يفدونه بأرواحهم،كما قال عز وجل مبينا حقيقة حالهم(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) التغابن 14، قال ابن عباس رضي الله عنهما ( نزلت هذه الآية بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي ، شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده فنزلت)[تفسير القرطبي ص 557] ،وقال الشيخ السعدي رحمه الله(هذا تحذير من الله للمؤمنين، من الاغترار بالأزواج والأولاد، فإن بعضهم عدو لكم، والعدو هو الذي يريد لك الشر، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي ورغبهم في امتثال أوامره، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإن في ذلك، من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال( وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) لأن الجزاء من جنس العمل)[تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 557].
والمربي الناجح والقائد الفذ هو من يأخذ الحيطة والحذر ليوم مشهود.
وتأتي خاتمة السورة عودًا على بدء في سوق الأمثال والتحذير من مصير المخالفات للأزواج الصالحين، والحث على التأسي بالنساء الصالحات ،فضرب مثلا للزوجة الخائنة المخالفة لزوجها،وجعل مآلها إلى النار خالدة فيها،ولا ينفعها انتماءها إلى زوجها وإن كان نبيا،فقال عز وجل(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) التحريم 10، وفي الجانب الآخر ضرب مثلا للزوجة الصالحة القانتة الطائعة التي يتأسى بها كل امرأة مسلمة ترجوا رحمة ربها وجنته ورضوانه،فقال عز وجل(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) التحريم 11-12.
وخلاصة القول أن هذه السورة العظيمة قامت على ركن أساسي وهو ضرورة حماية الأسرة المسلمة من الانحراف والانجراف في أمور قد تكون بداياتها صغيرة لا تعطى أهمية ولكنها عظيمة الآثار في حياتها ، وتحقيق القيادة والإدارة الأسرية المثالية مما تقدم وتحقق في سورة التحريم وغيرها من سور القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة وسيرة السلف الصالح.
ومن خلال حادثة التظاهر والتحريم تأتي التوجيهات الربانية إلى الأمة الإسلامية في تربية الأسرة التربية الدينية السليمة المبنية عل ما جاء في القرآن الكريم والسنة وأحوال السلف،ودرء الأمور التي قد تكون في أنظار الناس لا قيمة لها،ولكن لها في الحقيقة تأثيرا مباشرا ،وشررا متطايرا على حياة الأسرة وعش الزوجية معا.
واهتمام القرآن الكريم باستقامة الأسرة وقيامها على منهج الله تعالى نابع من اهتمامه بسلامة المجتمع الإسلامي، فقوة المجتمع الإسلامي وسلامته وصلابته تجاه الأحداث الداخلية والأعاصير الخارجية مستمدة من قوة اللبنات التي يتكون منها المجتمع، وهذه اللبنة هي الأسرة الإسلامية التي تناولها القرآن الكريم بالرعاية والعناية من يوم نشوئها ورافق تكوينها وما يعتريها من أعراض إلى انتهائها بالفراق أو الموت لأفرادها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.