الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
فإن الأحداث التي تمر بنا ومن حولنا ما بين الفينة والأخرى ما هي إلا إرهاصات لما بعدها تمهيدا لقيام الساعة واجتماع الخليقة برهم وفاجرهم ، مؤمنهم وكافرهم، ذكرهم وأنثاهم، جنهم وأنسهم، حتى المخلوقات من حيوانات وغيرها، يمثل الجميع بين يدي خالقهم جل وعلا للفصل والحساب(وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ )[1]، قال ابن كثير رحمه الله(وهو يوم القيامة ، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ( لا ريب فيه ) أي : لا شك في وقوعه ، وأنه كائن لا محالة)[2].
ومع مرور هذه الأحداث وهذه الآيات يكون الناس ما بين لاَهٍ وغافلٍ ومشتغل بدنياه، تطوف بهم هذه النُذُر وتمر بهم تلك الأحداث، لا يلتفت إليها إلا القلة القليلة من العارفين والمؤمنين الصالحين، يخافون وقوعها ، ويعلمون مراد الله منها، وأنها كائنة لا محالة.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم في أكثر من خبر، ترادف هذه الآيات والعلامات، كل واحدة تُوطِّئ للتي بعدها، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ ، وحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ )[3]، وقد أخبر الحديث عما يلي:
أولا : قبض العلم :وقبض العلم ليس نزعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، وقد تحقق هذا في هذه الأزمنة، إذ ذهب علماء أجلاء وقدوات صالحة، أهل رسوخ وفقه جلي، كانوا أنوارا تستضيء بها الأمة في ظلمات الفتن، وبقيت الأمة بعدهم تتأرجح بين ضال ومضل، ومُفْتٍ بغير علم، ومستشرف للظهور والشهرة وطلب الدنيا، ولابس لمسوك الضأن، يَخْتِل الدنيا بالدين، إلا من رحم الله وقليل ما هم، فعن عبدالله بن عمروا رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُهُ منَ النَّاسِ ، ولَكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العُلماءِ ، حتَّى إذا لم يترُك عالمًا اتَّخذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا ، فسُئلوا فأفتوا بغيرِ عِلمٍ فضلُّوا وأضلُّوا)[4]، فذهب الكثير من العلماء بما معهم من العلم الحقيقي، وبقي للناس من طغى جهلهم على علمهم وخصوصا صغار سن لم يبلغوا العلم بعد، يفتون بغير علم، ويعظون على جهل، قد ضَعُفَت مداركهم عن إدراك عواقب الأمور، قد تملكهم الحماس المفرط فأوقعهم في أخطاء يصعب تداركها.
وقد امتلأت بهم مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب والقنوات، باتت الأمة والمجتمع معهم في حيرة من المتناقضات في القول والعمل التي يسمعونها ويشاهدونها.
ولذلك وفي هذه الأزمنة المتلاطمة بالفتن والمتغيرات، وضعف الدين عند الكثيرين ، وسرعة التأثر بما يستجد من أمور الدنيا، وجب على كل مسلم أن يأخذ أمور دينه وعقيدته من البقية الباقية من العلماء الربانيين الراسخين في العلم، المشهود لهم بالفضل والقدوة الصالحة، الأكثر خشية وتقوى لله عز وجل(إنَّما يخشى الله من عباده العلماء)[5] ،وأن يستغل وجودهم قبل الفوات، ولا ينسى كتب السابقين من العلماء فيأخذ منها ما يعينه على دينه وعباده ربه حتى يأتيه اليقين وهو ثابت على منهج السلف الصالح، قال الإمام ابن حزم رحمه الله (لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها ، فإنَّهم يجهلون ويظنُّون أنَّهم يعلمون ، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون)[6]، وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة ـ رحمه الله ( ولا يحل لأحد أن يتكلَّم في الدين بلا علم ولا يعين من تكلَّم في الدين بلا علم ، أو أدخل في الدين ما ليس منه)[7] ، وقال بعضهم (إنّ هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم)[8].
ثانيا : كثرة الزلازل :
وهذا واقع مشاهد في بقاع الأرض المختلفة، فالزلازل باتت ملازمة للبشر، ومصدر خوف وقلق، تزيل الجبال والمساكن ، بل القرى والمدن، بأمر من الله عز وجل الذي يديرها حيثما شاء، وعلى من يشاء، وكيفما شاء، وهي نتيجة اهتزاز مفاجئ وسريع للأرض بسبب تحرك طبقة الصخور تحت سطح الأرض، أو بسبب نشاط بركاني أو صهاري، وتحدث فجأة من دون سابق إنذار، ويمكن أن تحدث في أي وقت، كما يمكن أن تؤدي إلى وقوع وفيات وإصابات وأضرار في الممتلكات وفقدان المأوى وسبل العيش وتعطيل البنية الأساسية الحيوية، وذلك بقدرة الله ومشيئته.
ولا شك أن ما يحدث على وجه الأرض من معاصي وذنوب وكفر وشرك، وكفر بنعم الله وجحود المنعم بها، وارتكاب للفواحش والمحرمات، كلها أسباب موجبة لغضب الله ونقمته(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[9]، ( مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا)[10].
ثالثا : تقارب الزمان :
وتقارب الزمان له عدة معان ذكرها العلماء، ولا تنافي بينها ولا تضاد، ولا تعارض بينها وبين معنى الحديث. فالعلماء على آراء ثلاثة، فمنهم من قال إن التقارب المعني في الحديث هو ذهاب البركة من الوقت فلا يجد المرء البركة في وقته ويومه وليله، وهذا القول قد اختاره القاضي عياض والنووي والحافظ ابن حجر رحمهم الله، قال النووي (المراد بقصره عدم البركة فيه ، وأن اليوم مثلا يصير الانتفاع به بقدر الانتفاع بالساعة الواحدة)[11]،وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله ( والحق أن المراد نزع البركة من كل شيء حتى من الزمان ، وذلك من علامات قرب الساعة)[12]، ومنهم من قال معنى ذلك سهولة الاتصال بين الأماكن البعيدة وسرعته مما يعتبر قد قارب الزمان ، فالمسافات التي كانت تقطع قديماً في عدة شهور صارت لا تستغرق الآن أكثر من عدة ساعات، قال الشيخ ابن باز رحمه الله ( التقارب المذكور في الحديث يُفسّر بما وقع في هذا العصر من تقارب ما بين المدن والأقاليم وقِصر المسافة بينها بسبب اختراع الطائرات والسيارات والإذاعة وما إلى ذلك ، والله أعلم)[13] ، وقال بعضهم (معناه أن يقصر اليوم قصراً حسياً ، فتمر ساعات الليل والنهار مروراً سريعاً وذلك لاختلال نظام العالم وقرب زوال الدنيا)[14]، ونقل الحافظ في (الفتح) عن ابن أبي جمرة أنه قال (يحتمل أن يكون المراد بتقارب الزمان قصره على ما وقع في حديث ( لا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى تَكُونَ السَّنَة كَالشَّهْرِ ) ، وَعَلَى هَذَا فَالْقِصَر يَحْتَمِل أَنْ يَكُونُ حِسِّيًّا ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونُ مَعْنَوِيًّا , أَمَّا الْحِسِّيّ فَلَمْ يَظْهَر بَعْد ، وَلَعَلَّهُ مِنْ الْأُمُور الَّتِي تَكُونُ قُرْب قِيَام السَّاعَة , وَأَمَّا الْمَعْنَوِيّ فَلَهُ مُدَّة مُنْذُ ظَهَرَ يَعْرِف ذَلِكَ أَهْل الْعِلْم الدِّينِيّ ، وَمَنْ لَهُ فِطْنَة مِنْ أَهْل السَّبَب الدُّنْيَوِيّ ، فَإِنَّهُمْ يَجِدُونَ أَنْفُسهمْ لَا يَقْدِر أَحَدهمْ أَنْ يَبْلُغ مِنْ الْعَمَل قَدْر مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَيَشْكُونَ ذَلِكَ وَلا يَدْرُونَ الْعِلَّة فِيهِ , وَلَعَلَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْ ضَعْف الإِيمَان لِظُهُورِ الأُمُور الْمُخَالِفَة لِلشَّرْعِ مِنْ عِدَّة أَوْجُهُ , وَأَشَدّ ذَلِكَ الأَقْوَات فَفِيهَا مِنْ الْحَرَام الْمَحْض وَمِنْ الشُّبَه مَا لا يَخْفَى ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاس لا يَتَوَقَّف فِي شَيْء ، وَمَهْمَا قَدَرَ عَلَى تَحْصِيل شَيْء هَجَمَ عَلَيْهِ وَلا يُبَالِي , وَالْوَاقِع أَنَّ الْبَرَكَة فِي الزَّمَان وَفِي الرِّزْق وَفِي النَّبْت إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ طَرِيق قُوَّة الإِيمَان وَاتِّبَاع الأَمْر وَاجْتِنَاب النَّهْي ,وَالشَّاهِد لِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى( وَلَوْ أَنَّ أَهْل الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنْ السَّمَاء وَالأَرْض) اِنْتَهَى مُلَخَّصًا)[15].
والآن الناس يشتكون قِصر الوقت وقلة البركة وضحالة الانتفاع به، فما يُحس المرء إلا وهو في نهاية الشهر أو الأسبوع، فيمضي اليوم كأنه ساعة ، والشهر وكأنه يوم، والسنة كأنها شهر، تَجُبُ الأعمار وتسوق الناس إلى آجالهم، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم( لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ[16] )[17].
رابعا : ظهور الفتن :
الفتن شر ووبال وبلاء في كل زمان ومكان، فتن كقطع الليل المظلم، يبقى المؤمن معها في حيرة وقلق لا يدري كيف يقلبها، ولا الخروج منها، فتن عمياء، كل فتنة ترقق للتي بعدها، التي تكون أشد من سابقتها، يراها العالم الفقيه التقي الراسخ في أولها ، ويدرك خطرها وعواقبها، بينما عوام الناس والجهال لا يرونها إلا بعد إدبارها، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويُمْسِي كافراً، ويُمْسٍي مؤمناً ويُصبِح كافراً)[18]، وقد قال العلماء الفتنة إذا أقبلت يراها العالم في بدايتها أنها فتنة، ويراها الجاهل وعوام الناس إذا انتهت وأدبرت، قال الحسن البصري رحمه الله( العالِم يرى الفتنة وهي مقبلة قبل أن تقع ، وطالب العلم يراها إذا وقعت ، وعامة الناس يرونها إذا أدبرت)[19].
وتختلف الفتن وتتنوع فمنها فتنة المال، وفتنة الأبناء والزوجات، وفتنة النساء، وفتنة الشهرة وحب الظهور، وفتنة الرياسة والإمارة، وفتنة الجاه والسلطة، وفتنة الخوارج والمارقين عن الدين، وفتنة الاستكبار والإعجاب بالنفس، وفتنة الجوال والإنترنت والقنوات، وكثرة الفساد بين العباد، وسوء الأخلاق، وكثرة الشقاق، وعموم البلاء وغيرها مما يستجد في حياة الناس من الفتن، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(يأتي على الناس زمانٌ يتمنَّون فيه الدَّجَّال، قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ممَّ ذاك؟ قال: ممَّا يلقون من العناء)[20]، ومع أن الأحاديث في التحذير من فتنة الدجال كثيرة ومتواترة، إلا أن الكثير من الناس من شدة ما يلقون من البلاء يتمنون خروجه.
ومع كثرة الفتن وشدة البلاء في هذا الزمان، وتكالب الشهوات والشبهات على الإنسان التي تزعزع كيانه وإيمانه، وتخلخل ثباته على الدين، ولربما جرته إلى ترك دينه وبيعه بعرض فانٍ من الدنيا، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(يكون بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويُمْسِي كافراً، ويُمْسِي مؤمناً ويُصبِح كافراً، يبيع أقوامٌ دينَهم بعرضٍ من الدنيا)[21]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويُمْسي كافراً، أو يُمْسِي مؤمناً ويُصبِح كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا)[22]، قال الإمام النووي رحمه الله في معنى الحديث (فيه الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها، والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة، كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر، ووصف صلى الله عليه وسلم نوعاً من شدائد تلك الفتن وهو(أنه يُمْسِي مؤمناً ثم يُصبِح كافراً) أو عكسه ، وهذا لِعِظَمِ الفتن، ينقلبُ الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب، والله أعلم)[23].
ومن فضل الله تعالى أن جعل هذه الفتن لاختبار العباد، وتكفير للسيئات، ورفع في الدرجات، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(اُمَّتي هذه مرحومة، ليس عليها عذابُ في الآخرة، عذابها في الدنيا: الفتن، والزلازل والقتل)[24]، وقال ابن القيم رحمه الله( وضع الله المصائب والبلايا والمحن رحمة بين عباده يكفر بها من خطاياهم فهي من أعظم نعمه عليهم وإن كرهتها أنفسهم)[25].
والثبات على الدين زمن الفتن مطلوب من كل مسلم، يخاف الأخرة ويرجوا رحمة ربه، ويخاف زلة القدم بعد الثبات، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(يأتي على الناس زمانٌ، الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر)[26] ،قال القاري (والظاهر أن معنى الحديث: كما لا يمكن القبض على الجمر إلا بصبرٍ شديد، وتحمل غلبة المشقة، كذلك في ذلك الزمان لا يتصور حفظ دينه ونور إيمانه إلا بصبر عظيم)[27]، ولهذا يعطي الله تعالى المستمسك بدينه في زمن الفتن أجراً عظيماً، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن من ورائكم زمانَ صبرٍ، للمستمسك فيه أجرُ خمسين شهيداً منكم)[28] ، وعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(إن من ورائكم أيام الصبر، المستمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجرُ خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله! أومنهم؟ قال: بل منكم)[29] .
خامسا :كثرة الهَرْج ( القتل) :
ومِن العَلاماتِ أيضًا كثْرةُ الهَرْجِ، وقد استفحل وكَثُر في هذا الزمان بشكل كبير، وقد فسَّرَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقولِه (وهو القَتْلُ القَتْلُ)، حيثُ تَكثُرُ استِباحةُ دِماءِ المسلمينَ بَعضِهم لبعضٍ دونَ وَجْهِ حقٍّ، كما في حَديثِ أبي مُوسى الأشعريِّ رَضيَ اللهُ عنه، أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال(لَيس بقتْلِ المشركينَ، ولكنْ يَقتُلُ بَعضُكم بَعضًا، حتى يَقتُلَ الرجُلُ جارَه، وابنَ عَمِّه، وذا قَرابتِه)[30]، فالقتْلُ المقصودُ هنا هو أنْ يَقتُلَ المسلِمونَ بَعضُهم بعضًا دونَ مُراعاةٍ لِحُرمةِ دَمٍ، أو دِينٍ، أو قَرابةٍ، ومما يندى له الجبين أن يصل القتل إلى الوالدين، الأب والأم والابن والبنت والزوجة والزوج والأخ وغيرهم، دماء تجأر إلى الله من هذا الظلم البواح.
وكثرة القتل في أغلبه لخلافات أسرية، أو حَمِية وجاهلية، أو عصبية وقَبلية، أو من أجل المال والدنيا وغيرها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن القاتل والمقتول في النار، فعن أبي بكرة وأبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال( إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل، والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما شأن المقتول؟ قال: لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه)[31].
فلذلك يبتعد المسلم عن فتنة الدماء لأنها هلاك دنيا وآخرة ، وعاقبتها وخيمة، والمسلم في حل من أمره مالم يسفك دماً حراماً.
سادسا : كثرة المال وفيضانه:
قبل قيام الساعة يكثر المال بأيدي الناس ويفيض حتى يأتي صاحب الصدقة بصدقته فلا يجد من يأخذها، لاغتناء الناس وانقطاع حاجتهم له، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ المَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ، فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لاَ أَرَبَ لِي)[32] ، وهنا يخبر
النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة أن يكثر المال ويزداد، حتى إن صاحب المال لا يجد من يقبل منه صدقته وماله، فيحزنه ويبعث الهم عنده والغم مالُه الذي لا يجد من يقبله منه، فيعرضه بين الناس ويقول الذي يُعرض عليه المال: لا حاجة لي به، وفي رواية أخرى( إن الساعة لن تقوم حتى ترجع أرض العرب حدائق خضراء وأنهارًا جارية)[33]، ولعل في هذا الحديث إشارة إلى ثلاثة أحوال الأولى إشارة إلى ما وقع في زمن الصحابة من الفتوح واقتسامهم أموال الفرس والروم، الثانية إشارة إلى ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز أن الرجل كان لا يجد من يدفع له الزكاة، الثالثة إشارة إلى ما سيقع في زمن عيسى بن مريم، أو قبله بيسير.
نهاية اليهود!!!! :
من علامات الساعة أيضاً قتال اليهود وقطع شأفتهم ، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ذلك حاصل لا محالة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي ، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ )[34]، وقد جاء في بعض الروايات ما يدل على أن قتال اليهود المذكور في هذا الحديث سيكون في آخر الزمان حين يخرج الدجال وينزل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، فيقتله، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( يَنْزِلُ الدَّجَّالُ فِي هَذِهِ السَّبَخَةِ بِمَرِّ قَنَاةَ [واد في المدينة] ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ مَنْ يَخْرُجُ إِلَيْهِ النِّسَاءُ ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْجِعُ إِلَى حَمِيمِهِ وَإِلَى أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ ، فَيُوثِقُهَا رِبَاطًا مَخَافَةَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ يُسَلِّطُ اللهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ ، فَيَقْتُلُونَهُ وَيَقْتُلُونَ شِيعَتَهُ ، حَتَّى إِنَّ الْيَهُودِيَّ لَيَخْتَبِئُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَوِ الْحَجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرَةُ لِلْمُسْلِمِ : هَذَا يَهُودِيٌّ تَحْتِي فَاقْتُلْهُ )[35]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله(فالمراد بقتال اليهود : وقوع ذلك إذا خرج الدجال ونزل عيسى)[36]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( اليهود إنما ينتظرون المسيح الدجال ، فإنه الذي يتبعه اليهود ، ويخرج معه سبعون ألف مطيلس من يهود أصبهان ، ويقتلهم المسلمون معه ، حتى يقول الشجر والحجر : يا مسلم ! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله)[37].
ويقول الشيخ ابن باز رحمه الله ( فإن عيسى عليه الصلاة والسلام يغزوه ، ومعه المسلمون ، فيقتله بباب اللد ، باب هناك في فلسطين ، قرب القدس ، يقتله بحربته كما جاء في الحديث الصحيح ، والمسلمون معه يقتلون اليهود قتلة عظيمة ، جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلمين يقاتلون اليهود ، فيقتلونهم ، ويسلطون عليهم ، ينادي الشجر والحجر : يا مسلم ، يا عبد الله ، هذا يهودي تعال فاقتله ، فيقتل عيسى الدجال وينتهي أمره)[38]، وإذا خرج الدجال تبعه عشرات الآلاف من اليهود واجتمعوا معه يريدون قتال المسلمين ، فينزل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ويجتمع معه المسلمون لقتال الدجال وأتباعه ، فيدعو عيسى ابن مريم اليهود للإسلام ، ولا يقبل منهم في ذلك الوقت إلا الإسلام ، فيسلم منهم من يسلم ، ويبقى منهم من يبقى على يهوديته ، فتكون المعركة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم .
وبهذا يتبين أن المعركة من جانب المسلمين معركة عادلة مشروعة يحبها الله تعالى بلا شك ، ومما يدل على ذلك ،أنها ضد الدجال ومؤيديه الذين اجتمعوا لقتال المسلمين ، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[39] ، ولأنها معركة يخوضها المسلمون تحت قيادة عيسى بن مريم عليه السلام أحد الرسل الكرام ،والله تعالى حينها يكرم المسلمين في هذه المعركة بهذه الكرامة وهي نطق الحجر والشجر ومناداته على المسلم حتى يقتل اليهودي الذي يختبئ وراءه ،فكل ذلك يدل على أنها معركة عادلة يحبها الله ، كما هو الشأن في المعارك الإسلامية كلها التي يكون المقصد منها إعلاء كلمة الله في الأرض ، (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[40].
والمقصود أن هذه العلامات والدلالات لابد كائنة في الأوقات التي جعلها الله لظهوره يدركها من يدركها، وتفوت من سبق عليه الأجل إلى الله تعالى. فعلى المسلم أن يستمسك بدينه ويتوارى عن مواطن الفتن وأن يسأل الله تعالى الثبات حتى الممات. هذا ونسأل الله النصر والتمكين للمسلمين في كل مكان وأن يخذل عدوهم إنه سميع قريب مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] سورة الشورى 7.
[2] تفسير ابن كثير ص 483.
[3] رواه البخاري ومسلم.
[4] رواه البخاري ومسلم.
[5] سورة فاطر 28.
[6] مداواة النفوس ص 67.
[7] مجموع الفتاوى22/240.
[8] موقع الشيخ صالح الفوزان الرسمي.
[9] سورة الأعراف 96.
[10] سورة النساء 147.
[11] طرح التثريب في شرح التقريب 4/28.
[12] فتح الباري 6/323.
[13] موسوعة بيان الإسلام الإلكترونية.
[14] الموسوعة العقدية ص 211.
[15] فتح الباري 13/15-17.
[16] والسعفة هي الْخُوصَةُ.
[17] رواه أحمد.
[18] رواه أحمد وأبو داود.
[19] تاريخ البخاري الكبير 2 / 322 .
[20] رواه الطبراني والبزار وصححه الألباني.
[21] رواه الترمذي.
[22] رواه البخاري ومسلم
[23] شرح مسلم1 /320.
[24] رواه أبو داود.
[25] مفتاح دار السعادة ص 291.
[26] رواه الترمذي وصححه الألباني.
[27] تحفة الأحوذي 6 /539 .
[28] رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني.
[29] رواه البخاري ومسلم.
[30] رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
[31] رواه البخاري.
[32] متفق عليه.
[33] رواه مسلم.
[34] رواه مسلم.
[35] رواه الإمام أحمد وله شواهد.
[36] فتح الباري 6/610.
[37] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/ 30.
[38] فتاوى نور على الدرب 4/290.
[39] سورة التوبة32.
[40] رواه مسلم.