الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ومواضع الرؤية
وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبرسله: الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامةعياناً بأبصارهم، كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب……………………………………
( 1 ) وجه كون الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة من الإيمان بالله ظاهر؛ لأن هذا مما أخبر الله به؛ فإذا آمنا به؛ فهو من الإيمان بالله.
ووجه كونه من الإيمان بالكتب؛ لأن الكتب أخبرت بأن الله يُرى؛ فالتصديق بذلك تصديق بالكتب.
ووجه كونه من الإيمان بالملائكة؛ لأن نقل الوحي بواسطة الملائكة؛ فإن جبريل ينزل بالوحي من الله تعالى؛ فكان الإيمان بأن الله يُرى من الإيمان بالملائكة.
وكذلك نقول: من الإيمان بالرسل؛ لأن الرسل هم الذين بلغوا ذلك للخلق؛ فكان الإيمان بذلك من الإيمان بالرسل.
( 2 ) بمعنى: معاينة. والمعانية هى: الرؤية بالعين.
( 3 )دليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:” ترونه كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب”.
والمراد بالرؤية: بالعين؛ كما يدل عليه تشبيه الرؤية برؤية الشمس صحواً ليس دونها سحاب.
وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة ……
( 1 ) سبق الكلام في ذلك .
( 2 ) “عرصات”: جمع عرصة، وهو المكان الواسع الفسيح ، الذي ليس فيه بناء؛ لأن الأرض تُمد مدَّ الأديم؛ كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام يعني: مد الجلد.
- فالمؤمنون يرون الله في عرصات يوم القيامة قبل أن يدخلوا الجنة؛ كما قال الله تعالى عن المكذبين بيوم الدين: ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) ( المطففين:15 ) ( يَوْمَئِذٍَ ) ، يعني يوم الدين؛ ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( المطففين:6 ) ، ويرونه كذلك بعد دخول الجنة.
، يعني يوم الدين؛ ، ويرونه كذلك بعد دخول الجنة.
- أما في عرصات القيامة؛ فالناس في العرصات ثلاثة أجناس:
- مؤمنون خُلص ظاهراً وباطناً.
- وكافرون خُلص ظاهراً وباطناً.
- ومؤمنون ظاهراً كافرون باطناً، وهم المنافقون.
– فأما المؤمنون؛ فيرون الله تعالى في عرصات القيامة وبعد دخول الجنة.
– أما الكافرون؛ فلا يرون ربهم مطلقاً، وقيل: يرونه؛ لكن رؤية غضب وعقوبة، ولكن ظاهر الأدلة يدل على أنهم لا يرون الله؛ كما قال الله تعالى( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) ( المطففين:15 ) .
أما المنافقون؛ فإنهم يرون الله عز وجل في عرصات القيامة، ثم يحتجب عنهم ولا يرونه بعد ذلك.
ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى ( 1 )……………………………………….
( 1 ) يعني: يرون الله كما يشاء سبحانه وتعالى في كيفية رؤيتهم إياه، وكما يشاء الله في زمن رؤيتهم إياه ، وفي جميع الأحوال؛ يعني: على الوجه الذي يشاءه الله عز وجل في هذه الرؤية.
وحينئذ؛ فإن هذه الرؤية لا نعلم كيفيتها؛ بمعنى أن الإنسان لا يعلم كيف يرى ربه، ولكن معنى الرؤية معلوم أنهم يرون الله كما يرون القمر؛ لكن على أي كيفية؟ هذه لا نعلمها ، بل كما يشاء الله ، وقد سبق التفصيل في الرؤية.
الإيمان باليوم الآخر
ومن الإيمان باليوم الآخر بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت ( 1 )………….
( 1 ) شرع المؤلف رحمه الله تعالى في الكلام عن اليوم الآخر وعقيدة أهل السنة والجماعة فيه، فقال
- فصل: ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت”:
- حكم الإيمان باليوم الآخر فريضة واجب، ومرتبته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة.
وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين الإيمان به تعالى والإيمان باليوم الآخر؛ الإيمان بالمبدأ والإيمان بالمعاد؛ لأن من لم يؤمن باليوم الآخر؛ لا يمكن أن يؤمن بالله؛ إذ إن الذي لا يؤمن باليوم الآخر؛ لن يعمل؛ لأنه لا يعمل إلا لما يرجوه من الكرامة في اليوم الآخر، وما يخافه من العذاب والعقوبة؛ فإذا كان لا يؤمن به؛ صار كمن حكى الله عنهم: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) ( الجاثـية: من الآية24 ).
*وسمى اليوم الآخر باليوم الآخر؛ لأنه يوم لا يوم بعده؛ فهو آخر المراحل.
*والإنسان له خمس مراحل: مرحلة العدم ؟ ثم الحمل، ثم الدنيا، ثم البرزخ، ثم الآخرة.
– فأما مرحلة العدم فقد دلّ عليها قوله تعالى: ( هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) ( الانسان:1 ) ، وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) ( الحج:5 ) .
– وأما مرحة الحمل؛ فقال الله عنها: ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) ( الزمر: من الآية6 ) .
– وأما مرحلة الدنيا؛ فقال الله عنها: ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( النحل:78 ).
– وهذه المراحل هي التي عليها مدار السعادة والشقاء وهي دار الامتحان والابتلاء؛ كما قال تعالى( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) ( الملك:2 ).
– وأما مرحة البرزخ؛ فقال الله عنها:( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ( المؤمنون: من الآية100 ) .
– وأما مرحلة الآخرة؛ فهي غاية المراحل، ونهاية الراحل؛ قال الله تعالى بعد ذكر المراحل: )ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ) ( 15 ) )ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) ( 16 ) ( المؤمنون:15-16 ) .
– وقوله رحمه الله: “الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسمل مما يكون بعد الموت”: كل هذا داخل في الإيمان باليوم الآخر”.
– وذلك لأن الإنسان إذا مات؛ دخل في اليوم الآخر، ولهذا يقال من مات؛ قامت قيامته؛ فكل ما يكون بعد الموت؛ فإنه من اليوم الآخر.
– إذاً؛ ما أقرب اليوم الآخر لنا؛ ليس بيننا وبينه إلا أن يموت الإنسان، ثم يدخل في اليوم الآخر الذي ليس فيه إلا الجزاء على العمل.
– ولهذا يجب علينا أن ننتبه لهذه النقطة.
– فكر أيها الإنسان؛ تجد أنك على خطر؛ لأن الموت ليس له أجل معلوم عندنا؛ قد يخرج الإنسان من بيته ولا يرجع إليه، وقد يكون الإنسان على كرسي مكتبه ولا يقوم منه وقد ينام الإنسان على فراشه ولكنه يحمل من فراشه إلى سرير غسله، وهذا أمر يستوجب منا أن ننتهز فرصة العمر بالتوبة إلى الله عز وجل، وأن يكون الإنسان دائماً يستشعر بأنه تاب إلى الله وراجع ومنيب حتى يأتيه الأجل وهو على خير ما يرام.
– فيؤمنون بفتنة القبر، وبعذاب القبر، وبنعيمه ……………………………………………….
– ( 1 ) الفتنة هنا: الاختبار، والمراد بفتنة القبر: سؤال الميت إذا دفن عن ربه ودينه ونبيه.
– والضمير في ” يؤمنون“ يعود على أهل السنة؛ أي أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بفتنة القبر، وذلك لدلالة الكتاب والسنة عليها.
– أما الكتاب؛ ففي قوله تعالى: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ) ( ابراهيم:27 )
– ؛ فإن هذا في فتنة القبر؛ كما ثبت في ” الصحيحين “وغيرهما من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم .
– وأما السنة؛ فقد تظافرت بأن الإنسان يفتن في قبره، وهي فتنة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:” إنه قد أوحي إلي أنم تفتنون في قبوركم مثل ( أو: قريباً من ) فتنة الدجال.
وفتنة الدجال أعظم فتنة منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة؛ كما في ” صحيح مسلم” عن عمران بن حصين رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال“.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه، بل قال لأمته:“ إن يخرج وأنا فيكم؛ فأنا حجيجة دونكم؛ وإن يخرج ولست فيكم؛ فامرؤ حجيج نفيه، والله خليفتي على كل مسلم“.
ومع ذلك؛ فإن نبينا محمدً صلى الله عليه وسلم أعلمنا كيف نحاجه، وأعلمنا بأوصافه وميزاته حتى كأنا نشاهده رأي عين، وبهذه الأوصاف والميزات نستطيع أن نحاجه.
ولهذا نقول: إن فتنة الدجال أعظم فتنة، والرسول عليه الصلاة والسلام
قال: ” أنكم تفتنون في قبوركم مثل- أو قريباً من – فتنة الدجال
ما أعظمها من فتنة! لأن الإنسان يتلقى فيها السؤال الذي لا يمكن الجواب عليه؛ إلا على أساس متين من العقيدة والعمل الصالح.
هذا شروع في بيان كيفية فتنة الميت في قبره.
وكلمة ” الناس” عامة، وظاهر كلام المؤلف أن كل أحد؛ حتى الأنبياء والصديقون والشهداء والمرابطون وغير المكلفين من الصغار والمجانين، وفي هذا تفصيل؛ فنقول:
أولاً: أما الأنبياء؛ فلا تشملهم الفتنة، ولا يسألون، وذلك لوجهين:
الأول: أن الأنبياء أفضل من الشهداء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشهيد يوقي فتنة القبر، وقال:” كفي ببارقة السيوف على رأسه فتنة”؛ أخرجه النسائي.
الثاني: أن الأنبياء يسأل عنهم؛ فيقال للميت: من نبيك؟ فهم مسؤول عنهم، وليسوا مسؤولين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:” إنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم” ، والخطاب للأمة المرسل إليهم؛ فلا يكون الرسول داخلاً فيهم.
ثانياً: وأما الصديقون؛ فلا يسألون؛ لأن مرتبة الصديقين أعلى من مرتبة الشهداء؛ فإذا كان الشهداء لا يسألون؛ فالصديقون من باب أولى ولأن الصديق على وصفه مصدق وصادق؛ فهو قد علم صدقه؛ فلا حاجة إلى اختباره، لأن الاختبار لمن يشك فيه؛ هل هو صادق أو كاذب، أما إذا كان صادقاً؛ فلا حاجة تدعو لسؤاله، وذله بعض العلماء إلى أنهم يسألون؛ لعموم الأدلة، والله أعلم.
ثالثاً: وأما الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله؛ فإنهم لا يسألون؛ لظهور صدق إيمانهم بجهادهم:
قال الله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ………. ) ( التوبة:111 )
وقال: ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ( آل عمران:169 )
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:” كفي ببارقة السيوف على رأسه فتنة”
وإذا كان المرابط؛ إذا مات؛ أمن الفتان؛ لظهور صدقه؛ فهذا الذي قتل في المعركة مثله أو أولى منه؛ لأنه بذل وعرض رقبته لعدو الله؛ إعلاءً لكلمة الله، وانتصاراً لدينه، وهذا من أكبر الأدلة على صدق إيمانه.
رابعاً: وأما المرابطون؛ فإنهم لا يفتنون؛ ففي ” صحيح مسلم”، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامة، وإن مات؛ جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان”
خامساً: الصغار والمجانين؛ هل يفتنون أو لا يفتنون؟
قال بعض العلماء إنهم يفتنون؛ لدخولهم ف بالعموم، ولأنهم إذا سقط التكليف عنهم في حال الحياة؛ فإن حال الممات تخالف حال الحياة.
وقال بعض العلماء: إن المجانين والصغار لا يسألون؛ لأنهم غير مكلفين، وإذا كانوا غير مكلفين؛ فإنه لا حساب عليهم؛ إذ لا حساب إلا على من كان مكلفاً يعاقب على المعاصي، وهؤلاء لا يعاقبون، وليس لهم إلا الثواب؛ إن عملوا عملاً صالحاً يثابون عليه.
إذاً؛ خرج من قول المؤلف:” فإن الناس” خمسة أصناف: الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والمرابطون، ومن لا عقل له؛ كالمجانين والصبيان.
تنبيه:
الناس ثلاثة أقسام: مؤمنون خلص، ومنافقون ، وهذان القسمان يفتنون، والثالث كفار خلص؛ ففي فتنتهم خلاف، وقد رجح ابن القيم في كتاب ” الروح” أنهم يفتنون.
وهل تسأل الأمم السابقة؟
ذهب بعض العلماء – وهو الصحيح- إلى أنهم يسألون؛ لأنه إذا كانت هذه الأمة – وهي أشرف الأمم – تسأل؛ فمن دونها من باب أولى.
( 1 )* قوله: “في قبورهم” جمع قبر، وهي مدفن الأموات، والمراد ما هو أعم؛ فيشمل البرزخ؛ فيشمل البرزخ ، وهو ما بين موت الإنسان وقيام الساعة، سواء دفن الميت أو أكلته السباع في البر أو الحيتان في البحر أو اتلفته الرياح.
والظاهر أن الفتنة لا تكون إلا إذا انتهت الأحوال الدنيوية، وسلم إلى عالم الآخرة فإذا تأخر دفنه يوماً أو أكثر؛ لم يكن السؤال حتى يدفن.
فيقال للرجل …………………………………………………………………………
قوله:” فيقال للرجل” القائل ملكان يأتيان إلى الإنسان في قبره، ويجلسانه، ويسألانه، حتى إنه ليسمع قرع نعال المنصرفين عنه، وهما يسألانه، ولهذا كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه إذا دفن الميت؛ وقف عليه ، وقال:” استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الأن يسأل.
- وورد في بعض الآثار أن اسمهما: منكر ونكير
وأنكر بعض العلماء هذين الأسمين؛ قال: كيف يسمى الملائكة وهم الذين وصفهم الله تعالى بأوصاف الثناء بهذين الأسمين المنكرين، وضعف الحديث الوارد في ذلك.
وذهب آخرون إلى أن الحديث حجة، وأن هذه التسمية ليس لأنهما منكران من حيث ذواتهما، ولكنهما منكران من حيث إن المست لا يعرفهما، وليس له بهما علم سابق، وقد قال إبراهيم لأضيافه الملائكة ( قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) ( الذريات: من الآية25 ) أنه لا يعرفهم؛ فهذان منكر ونكير؛ لأنهما غير معروفين للميت.
ثم هذان الملكان هل هما ملكان جديدان، موكلان بأصحاب القبور أو هما الملكان الكاتبان عن اليمين وعن الشمال قعيد؟
– منهم من قال: إنهما الملكان اللذان يصحبان المرء؛ فإن لكل إنسان ملكين في الدنيا يكتبان أعماله، وفي القبر يسألانه هذه الأسئلة الثلاثة.
– ومنهم من قال: بل هما ملكان آخران، والله عز وجل يقول: ) وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ) ( المدثر: من الآية31 )، والملائكة خلق كثير؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم ” أطت السماء ، وحق لها أن تئط ( والأطيط: صرير الرحل ) ما من موضع شبر ( أو قال: أربع أصابع )؛ إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد”، والسماء واسعة الأرجاء، كما قال الله تعالى ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ( الذريات:47 ) .
– فالمهم أنه لا غرابة أن ينشيء الله عز وجل لكل مدفون ملكين يرسلهما إليه والله على كل شيء قدير.
من ربك ؟ وما دينك؟ ومن نبيك ؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة …………………………………………………………………
- يعني: من ربك الذي خلقك وتعبده وتخصه بالعبادة ؟ لأجل أن تنتظم هذه الكلمة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.
- يعني: ما عملك الذي تدين به لله عز وجل، وتتقرب به إليه؟
- يعني: من النبي الذي تؤمن به وتتبعه؟
- أي: يجعلهم ثابتين لا يترددون ولا يتلعثمون في الجواب.
– والقول الثابت: هو التوحيد؛ كما قال تعالى ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ) ( إبراهيم:24 )
– وقوله: ( الْحَيَاةَ الدُّنْيَا في الْآخِرَةِ ) يحتمل أنها متعلقة ب ( يثبت )؛ يعني: أن الله يثبت المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة. أنها متعلقة بالثابت؛ فتكون وصفاً للقول؛ يعني أن هذا القول ثابت في الدنيا وفي الآخرة.
– ولكن المعنى الأول أحسن وأقرب؛ لأن الله تعالى يقول ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ) ( لأنفال: من الآية45 )، وقال الله عز وجل( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ) ( لأنفال: من الآية12 ) ، فهم يثبتون في الحياة الدنيا وفي الآخرة بالقول الثابت.
– فيقول المؤمن ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد نبيوأما المرتاب فيقول هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته …………………………………………………………….
1- فيقول المؤمن: ربي الله عندما يقال له: من ربك ؟ ويقول إذا قيل له ما دينك؟ فيقول الإسلام ديني. ويقول كذلك: محمد صلى الله عليه وسلم نبيي. إذا قيل له: من نبيك.
وحينئذ يكون الجواب صواباً، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، والبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً على الجنة.
قوله ” وأما المرتاب فيقول هاه هاه! لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته”:
المرتاب: الشاك والمنافق وشبههما، فيقول: هاه ! هاه! لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ يعني: لم يلج الإيمان قلبه؛ وإنما كان يقول كما يقول الناس من غير أن يصل الإيمان إلى قلبه.
وتأمل قوله: هاه! هاه! كان شيئاً غاب عنه؛ يريد أن يتذكره، وهذا أشد في التحسر؛ أن يتخيل أنه يعرف هذا الجواب، ولكن يحال بينه وبينه ، ويقول هاه! هاه! ثم يقول سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته
ولا يقول: ربي الله ! ولا: دينى الإسلام! ولا: نبيي محمد! لأنه في الدنيا مرتاب شاك!
هذا إذا سئل في قبله وصار أحوج ما يكون إلى الجواب الصواب؛ يعجز ويقول: لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
إذاً؛ إيمانه قول فقط!!
فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شي إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق…………………………………………………………………………………..
( 1 ) يعني: الذي لم بجب؛ سواء كان الكافر أو المنافق والضارب له الملكان اللذان يسألانه.
( 2 ) المرزبة: هي مطرقة من حديد وقد ورد في بعض الروايات أنه لو اجتمع عليها أه منى؛ ما أقلوها.
( 3 ) أي: صياحاً مسموعاً؛ يسمعه كل شيء، يكون حوله مما يسمع صوته، وليس كل شيء في أقطار الدنيا يسمعه، وأحياناً يتأثر به ما يسمعه؛ كما مر النبي صلى الله عليه وسلم بأقبر للمشركين على بغلته؛ فحادت به؛ حتى كادت تلقيه؛ لأنها سمعت أصواتهم يعذبون
( 4 ) قوله: ” إلا الإنسان ” يعني: أنه لا يسمع هذا الصياح، وذلك لحكم عظيمة؛ منها:
أولاً ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:” لولا أ لا تدافنوا؛ لدعوت الله ان يسمعكم من عذاب القبر”
ثانياً أن في إخفاء ذلك ستراً للميت.
ثالثاً: أن فيه عدم إزعاج لأهله، لأن أهله إذا سمعوا ميتهم يعذب ويصيح؛ لم يستقر لهم قرار.
رابعاً: عدم تخجيل أهله؛ لأن الناس يقولون: هذا ولدكم! هذا أبوكم! هذا أخوكم! وما أشبه ذلك.
خامساً: أننا قد نهلك؛ لأنها صيحة ليت هينة، بل صيحة قد توجب أن تسقط القلوب من معاليقها، فيموت الإنسان أو يغشى عليه.
سادساً: لو سمع الناس صراخ هؤلاء المعذبين؛ لكان الإيمان بعذاب القبر من باب الإيمان بالشهادة، لا من باب الإيمان بالغيب ، وحينئذ تفوت مصلحة الامتحان؛ لأن الناس سوف يؤمنون بما شاهدون قطعاً؛ لكن إذا كان غائباً عنهم، ولم يعلموا به إلا عن طريق الخبر؛ صار من باب الإيمان بالغيب .
تنبيه:
قول المؤلف رحمه الله:” فيصيح صيحة يسمعهما كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان؛ لصعق”؛ إنما ورد قوله:” يسمعها كل شيء إلا الإنسان…” إلخ… في قول الجنازة إذا احتملها الرجال على أعناقهم؛ كما قا النبي صلى الله عليه وسلم:” فإن كانت صالحة؛ قالت: قدموني! وإن كانت غير صالحة؛ قالت يا ويلها ! أين يذهبون بها ؟! يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ، ولو سمعه؛ لصعقأما الصيحة في القبر؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:” فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين”. أخرجه البخاري بهذا اللفظ ، والمراد بالثقلين: الإنس والجن.
ثم بعد هذه الفتة إما نعيم وإما عذاب……………………………………………………
( 1 ) “ثم” هذه لمطلق الترتيب، وليست للتراخي؛ لأن الإنسان يعذب أو ينعم فوراً؛ كما سبق أنه إذا قال: لا أدري! يضرب بمرزبة، وأن ذاك الذي أجاب بالصواب؛ يفتح له باب إلى الجنة، ويوسع له في قبره.
* وهذا النعيم أو العذاب؛ وهل هو على البدن أو على الروح أو يكون على البدن والروح جميعاً؟
نقول: المعروف عند أهل السنة والجماعة أنه في الأصل على الروح، والبدن تابع لها؛ كما أن العذاب في الدنيا على البدن، والروح تابعة له، وكما أن الأحكام الشرعية في الدنيا على الظاهر، وفي الآخرة بالعكس؛ ففي القبر يكون العذاب أو النعيم على الروح، لكن الجسم يتأثر بهذا تبعاً، وليس على سبيل الاستقلال، وربما يكون العذاب على البدن والروح تتبعه، والنعيم للروح والبدن تبع. لكن هذا لا يقع إلا نادراً؛ إنما الأصل أن العذاب على الروح والبدن تبع.
وقوله:” إما نعيم وإما عذاب” فيه إثبات النعيم والعذاب في القبر ، وقد دلّ على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل لنا أن نقول: وإجماع المسلمين.
أما من كتاب الله؛ فالثلاثة أصناف التى في آخر الواقعة ظاهرة في ثبوت عذاب القبر ونعيمه.
قال الله تعالى: ( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) ( 83 ) ( وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ) ( 84 ) ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ ) ( 85 ) ( فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ) ( 86 ) ( تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ( 87 ) ( فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) ( 88 ) ( فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ) ( 89 ) ( وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ) ( 90 ) ( فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ) ( 91 ) ( وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ) ( 92 ) ( فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ) ( 93 ) ( وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ) ( 94 ) ( الواقعة: 83-94 ).
وهذا أمر مشاهد يسمع المحتضر يرحب القادمين عليه من الملائكة، ويقول: مرحباً! وأحياناً يقول: مرحباً؛ أجلس هنا! كما ذكره ابن القيم في كتاب ” الروح” وأحياناً يحس بأن هذا الرجل أصيب بشيء مخيف، فيتغير وجهه عند الموت إذا نزلت عليه ملائكة العذاب والعياذ بالله.
ومن أدلة القرآن قوله تعالى في آل فرعون: ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً )، وهذا قبل قيام الساعة؛ بدليل قوله ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) ( غافر: 46 ).
ومن أدلة القرآن أيضاً قوله تعالى: ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُم )، وهم شاحون بأنفسهم ، لا يريدونها أ نتخرج؛ لأنهم قد بشروا بالعذاب والعقوبة؛ فتجد الروح تأبى الخروج، ولهذا قال: ( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ) ( الأنعام: من الآية93 )” اليوم” “ال” للعهد الحضوري؛ كقوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ( المائدة: من الآية3 )؛ يعني: اليوم الحاضر وكذلك ( اليوم تجزون ): ( ال ) للعهد الحضوري، والمراد به: يوم حضور الملائكة لقبض أرواحهم، وهذا يقتضي أنه يعذبون من حي أن تخرج أرواحهم ، وهذا يقتضي أنهم يعذبون من حين أن تخرج أرواحهم، وهذا هو عذاب القبر.
ومن أدلة القرآن أيضاً قوله تعالى: ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ) ( النحل: من الآية32 )، وذلك في حال الوفاة.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح: ” يقال لنفس المؤمن: أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى مغفرة من الله ورضوان”فتفرح بهذه البشرى، وتخرج منقادة شهلة، وإن كان البدن قد يتألم، لكن الروح منقادة مستبشرة.
وأما السنة في عذاب القبر ونعيمه؛ فمتواترة، ومنها ما ثبت في ” الصحيحين” من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين؛ فقال:” إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير…” الحديث.
وأما الإجماع؛ فكل المسلمين يقولون في صلاتهم: أعوذ بالله من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر … ولو أن عذاب القبر غير ثابت؛ ما صح أن يتعوذوا بالله منه؛ إذ لا تعوذ من أمر ليس موجوداً، وهذا يدل على أنهم يؤمنون به.
فإن قال قائل: هل العذاب أو النعيم في القبر دائم أو ينقطع؟
فالجواب أن يقال:
– أما العذاب للكفار؛ فإنه دائم، ولا يمكن أن يزول العذاب عنهم؛ لأنهم مستحقون لذلك ، ولأنه لو زال العذاب عنهم؛ لكان هذا راحة لهم ، وهم ليسوا أهلاً لذلك؛ فهم باستمرار في عذاب إلى يوم القيامة، ولو طالت المدة؛ فقوم نوح الذين أغرقوا ما زالوا يعذبون في هذه النار التي أدخلوا فيها ، ويستمر عذابهم إلى يوم القيامة، وكذلك آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشيأً.
– وذكر بعض العلماء ا،ه يخفف عن الكفار ما بين النفختين، واستدلوا بقوله تعالى ( قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا )، ولكن هذا ليس بلازم؛ لأن قبورهم مرقد لهم ، وإن عذبوا فيها .
– أما عصاة المؤمنين الذين يقضي الله تعالى عليه بالعذاب؛ فهؤلاء قد يدوم عذابهم وقد لا يدوم ، وقد يطول وقد لا يطول؛ حسب الذنوب، وحسب عفو الله عز وجل.
والعذاب في القبر أهون من عذاب يوم القيامة؛ لأن العذاب في القبر ليس فيه نخزى وعار، لكن في الآخرة فيه الخزي والعار؛ لأن الأشهاد موجودون: ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) ( غافر:51 )
فإن قال قائل: لو أن هذا الرجل تمزق أوصالاً ، وأكلته السباع، وذرته الرياح؛ فيكفي يكون عذابه؛ وكيف يكون سؤاله؟!
فالجواب: أن الله عز وجل على كل شيء قدير، وهذا أم غيبي؛ فالله عز وجل قادر على أن يجمع هذه الأشياء في عالم الغيب، وإن كنا نشاهدها في الدنيا متمزقة متباعدة لكن في عالم الغيب ربما يجمعها الله.
فانظر إلى الملائكة تنزل لقبض روح الإنسان في المكان نفسه؛ كما قال تعالى: )وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ ) ( الواقعة:85 ) ومع ذلك لا نبصرهم.
وملك الموت يكلم الروح، ونحن لا نسمع.
وجبريل يتمثل أحياناً للرسول عليه الصلاة والسلام، ويكلمه بالوحي في نفس المكان،ن والناس لا ينظرون ولا يسمعون.
فعالم الغيب لا يمكن ابداً ان يقاس بعالم الشهادة، وهذه من حكمة الله عز وجل؛ فنفسك التب في جوفك ما تدري كيف تتعلق ببدنك؟! كيف هي موزعة على البدن؟! وكيف تخرج منك عند النوم؟! هل تحس بها عند استيقاظك بأنها ترجع؟! ومن أين تدخل لجسمك؟!
فعالم الغيب ليس فيه إلا التسليم ، ولا يمكن فيه القياس إطلاقاً؛ فالله عز وجل قادر على ان يجمع هذه المتفرقات من البدن المتمزق الذي ذرته الرياح، ثم يحصل عليه المساءلة والعذاب أو النعيم؛ لأن الله سبحانه على كل شيء قدير.
فإن قال قائل: الميت يدفن في قبر ضيق؛ فكي يوسع له مد البصر؟!
فالجواب: أن عالم الغيب لا يقاس بعالم الشهادة، بل إننا لو فرض أن أحداً حفر حفرة مد البصر، ودفن فيه الميت، وأطبق عليه التراب؛ فالذي لا يعلم بهذه الحفرة؛ هل يراها أو لا يراها؟! لا شك انه لا يراها؛ مع ان هذا في عالم الحس، ومع ذلك لا يرى هذه السعة، ولا يعلم بها؛ إلا من شاهدها.
فإذا قال قائل: نحن نري الميت الكافر إذا حفرنا قبره بعد يوم أو يومين؛ نرى أضلاعه لم تختلف وتتداخل من الضيق؟!
فالجواب كما سبق: أن هذا من عالم الغيب، ومن الجائز ان تكون مختلفة؛ فإذا كشف عنها؛ أعادها الله، ورد كل شيء إلى مكانه؛ امتحاناً للعباد؛ لأنها لو بقيت مختلفة ونحن قد دفناه وأضلاعه مستقيمة؛ صار الإيمان بذلك إيمان شهادة.
فإن قال قائل كما قال الفلاسفة: نحن نضع الزئبق على الميت، وهو أسرع الأشياء تحركاً ومروقاً، وإذا جئنا بعد الغد؛ وحدنا الزئبق على ما هو عليه ، وأنتم تقولون: إن الملائكة يأتون ويجلسون هذا الرجل، والذي يجلس؛ كيف يبقى عليه الزئبق؟!
فنقول أيضاً كما قلنا سابقاً: هذه من عالم الغيب ، وعلينا الإيمان والتصديق ، ومن الجائز أيضاً أن الله عز وجل يرد هذا الزئبق إلى مكانه بعد أن تحول بالجلوس.
ونقول إيضاً: انظروا إلى الرجل في المنام؛ يرى أشياء لو كان على حسب رؤيته إياها؛ ما بقى في فراشه على السرير، وأحياناً تكون رؤيا حق من الله عز وجل، فتقع كما كان يراها في منامه، ومع ذلك؛ نحن نؤمن بهذا الشيء.
والإنسان إذا رأى ي منامه ما يكره؛ أصبح وهو متكدر ، وإذا رأى ما يسره؛ أصبح وهو مستبشر؛ كل هذا يدل على أن أمور الروح ليست من الأمور المشاهدة، ولا تقاس أمور الغيب بالمشاهد، ولا ترد النصوص الصحيحة؛ لاستبعادنا ما تدل عليه حسب المشاهد.