الحديث الثاني: حديث بيان الإسلام والإيمان والإحسان

عن عمر -رضي الله عنه- أيضًا قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، قال: فأخبرني عن الساعة. قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)، قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: ((أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)، ثم انطلق. فلبثت ملياً ثم قال: يا عمر, أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). رواه مسلم.

       هذا الحديث الشريف رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه سماعا وحضورا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يعطي الحديث قوة وتأكيدا وأهمية كبرى ، فالاستماع المباشر يختلف تماما عن النقل من شخص لآخر ، وهذا الحديث العظيم يصفه أهل العلم بأنه أم السنة وهي تعود إليه ، كما قال ابن حجر رحمه الله في الفتح عن الإمام أبو عمر القرطبي قوله ( هذا الحديث يصلح أن يقال له أم السنة وهي تعود إليه).

{بينما} تعني بينا وكلاهما بمعنى واحد ، وهي من أدوات الربط بين الجمل والنصوص ، وهذا يزيد النصوص والجمل قوة وحسنا وجمالا في السياق والمعنى ، وتعرب ظرفية والميم والألف زائدة.

{ عند رسول الله } وهذه الجملة تؤكد أن ابا هريرة رضي الله عنه أخذ الحديث من مصدره الأصلي غضا طريا دون واسطة.

{ ذات يوم } تدل على النكرة ، بمعنى يوم من الأيام دون تحديد ، فـ [ذات] نكرة تدل على العموم.

{ إذ طلع علينا رجل } بمعنى أنه رجل في شكله ، لكن الحقيقة تختلف ، ولذلك الجميع في حالة صمت وترقب لمعرفة هذا الرجل والهدف الذي اء من أجله ، وهذا الشعور ينتاب كل من جاءهم رجل لايعرفونه يصيبهم شيء من المفاجأة والصمت حتى يظهر ويستبين لهم ما يريدون.

{شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر}وهذه مواصفات الرجل الذي طلع عليهم فجأة ، أي يلبس ثيابا ناصعة البياض ، ولذلك كان البياض من الثياب مما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم وندب إليه ، فقال عليه الصلاة والسلام( إلبسوا من ثيابكم البياض وكفنوا فيها موتاكم فإنها أطيب وأطهر) رواه أبو داود بسند حسن.  

{ لا يرى عليه أثر السفر} والسفر معروف إذ أن المسافر يتأثر بمشقة السفر ، والسفر كما في الأثر قطعة من عذاب ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله) وفي رواية لأحمد: (السفر قطعة من العذاب، لأن الرجل يشتغل فيه عن صيامه وصلاته وعبادته، فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل الرجوع إلى أهله) رواه البخاري ومسلم.  فيثر السفر في البدن والبشرة والملبس وغير ذلك فيعرف الرجل بأنه على سفر ، ولكن هذا الرجل الذي طلع على الصحابة لا يرى عليه شيء من ذلك وهذا يدل على أنه رجل غير عادي وإن كان الصحابة لم يعرفوا ذلك إلا في النهاية بدما أخبرهم به النبي عليه الصلاة والسلام.

{ ولا يعرفه منا أحد } هذا الرجل كان غريبا على الصحابة ولا يعرفه أحد منهم ، ولم يسبق لهم رؤيته.

{ حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم } أي جلوس من يجلس في الصلاة للتشهد قريبا من النبي عليه الصلاة والسلام.

{ أسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه} أي وضع الرجل كفيه على فخذيه هو ، وليس على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم.

{ وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام }فقال الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله – أي تقرّ وتعترف بلسانك وقلبك، فلا يكفي اللسان، بل لابد من اللسان والقلب، كما قال الله عزّ وجل (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف الآية86 .

{وتقيم الصلاة} أي تأتي بها قائمة تامة معتدلة كما أمرك الله وكما بين لك الرسول صلى الله عليه وسلم ، والصَّلاةَ المعنية هنا تشمل الفريضة والنافلة على حد سواء.

{ وتؤتي الزكاة }تؤتي بمعنى تعطي، والزكاة هي المال الواجب بذله لمستحقه من الأموال الزكوية تعبداً لله، وهي الذهب والفضة والماشية والخارج من الأرض وعروض التجارة.  

{وتصوم رمضان} أي تمسك عن المفطرات تعبداً لله تعالى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وأصل الصيام في اللغة: الإمساك.

{وتحج البيت } أي تقصد البيت لأداء النسك في وقت مخصوص تعبداً لله تعالى.

{إن استطعت إليه سبيلا }قَالَ: صَدَقْتَ القائل صدقت: جبريل عليه السلام وهو السائل، فكيف يقول: صدقت وهو السائل؟ لأن الذي يقول: صدقت للمتكلم يعني أن عنده علماً سابقاً علم بأن هذا الرجل أصابه، وهو محل عجب، ولهذا تعجب الصحابة كيف يسأله ويصدقه، (قال عمر عجبنا له يسأله ويصدقه) قال ابن عثيمين رحمه الله (ووجه العجب أن السائل عادة يكون جاهلاً، والمصدّق يكون عالماً فكيف يجتمع هذا وهذا، ومثاله: لوقال قائل: فلانٌ قدم من المدينة، فقال بعضهم: صدقت، فمقتضى ذلك أنه عالم، فكيف يسأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول صدقت؟ هذا محل عجب).

{قال فأخبرني عن الإيمان}والإيمان في اللغة: هو الإقرار والاعتراف الذي يقتضي القبول والإذعان وهو موافق للشرع الحنيف. قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره. فهذه الأمور الستة لا بد من الإقرار بها لتحقيق الإيمان ، فالإيمان بالله يقتضي الإيمان بوجوده والإيمان بانفراده بالربوبية والخلق والتدبير ، والإيمان بأنه الإله المعبود ولا معبود بحق سواه ، والإيمان بأسمائه وصفاته على وجه الكمال والجمال لا شبيه له فيها ولا مثيل ، فيقر بها دون تمثيل ولا تعطيل ولا تشبيه.

قوله: وَمَلائِكَتِهِ بدأ بالملائكة قبل الرسل والكتب لأنهم عالم غيبي، أما الرسل والكتب فعالم محسوس، فالملائكة لا يظهرون بالحس إلا بإذن الله عزّ وجل، وقد خلق الله الملائكة من نورٍ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم لايحتاجون إلى أكل وشرب، ولهذا قيل إنهم صمدٌ أي ليس لهم أجواف، فلا يحتاجون إلى أكل ولا شرب، فنؤمن أن هناك عالماً غيبياً هم الملائكة.

وهم أصناف، ووظائفهم أيضاً أصناف حسب حكمة الله عزّ وجل كالبشر أصناف ووظائفهم أصناف.

والإيمان بالملائكة يتضمّن:

أولاً: الإيمان بأسماء من علمنا أسماءهم، أن نؤمن بأن هناك ملَكاً اسمه كذا مثل جبريل.

ثانياً: أن نؤمن بما لهم من أعمال، مثلاً:

جبريل: موكل بالوحي، ينزل به من عند الله إلى رسله.

وميكائيل: موكل بالقطر أي المطر، والنبات أي نبات الأرض.

وإسرافيل: موكل بالنفخ في الصور.

هؤلاء الثلاثة كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم عندما يستفتح صلاة الليل فيقول: اللَّهُمَّ رَبَّجِبْرَائِيْلَ وَمِيْكَائِيْلَ وَإِسْرَافِيْلَ  أخرجه مسلم كتاب صلاة المسافرين ، والحكمة من هذا: أن كل واحد منهم موكل بحياة: فجبريل موكل بالوحي وهو حياة القلوب كما قال عزّ وجل: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا) (الشورى 52 وميكائيل موكل بالقطر والنبات وهو حياة الأرض، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور وهو حياة الناس الحياة الأبدية.

وَكُتُبِهِ جمع كتاب بمعنى: مكتوب والمراد بها الكتب التي أنزلها الله عزّ وجل على رسله لأنه ما من رسول إلا أنزل الله عليه كتاباً كما قال الله عزّ وجل: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النبيينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ) (البقرة: 213)

وقال عزّ وجل: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا) أي إبراهيم ونوح: (النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب) (الحديد: 26) واعلم أن جميع الكتب السابقة منسوخة بما له هيمنة عليها وهو القرآن، قال الله عزّ وجل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (المائدة: الآية48) كل الكتب منسوخة بالقرآن، فلا يُعمل بها شرعاً.

واختلف العلماء – رحمهم الله – فيما ثبت في شرائع من قبلنا، هل نعمل به إلا أن يرد شرعنا بخلافه، أو لا نعمل به؟

من العلماء من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا مالم يرد شرعنا بخلافه، وذلك أن ماسبق من الشرائع:

1- إما أن توافقه شريعتنا

2- وإما أن تخالفه شريعتنا

3- وإما أن لاندري توافقه شريعتنا أم لا فيكون مسكوتاً عنه

فما وافقته شريعتنا فهو حق ونتبعه، وهذا بالإجماع، واتباعنا إياه لا لأجل وروده في الكتاب السابق ولكن لشريعتنا.

 وما خالف شريعتنا فلا نعمل به بالاتفاق، لأنه منسوخ، ومثاله لايحرم على الناس أكل الإبل في وقتنا مع أنها على بني إسرائيل – اليهود خاصة – كانت محرمة.

 

– وما لم يرد شرعنا بخلافه ولا وفاقه فهذا محل الخلاف: منهم من قال: إنه شرع لنا. ومنهم من قال: ليس بشرعٍ لنا، ولكل دليل، وتفصيل ذلك في أصول الفقه.

 

والإيمان بالكتب يتضمّن أربعة أمور:

أولاً: أن نؤمن بأن الله تعالى أنزل على الرسل كتباً، وأنها من عند الله ولكن لانؤمن بأن الكتب الموجودة في أيدي هذه الأمم هي الكتب التي من عند الله لأنها محرّفة ومبدلة، لكن أصل الكتاب المنزل على الرسول نؤمن بأنه حق من عند الله.

ثانياً: أن نؤمن بصحة ما فيها من أخبار كأخبار القرآن وأخبار ما لم يبدل أو يحرّف من الكتب السابقة.

ثالثاً: أن نؤمن بما فيها من أحكام إذا لم تخالف الشريعة على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا – وهو الحق – إذا لم يرد شرعنا بخلافه.

رابعاً: أن نؤمن بما علمنا من أسمائها، مثل: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى.

وَرسُلِهِ أي أن تؤمن برسل الله عزّ وجل، والمراد بالرسل من البشر، وليعلم بأنه يعبر برسول ويعبّر بنبي، فهل معناهما واحد؟

الجواب: أما في القرآن فكل من ذكر من الأنبياء فهو الرسول، فكلما وجدت في القرآن من نبي فهو رسول، لكن معنى النبي والرسول يختلف، والصواب فيه: أن النبي هو من أوحي إليه بشرع وأمر بالعمل به ولكن لم يؤمر بتبليغه، فهو نبي بمعنى مُخْبَر، ولكن لم يؤمر بالتبليغ. مثاله: آدم عليه السلام أبو البشر نبي مكلف لكنه ليس برسول، لأن أول الرسل نوح، أما آدم فنبي كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: واليوم الآخِرِ اليوم الآخر، هو يوم القيامة، وسمي آخراً لأنه آخر مراحل بني آدم وغيرهم أيضاً، فالإنسان له أربع دور، في بطن أمه، وفي الدنيا، وفي البرزخ، ويوم القيامة وهو آخرها.

– الإيمان باليوم الآخر يتضمّن:

أولاً: الإيمان بوقوعه، وأن الله يبعث من في القبور، وهو إحياؤهم حين ينفخ في الصور، ويقوم الناس لرب العالمين، قال تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) المؤمنون 16 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حُفَاةً غُرْلاً رواه مسلم ، وأنه واقع لامحالة، لأن الله تعالى أخبر به في كتابه وكذلك في السنة، وكثيراً مايقرن الله تعالى بين الإيمان به وبين الإيمان باليوم الآخر، لأن من لم يؤمن باليوم الآخر لايعمل، إذ إنه يرى أن لاحساب. ثانياً: الإيمان بكل ماذكره الله في كتابه وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون في ذلك اليوم الآخر، من كون الناس يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً، أي ليس معهم مال، وهذا كقوله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (الانبياء: الآية104) .

ثالثاً: الإيمان بما ذكر في اليوم الآخر من الحوض والشفاعة والصراط والجنة والنار فالجنة دار النعيم، والنار دار العذاب الشديد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- في العقيدة الواسطية: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم يكون بعد الموت مثل الفتنة في القبر فإن الناس يفتنون في قبورهم ويسألون عن ثلاثة أشياء: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟

رابعاً: الإيمان بنعيم القبر وعذابه، لأن ذلك ثابت بالقرآن والسنة وإجماع السلف.

وهنا ننبّه على ما نسمعه من قول بعض الناس أو نقرأه في بعض الصحف إذا مات إنسان قالوا: انتقل إلى مثواه الأخير.

وهذا غلط عظيم، ولولا أننا نعلم مراد قائله لقلنا: إنه ينكر البعث، لأنه إذا كان القبر مثواه الأخير، فهذا يتضمن إنكار البعث، فالمسألة خطيرة لكن بعض الناس إمّعة، إذا قال الناس قولاً أخذ به وهو لايتأمل في معناه.

وَتُؤْمِنُ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرّهِ وهنا أعاد صلى الله عليه وسلم الفعل: (تؤمن) لأهمية الإيمان بالقدر، لأن الإيمان بالقدر مهم جداً وخطير جداً.

والإيمان بالقدر يتضمّن أربعة أمور: –

الأول: أن تؤمن بعلم الله المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً.

دليل ذلك: عموم الأدلة مثل قول الله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة: الآية282) وخصوص العلم بالغيب، وقد قال موسى عليه الصلاة والسلام: (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) (طه: الآية52) أي لايجهل ولاينسى ما علم. وقد ذكر الله عزّ وجل العلم في آيات كثيرة جملة وتفصيلاً:

قال الله عزّ وجل في الجملة: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة: 282) ، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الطلاق: الآية12) أي أخبرنا كم بهذا: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق: الآية12) هذا مجمل.

أما التفصيل فقال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا) (الأنعام: الآية59) كلمة ما اسم موصول، وكل اسم موصول فهو مفيد للعموم، فكل شيء في البرّ الله سبحانه وتعالى يعلمه، وكذلك كل شيء في البحر فالله سبحانه وتعالى يعلمه، وقوله تعالى: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) أي ورقة في أي شجرة إلا يعلمها: يعلم متى سقطت، وأين سقطت، وكيف سقطت: (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام: الآية59) أي حبة، سواء كانت كبيرة، أو صغيرة في ظلمات الأرض إلا يعلمها الله عزّ وجل، فإذا قدرنا أن حبة بر غاصت في قاع البحر، ففوقها طين، وفوق الطين ماء، وكان ذلك ليلاً أي في ظلمة الليل، وكانت السماء ممطرة، والغيوم متلبدة، فهذا ظلمة المطر وظلمة الغيوم وكان الجو مغبرّاً، هذا أيضاً ظلمة، فيعلم الله عزّ وجل الحبة في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولايابسٍ إلا في كتاب مبين

وإذا حقق العبد الإيمان بعلم الله، وأنه جلّ وعلا محيطٌ بكل شيء أوجب له الخوف من الله، وخشيته، والرغبة فيما عنده جل وعلا، لأن كل حركة تقوم بها فالله يعلمها.

ثانياً: الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ، مقادير كل شيء إلى يوم القيامة، قال الله عزّ وجل: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يس: 12) أي في كتاب، وقال عزّ وجل:) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) (الأنبياء: 105) وهو اللوح المحفوظ: (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: الآية105) ، والآيات في هذا متعددة.

ثالثاً: أن تؤمن بأن كل ما حدث في الكون فهو بمشيئة الله تعالى، فلا يخرج شيء عن مشيئته أبداً. ولهذا أجمع المسلمون على هذه الكلمة: ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فأي شيء يحدث فهو بمشيئة الله.

وهذا عام، لما يفعله عزّ وجل بنفسه وما يفعله العباد، فكله بمشيئة الله، ودليل ذلك قول الله عزّ وجل: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: الآية253) وقال عزّ وجل: (وَلَوْ شَاءَ ربك مَا فَعَلُوهُ) (الأنعام: 112) وقال: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ) (الأنعام: 137) وقال عزّ وجل: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ*وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير: 29، 28) فكل ماحدث في الكون فهو بمشيئة الله، وإذا آمن الإنسان بهذا سلم من عمل الشيطان، فإذا فعل فعلاً وحصل خلاف المقصود، قال ليتني لم أفعل، فهذا من عمل الشيطان، لأن الذي فعلته قد شاءه الله عزّ وجل ولابد أن يكون، لكن إن كان ذنباً فعليك بالتوبة والاستغفار.

رابعاً: الخلق، ومعناه: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء، فنؤمن بعموم خلق الله تعالى لكل شيء، قال تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: الآية2) فكل شيء مخلوق لله: السموات، والأرضون، والبحار، والأنهار، والكواكب، والشمس، والقمر، الإنسان، الكل مخلوق لله عزّ وجل وحركات الإنسان مخلوقة لله، لأن الله تعالى خلق الإنسان وأفعاله، وإذا كان هو مخلوقاً فصفاته وأفعاله مخلوقة ولا شك، فأفعال العباد مخلوقة لرب العباد عزّ وجل، وإن كانت باختيار العباد وإرادتهم لكنها مخلوقة لله، وذلك لأن أفعال العباد ناشئةعن إرادة جازمة وقدرة تامة، وخالق الإرادة والقدرة هو الله سبحانه وتعالى.

قال: أخْبِرْني عَنِ الإِحْسَانِ الإحسان مصدر أحسن يحسن، وهو بذل الخير والإحسان في حق الخالق: بأن تبني عبادتك على الإخلاص لله تعالى والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلما كنت أخلص وأتبع كنت أحسن. وأما الإحسان للخلق: فهو بذل الخير لهم من مال أوجاه أو غير ذلك.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الإحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وعبادة الله لا تتحقق إلابأمرين وهما: الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي عبادة الإنسان ربه سبحانه كأنه يراه. عبادة طلب وشوق وعبادة الطلب والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثاً عليها، لأنه يطلب هذا الذي يحبه، فهو يعبده كأنه يراه، فيقصده وينيب إليه ويتقرّب إليه سبحانه وتعالى.

فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ أي: اعبده على وجه الخوف ولاتخالفه، لأنك إن خالفته فإنه يراك فتعبده عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، وهذه الدرجة عند أهل العبادة أدنى من الدرجة الأولى.

فصار للإحسان مرتبتان: مرتبة الطلب، ومرتبة الهرب.

مرتبة الطلب: أن تعبد الله كأنك تراه.

ومرتبة الهرب: أن تعبد الله وهو يراك عزّ وجل فاحذره، كما قال عزّ وجل: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) آل عمران 30 ، وبهذا نعرف أن الجملتين متباينتان والأكمل الأول، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الثاني في مرتبة ثانية متأخرة.

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ لم يُعِد قوله صدقت اكتفاءً بالأولى.

والساعة هي: قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، يعني البعث، وسميت ساعة لأنها داهية عظيمة، قال الله عزّ وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (الحج ) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مَا المَسْؤُوْلُ عَنْهَا يعني نفسه صلى الله عليه وسلم بأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ يعني جبريل عليه السلام، والمعنى: إذا كنت تجهلها فأنا أجهلها ولا أستطيع أن أخبرك به، لأن علم الساعة مما اختص الله به عزّ وجل، قال الله تعالى: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) الأحزاب 63 ، وقال عزّ وجل (يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً) (الأعراف الآية187) ولهذا يجب علينا أن نكذب كل من حدد عمر الدنيا في المستقبل، ومن قال به أو صدق به فهو كافر.

وما نسمع عن بعض أهل الشعوذة أن عمر الدنيا كذا وكذا قياساً على ما مضى منها فإنه يجب علينا أن نقول بألسنتنا وقلوبنا كذبتم، ومن صدّق بذلك فهو كافر، لأنه إذا كان أعلم الرسل البشرية وأعظم الرسل الملكية كلاهما لا يعرفان متى تكون فمن دونهما من باب أولى بلا شك.

ولَمَا قال ما السؤول عنها بأعلم من السائل، ثم قال: أخْبِرْنِي عَنِ أَمَارَاتِهَا أي علامات قربها، لأن الأمارة بمعنى العلامة، والمراد أمارات قربها وهو ما يعرف بالأشراط، قال الله عزّ وجل: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) (محمد: الآية18) وأشراط الساعة قسّمها العلماء إلى ثلاثة أقسام:

أشراط مضت وانتهت

أشراط لم تزل تتجدد وهي الوسطى

أشراط كبرى تكون عند قرب قيام الساعة

ومن علامات الساعة ماذكره صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله: أَنْ تَلِدَ الأمَةُ رَبّتَهَا وفي لفظ: ربَّهَا والمعنى: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ أي الرقيقة المملوكة رَبَّهَا أي سيدها، أو: ربَّتَهَا هل المراد العين أو الجنس؟

والجواب: اختلف في هذا العلماء. فمنهم من قال: المراد أن تلد الأمة ربها، يعني أن تلد الأمة من يكون سيداً لغيرها لا لها، فيكون المراد بالأمة: الأمة بالجنس.

وقيل المعنى: إن الأمة بالعين تلد سيدها أو سيدتها، بحيث يكون الملك قد أولد أمته، ومعنى أولدها أي أنجب منها، فيكون هذا الولد الذي أنجبته سيداً لها: إما لأن أباه سيدها، وإما لأنه سوف يخلف أباه فيكون سيداً لها.

ولكن المعنى الأول أقوى، أن الإماء يلدن -من يكونوا أسياداً ومالكين، فهي كانت مملوكة في الأول، وتلد من يكونوا أسياداً مالكين. وهو كناية عن تغير الحال بسرعة، ويدل لهذا ماذكره بعد حيث قال:

وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ الحفاة: يعني ليس لهم نعال، والعراة: أي ليس لهم ثياب تكسوهم وتكفيهم، العالة: أي ليس عندهم ما يأكلون من النفقة أو السكنى أو ما أشبه ذلك، عالة أي فقراء.

يَتَطَاوَلُوْنَ في البُنْيَانِ أي يكونون أغنياء حتى يتطاولون في البنيان أيهم أطول. وهل المراد بالتطاول ارتفاعاً، أو جمالاً، أو كلاهما؟

الجواب: كلاهما، أي يتطاولون في البنيان أيهم أعلى، ويتطاولون في البنيان أيهم أحسن، وهم في الأول فقراء لا يجدون شيئاً، لكن تغير الحال بسرعة مما يدل على قرب الساعة.

وهنا مسألة: هل وجد التطاول في البنيان أم لا؟

والجواب: الله أعلم فإنه قد يوجد ماهو أعظم مما في هذا الزمان، لكن كل أناس وكل جيل يحدث فيه من التطاول والتعالي في البنيان، وكل زمن يقول أهله: هذا من أشراط الساعة، والله أعلم، لكن هذه علامة واضحة.

ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَليّاً يعني بقيت ملياً أي مدة طويلة كما في قوله تعالى: (وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً) (مريم: الآية46) أي مدة طويلة، قيل ثلاثة أيام، وقيل أكثر، وقيل: أقل ولكن المعروف أن الملي يعني الزمن الطويل.

ثُمَّ قَالَ: يَاعُمَرُ والقائل النبي صلى الله عليه وسلم أتَدْرِيْ من السَّائِل؟ قُلتُ: اللهُ وَرَسُوْله أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ ولعل النبي صلى الله عليه وسلم وجده فيما بعد وسأله: أتدري من السائل؟ أي أتعلم من هو؟ فَقَالَ عُمَرُ: اللهُ وَرَسُوْلهُ أَعْلَمُ وهذا يدل على أن عمر رضي الله عنه لاعلم له من هذا السائل.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ الإشارة هنا إلى شيء معلوم بالذهن، أي هذا جبريل أتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكَمُ لكنه جاء بهذه الصيغة أي صيغة السؤال والجواب لأنه أمكن في النفس وأقوى في التأثير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *