عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضِعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وإن همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئةً واحدة) رواه البخاري ومسلمٌ.
هذا الحديث حديث قدسي ،وقد اختلف العلماء من السلف والخلف في مضامين الأحاديث القدسية هل هي من الله لفظا ومعنى، أم أن لفظها من الله ومعناها من الرسول صلى الله عليه وسلم، أم أن معناها من الله ولفظها للنبي صلى الله عليه وسلم، على خلافات ثلاثة، وكل فريق له حجته التي يؤيد بها رأيه، ولكننا لو نظرنا إلى الرأي الأخير لوجدناه الرأي الصحيح، وذلك لعدة أسباب، ومنها:
السبب الأول: لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظاً و معنى؛لكان أعلى سنداً من القرآن؛لأن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة؛كما هو ظاهر السياق، أما القرآن فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام؛كما قال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُس من ربك )(النحل: الآية102) ، وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:193-195].
السبب الثاني:أنه لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله؛لم يكن بينه وبين القرآن فرق؛ لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله تعالى،والحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقا في الأصل،ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروق كثيرة:
منها:أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته،بمعنى أن الإنسان لايتعبد الله تعالى بمجرد قراءته؛فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات،والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات.
ومنها: أن الله عزّ وجل تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه،ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية.
ومنها:أن القرآن محفوظ من عند الله عزّ وجل؛ كما قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ؛ والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن،بل أضيف إليها ما كان ضعيفاً أو موضوعاً، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص.
ومنها:أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية؛ فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه.
ومنها:أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصح الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يمسّه إلا طاهر على الأصح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها:أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح،بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها:أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفاً أجمع القراء عليه؛ لكان كافراً، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أنكر شيئاً منها مدعّياً أنه لم يثبت؛ لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؛ لكان كافراً لتكذيبه النبي صلى الله عليه وسلم
وأجاب هؤلاء عن كون النبي صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل، لكن قد يضاف إلى قائله معنى لا لفظاً؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يضيف أقوالاً إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنى لا لفظاً، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهدهد والنملة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعاً.
وبهذا يتبين رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى، فأهل السنة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقي مسموع يتكلم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يثبتون ذلك، وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت، ولكن الله تعالىيخلق صوتاً يعبّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شك في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة، لأن المعتزلة يقولون القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتفق الجميع على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق.
(إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك) أي كتب وقوعها وكتب ثوابها فالكل مكتوب ومقدر في علمه سبحانه في اللوح المحفوظ. وأما الثواب المقدر لها فقد جاءت به الأدلة من الكتاب والسنة. ولكن لا يعني ذلك أن يتخذ المسلم من كتابتها وتقديرها عذرا لامتطاء صهوة المعاصي والآثام والذنوب ويقول أن ذلك مقدر علي ،وهذا بلا شك من الفهم السقيم والخطأ الفادح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال( ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم تلا قوله سبحانه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)رواه البخاري، فنهاهم النبي عليه الصلاة والسلام عن الاتكال ،وأمرهم بالعمل واتخاذ السبب للنجاة، والله عز وجل قد أبان لعباده طريق الخير وطريق الشر وهداهم لادراكهما، ليسلكوا طريق الخير ويتركوا طريق الشر،فقال عز وجل( وهديناه النجدين) سورة البلد، وقال عز وجل (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)سورة الزلزلة.
(فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً) الهم بالحسنة يعني العزم على فعلها ،ولا يدخل في ذلك حديث النفس ،بل العزيمة والنية الصادقة، والعزيمة على فعل الحسنة لها أحوال منها:
1- أن يهم بحسنة ويعمل بأسبابها ولكنه لم يبلغلها لأمور معينة أو أسباب تكون خارج إرادته،فهذا يكتب له الأجر كامل ،أجر الهم بالحسنة وأجر العمل بها،وهذا من لطف الله وفضله ورحمته،كما قال عز وجل( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما) سورة النساء 100. ومثال ذلك جل يخرج لزيارة رحمه ويفعل الأسباب ولكنه في الطريق وقع له حادث سواء مات أم لم يمت فقد كتب الله له الأجر كاملا.
2- أن يهم بحسنة ويمضي فيها ثم تطرأ عليه حسنة أعلى منها فيترك الأولى وينتقل للثانية الأعلى منها،فإن الله يكتب له أجر الأولى وأجر الثانية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما من الله عليه بفتح مكة ،(جاءه رجل فقال يارسول الله إني نذرت إن فتح الله لك مكة أن أصلي في بيت المقدس،فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صل ها هنا(يعني في مكة)فكررها عليه فقال له صل هاهنا فكررها عليه فقال له ذاك وشأنك) أخرجه أبو داود. فنقله النبي عليه الصلاة والسلام من الحسنة الدنيا إلى الحسنة العليا وهي الصلاة في البيت الحرام.
3- أن يهم بالحسنة ثم يتركها كسلا وتهاونا ،كإن يعزم على صلاة الضحى ثم يتركها تهاونا ،فهذا يثاب على العزم عليها ولا يثاب على فعلها لأنه لم يفعلها.
(وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضِعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ، ) وهذا فضل عظيم مضاعف من الله تبارك وتعالى رحمة بعباده،كما قال عز وجل( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيىئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) سورة الأنعام 160.
(وإن همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً) فكونه تركها لله تقوى لله وخوف منه يكتبها الله له حسنة كاملة، كما جا في الحديث( لأنه إنما تركها من جرائي) رواه مسلم، أي تركها من أجلي.
وكما أن الهم بالحسنة له أحوال ،فكذلك الهم بالسيئة له أحوال ومن ذلك:
1- من يهم ويعزم على سيئة من قلبه ثم يتذكر الله عز وجل ،فيتركها لله وخوفا منه ،فهذا تكتب له حسنة كاملة لأنه تركها لله.
2- أن يعزم على فعل سيئة ويهم بها ولكنه عجز عن الوصول إليها ولم يعمل بأسبابها، كأن يرى شخص عنده ثروة يبددها في معاصي الله فيتمنى أن له مثل ذلك فيفعل مثل ما فعل فيها ،فهذا يكتب عليه سيئة(أي وزر) على سوء نيته لكنها ليست كسيئة الفاعل صاحب المال.
3- أن يعزم على فعل سيئة وفعل أسباب الوصول إليها ،ولكنه عجز عن الوصول إليها ،فهذا يكتب عليه سيئة كاملة لأنه سعى بالأسباب إلى فعلها،كمن يعزم على سرقة سيارة وفعل الأسباب من محاولة فتح بابها وتشغيلها لكنه لم يفلح.
4- أن يعزم على فعل سيئة ولكنه يملها ويتركها ولكنه لم يتركها لله ولا عن عجز عنها ،فهذا لا له ولا عليه، لا يثاب على تركها ولا يعاقب لأنه لم يفعل ما يوجب العقوبة.
(وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئةً واحدة) كما قال عز وجل( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) ، وانظر إلى ألفاظ العطف والرحمة في الحسنة والسيئة:
{ عنده } دليل على اعتناءه سبحانه برحمة عباده لطفه بهم.
{ حسنة كاملة } قالها عز وجل في شأن من هم بحسنة فلم يعملها كتبها له حسنة كاملة، فضل منه وبركة على عباده.
{ حسنة كاملة }في شأن من هم بسيئة فلم يعملها وتركها لله يعظم له الأجر مكافأة ورحمة منه.
{ وقال سيئة واحدة } في شأن من هم بسيئة فعملها، ولم يقل كاملة تقليلا من شأنها رحمة بعباده فلا يغلظ العقوبة عليهم.