الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .وبعد:
إن مما ابتلي به الناس في هذه الأزمنة المتأخرة، هو تقريبِ الحرامِ والخلوةِ فيه، وتسهيلِ الوصولِ إليه ولا سيما مع توفر وسائل النقل والتواصل والبث والعرض (ليَعلمَ اللهُ من يخافُه بالغيب)[1]، مما جعل المؤمن في خوف شديد على نفسِه وأهلِه وأبنائه، من الوقوعِ في هذا السيل الجارف إلى مهاوي الردى،وموارد الهلكة، ولا عاصمَ من أمرِ اللهِ إلا من رحِم، ومع كثرةِ منابع الشّرّ والفسادِ وتنوعها وتكاثرها، لم تَعُدْ وسيلةُ المنعِ والحجبِ تحقّقُ الهدفَ من هذا الأمر الجلل، ولا سبيلَ للنّجاةِ من هذا المنزلق الخطر من الفتن، إلا بالتربيةِ الإيمانيّة، وتنميةِ الرّقابةِ الذاتيّة، وإذكاء روح الخوف من الله، وتعظيم شأن التقوى في نفوس الناشئة والمجتمع والتي تجعلُ الجيل يوقنُ أنّ اللهَ معه وينظرُ إليه ويراقبُه، ولا يَخفى عليه شيءٌ من أمرِه:
إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فلا تقل*خلوتُ ولكنْ قلْ عليَّ رقيبُ
ولا تَحسبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ ساعة ً * ولا أنَّ ما تُخفِي عليه يغيبُ
إنّها منزلةٌ عظيمة، تضبطُ السلوك، وتهذّبُ الأخلاق، وتزكّي النّفوس، وتدفعُ لفعلِ كلِّ حسنٍ وتركِ كلِّ قبيح، حياءً من الله، وخوفًا منه ورجاءً لثوابِه.
إن مما يجبُ علينا جميعا تربيةِ الأجيال، على مراقبةِ اللهِ سبحانه، وتعظيم قدره في القلوب، والوقوف عند أمرِه ونهيِه،وأن هذا حلال وهذا حرام، فإنّ ذلك هو الضمانُ الذي سيعصمُهم من مضلات الفتن بإذنِ الله جل وعلا، عندما يواجهونَ دواعيَ الشهواتِ والفتن،وأبواق الضياع والفساد، فيبتعدون عن الوقوع في حبالها عن علم ووعي ويقين، مذكرين كل من اتّبعَ الهوى بقول الله تعالى (ألمْ يعلمْ بأنّ اللهَ يرى)[2] وهذا هو داعي الإيمانُ إذا خالط القلوب، فإنه يستعلى بصاحبه فوق حظوظ نفسه وشهواتِها، ويأخذ بيده إلى سبيل العفّة والشرف والكرامة، خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات ليلة يطوف بالمدينة، فمر بامرأة قد أغلقت عليها بابها وهي تقول:
تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ واسْودَّ جانبُه * وَأَرَّقَنِي أَلَّا خليلَ أُلَاعِبُه
فواللهِ لولا خشيةُ اللهِ وحدَه * لَحُرِّكَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوانِبُه
ولكنّني أخشى رقيبًا موكّلًا * بِأَنْفُسِنَا لَا يَفْتُرُ الدَّهْرَ كَاتِبُه
فلما أصبح عمر بعث إليها بنفقة وكسوة، وكتب إلى عامله يسرح لها زوجها من الغزو.
إن دواعي الحرام كثيرة ولكن داعي الإيمان أقوى، يقول لمن دعته نفسُه للحرامِ أن يقول معاذَ الله، ويقول لمن زيَّنَ له شيطانُه المعصيةَ أن يقول إنّي أخافُ الله، وعندها سيجد من السعادة وانشراحِ الصدر وصلاحِ الحال،بما لا يخطر على البال، ويُفتحُ له من أبوابِ الخيرِ والتوفيقِ ما يفوق الوصف، وينفرج له كلِّ همٍّ وشدّةٍ وبلاء، فأولئك الثلاثة النفر انفرجتْ عنهم الصخرةُ في الغار،وقد أيقنوا بالهلكة ببركة صالح أعمالهم وتقواهم وخوفهم من خالقهم عز وجل، فكذا كل من حذا حذوهم،واقتدى بأثرهم، فسوفَ تنفرجُ عنه كل عقبةٍ وعائقٍ بإذنِ الله جل وعلا.إنّنا إذا اعتنينا بتربيةالأبناء على الإيمانِ والتقوى ومراقبة الله تعالى، لم نَعُدْ بحاجةٍ إلى حُرّاسٍ وحُجّاب، قالت أمٌّ لإبنتِها عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اُخْلْطِي اللبنَ بالماء، فقالت البنتُ يا أمّاه، أمَا تعلمينَ أنّ عمرَ قد نهى عن ذلك، فقالت: إنّ عمرَ لا يرانا، فقالت البنتُ إنْ كانَ عمرُ لا يرانا، فإنّ ربَّ عمرَ يرانا، وسمعَها عمرُ فزوّجَها لابنِه عاصم، فرُزقوا بنتًا أنجبتْ عمرَ بنَ عبدِالعزيز، الخليفةَ الراشدَ، رضيَ عنهم أجمعين.
إنّها ثمرة التربية والمراقبةِ العاجلة والوقوف عند حدود الله تعالى، والرغبة العظيمة فيما عند الله من الفضل العظيم، يقولُ عليه الصلاةُ والسلام: (سبعةٌ يظلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه، وذكرَ منهم: رجلٌ دعته امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمال، فقالَ: إنّي أخافُ الله)[3] فتذكّرْ يا عبداللهُ عندما تتسنى لك الخلوة بالحرام، أنّك لستَ وحدَك،بل هناك من يشهدها معك ويثبتها عليك فيما لا مجال فيه للإنكار،
وإذا خلوتَ بريبةٍ في ظلمةٍ* والنّفسُ داعيةٌ إلى الطغيانِ
فاستحيِ من نظرِ الإلهِ وقل لها* إنّ الذي خلقَ الظلامَ يراني
فاللهُ تعالى يراك وهو مطلع عليك،وإن استخفيت من الناس،كما قال سبحانه (يستخفونَ من النّاسِ ولا يستخفونَ من اللهِ وهو معهم) فالملائكةَ الكرام الكاتبين يلازمون العبد بالليل والنهار ويحصون عليه ما اقترفت يداه، والأعضاء الصامتة في الجسد، لها يوم تنطق فيه وتشهد بما عَلِمت على صاحبها (اليومَ نختمُ على أفواهِهم وتكلمُنا أيديهم وتشهدُ أرجلُهم بما كانوا يكسبون)[4].
فاليتقي اللهَ كل مسلم، وليراقب الله في خلوته، وفي حركاته وسكناته وجميعِ أحوالِه، وليحَاسِبُ نفسه قبلَ أن يوقف ويحاسب، وقفة تذل فيها النفوس،وتخر لها القوى ،وتُلْجم فيها الأفواه بالعرق،وينكشف فيها الغطاء،وتظهر الخفايا (يومئذ تعرضون لا تَخفى منكم خافية)[5].
والمقصود مما سبق أن يكون عند المسلم مراقبة ذاتية،واستحضارا لعظمة من يعلم السر وأخفى، فإنه لا يخفى عليه شيء من أمر عباده،( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)[6]،قال الإمام الطبري رحمه الله(أنـزله الربّ الذي يعلم سرّ من في السماوات ومن في الأرض, ولا يخفى عليه شيء, ومحصي ذلك على خلقه, ومجازيهم بما عزمت عليه قلوبهم، وأضمروه في نفوسهم)[7] ،وليكن المسلم قدوة صالحة لذويه ومجتمعه في هذا الأمر،ولنربي الجيل على بواعث الإيمان من المراقبة الذاتية ،وإذكاء روح التقوى والخوف من الله والدار الآخرة في قلوبهم ونفوسهم،حتى لا نحتاج إلى المتابعة والنقد وتسليط المراقبة الأسرية والمجتمعية عليهم،بل نجعلهم يتجنبون كل ما يضرهم في دينهم ودنياهم،خوفا من الله وتقوى له،وننمي فيهم الإحساس بالمسئولية والنتائج والعواقب التي تعود عليهم ودينهم ومجتمعهم وأسرهم بالضرر الدنيوي والأخروي،وهذه من الوقاية من العذاب الأخروي بين يدي الله عز وجل،كما قال تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[8].وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] سورة المائدة 94.
[2] سورة العلق 14.
[3] رواه البخاري.
[4] سورة يس 65.
[5] سورة الحاقة 18.
[6] سورة الفرقان 6.
[7] تفسير الإمام الطبري ص 360.
[8] سورة التحريم 6.