ثْبُتُ بِنَفْسِهِ ………..
قوله: «يَثْبُتُ بنفسه»، أي: لا بُدَّ أن يثبت بنفسه، أو بنعلين فيُمسحُ عليه إِلى خلعهما، وهذا هو الشَّرط الخامس لجواز المسح على الخُفَّين، فإِن كان لا يثبت إِلا بشدِّه فلا يجوزُ المسح عليه. هذا المذهب.فلو فُرِضَ أنَّ رَجُلاً رِجْلُه صغيرةٌ، ولبس خُفَّاً واسعاً لكنَّه ربطه على رجْله بحيث لا يسقط مع المشي، فلا يصحُ المسحُ عليه.
والصَّحيح: أنه يصحُّ، والدَّليلُ على ذلك أن النُّصوصَ الواردة في المسحِ على الخُفَّين مُطلقةٌ، فما دام أنه يَنْتَفِعُ به ويمشي فيه فما المانع؟ ولا دليل على المنع.
وقد لا يجدُ الإِنسانُ إلا هذا الخُفَّ الواسع فيكونُ في منعه من المسح عليه مشقَّة، لكن اليوم ـ الحمد لله ـ كلُّ إنسانٍ يجد ما يريد …..
لكن لو فُرِضَ أنَّ هذا الرَّجُلَ قدمُه صغيرة، وليس عنده إلا هذا الخُفُّ الكبير الواسع وقال: أنا إِذا لَبِسْتُه وشددتُه مشيت، وإن لم أشدُدْهُ سقط عن قدمي، ماذا نقول له؟
نقول: على المذهبِ لا يجوزُ، وعلى القول الرَّاجحِ يجوزُ، ووجه رجحانه أنَّه لا دليل على هذا الشَّرط.
فإن قال قائل: ما هو الدَّليلُ على جواز المسح عليه؟
نقولُ: الدَّليلُ عدم الدَّليلِ، أي عدمُ الدَّليلِ على اشتراط أن يَثْبُتَ بنفسه.
مِنْ خُفٍّ، ………….
قوله: «من خُفٍّ»، من: بيانيَّة لقوله: «طاهر»، فالجارُ والمجرورُ بيان لطاهر، و «من»: إذا كانت بيانيَّة فإِن الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، يعني حال كونه من خُفٍّ.
والخُفُّ: ما يكون من الجلد. والجوارب: ما يكون من غير الجلد كالخرق وشبهها، فيجوز المسح على هذا وعلى هذا.
ودليل المسح على الجوارب القياس على الخُفِّ، إذ لا فرق بينهما في حاجة الرِّجْل إليهما، والعِلَّة فيهما واحدة، فيكون هذا من باب الشُّمول المعنوي، أو بالعموم اللفظي كما في حديث: «أن يمسحوا على العصائب والتَّساخين» .والتَّساخينُ يعمُّ كلَّ ما يُسخِّنُ الرِّجْلَ.
وأمَّا «المُوق» فإنه خُفٌّ قصير يُمْسَحُ عليه، وقد ثبت أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم مسح على الموقين رواه أبو داود.
وجَوْرَبٍ صَفِيقٍ، ………..
قوله: «وجَوْرَبٍ صفيق»، اشترط المؤلِّفُ أن يكون صفيقاً؛ لأنَّه لا بُدَّ أن يكون ساتراً للمفروض على المذهب، وغير الصَّفيق لا يستر.
وَنَحْوِهِمَا، وعلى عِمَامَةٍ لرجلٍ ……….
قوله: «ونحوهما»، أي: مثلهما من كلِّ ما يُلبَسُ على الرِّجْل سواء سُمِّي خُفَّاً، أم جورباً، أم مُوقاً، أم جُرموقاً، أم غير ذلك، فإِنَّه يجوز المسح عليه؛ لأن العِلَّة واحدة …..
قوله: «وعلى عِمَامةٍ لرجُل»، أي ويجوز المسح على عِمَامة الرَّجل، والعِمامةُ: ما يُعمَّمُ به الرَّأس، ويكوَّرُ عليه، وهي معروفةٌ.
والدَّليل على جواز المسح عليها حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «مسح بناصيته، وعلى العِمامة، وعلى خُفّيه» (رواه مسلم).
وقد يُعبَّر عنها بالخِمَار كما في «صحيح مسلم»: «مسح على الخُفَّين والخِمَار» (رواه مسلم)، قال: يعني العِمَامة (رواه أحمد).
ففسَّر الخِمَار بالعِمَامة، ولولا هذا التفسير لقلنا بجواز المسح على «الغُترة»، إِذا كانت مخمِّرة للرَّأس، كما يجوز في خُمُر النِّساء.
وقوله: «لرَجُل»، أي: لا للمرأة، وهو أحد شروط جواز المسح على العِمامة، فلا يجوز للمرأة المسحُ على العِمَامة، لأنَّ لبسها لها حرام لما فيه من التشبُّه بالرِّجَال، وقد لعن رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم المتشبهين من الرِّجال بالنِّساء، والمتشبهات من النِّساء بالرِّجال (رواه البخاري).
ويُشترطُ لها ما يُشترَطُ للخُفِّ من طهارة العين، وأن تكونَ مباحةً، فلا يجوز المسح على عمامةٍ نجسة فيها صورٌ، أو عمامةِ حريرٍ.
وقوله: «لرَجُل»، كلمة رَجُل في الغالب تُطلَقُ على البالغ، وهذا ليس بمراد هنا، بل يجوزُ للصبيِّ أن يلبس عِمامةً ويمسحَ عليها.
وكلمة «ذَكَر» تُطْلَقُ على ما يُقابل الأنثى.
مُحَنَّكَةٍ، أَوْ ذَاتِ ذُؤَابَةٍ ………..
قوله: «محنَّكة أو ذات ذؤابة»، هذا هو الشَّرط الثَّاني لجواز المسح على العِمَامة، فالمحنَّكة هي التي يُدار منها تحت الحنك، وذات الذؤابة هي التي يكون أحد أطرافها متدلِّياً من الخلف، وذات: بمعنى صاحبة.
فاشترط المؤلِّفُ للعِمامة شرطين:
الأول: أن تكون لرَجُل.
الثاني: أن تكون محنَّكة، أو ذات ذؤابة.
مع اشتراط أن تكون مباحة، وطاهرة العين.
والدَّليل على اشتراط التَّحنيك، أو ذات الذؤابة: أنَّ هذا هو الذي جرت العادةُ بلبسه عند العرب .
ولأن المحنَّكة هي التي يَشقُّ نزعها، بخلاف المُكوَّرة بدون تحنيك.
وعارض شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الشرط (مجموع الفتاوى 21/ 186، 187)، وقال: إِنَّه لا دليل على اشتراط أن تكون محنَّكة، أو ذات ذؤابة.
بل النصُّ جاء: «العِمامة» (2) ولم يذكر قيداً آخر، فمتى ثبتت العِمَامة جاز المسحُ عليها.
ولأنَّ الحكمة من المسح على العِمَامة لا تتعيَّنُ في مشقَّة النَّزع، بل قد تكون الحكمةُ أنَّه لو حرَّكها ربما تَنْفَلُّ أكوارُها.
ولأنَّه لو نَزَع العِمَامة، فإِن الغالب أنَّ الرَّأس قد أصابه العرقُ والسُّخونَة فإِذا نزعها، فقد يُصاب بضررٍ بسبب الهواء؛ ولهذا رُخِّصَ له المسح عليها.
ولا يجب أن يَمسحَ ما ظهر من الرَّأس، لكن قالوا: يُسَنَّ أن يمسحَ معها ما ظهر من الرَّأس؛ لأنَّه سيظهر قليلٌ من النَّاصية ومن الخلف غالباً؛ فيجب المسح عليها، ويستحب المسح على ما ظَهَرَ.
وعلى خُمُر نِسَاءٍ ………….
قوله: «وعلى خُمُر نساءٍ»، أي ويجوزُ المسحُ على خُمُرِ نساءٍ.
خُمُرِ: جمع خِمَار، وهو مأخوذٌ من الخُمْرة، وهو ما يُغطَّى به الشيءُ. فخِمَار المرأة: ما تُغطِّي به رأسها.
واختلف العلماء في جواز مسح المرأة على خمارها.
فقال بعضهم: إِنه لا يجزئ (الإنصاف 1/ 387) لأن الله تعالى أمر بمسح الرَّأس في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، وإِذا مَسَحَتْ على الخمار فإِنها لم تمسح على الرَّأس؛ بل مسحت على حائل وهو الخمار فلا يجوز.
وقال آخرون بالجواز، وقاسوا الخِمَار على عِمَامة الرَّجُل، فالخِمَار للمرأة بمنزلة العِمَامة للرَّجُل، والمشقَّة موجودة في كليهما.
وعلى كُلِّ حالٍ إِذا كان هناك مشقَّة إِما لبرودة الجوِّ، أو لمشقَّة النَّزع واللَّفّ مرَّة أخرى، فالتَّسامح في مثل هذا لا بأس به، وإلا فالأوْلى ألاَّ تمسح ولم ترد نصوصٌ صحيحة في هذا الباب (رواه ابن أبي شيبة) .ولو كان الرَّأس ملبَّداً بحنَّاء، أو صمغ، أو عسل، أو نحو ذلك فيجوز المسح؛ لأنه ثبت أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان في إحرامه ملبِّداً رأسَه ،فما وُضع على الرَّأس مِنَ التَّلبيد فهو تابع له.
وهذا يدلُّ على أن طهارة الرَّأس فيها شيء من التَّسهيل.
وعلى هذا؛ فلو لبَّدت المرأة رأسها بالحِنَّاء جاز لها المسحُ عليه، ولا حاجة إلى أن تنقض رأسَها، وتَحُتُّ هذا الحنَّاء.
وكذا لو شدَّت على رأسها حُليًّا وهو ما يُسمّى بالهامة، جاز لها المسحُ عليه؛ لأننا إِذا جوَّزنا المسح على الخمار فهذا من باب أَوْلَى.
وقد يُقال: إن له أصلاً وهو الخاتم، فالرَّسول صلى الله عليه وسلم كان يلبس الخاتم ،ومع ذلك فإِنَّه قد لا يدخل الماءُ بين الخاتم والجلد، فمثل هذه الأشياء قد يُسامِحُ فيها الشَّرع، ولا سيما أن الرَّأس من أصله لا يجب تطهيرُه بالغسل، وإنما يطهرُ بالمسح، فلذلك خُفِّفَتْ طهارتُه بالمسح.
وقوله: «على خُمر نساء»، يفيد أنَّ ذلك شرطٌ، وهو أن يكون الخمارُ على نساء.
مُدَارَةٍ تَحت حُلُوقِهِنَّ …………
قوله: «مُدَارةٍ تحت حُلُوقِهن»، هذا هو الشَّرط الثَّاني، فلا بُدَّ أن تكون مدارةً تحت الحلق، لا مطلقةً مرسلةً؛ لأن هذه لا يشقُّ نزعُها بخلافِ المُدارةِ.
وهل يُشترطُ لها توقيت كتوقيت الخُفِّ؟ فيه خلاف. والمذهب أنَّه يُشترط، وقال بعض العلماء: لا يُشترط، لأنه لم يثبت عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه وقَّتها، ولأنَّ طهارة العُضوِ التي هي عليه أخفُّ من طهارة الرِّجْلِ، فلا يمكن إِلحاقُها بالخُفِّ، فإِذا كان
عليكَ فامسح عليها، ولا توقيتَ فيها، وممن ذهب إلى هذا القول: الشَّوكاني في (نيل الأوطار1/ 205، 206)، وجماعة من أهل العلم (المحلى 2/ 65).
فِي حَدَثٍ أَصْغَرَ، …………
قوله: «في حَدَثٍ أصغر»، الحَدَث: وصفٌ قائمٌ بالبَدَن يمنع من الصَّلاة ونحوها مما تُشترط له الطَّهارة.
وهو قسمان: ….
الأول: أكبر وهو ما أوجب الغسل.
الثاني: أصغر وهو ما أوجب الوُضُوء.
فالعِمامةُ، والخُفُّ، والخِمارُ، إِنما تمسحُ في الحَدَث الأصغر دون الأكبر، والدَّليل على ذلك حديث صفوان بن عَسَّال قال: «أمَرنا رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إِذا كُنَّا سَفْراً ألاَّ ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط، وبول، ونوم» ( رواه أحمد ).
فقوله: «إلا من جنابة»، يعني به الحدَثَ الأكبر.
وقوله: «ولكن من غائط وبول ونوم»، هذا الحدث الأصغر. فلو حصل على الإِنسان جنابة مدَّةَ المسح فإنه لا يمسح، بل يجب عليه الغُسلُ؛ لأنَّ الحدث الأكبر ليس فيه شيء ممسوح، لا أصلي ولا فرعي، إلا الجبيرة كما يأتي.
تنبيه:
تَبيَّنَ مما سبق أن لهذه الممسوحات الثلاثة: الخُفّ والعِمامة والخِمار شروطاً تتفق فيها؛ وشروطاً تختصُّ بكل واحد. فالشُّروط المتفقة هي:
1 ـ أن تكون في الحدث الأصغر.
2 ـ أن يكون الملبوس طاهراً.
3 ـ أن يكون مباحاً.
4 ـ أن يكون لبسها على طهارة.
5 ـ أن يكون المسح في المدَّة المحددة.
هذا ما ذكره المؤلِّفُ وقد عرفت الخلاف في بعضها.
وأما الشُّروط المختلفة فالخفُّ يُشتَرطُ أن يكون ساتراً للمفروض، ولا يُشتَرَطُ ذلك في العِمَامة والخِمَار، والعِمَامة يُشترَطُ أن تكونَ على رَجُلٍ، والخِمَار يُشترَط أن يكون على أنثى، والخُفُّ يجوزُ المسح عليه للذُّكور والإِناث.
وجَبِيرَةٍ، ………..
قوله: «وجبيرة»، أي: ويجوز المسحُ على جبيرةٍ، والجبيرة: فعيلة بمعنى فاعلة، وهي أعوادٌ توضعُ على الكسرِ ثم يُرْبَطُ عليها ليلتئمَ. والآن بدلها الجبسُ.
وأما «جبير» بالنسبة للمكسور فهو بمعنى مفعول أي مجبورٌ.ويُسمَّى الكسيرُ جبيراً من باب التفاؤل، كما يُسمَّى اللَّديغُ سليماً مع أنه لا يُدرى هل يسلم أم لا؟وتُسمَّى الأرضُ التي لا ماء فيها ولا شجر مَفَازة من باب التَّفاؤل.
لَمْ تَتَجَاوزْ قَدْرَ الحَاجَةِ، ولو فِي أكْبَرَ ……..
قوله: «لم تتجاوز قَدْرَ الحاجة»، هذا أحدُ الشُّروطِ، وتتجاوز: أي تتعدَّى.
والحاجة: هي الكسر، وكلُّ ما قَرُبَ منه مما يُحتاجُ إليه في شدِّها.
فإِذا أمكن أن نجعل طول العيدان شبراً، فإِنَّنا لا نجعلُها شبراً وزيادة، لعدم الحاجة إلى هذا الزَّائد.
وكذا إذا احتجنا إلى أربطةٍ غليظة استعملناها، وإلا استعملنا أربطةً دقيقة.
وإِذا كان الكسر في الأصبع واحتجنا أن نربط كلَّ الرَّاحة لتستريحَ اليدُ جاز ذلك لوجود الحاجة.
فإِن تجاوزت قَدْرَ الحاجة، لم يُمسح عليها، لكن إِن أمكن نزعُها بلا ضرر نُزِعَ ما تجاوز قدَر الحاجةِ، فإِنْ لم يُمكنْ فقيل: يمسح على ما كان على قدر الحاجةِ ويتيمَّم عن الزَّائد (الإنصاف1/ 426). والرَّاجح أنه يمسحُ على الجميعِ بلا تيمُّم؛ لأنَّه لما كان يتضرَّرُ بنزع الزَّائدِ صار الجميع بمنزلةِ الجَبيرة.قوله: «ولو في أكبر»، لو: لرفع التَّوهُّمِ، لأنه في العِمَامة.
والخِمارِ والخُفَّين قال: «في حدث أصغر»، ولو لم يقل هنا «ولو في أكبر» لتوهَّمَ متوهِّمٌ أن المسحَ عليها في الحدث الأصغر فقط مع أنَّه يجوز المسح عليها في الحدث الأصغر والأكبر.
وذلك لوجوه:
1 ـ حديث صاحب الشّجَّة ـ بناءً على أنه حديث حسن، ويُحتَجُّ به ـ فإِن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِنمَّا كان يكفيه أن يتيمَّمَ؛ ويعصِبَ على جُرحه خِرقةً ثم يمسح عليها» (رواه أبو داود).
وهذا في الحدث الأكبر، لأن الرَّجل أجنب.
2 ـ أن المسح على الجبيرة من باب الضَّرورة، والضَّرورة لا فرق فيها بين الحدث الأكبر والأصغر، بخلاف المسح على الخفين فهو رخصة.
3 ـ أنَّ هذا العضو الواجبَ غسلُه سُتِرَ بما يسوغُ ستره به شرعاً فجاز المسحُ عليه كالخُفَّين.
4 ـ أنَّ المسحَ وردَ التعبُّد به من حيثُ الجُملةُ، فإذا عجزنا عن الغسل انتقلنا إلى المسح كمرحلة أخرى.
5 ـ أنَّ تطهير محلِّ الجبيرة بالمسح بالماء، أقرب إلى الغسل من العدول إلى التيمُّم، والأحاديث في المسح على الجبيرة وإن كانت ضعيفة إلا أن بعضها يجبر بعضاً.
ثم إِننا يمكن أن نقيسها ولو من وَجْهٍ بعيد على المسح على الخُفَّين، فنقول: إِنَّ هذا عضو مستور بما يجوز لُبْسُه شرعاً فيكون فرضُه المسحُ. وهذا القياسُ وإِن كان فيه شيءٌ من الضَّعف من جهة أن المسح على الخفَّين رخصةٌ ومؤقَّتٌ، والمسحُ على الجبيرةِ عزيمةٌ وغير مُؤقَّت، والمسحُ على الخُفَّين يكون في الحدث الأصغر، وهذا في الأصغر والأكبر، والمسحُ على الخُفَّين يكون على ظاهر القدم، وهذا يكون على جميعها، ولكن مع ما في هذا القياس من النَّظر إِلا أنه قويٌّ من حيث الأصلُ، وهو أنَّه مستورٌ بما يسوغُ ستره به شرعاً فجاز المسح عليه كالخُفَّين، وهذا ما عليه جمهور العلماء.
وقال بعضُ العلماء ـ كابن حزم ـ لا يمسحُ على الجبيرة (المحلى2/ 74)؛ لأنَّ أحاديثها ضعيفةٌ، ولا يَرَى أنه ينجبر بعضها ببعض، ولا يَرَى القياس.
واختلف القائلون بعدم جواز المسح.فقال بعضهم: إِنه يسقطُ الغُسْل إِلى بدل، وهو التيمُّم (نيل الأوطار1/ 324) بأن
يِغْسِلَ أعضاءَ الطَّهارةِ ويتيمَّمَ عن الموضع الذي فيه الجبيرة، لأنَّه عاجزٌ عن استعمال الماء، والعجز عن البعض كالعجز عن الكُلِّ فيتيمَّم.
وقال آخرون: إنه لا يتيمَّمُ، ولا يمسحُ (المحلَّى2/ 74، 75)؛ لأنه عجز عن غسل هذا العضو فسقط كسائر الواجبات، وهذا أضعفُ الأقوال أنه يسقط الغسلُ إلى غير تيمُّمٍ، ولا مسح، لأنَّ العضو موجود ليس بمفقود حتى يسقط فرضه، فإذا عجز عن تطهيره بالماء تطهر ببدله.
ورُبَّما يعمُّه قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، وهذا مريضٌ؛ لأن الكسر أو الجُرحَ نوعٌ من المرض فجاز فيه التيمُّمُ …..
وإذا قُلنا: لا بُدَّ من التيمُّم أو المسح، فإِن المسح أقرب إلى الطَّهارة بالماء، لأنه طهارة بالماء، وذاك طهارة بالتُّراب.
وأيضاً: التيمُّم قد يكون في غير محلِّ الجبيرة؛ لأن التيمُّم في الوجه والكفَّين فقط، والجبيرة قد تكون ـ مثلاً ـ في الذِّراع أو السَّاق.
فأقرب هذه الأقوال: جواز المسح عليها.
وهل يُجمعُ بين المسحِ والتيمُّم؟
قال بعض العلماء: يجبُ الجمعُ بينهما احتياطاً (الإنصاف1/ 425)،
والصَّحيح: أنَّه لا يجب الجمعُ بينهما؛ لأن القائلين بوجوب التيمُّم لا يقولون بوجوب المسح، والقائلين بوجوب المسح لا يقولون بوجوب التيمُّم؛ فالقول بوجوب الجمع بينهما خارج عن القولين.
ولأن إيجاب طهارتين لعضو واحد مخالفٌ للقواعد الشرعيَّة؛ لأنَّنا نقول: يجب تطهير هذا العضو إما بكذا أو بكذا.
أما إيجاب تطهيره بطهارتين فهذا لا نظير له في الشَّرع، ولا يُكلِّف الله عبداً بعبادتين سببُهما واحد.
قال العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ: إن الجُرحَ ونحوَه إِما أن يكون مكشوفاً، أو مستوراً.
فإِن كان مكشوفاً فالواجبُ غسلُه بالماء، فإِن تعذَّر فالمسحُ، فإِن تعذَّر المسحُ فالتيمُّمُ، وهذا على الترتيب.
وإن كان مستوراً بما يسوغُ ستره به؛ فليس فيه إلا المسحُ فقط، فإِن أضره المسحُ مع كونه مستوراً، فيعدل إلى التيمُّم، كما لو كان مكشوفاً، هذا ما ذكره الفقهاء رحمهم الله في هذه المسألة.