تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين رحمه الله… تفسير سورة البقرة … د. ناجي بن وقدان

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (البقرة:65) )فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:66)

التفسير:

.{ 65 } قوله تعالى: { ولقد }: اللام موطئة للقسم؛ وعلى هذا فالجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات، وهي: القسم المقدر، واللام، و “قد” ؛ والتقدير: والله لقد؛ و{ علمتم }: الخطاب لبني إسرائيل؛ أي علمتم عِلم القين، وعرفتم معرفة تامة { الذين اعتدوا منكم } أي تجاوزوا الحدود، وطغوا منكم..

قوله تعالى { في السبت } أي في الحكم الذي حكم الله به عليهم يوم السبت؛ وذلك أن الله حرم عليهم العمل والصيد في ذلك اليوم ليتفرغوا للعبادة؛ فابتلاهم بكثرة الحيتان يوم السبت حتى تكون فوق الماء شُرَّعاً، ثم لا يرونها بعد ذلك؛ فتحيلوا على صيدها بحيلة، حيث وضعوا شباكاً يوم الجمعة، فتدخل فيه الحيتان إذا جاءت يوم السبت، ثم يأخذونها يوم الأحد، ويقولون: نحن لم نصدها يوم السبت، فقال لهم الله تعالى: { كونوا قردة خاسئين } أي ذليلين، فصاروا كذلك..

.{ 66 } قوله تعالى: { فجعلناها } أي صيرناها؛ واختلف المفسرون في مرجع الضمير المفعول به؛ فقيل: يعود على القرية؛ لقوله تعالى في سورة الأعراف: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت} ؛ فيكون مرجع الضمير مفهوماً من السياق؛ وقيل: يعود على العقوبة . أي فجعلنا العقوبة؛ لقوله تعالى: { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين * فجعلناها نكالًا }؛ فيكون المعنى: فجعلنا هذه العقوبة نكالاً..

قوله تعالى: { نكالًا }: النكال، والتنكيل أن يعاقب الإنسان بعقوبة تمنعه من الرجوع إلى ما عوقب عليه..

قوله تعالى: { لما بين يديها وما خلفها }: اختلف في مرجع الضمير “ها” ؛ فقيل: يرجع إلى القرية؛ فيكون: { لما بين يديها }: ما قرب منها من القرى من أمامها؛ و{ ما خلفها }: ما كان من القرى من خلفها؛ لأن أهل القرى علموا بما نزل بها من العقوبة، فكان ذلك نكالاً لهم؛ وقيل: إن المراد بـ “ما بين يديها” : ما يأتي بعدها: “وما خلفها”: ما سبقها؛ ولكن في هذا إشكالاً؛ لأن من سبقها قد مضى، فلا يكون منتفعاً، ولا ناكلاً إلَّا أن يراد بـ”ما بين يديها” من عاصرها، و “ما خلفها” : من يأتي بعدهم، ويكون “الخَلْف” هنا بمعنى الأمام، كما جاء “الوراء” بمعنى الأمام في قوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً} [الكهف: 79] ..

قوله تعالى: { وموعظة للمتقين } أي موضع اتعاظ للذين يتقون الله..

الفوائد:

.1  من فوائد الآيتين: توبيخ اليهود الموجودين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم الإيمان به؛ ووجه ذلك أنهم علموا ما حلّ بأسلافهم من النكال بسبب المخالفة؛ فكان عليهم أن يكون ذلك موعظة لهم يرتدعون به عن معصية الله ورسوله..

.2  ومنها: تحريم الحيل، وأن المتحيل على المحارم لا يخرج عن العدوان؛ لقوله تعالى: { الذين اعتدوا منكم في السبت }؛ بل الحيل على فعل محرم أعظم إثماً من إتيان المحرم على وجه صريح؛ لأنه جمع بين المعصية، والخداع؛ ولهذا كان المنافقون أشد جرماً وعداوة للمؤمنين من الكفار الصرحاء؛ قال أيوب السختياني . رحمه الله . في المتحيلين: “إنهم يخادعون الله كما يخادعون الصبيان؛ ولو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون”؛ وصدق رحمه الله؛ وللحيل مفاسد كثيرة . راجع إن شئت كتاب “إغاثة اللهفان” لابن القيم . رحمه الله . وغيره..

وأنت إذا تأملت حيل اليهود في السبت، وحيلهم في بيع شحوم الميتة وقد حرمت عليهم، ثم أذابوها، وباعوها، وأكلوا ثمنها؛ وتأملت حيل بعض المسلمين اليوم على الربا وغيره. وجدت أن حيل بعض المسلمين اليوم على ما ذُكر أشد حيلة من حيل اليهود . ومع ذلك أحل الله بهم نقمته، وقد نهانا عن ذلك رسول الله  صلى الله عليه وسلم، فقال: “لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل”(1) ؛ فالمتحيل على المحرَّم واقع فيه، ولا تنفعه الحيلة..

.3  ومن فوائد الآيتين: بيان حكمة الله في مناسبة العقوبة للذنب؛ لأن عقوبة هؤلاء المتحيلين أنهم مسخوا قردة خاسئين؛ والذنب الذي فعلوه أنهم فعلوا شيئاً صورته صورة المباح؛ ولكن حقيقته غير مباح؛ فصورة القرد شبيهة بالآدمي، ولكنه ليس بآدمي؛ وهذا؛ لأن الجزاء من جنس العمل؛ ويدل لذلك أيضاً قوله تعالى: {فكلًّا أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 40] ..

.4  ومنها: بيان قدرة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { كونوا قردة خاسئين }؛ فكانوا في لحظة قردة..

.5  ومنها: إثبات القول لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين }..

.6  ومنها: أن الذين مسخوا قردة من هذه القرية هم الذين اعتدوا في السبت؛ وأما الذين نَهَوا عن السوء فقد نجوا؛ وأما الذين سكتوا عن المعتدين، ولم يشاركوهم فقد سكت الله عنهم؛ فنسكت عنهم..

.7  ومنها: أن العقوبات فيها تنكيل لغير العامل؛ لقوله تعالى: { فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها }؛ ولهذا يقص الله علينا من نبأ المكذبين للرسل ما يكون لنا فيه عبرة، كما قال عزّ وجلّ: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [يوسف: 111] ..

.8  ومنها: أن الحدود الشرعية نكال للفاعل أن يعود مرة أخرى إلى هذا الذنب، ولغير الفاعل..

.9  ومنها: أن الذين ينتفعون بمثل هذه المواعظ هم المتقون..

.10  ومنها: أن المواعظ قسمان: كونية، وشرعية؛ فالموعظة هنا كونية قدرية؛ لأن الله أحل بهم العقوبة التي تكون نكالاً لما بين يديها، وما خلفها، وموعظة للمتقين؛ وأما الشرعية فمثل قوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور} [يونس: 57] ؛ والمواعظ الكونية أشد تأثيراً لأصحاب القلوب القاسية؛ أما المواعظ الشرعية فهي أعظم تأثيراً في قلوب العارفين بالله اللينة قلوبهم؛ لأن انتفاع المؤمن بالشرائع أعظم من انتفاعه بالمقدورات..

.11 ومن فوائد الآيتين: أن الذين ينتفعون بالمواعظ هم المتقون؛ وأما غير المتقي فإنه لا ينتفع لا بالمواعظ الكونية، ولا بالمواعظ الشرعية؛ قد ينتفع بالمواعظ الكونية اضطراراً، وإكراهاً؛ وقد لا ينتفع؛ وقد يقول: هذه الأشياء ظواهر كونية طبيعية عادية، كما قال تعالى: {وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم} [الطور: 44] ؛ وقد ينتفع، ويرجع إلى الله تعالى، كما قال تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجَّاهم إلى البر إذا هم يشركون} [العنكبوت: 65] ، وقال تعالى: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجَّاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختَّار كفور} [لقمان: 32] ..

.12 ومن فوائد الآيتين: أن من فوائد التقوى . وما أكثر فوائدها . أن المتقي يتعظ بآيات الله سبحانه وتعالى الكونية، والشرعية..

 

(1) قال ابن القيم: [رواه أبو عبد الله ابن بطة: “حدثنا أحمد بن سلام حدثنا الحسن بن صباح حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمرو”، وهذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي]. أهـ. إغاثة اللهفان 1/513؛ عون المعبود مع شرح ابن القيم 9/340.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *