{إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}…. د. ناجي بن وقدان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . وبعد:

وصف الله ثلة من الأمة بأبشع وصف ناسب حالهم إزاء ما اقترفوه من التعدي على حدود الله ، والتلاعب بنعم الله ،وكفران النعم، التي أسْديت إليهم لاختبار بواطنهم وقلوبهم بما تُكن من الإيمان والخوف وتقدير نعم المولى عز وجل فقال سبحانه (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا )[1]،قال ابن كثير رحمه الله ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) أي أشباههم في ذلك، وقال أيضا: ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) أي في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته ولهذا قال : ( وكان الشيطان لربه كفورا ) أي جحودا لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته بل أقبل على معصيته ومخالفته)[2] ولعمري لقد أخفقوا في الاختبار، وسقطوا في الامتحان، وعرضوا أنفسهم للسؤال عما جنت أيديهم( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)[3] ، قال ابن كثير رحمه الله(أي : ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم ، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك . ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته)[4]، وخَرَجَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ذاتَ يَوْمٍ -أَوْ لَيْلَةٍ- فَإِذا هُوَ بِأَبي بَكْرٍ وعُمَرَ رضي اللَّه عنهما، فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُما هذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالا: الجُوعُ يَا رَسولَ اللَّه، قالَ: وَأَنا، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَخْرَجَني الَّذِي أَخْرَجَكُما، قُوما، فقَاما مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الأَنْصارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ في بيتهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ المَرْأَةُ قالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، فقال لَهَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : أَيْنَ فُلانٌ؟ قالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الماءَ، إِذْ جاءَ الأَنْصَاريُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قالَ: الحَمْدُ للَّه، مَا أَحَدٌ اليَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيافًا مِنِّي، فانْطَلقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وتَمْرٌ ورُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا، وَأَخَذَ المُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: إِيَّاكَ وَالحَلُوبَ، فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذلكَ العِذْقِ وشَرِبُوا، فلمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَووا قَالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لأَبي بكرٍ وعُمَرَ رضي اللَّه عنهما: وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هذَا النَّعيمِ يَوْمَ القِيامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هذا النَّعِيمُ)[5]، إذا كان أبو بكر وعمر خرجا جياعا يتضيران من الجوع ثم رزقهم الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل من اللحم والتمر والماء، وبعد ما شبعوا أخبرهما عليه الصلاة والسلام بأن الله سيسألهما عن هذا النعيم، فكيف بحالنا والكثيرون يتلاعبون بنعم الله، يأكلون من شبع، ويشربون من رواء، وينامون من نومُ ،ثم تُرمى النعم على قارعة الطريق وفي المزابل بالأكوام بعد المناسبات والأعراس وغيرها، فَمَن الأحق بالسؤال ؟؟؟.

الله لا يحب المسرفين :

محبة الله تُسْتجلب بطاعته وامتثال أمره ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته، وليس من الطاعة ولا الكرم تجاوز حدود الله واستجلاب نقمته، كما قال سبحانه(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[6]، قال ابن جرير رحمه (إن الله لا يحب المتعدِّين حدَّه في حلال أو حرام، الغالين فيما أحلّ الله أو حرم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، ولكنه يحبّ أن يحلَّل ما أحل ويحرَّم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به)[7]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم( كل ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة)[8]، وقال عليه الصلاة والسلام(كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا ، في غير مخيلة ولا سرف ، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده)[9]، وقال صلى الله عليه وسلم(ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه ، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان فاعلا لا محالة ، فثلث طعام ، وثلث شراب ، وثلث لنفسه)[10]، وقال ابن عباس رضي الله عنهما(أحل الله الأكل والشرب ، ما لم يكن سرفا أو مخيلة)[11]، وقال بعض السلف(جمع الله الطب كله في نصف آية : ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا )[12]، وكل ما سبق وغيرها كثير تدل على أن التوسط والاعتدال مطلوب ،ليس في الأكل والشرب فحسب، بل في كل الأمور.

ومن صفات المؤمنين الصالحين الاعتدال في الإنفاق والمأكل والمشرب والملبس والمركب، كما قال عز وجل( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا)[13] ، قال ابن كثير رحمه الله(أي : ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة ، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم ، بل عدلا خيارا ، وخير الأمور أوسطها ، لا هذا ولا هذا)[14]، وقال سبحانه(وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)[15]، أي لا تكن بخيلا منوعا لا تعطي أحدا شيئا ، ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك وتخرج أكثر من دخلك فتقعد ملوما محسورا، أي يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك.

إن الاعتدال في السلوك والأخلاق هو المسار والسبيل الذي يجب أن يسير عليه العبد في مأكله ومشربه وملبسه، وهو ميزان الاعتدال بين الإسراف والتقتير وبين البخل والتبذير. ولقد جاء ذكر الاعتدال في المأكل والمشرب في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، وجاء النهي عن الشّبع والإفراط بلفظ الإسراف الّذي يُثقل المعدة ويُثبط صاحبه عن القيام بالعبادات والطاعات ونوافل القربات، ويُفضي إلى البطر والأشر والرياء والسمعةّ والنّوم والكسل، وقد يفضي الأمر إلى التَّحريم بحسب ما يترتَّب عليه من المفاسد، والشبع المعتاد هو أنَّ الثلث للطعام والثلث للشَّراب والثُّلث للنَّفس، كما جاء به الأثر.[16]

ولذلك كان من الحِكَم التي أوصى بها لقمان الحكيم ابنه وهو يعظه (يا بني إذا مُلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة. كما قيل: البطنة تُذهب الفطنة)[17] ، (وقال إبراهيم بن أدهم : من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان)[18] وهذا واقع مجرب فما من أحد أسرف في الطعام والشراب إلا وحصل له كل ذلك ، إضافة إلى جمع من الأمراض تتعقب له وتورثه الحسرة والندم.

 

الواقع المُرْ!!!!!!!!

إن الناظر للأحوال اليوم ليرى ما يندى له الجبين من التلاعب بنعم الله ومن كفران النعم والاستعانة بها على معاصي الله، والتعدي على حرمات الله، وامتهانها في الطرقات وأماكن النفايات، وعدم التعقل في تقدير النعم والإنفاق بقدر الحاجة، خصوصا في المناسبات والأعراس التي لبست لباس الشهرة والرياء والسمعة وطلب الثناء والمديح من الناس. وبقدر ما يُلقى على الناس عبر المنابر والقنوات ووسائل التواصل من مواعظ وتذكير وتحذير العباد من مغبة هذا الأمر، إلا أن كثيرا من الناس لا زالوا في معمعة هذا التلاعب المقيت بنعم الله. وفي المقابل نرى جمعا من الناس أثرت فيهم المواعظ والتذكير، فباتوا قدوات صالحة للمجتمع في الحفاظ على النعم، والتوسط والاعتدال في استعمالها، والقيام بما يجب من شكر المنعم بها جل وعلا والقيام بحقه من الطاعة والعبادة وامتثال أمره، (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ…) قال الشيخ السعدي رحمه الله(يأمر تعالى، جميع الناس أن يذكروا نعمته عليهم، وهذا شامل لذكرها بالقلب اعترافا، وباللسان ثناء، وبالجوارح انقيادا، فإن ذكر نعمه تعالى داع لشكره)[19].

إن عبادة البشر والانقياد معهم في الأخطاء ، وعدم الانقياد للشرع والعقل السليم طريق إلى الهلاك واستجلاب عقوبات الله ونقمته، ومن ذلك رفع النعم وإبدالها بالشدة والفقر وضيق الحال ، وهذا أمر لا يُطيقه من رتعوا في نعم الله سنينا طويلة.

ولذلك وجب على العباد مراجعة النفس والانقياد لشريعة الله والبعد عن كل عمل وسبب يجافي النعم ويأذن بزوالها، فكم رأينا في بلاد كثيرة كانت تنعم بنعم الله وفضله ، فلما أساءوا التصرف بها ، حلت بهم نقم الله تبارك وتعالى كما قال عز وجل( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[20]، قال الشيخ السعدي رحمه الله( وهذه القرية هي مكة المشرفة التي كانت آمنة مطمئنة لا يهاج فيها أحد، وتحترمها الجاهلية الجهلاء حتى إن أحدهم يجد قاتل أبيه وأخيه، فلا يهيجه مع شدة الحمية فيهم، والنعرة العربية فحصل لها من الأمن التام ما لم يحصل لسواها وكذلك الرزق الواسع، كانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر، ولكن يسر الله لها الرزق يأتيها من كل مكان، فجاءهم رسول منهم يعرفون أمانته وصدقه، يدعوهم إلى أكمل الأمور، وينهاهم عن الأمور السيئة، فكذبوه وكفروا بنعمة الله عليهم، فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه، وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد، والخوف الذي هو ضد الأمن، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم ( وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )[21] ، وسُنن الله لا تحابي أحدا ولا بلدا أيا كان إذا خالف شرعه.

الإسراف والتبذير ضرب من الفساد في الأرض!!!!!

لا يشك عاقل في أن التلاعب بنعم الله، والاستعانة بها على معاصي الله، واستعمالها بطريقة الإسراف والتبذير، وصرفها في ما يُغضب الله، يُعَد من الفساد في الأرض، وتَعُم نتائجه السيئة وعواقبه الوخيمة جميع الخليقة وتأخذ بالأخضر واليابس، وقد نهى الله عن الفساد في الأرض بكل صوره، وأنه تعالى قد نزع المفسدين من محبته وقُربه، كما قال تعالى(وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[22] ، وقال عز وجل(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا)[23].

والنهي عن الفساد في الأرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما للفساد بجميع صوره من النتائج السيئة على الفرد والمجتمع، بل على الأمة ومدخراتها، كما قال عز وجل( (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[24]، قال ابن كثير رحمه الله(فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض، ولهذا أمر تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وفي الحديث ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب)[25].

أنواع الإسراف!!!!!

قد يظن البعض أن الإسراف منحصر في المأكل والمشرب والملبس فحسب، وهذ ظن قاصر، فالإسراف متعد إلى جميع نواحي الحياة، ولننظر إلى العبادات والطاعات التي أُمِرنا بها ، نُهِينا فيها عن الإسراف، فمثلا فرض الوضوء الذي هو مفتاح الصلاة ومحط قبولها، نهينا عن التعدي والإسراف فيه فوق ثلاث، فعن عبد الله بن مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطُّهُورِ وَالدُّعَاءِ)[26] ،و عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ بسعدٍ وهو يتوضَّأ، فقال(مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟!) قال: أفي الوضوء سرف؟! قال: «نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ)[27]، ونهى الشرع عن مجاوزة الحد في العبادات والخروج إلى الغلو والتنطع وإهمال الحقوق ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثةُ رهْطٍ إلى بيوت أزواج النبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يسألون عن عبادة النبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فلما أُخْبِروا كأنَّهم تَقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؟ قال أحدُهم: أما أنا فإنِّي أصلِّي الليل أبدًا، وقال آخَرُ: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النِّساء، فلا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إليهم، فقال(أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أمَا والله إنِّي لأَخْشاكم لله، وأَتْقاكم له، لكنِّي أصوم وأُفْطِر، وأصلِّي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عن سنَّتِي فليس منِّي)[28] ، وجاء في سبل السلام للصنعاني( وفي الحديث دليلٌ على أنَّ المشروع هو الاقتصاد في العبادات دون الانْهِماك والإضرار بالنَّفس، وهجر المألوفات كلِّها، وأنَّ هذه الْمِلَّة المُحمَّدية مَبْنيَّة شريعتُها على الاقتصاد والتسهيل والتيسير وعدم التعسير( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )[29].

وفي القصاص أيضا نهى الله عن الإسراف في الاقتصاص وأخذ الحق ، كما قال عز وجل (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا)[30] ، قال ابن كثير رحمه الله(أي فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل)[31]،هذا في مجال العبادات والقربات والاقتصاص ، فكيف بغيرها من جوانب الحياة؟

والإسراف يدخل أيضا في المسكن والمبالغة في تشييده، وفي فضول الكلام أو الصمت، وفي المدح أو الذم، وفي السهر والنوم، وفي المناسبات والأفراح، والإسراف في إهدار الطاقات، وإضاعة الأوقات، وهي من أغلى ما نملكه في هذه الحياة، والإسراف في نقد الآخرين، أو تزكية الذات، وإسرافٌ حسي، وإسراف معنوي، وظاهر وخفي، والإسراف في المعاصي والآثام، إلى غير ذلك من مظاهر الإسراف المختلفة.

أسباب الإسراف :

والأسباب التي تقود الناس إلى الإسراف كثيرةٌ، ومن ذلك:

أولاً :وجود خلل في التربية الإيمانية، فلو كان المرء يخشى الله حقًّا، لاجتنب كثيرًا من الأمور المُحرَّمة، إذ التقوى وصلابة الإيمان يعينان على تجنب كل ما يخالف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثانياً : مسايرة ومجاراة الآخرين، وهذه من المصائب التي أوقعت الكثيرين في البلايا، بقولهم لا بد أن نكون مثل فلان وفلان ليس بأحسن منا وهلم جرا، وخصوصا في المناسبات وكماليات الحياة ومظاهرها، فالذي ينبغي للمؤمن أن يحسن اعتقاداته وأقواله وأعماله ، سواء أحسن الناس أم أساؤوا ،قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله (الواجب على المسلم أن يعتز بدينه ويفتخر به ، وأن يقتصر على ما حده الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الدين القيم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده ، فلا يزيد فيه ولا ينقص منه ، والذي ينبغي للمسلم أيضا ألا يكون إمَّعَةً يتبع كلَّ ناعق ، بل ينبغي أن يُكَوِّن شخصيته بمقتضى شريعة الله تعالى حتى يكون متبوعا لا تابعا ، وحتى يكون أسوة لا متأسيا).

ثالثاً :حبُّ الرياء والسُّمْعة والمدح والثناء:

وهذا من الشر والبلاء الذي منيت به كثير من النفوس والقلوب، وهي بلا شك محبطة للنية والعمل.

رابعاً : معاشرة المسرفين وصحبتهم:

التأثر بالصاحب أمر مقرر شرعا، فصاحب يقود إلى الخير ، وآخر إلى الشر، كحامل المسك ونافخ الكير، فالمرء على دين خليله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال( الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)[32]، فصحبة المسرفين المتلاعبين بنعم الله تقود إلى مشابهتهم ومجاراتهم.

خامساً : قسوة القلب: وقسوة القلب وعدم انصياعه لشرع الله توقع في التبذير والإسراف لانتفائه من التقوى والخوف، فقاسي القلب لا يبالي بما يفعل، ويستوي عنده المنكر والمعروف، وهو بعيد عن الله.

سادساً : العيش في بيئةٍ تنتشر فيها مظاهر السَّرَفْ:

فالقلب الخالي من التقوى والإيمان والالتصاق بكتاب الله عز وجل، سيتأثر ولا محالة بالبيئة التي يعيش أهلها السرف والترف، فلا يسلم من التأثر بهم والسير في ركابهم، والعاقل يحرص على انتقاء البيئة التي تُرَاعى فيها حرمات الله وحدوده.

وخلاصة القول ، أن الإسراف والتبذير لا يأتيان بخير بل فيهما إهدار للطاقات والنعم والمدخرات ، وبهما يحل غضب الله على العباد، وبسببهما تُرْفع النعم، ويحل البلاء، فواجب على العباد أن يتقوا الله ويقدروا نعمه، ويأخذوا من الأقوام عظة وعبرة، فليس بين العباد وبين الله نسب ولا رحم إلا بطاعته واتباع شرعه، وسنن الله لا تحابي أحدا من خلقه، والعاقل من يعتبر بغيره، ويحتاط لأمره، ويعمل لآخرته، ويُغَلب محبة الله ورسوله على محبة غيره، فإن النجاة يوم القيامة لمن عمل بدين الله وشرعه، وغلب محبة ربه على هواه ونفسه، (لا يُؤمِنُ أحدُكُم حتَّى يكونَ هواهُ تَبَعًا لما جئتُ بهِ)[33]، وقد قامت حجة الله على العباد ، وقد وصل النذير البشير، فلم يعد لأحد على الله حجة بعد الرسل. والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

[1] سورة الإسراء 26-27.

[2] تفسير ابن كثير ص 284.

[3] سورة التكاثر 8.

[4] تفسير ابن كثير ص 600.

[5] رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..

[6] سورة الأعراف 31.

[7] تفسير الطبري ص 154.

[8] رواه البخاري.

[9] رواه أحمد.

[10] رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة.

[11] فتح الباري.

[12] تفسير ابن كثير 154.

[13] سورة الفرقان 67.

[14] تفسير ابن كثير ص 365.

[15] سورة الإسراء 29.

[16] رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه.

[17] تزكية النفوس ص 32.

[18] تزكية النفوس ص 32.

[19] تفسير السعدي ص 434.

[20] سورة النحل 112.

[21] تفسير السعدي ص 280.

[22] سورة القصص 77.

[23] سورة الأعراف 56.

[24] سورة هود 115-116.

[25] تفسير ابن كثير ص 234.

[26] رواه أبو داود.

[27] رواه أحمد وابن ماجه بسند حسن وله شواهد.

[28] رواه البخاري.

[29] سبل السلام للصنعاني 4/427.

[30] سورة الإسراء 33.

[31] تفسير ابن كثير ص 285.

[32] رواه أبو داود والترمذي.

[33] قال النووي : حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح، ورواه البيهقي في السسن الكبرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *