الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
فمع دخول فصل الشتاء يشتد البرد، ويَصْعُب تحمله عند الكثير من الناس، وتدعوا الحاجة إلى التدفئة، للبدن عامة، ولأعضاء الوضوء خاصة( القدمان)، ولذلك لما دخل البرد زمن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تعاهدهم وأوصاهم بقوله(إن الشتاء قد حضر، وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا (وهي ما يلي البدن) ودثارًا (الملابس الخارجية)، فإن البرد عدو سريع دخوله بعيد خروجه)[1] ، وفي هذا دلالة على أن المسلم يتأهب للبرد بما يجد ليكون له حماية وعونا له على تأدية طاعة الله.
ولقد يَسَّر الله على عباده في مثل هذه المواسم وما جعل عليهم في الطاعة والعبادة من حرج أو مشقة(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ)[2]، أي ما جعل على عباده في الدين من ضيق، بل وسع عليهم ويسر ورَخَّص لهم، فشرع لهم المسح على الخفين وجعل لذلك أحكاماً وشروطاً لا يتم إلا بها، حال الإقامة وحال السفر. لذلك ينبغي للمسلم أن يُلِم بتلك الأحكام ليكون على علم وبصيرة من أمره، وليعبد الله على علم وفقه بما شرع.
-تعريف المسح على الخفين:
المسح : هو إمرارُ اليدِ المبتلَّةِ بلا تسييلٍ.[3]
الخفين : هو ما يُلبَس في الرِّجلِ مِن جلدٍ وجوارب ونحوها.[4]
– حكم المسح على الخفين والحِكمة من مشروعيته :
حكمه جائز وسُنة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وطبقها أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، وسار على ذلك المسلمون وهو قائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والحِكمة من المسح على الخفين هي التيسيرُ والتَّخفيفُ عن المكلَّفينَ، الذين يشقُّ عليهم نزْعُ الخُفِّ وغَسلُ الرِّجلين، خاصَّةً في أوقاتِ الشِّتاء والبَردِ الشَّديد، وفي السَّفَر.[5]
– شروط المسح على الخفين :
-الشرط الأول : لبس الخفاف على طهارة بالماء، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه صب على النبي صلى الله عليه وسلم وضوءه، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم، فأهوى المغيرة إلى خفيه لينزعهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم(دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين) فمسح عليهما.[6] فقوله صلى الله عليه وسلم(فإني أدخلتهما طاهرتين) تعليلٌ لقوله(دعهما)، قال ابن عثيمين رحمه الله(والحكم يدور مع علته وجوباً وعدماً، فدل هذا على أنه إذا لبسهما الإنسان على طهارة جاز له المسح، وإذا لبسهما على غير طهارة فإنه لا يمسح)[7].
– الشرط الثاني : أن يكون المسح في الحدث الأصغر دون الحدث الأكبر، فعن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً ألا ننزع خِفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم) فقوله(إلا من جنابة) يدل على أنه لا يجوز مسحهما مع الجنابة، بل يجب نزعهما والاغتسال الكامل.
-الشرط الثالث : أن يكون المسح في المدة المحددة شرعاً، وهي: للمقيم يومٌ وليلةٌ، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وبالتوقيت الحالي(24 ساعة للمقيم) و ( 72 ساعة للمسافر) تبتدئ مدة المسح من أول مرة مسح بعد الحَدَث، وليس من اللِّبْس بعد الوضوء، فإذا قدر أن الرجل توضأ لصلاة الفجر، ثم بقي على طهارته، وانتقض وضوءُهُ قبل الظُّهْر بساعتين، ثم توضأ لصلاة الظهر ومسح، فإن ابتداء المدة يكون من مسحه حين مسح لصلاة الظهر، فَيُكْمل المدة على هذا المسح يوماً وليلة إن كان مقيماً، وثلاثة أيام بلياليهن إن كان مسافراً، وإذا انتهت المدة المقررة شرعا وهو باق على طهارته بعد آخر مسحة فحانت الصلاة وصلى بطهارته فصلاته صحيحة ولا تنتقض طهارته بانتهاء المدة لعدم وجود الدليل، أما إذا انتقضت طهارته بعد انتهاء المدة فإنه يتوضأ من جديد ويستأنف المدة من جديد ، قال ابن عثيمين رحمه الله( والأصل بقاء الطهارة حتى يقوم دليل على انتقاضها، لأن القاعدة الشرعية أن ما ثبت بدليل لا يرتفع إلا بدليل، ولم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من تمت مدته انتقضت طهارته، فإذا لم يرد ذلك وجب أن يبقى الوضوء على حاله، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما وَقَّت المسح، ولم يُوَقِّت الطهارة، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم وَقَّت الطاهرة لكانت الطهارة تنتقض بتمام اليوم والليلة، وهو إنما وَقَّت المسح)[8].
-الشرط الرابع : أن تكون الخفاف والجوارب مباحة غير مغصوبة ولا مسروقة ولا مدبجة بالحرير للرجال.
-الشرط الخامس : أن تكون الخفاف والجوارب طاهرة فلا يجوز المسح على نجس أو ما به نجاسة أو ما صُنع من جلد كلب أو خنزير.
-كيفية المسح على الخفين : عند البيهقي ، عن المغيرة رضي الله عنه أنه كان يمسح باليد اليمنى على الرِّجل اليمنى مفرجة الأصابع ، واليسرى على اليسرى ،هذه هي الطريقة الصحيحة ، ويبدأ من أول أصابع القدم حتى أول الساق مرة واحدة . ولو اقتصر بالمسح على الخفين بيدٍ واحدة جاز ذلك ، ولا يجوز المسح على باطن القدم مما يلي الأرض، بل أعلى القدم فقط.
مسائل شائعة حول المسح على الخفين :
– توضأ ثم لبس الجوارب على طهارة، ثم أحدث، وبعد ما أحدث خلعهما لأمر من الأمور، هل يلبسهما والحال هذه؟
الجواب: لا يجوز لبسهما بعد خلعهما على حدث، بل يعيد الوضوء ثم يلبسهما ويستأنف المدة.
– توضأ، ثم لبس الجورب، ثم أراد مزيد تدفئة فلبس عليه آخر فهل يمسح عليهما؟
الجواب: فيه تفصيل : إن كان لبس الجورب الثاني على طهارة الجورب الأول بالوضوء فيمسح عليهما جميعا عند المسح، وإن كان لبس الثاني بعد انتقاض الوضوء من طهارة الأول فإنه يمسح على الأول فقط لا الثاني.
– انتهت مدة المسح ولم يجد ماء؟
الجواب : يعدل إلى التيمم.
– هل تزول طهارة المسح بخلع الجوارب؟
الجواب : إذا كان خلعه لها وهو على طهارته الأولى التي لبس عليها الشراب فطهارته باقية، ولا يضره خلعها، أما إن كان خلعه للشراب بعد ما أحدث فإنه يبطل الوضوء، وعليه أن يعيد الوضوء، لأن حكم طهارة المسح قد زال بخلع الشراب.
– ما حكم التلفظ بالنية عند المسح على الخفين أو الجوربين؟
الجواب : لا علاقة للنية بالمسح على الخفين والحكم متعلق بوجود السبب، فمتى وجدت الخفان والجوارب قام الحكم.
– حكم المسح على الجبس؟
الجواب : الجبس كالجبيرة، مثل الجبيرة يُمسح عليه حتى يُزَال، إذا كان على القدم، أما إذا كان على الساق، فلا يُمسح عليه، وإذا كان الجبس بعضه على القدمين، أو على أحد القدمين، فإنه يُمسح عليه عند الوضوء مثل لو كانت جبيرة من خرقة، أو غيرها على القدم، يُمسح عليها حتى تزال.
والمقصود ، أن المسح على الخفين عبادة وقربة إلى الله ، ورخصة من الله مَنَّ بها على عباده، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللهَ يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه ، كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائمُه)[9]، فلا ينبغي للعبد أن يأنف عن قَبولِ ما أباحَه الشرعُ ووَسَّع فيه ، ويستنكف عن أن يترخص في خاصة نفسه ، حين الحاجة إلى مثل هذه الرخص ، بحدودها الشرعية ، فهذا ممَّا يكرَهه الله عزَّ وجلَّ ، كما يكرَه أن يتعدَّى الإنسانُ حدودَ الله فيأتي المعصية ، وفي هذا تأكيدٌ لمشروعية الرخص ، وحث على قَبولها والتيسير بها ، وعدم التعنت والإشقاق بتركها ،
قال الشوكاني رحمه الله وفيه (أي: في الحديث) أنَّ الله يحب إتيان ما شرعَه من الرُّخَص ، وفي تشبيه تلك المحبة بكراهته لإتيان المعصية : دليلٌ على أنَّ في تَرْكِ إتيانِ الرُّخصة ، ترك طاعة ، كالترك للطاعة الحاصل بإتيان المعصية)[10] .
وقد ثبتَ في الحديث ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ ( قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا )[11] ، فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ ؟ فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ( صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ )[12].
وليس المقصود بأخذ الرُّخَص ،تتبع رُخَص المذاهب الفقهيَّة وأقوال العلماء ، واختيار الأسهل منها ، بل المراد الرُّخَص الشرعيَّة التي جاء الدليلُ الشرعيّ بالترخيص فيها. والمسلم يحرص على دينه وطاعة ربه ويسأل عما يُشْكل عليه من أمور دينه ، كما هو الحال في أمور دنياه، حتى يكون على بصيرة من أمره. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] لطائف المعارف ص 401.
[2] سورة الحج 78.
[3] الفتاوى الكبرى 1/366.
[4] الدر المختار 1/281.
[5] المغني لابن قدامة 1/201.
[6] رواه البخاري ومسلم.
[7] الموقع الرسمي.
[8] الشرح الممتع على زاد المستقنع 1/251-253.
[9] رواه الطبراني وابن حبان.
[10] نيل الأوطار 3/244.
[11] سورة النساء 101.
[12] رواه مسلم 686.