{وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}…… د. ناجي بن وقدان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

من البلايا والرزايا التي مُنيت بها الأمة عامة والمجتمع خاصة كتمان الشهادة والتحفظ على كلمة الحق في مواطن نُصرة، فضاعت بذلك حقوق كثيرة في المال والعرض والنفس.

ولقد حرَّم الله كتمان الشهادة متى ما دُعِي الإنسان ليدلي بها لحفظ حق امرئٍ مسلم ، كما قال عز وجل (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[1]، قال البَغَويُّ رحمه الله (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ إذا دُعيتُم إلى إقامَتِها، نَهى عَن كِتمانِ الشَّهادةِ وأوعَدَ عليه، فقال: وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، أي: فاجِرٌ قَلبُه، قيلَ: ما أوعَدَ على شَيءٍ كإيعادِه على كتمانِ الشَّهادةِ، قال: فإنَّه آثِمٌ قَلبُه، وأرادَ به مَسخَ القَلبِ. نَعوذُ باللهِ من ذلك، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ من بَيانِ الشَّهادةِ وكِتْمانِها عَلِيمٌ)[2]، ومن بلاغة القول في الآية أن جعل الإثم في القلب لأنه محل كتمان الشهادة، ولم يقل آثم فقط لتعود على الشخص الكاتم وإنما على قلبه الذي كتم فيه الشهادة، وهذا من إعجاز القرآن الكريم.

وقال عز وجل (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[3]، قال الحسن البصري رحمه الله( كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم : إن الدين ( عند الله ) الإسلام ، وإن محمدا رسول الله ، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية ، فشهد الله بذلك ، وأقروا به على أنفسهم لله ، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك)[4]، وقال القرطبي رحمه الله(والمعنى : لا أحد أظلم ،ممن كتم شهادة عنده من الله)[5]، فكاتم الشهادة قد بلغ في الظلم غايته، وانتهى في الظلم نهايته، فهو أظلم الكاتمين.

وقال سبحانه(وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[6]، أي: ليخفون الحق، ولا يظهرونه، وهم يعلمون أنه حق.

وأمر عز وجل بأداء الشهادة على حقها وعلى وجهها الصحيح (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ )[7]، ولو كانت على النفس أو الوالدين والأقربين( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)[8]، وتوعَّد جل وعلا مَن يكتم الشهادة بالعذاب الأليم فقال سبحانه(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)[9]، وهذا يتناول كتمان العلم عن الناس وهو من كتمان الشهادة ، قال الشيخ السعدي رحمه الله(هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب, وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته, فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله { مِنَ الْبَيِّنَاتِ } الدالات على الحق المظهرات له، { وَالْهُدَى } وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم, ويتبين به طريق أهل النعيم, من طريق أهل الجحيم، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم, بأن يبينوا للناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه)[10]، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من كتمانها، فعَن عَبدِ الله بن مَسعودٍ رَضِيَ الله عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال(إنَّ بين يَدَيِ الساعةِ تَسليمَ الخاصَّةِ، وفُشُوَّ التِّجارةِ حَتَّى تُعِينَ الْمَرأةُ زَوجَها على التِّجارةِ، وقَطْعَ الأرحامِ، وشَهادةَ الزُّورِ، وكِتمانَ شَهادةِ الحَقِّ، وظُهورَ القَلَمِ)[11]، وما جاء في ثنايا الحديث من علامات الساعة قد تحقق، فالسلام في هذه الأزمنة محصور على المعرفة والمصلحة، فأخرجوا السلام عن طور العبادة والأجر إلى محيط المعرفة والمصلحة، فَيُسلم على فلان لأنه يعرفه أو له عنده مصلحة دنيوية، وهذا مشاهد بين المسلمين اليوم مع الأسف، وكذلك فشت التجارة بشكل كبير ودخل النساء فيها مع الرجال بشكل جلي في هذا الزمان، وكذلك قطع الأرحام وكثرة شهداء الزور المتقوتين على الزور، وظهور القلم بكثرة الكتابة عبر الوسائل المختلفة، والشاهد من الحديث كتمان الشهادة، وهذه موجودة ومتفشية بين الناس وتأخذ صِبغات ومنعطفات مختلفة.

ويدخل في كتمان الشهادة ما يشاهده المرء على وجه الحقيقة في الشارع أو الأسواق وغيرها من الأماكن من حوادث وشجارات وخلافات ، أن يشهد بما رأى وسمع حقيقة إذا دُعي للإدلاء بشهادته، فإن امتنع فهو كاتم لها، ومضيع لحقوق الآخرين.

وكذلك يدخل فيها كتمان العلم فيما لو سُئِل ، فيجب عليه إن كان يعلم عدم كتمانه، فإن فعل فقد كتم شهادة عنده من الله. ويدخل في ذلك السؤال عن مكان ما أو اتجاه أو فلان من الناس عن استقامته وأخلاقه، فيجب عليه الإدلاء بما يعرف على وجه الحقيقة بلا تغيير ولا تحريف.

والمقصود ، أن آداء الشهادة كما هي وكما أمر الله واجب على كل مسلم، وكتمانها فيه خطر عظيم وضياع لحقوق المظلومين، ومما يؤسف له عند بعض المسلمين اليوم التهرب من آداء الشهادة إذا دعوا إليها، بحجة الخوف من فلان أو عدم إغضاب فلان، أو المجاملة في الحق لصالح فلان، أو اختزال الشهادة وتحريفها لإرضاء فلان…إلى غير ذلك مما تضيع به الحقوق، ويشيع به الظلم، وهذا بلا شك دليل على ضعف الإيمان والتقوى والوازع الديني، وقلة الخوف من الله تعالى، والأدهى والأمَرُّ من ذلك أن يبيع المسلم ذمته وأمانته ويكتم شهادة الله مقابل عَرَضٍ من الدنيا .

فليحرص المسلم على تقديم رضاء الله تعالى على رضاء غيره، وليحذر من دعوة مظلوم ضاع حقه تناله ولو بعد حين، ولا يكتم ما ائتمنه الله عليه من آداء الشهادة، فالمظلوم يجأر إلى الله وعين الله لا تنام( ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم الصَّائمُ حتَّى يُفطرَ والإمامُ العادلُ ودعْوةُ المظلومِ تُحمَلُ علَى الغَمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ ويقولُ اللهُ تباركَ وتعالى وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ)[12] .

وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال، وأعاننا جميعا على طاعته والبعد عن مخالفته ومعصيته. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

[1] سورة البقرة 283.

[2] تفسير البغوي 1/397.

[3] سورة البقرة 140.

[4] تفسير ابن كثير ص 21.

[5] تفسير القرطبي ص 21.

[6] سورة البقرة 146.

[7] سورة الطلاق 2.

[8] سورة النساء 135.

 

[9] سورة البقرة 159.

[10] تفسير السعدي ص 24.

[11] رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني.

[12] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه بسند حسن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *