قصة يونس عليه السلام مواعظ وعِبَر …. د. ناجي بن وقدان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد :

من هو نبي الله يونس عليه السلام؟

هو يونس بن متى ذو النون نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو من سبط لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.

قصته عليه السلام :

قصته شهيرة جدا جعلته يتفرد بها عن قصص غيره من الأنبياء، وتَفَرُده عليه السلام بقوم يختلفون عن بقية الأقوام، إذ كل قوم من السابقين تحدى نبيهم بحصول العذاب(قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )[1]، فكانت تأتي علامات وأمارات العذاب ومع ذلك لا ينتهون(هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)[2]، وأما يونس فكان قومه خلاف كل الأقوام، فحين رأوا بوادر النقمة آبوا وتابوا إلى ربهم وإلى طريق الحق، فنجاهم الله من العذاب، (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[3].

وقد دعاهم يونس عليه السلام إلى التوحيد والعقيدة الصحيحة، ولكنهم كذبوه وعاندوه وتمردوا عليه وأصروا على الكفر، فلما طال ذلك عليه ولم تنفع معهم نصيحة ولا تخويف من العذاب، خرج من بين أظهرهم مغاضباً ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث، فتعجل ولم يصبر عليهم لعل الله يهديهم، وخرج من قريتهم ، خشية أن يصيبه ما يصيبهم.

قال ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير  وقتادة  وغير واحد من السلف والخلف رضي الله عنهم( فلما خرج يونس من بين ظهرانيهم وتحققوا نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم، فلبسوا المسوح ( ملابس من شعر غليظة ) وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجُّوا إلى الله عز وجل وصرخوا وتضرعوا إليه وتمسكنوا لديه، وبكى الرجال والنساء والبنون والبنات والأمهات، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي، فرغت ( الرغاء صوت الإبل ) الإبل وفصلانها  وخارت البقر وأولادها وثغت الأغنام وحملانها، فكانت ساعة عظيمة هائلة، فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته  عنهم العذابَ الذي كان قد اتصل بهم بسببه، ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم، ولهذا قال تعالى( فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ) أي: هلَّا وُجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها، وهذا يدل على الامتناع وعدم وجود مثل هذه القرية من قبل، ( إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ )، وهذه مَيزة لقوم يونس أنهم آمنوا أجمعين، لكن يونس لم يدرِ بهم، بل غادرهم وهام على وجهه تاركهم لمصيرهم، (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ )[4] ، قال أهل العلم كانوا مائة ألف لا محالة ، ولكنهم اختلفوا في مقدار الزيادة  فقيل عشرة آلاف، وقيل عشرين ألفا، وقيل ثلاثين ألفا وقيل غير ذلك.

والمقصود أنه ، عليه السلام ، لما ذهب مغاضبا بسبب قومه ، ركب سفينة في البحر ، فلجت بهم واضطربت ، وماجت بهم وثقلت بما فيها ، وكادوا يغرقون ، على ما ذكره المفسرون ، قالوا : فاشتوروا فيما بينهم على أن يقترعوا ، فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ، ليتخففوا منه ، فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله يونس ، فلم يسمحوا به ، فأعادوها ثانية فوقعت عليه أيضا ، فشمر ليخلع ثيابه ويلقي بنفسه ، فأبوا عليه ذلك ، ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضا، لما يريده الله به من الأمر العظيم ، وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ، ألقي في البحر ، وبعث الله ، عز وجل ، حوتا عظيما من البحر الأخضر فالتقمه ، وأمره الله تعالى ، أن لا تأكل له لحما ، ولا تهشم له عظما ، فليس لك برزق ، فأخذه فطاف به البحار كلها ، وقيل : إنه ابتلع ذلك الحوت حوت آخر أكبر منه ، قالوا : ولما استقر في جوف الحوت ، حسب أنه قد مات ، فحرك جوارحه فتحركت ، فإذا هو حي ، فخر لله ساجدا ، وقال : يا رب ، اتخذت لك مسجدا لم يعبدك أحد في مثله.[5]

ولما كان في بطن الحوت وسمع تسبيح كل شيء حوله، كان ما كان منه من التسبيح والذكر والدعاء والندم على ما صار منه(فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[6]، فسمعه الله من فوق عرشه، واستجاب له ونجاه وأمر الحوت أن يلفظه ويطرحه في العراء، وهو في ضعف وسقم:

وأنت بفضل منك نجيت يونسا*وقد بات في أضعاف حوت لياليا

وأنبت الله عليه اليقطينة (شجرة الدُّبَاء أو القرع)،يأكل من ثمره وينتفع به:

فأنبت يقطينا عليه برحمة *** من الله لولا الله ألفي ضاحيا

قال بعض العلماء : في إنبات القرع عليه حكم جمة ، منها أن ورقه في غاية النعومة ، وكثير وظليل ، ولا يقربه ذباب ، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره ، نيئاً ومطبوخاً ، وبقشره وببزره أيضا ، وفيه نفع كثير ، وتقوية للدماغ ، وغير ذلك.

وقد قيل إنه لبث في بطن الحوت يوما وقيل سبعة أيام وقيل أربعين يوما وقيل غير ذلك.

وبعد ما أنجاه الله وأخرجه من بطن الحوت، أرسله إلى قومه من أهل نينوى[7] للمرة الثانية، وهذا واضح من سياق الآيات( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) قال ابن عباس رضي الله عنهما(إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت)[8]، وقيل أُرْسل إليهم بداية فلم يستجيبوا، ثم أرسل إليهم مرة أخرى بعد ما خرج من بطن الحوت، وهذا الذي يدل عليه سياق الآيات ولا مانع من ذلك، قال ابن كثير رحمه الله(ولا مانع أن يكون الذين أرسل إليهم أولا أمر بالعود إليهم بعد خروجه من الحوت ، فصدقوه كلهم وآمنوا به)[9].

ولقد أثنى نبينا صلى الله عليه وسلم على يونس بن متى عليه السلام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)[10]، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم يونس عندما ذهب للدعوة في الطائف وآذاه يومذاك أهلها، فلجأ إلى حائط فجاءه عداس بقطف عنب ليأكله بناءً على طلب سيديه ابني ربيعة عتبة وشيبة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم(مِن أي البلاد أنت؟)، فقال: مِن نِينوى، فقال عليه الصلاة والسلام(مِن قرية الرجل الصالح يونس بن متى)[11].

 وبعد ما شفى الله يونس عليه السلام مما أصابه من الحوت بسبب إقامته في بطنه، أرسله الله مجددًا إلى قومه الذين غادرهم وهم مسلمون على أحسن حال، فأقام بينهم نبيًّا مرشدًا وموجهًا فترة من الزمن كما قال تعالى( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)[12]، ومعنى الاجتباء هنا: النبوة، فقد عاد إلى قومه نبيًّا، واستمرت دعوته فترة طويلة من الزمن إلى أن توفاه الله، ثم أصاب نِينوى ما يصيب الأممَ مِن تغيرات على مدى الزمن[13].

الدُروس والعِبَر :

الدرس الأول : عِظم الابتلاء طريق الاصطفاء :

من الأمور المُسَلَّم بها، أن الأنبياء والرسل هم أشد الناس بلاءً، ثم الأمثل فالأمثل من الخَلق، يبتلى المرء على قدر إيمانه، فكلما كان في إيمانه صلابة زِيْد في بلائه، (سُئِلَ رسولُ اللهِ أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً قال الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثلُ يُبتَلى الناسُ على قدرِ دِينِهم فمن ثَخنَ دِينُه اشتدَّ بلاؤه ومن ضعُف دِينُه ضعُفَ بلاؤه وإنَّ الرجلَ لَيصيبُه البلاءُ حتى يمشيَ في الناسِ ما عليه خطيئةٌ)[14]، فيونس عليه السلام تعرض لمحنة عظيمة وبلاء شديد، أعقبه التمكين والاصطفاء والنبوة. فالعبد يُبتلى ويُختبر على قدر إيمانه وصبره، ويكون أجره على قدر ذلك. فإذا أصاب المؤمن بلاء وضيق وشدة فليصبر وليحتسب وله من الله فضل عظيم.

الدرس الثاني : مكانة التسبيح وذكر الله :

للتسبيح وذكر الله مرتبة عظيمة في دين الله، ففيه الذكر وفيه الدعاء، وله من المنافع العظيمة في الدنيا والآخرة الشيء الكثير، كما قال عز وجل( وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ)[15]وقال سبحانه وتعالى(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)[16]، و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ)[17] وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ(مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ)[18]وعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ(أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ، كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟) فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: (يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ)[19].

وبالتسبيح فرَّج الله هم يونس عليه السلام ونفس كربه، ونجاه من ظلمات ثلاث(فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[20]، فالمسلم يحرص كل الحرص على ذكر الله في عمومه ، ويحرص على التسبيح خاصة ويكثر منه، فهو زاده ونجاته في الدنيا والآخرة.

الدرس الثالث : فوائد نبات اليَقْطين( القرع أو الدُّبَاء) :

أن ورقه في غاية النعومة ، وكثير وظليل ، ولا يقربه ذباب ، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره ، نيئا ومطبوخا ، وبقشره وببزره أيضا ، وفيه نفع كثير ، وتقوية للدماغ ، وتقوية النظر والمناعة، ويعزز صحة المخ، ويقضي على حصوات الكلى، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة، فسبحان من خلق وأنبت لعباده ما يصلح لغذائهم وصحتهم ومعاشهم.

الدرس الرابع : هل أُلْقي يونس عليه السلام وحده في البحر؟ :

قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله(اقترعوا أيهم الذي يلقى، ومن المعلوم أننا إذا علمنا من يلقى علمنا من يبقى، ولهذا قال الله عز وجل(فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) ساهم أي (قارع أهل السفينة) (فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر)، وظاهر صنيع المؤلف رحمه الله أنه لم يلق أحد سوى يونس، ولكن الآية تدل على خلاف ما يدل عليه كلام المؤلف، لأن قوله(فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (من) هنا للتبعيض، أي: بعضًا منهم، وهذا يدل على أن القرعة أصابته وأصابت غيره أيضًا، فالمسألة الآن واضحة، الفلك كان مملوءا، والفلك لا بد أن يغرق إلا أن يلقى بعض ركابه، إلقاء بعض الركاب أولى من هلاك الجميع، لا سبيل إلى إلقاء البعض على التعيين، لأننا لو عينا أحدًا دون أحد كان في ذلك ظلم، وامتنع من عيَّناه، وصار في هذا خصومة وربما غرقت السفينة في أثناء هذه الخصومة. إذن فما هو الطريق إلى تعيين من يلقى؟ هو القرعة.

فاقترعوا فأصابت القرعة قومًا ونجا منها قوم، وكان يونس من جملة الذين أصابتهم القرعة (فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) فألقي في البحر)[21].

الدرس الخامس : ويبقى يونس نبي الله :

يونس عليه السلام هو نبي الله ورسوله إلى قوم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وما حصل منه من الغضب لعدم استجابة قومه له، وعتاب الله له ،وما حصل له من الابتلاء والغم والهم، لا يدعوا إلى تنقصه والازدراء به، فمهما حصل يبقى يونس عليه السلام نبي الله ومصطفاه ورسوله، وله رفعته ومكانته وكرامته، فالأنبياء أشد البشرية ابتلاءً ومعاناتاً في الدعوة إلى الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم(لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)[22]، وقال صلى الله عليه وسلم(ولا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن متى)[23] ، وقال عليه الصلاة والسلام (من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)[24].

قال العلماء( هذه الأحاديث تحتمل وجهين: أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أنه أفضل من يونس، فلما علم ذلك قال: أنا سيد ولد آدم، ولم يقل هنا: إن يونس أفضل منه، أو من غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا زجراً عن أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئًا من حطِّ مرتبة يونس صلى الله عليه وسلم من أجل ما في القرآن العزيز من قصته، قال العلماء: وما جرى ليونس صلى الله عليه وسلم لم يحطه من النبوة مثقال ذرة)[25].

الدرس السادس : الصبر سبيل الرفعة والسُمُو :

إن الصبر في الدعوة إلى الله جل وعلا مطلوب، وأنه من أسباب الوصول إلى مرضاة الله، فقد يضيقُ صدر الداعية بتصرفات الناس ولا يحتمل صدودهم ، ولكنَّ الصبر والكظم أليق به وبدعوته، لأن ذلك من آداب الدعوة، ووصول الأثر الحسن إلى قلوب المدعوين ، وترك الصبر قد يكون سببًا للبلاء، وأن ابتلاء الله لعبده المؤمن وعتابه له لا يدعو إلى نقصه، وإنما هو تأديب من الله ليرقِّيَ عبده المؤمن إلى المراتب العالية، فإن البلاء قد يرد العبد إلى ربه، بل ربما رده إلى أفضل مما كان عليه، كما قال تعالى( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا )[26].

الدرس السابع : العبادة في مكان فريد :

اختص الله يونس عليه السلام بخصائص كثيرة ومن ذلك أن الله تعالى اختص يونس بخصيصة تضاف إلى فضائله وهي أنه عَبَدَ الله تعالى في مكان لم يعبده فيه أحد من البشر، ودعاه واستغاث به في مكان لم يبلغه أحد قبله.

الدرس الثامن : الابتهال سبيل النجاة .

من أسباب النجاة وكشف الضراء، المسارعة إلى الدعاء والتضرع إلى الله وقت الكرب والبلاء، فالتوسل إليه جل وعلا والالحاح بين يديه له فضل عظيم، والاعتراف بالذنوب والخطايا بين يديه ، له دور كبير في إجابة الدعاء، وكشف الضراء.

الدرس التاسع : معدن نفيس :

الإخلاص معدن نفيس قل من الناس اليوم من يتلبس به في أقواله وأفعاله، ولقد زخر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بالأدلة الداعية إلى هذا المعدن النفيس، واليوم زاحمه الرياء والسمعة والشهرة وطلب الدنيا وحطامها فَغَيَّبه عن حياة الكثيرين من الناس ، ولا خير ولا بركة ولا طائل من قول أو فعل لا يشوبه الإخلاص لله تعالى.

 ولقد رأينا من حال قومِ يونس عليه السّلام، إذ لما اقترب بهم عذاب الله تعالى هُرعوا للتوبة والإيمان والاستغفار، فرأى الله منهم صدق التوبة والإخلاص فيها، فصرف عنهم عذابه وعقابه، وآمنهم في منازلهم وأنفسهم وتمنّوا جميعهم إذ كانوا مائة ألف أو يزيدون، فقال تعالى (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) ، وكذلك حال يونس عليه السلام عندما نجّاه الله تعالى من الحوت، حيث قال الله عنه، وقد خرجت دعوته من قلب خالص لله تعالى (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).

وكذا المسلم يتأسى بالأنبياء والصالحين من العباد فيكون دائما أوابا توابا مخلصا لله تعالى في أقواله وأفعاله، ويعلم يقينا أنه لا يُفلح بين يدي الله تعالى إلا المخلصين، فعن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ(إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)[27]، وعن أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)[28]، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ اعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ(ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ العَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ)[29].

الدرس العاشر : فعل الطاعات وقت الشدائد :

وقت الكرب والشدائد يكون العبد أقرب ما يكون إلى خالقه جل وعلا ، فيتوسل إليه بالطاعات والقربات رجاء كشف الضر ورفع البلاء، وهذا الذي تحقق في حال يونس عليه السّلام بعد ما التقمه الحوت في جوف البحر، فالتجأ إلى الله تعالى بالدعاء والاستغفار، والاعتراف بالذنب والخطيئة، وكلها من الطاعات والقربات، فنجاه الله تعالى من كربه وأعاده إلى قومه سالما معافى مسرورا بما رأى من هداية الله لقومه (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ* فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ* وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[30].

الدرس الحادي عشر : حفظ الله لعباده الصالحين :

في قصة يونس عليه السلام بيان لحفظ الله تعالى لعباده الصالحين، حتى وإن ابتلاهم ليقربهم إلى محبته وفضله، فإنه مع جريان الابتلاء عليهم، يشملهم بحفظه وعنايته، كما في حديث ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما(يَا غُلاَمُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ)[31]، وقال عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[32]، وقال تعالى(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)[33]، قال الإمام السعدي رحمه الله(هذا إخبارٌ ووعدٌ وبشارةٌ من الله للذين آمنوا، أن الله يدافع عنهم كلَّ مكروه، ويدفع عنهم كلَّ شر -بسبب إيمانهم- من شر الكفار، وشر وسوسة الشيطان، وشرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، ويحمل عنهم عند نزول المكاره، ما لا يتحملون، فيخفف عنهم غايةَ التخفيف. كل مؤمن له من هذه المدافَعَة والفضيلة بحسب إيمانه، فمستقلّ ومستكثِر)[34]، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على حفظ الله لأوليائه الصالحين.

الدرس الثاني عشر : بيان سعة علم الله تعالى بكل شيء :

وفي هذا ما يبيّن قدرة الله عز وجل في علمه وسعته في كل شيء، فهو العالم بتسبيح يونس عليه السلام وتوبته في جوف بطن الحوت في ظلمات البحر، فأنقذه حتى نبذه في العراء وهو مريض، فأطعمه وكساه وكفاه ما أهمّه.

الدرس الثالث عشر : العَجَــــــــــــــــــــــلَة :

لا تُحْمَد العجلة في عمومها إلا في حدود ضيقة وضرورية، كإنقاذ غريق، أو إجابة ملهوف ،أو بر والدين ، أو المسارعة إلى طاعة أو ما شابه ذلك، وما عدا ذلك فمذموم. وقد وصف الله الانسان بأنه عجول، وهذا من طبعه وجبلته، ولكنه يطالب بوزن ذلك بميزان الشرع، لا بميزان الهوى، كما قال عز وجل  (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ)[35] فقوله تعالى(خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ)، أي: أن الإنسان خُلِقَ عجولاً، وهي صفة مبالغة للعجلة التي فيه، كما يقال للرجل الذكي هو نار تشتعل، فالإنسان من شأنه العجلة ومطبوع عليها فكأنه خُلق من العجلة ، قال ابن كثير رحمه الله(والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ، فقال الله تعالى : ( خلق الإنسان من عجل ) لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، يؤجل ثم يعجل ، وينظر ثم لا يؤخر، ولهذا قال( سأوريكم آياتي ) أي : نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني ، ( فلا تستعجلون )[36].

والعجلة تكون في كثير من مَنَاحي الحياة، عجلة في القرارات، وعجلة في التصرفات، وعجلة في الفتاوى، وعجلة في الاندفاع غير المنضبط بضابط الشرع، وعجلة في تصديق الأخبار والنقولات، والعجلة في الحكم على العباد من جراء سماع كلام لا

أساس له من الصحة، وغير ذلك كثير مما يدور في حياة الناس اليوم، وخصوصا بوجود وسائل التواصل الاجتماعي التي فتنت بين الناس وأوقعتهم في البلايا والشرور.

فمن صور الاستعجال، استعجال إجابة الدعاء: فكثير من الناس يدعون الله تعالى فإذا لم يجب الله دعائهم في الحال تركوا الدعاء قانطين من الإجابة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر حيث روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ) قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: (يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ)[37] ، فاليكن المسلم على حذر أن يقول: دعوت ودعوت فلم يستجب لي، فيمل الدعاء ويركن إلى اليأسِ والقنوط.

ومن صور الاستعجال، الحكم على فلان ومقاطعته، والإعراض

عنه وتشويه سمعته لمجرد سماع خبر منقول ومغلوط وعارٍ من الصحة من إنسان حاقد وفي قلبه مرض وفتنة، وقد حذر الله عباده من مغبة ذلك فقال عز وجل( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[38] ، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله(وهذا أيضًا، من الآداب التي على أولي الألباب، التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال، بغير حق، بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق، التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه، كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل، على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب، مردود)[39].

ولقد تحققت العجلة في قصة يونس عليه السلام عندما كذبه قومه فلم يصبر عليهم وعلى دعوتهم فاستعجل وتركهم وذهب مغاضبا حتى حصل لهما حصل من الابتلاء والهم والغم، ثم لما علم الله صدق نيته وندمه، نجاه واجتباه واصطفاه، وأرسله إليهم مرة أخرى وقد هداهم الله إلى الإيمان والتقى كما قال عز وجل(وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ)[40].

فعلى المسلم أن يتحلى دائماً بالأناة والتؤدة والتروي في جميع أموره، وأن ينظر في العواقب المتوقعة من جراء العجلة، وألا يُعَرِّض نفسه للمهالك والندم، فقد امتدح الرسول صلى الله عليه وسلم أشج عبد القيس فقال له ( إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة)[41] .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

[1] سورة الأعراف 70.

[2] سورة الأحقاف 24.

[3] سورة يونس 98.

[4] سورة الصافات 139-142.

[5] البداية والنهاية 2/16- 19.

[6] سورة الأنبياء 87.

[7] نينوى: تقع في الجزء الشمالي من العراق ومركزها الموصل.

 

[8] تفسير ابن كثير ص 451.

[9] تفسير ابن كثير ص 451.

[10] رواه البخاري.

[11] صحيح السيرة النبوية ص100.

[12] سورة القلم 48-50.

[13] تفسير الطبري ص 566

[14] رواه الترمذي وصححه الألباني.

[15] سورة آل عمران 41.

[16] سورة الحجر 98.

[17] رواه البخاري ومسلم.

[18] رواه البخاري ومسلم.

[19] رواه مسلم.

[20] سورة الصافات 143-144.

[21] تفسير ابن عثيمين ص 298.

[22] متفق عليه.

[23] متفق عليه.

[24] رواه البخاري.

[25] شرح النووي على مسلم 15/132.

[26] سورة النساء 19.

[27] متفق عليه.

[28] رواه مسلم.

[29] رواه الترمذي.

[30] سورة الصافات 139-148.

[31] رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.

[32] سورة الأحقاف 13.

[33] سورة الحج 38.

[34] تفسير السعدي ص 539.

[35] سورة الأنبياء 37.

[36] تفسير ابن كثير ص 325.

[37] رواه مسلم.

[38] سورة الحجرات 6.

[39] تفسير السعدي ص 516.

[40] سورة الصافات 147-148.

[41] رواه مسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *