مفاسد الأخوة الإيمانية

 الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:

عباد الله: الإخوة في الله نعمة من الله، يقذفها في قلوب المؤمنين من عباده ،والأصفياء من أوليائه، والأتقياء الأخفياء من خلقه يؤلف بها بين قلوبهم ،ويجمع عليها نفوسهم كما قال عز وجل ﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ أخوة إيمانية تعلو أخوة النسب ، ينتفى معها حطام الدنيا وزينتها كما قال عزو وجل ﱡﭐ ﲫ ﲬ ﲭ ﱠ  وقال سبحانه ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ جزاء أصحابها ظل ظليل وهواء عليل تحت عرش الرحمن عز وجل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم( إن الله يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي ) رواه مسلم وعن معاذ ابن جبل رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء) رواه الترمذي بسند صحيح. وإذا كانت الأخوة الإيمانية بهذا المقام العظيم والمرتبة الشريفة ، فإن شياطين الإنس والجن لا يهدأ لهم بال ولا يقر لهم قرار حتى يتجاسروا عليها ويفسدوها ويؤلبوا قلوب أهلها بعضهم على بعض ويفسدوا روابط الأخوة ويقطعوا أوصالها ، ويجعلوا المجتمع الذي كان متآلفا متعاونا في فرقة وشتات حسدا من عند أنفسهم ، ولذلك كان لزاما تسليط الضوء على بعض من أهم مفسدات الأخوة لا كلها ، ليكون المسلم على حذر منها حفاظا على روابط الأخوة وأزمة المحبة. ومن هذه المفسدات:

– الطمع بما في أيدي الغير والتعلق بالدنيا:إن من شر الآفات التي تثمر عن التعلق بالدنيا والطمع بما في أيدي الغير هو الحسد ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله”والحسد مرض من أمراض النفس وهو مرض غالب، فلا يخلص منه إلا القليل من الناس، ولهذا يقال:ماخلا جسد من حسد لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه”. أو كما قال رحمه الله. وعلة هذا الداء ترجع إلى الإفراط في الأنانية وحب الذات ، مع ضعف في الإيمان ،و قد نهى نبينا صلى الله عليه وسلم عن الحسد فقال: ( ولا تحاسدوا ولا تباغضوا, ولا تجسسوا, ولا تحسسوا, ولا تناجشوا, وكونوا عباد الله إخوانا)رواه البخاري  ومسلم ، فالحسد يقطع روابط القرابات ، وأوصال الأخوات ، ويولد بين الناس العداوات ، ويباعد بين أفراد المجتمع ، ولهذا كان الدواء لهذا الداء العضال كما قاله شيخ الإسلام رحمه الله” من وجد في نفسه حسداً لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر فيكره ذلك من نفسه” .

ومن مفسداتها: الغيبة والنميمة والهمز واللمز والسخرية:وقد نهى الباري جل جلاله أهل الإيمان من أن يغتب بعضهم بعضا،فقال عز وجل(وَلَا تَجَسَسوا ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) قال الإمام الطبري رحمه الله “أيحب أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ميتا، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه لأن الله حرم ذلك عليكم، فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته، فاكرهوا غيبته حيًا كما كرهتم لحمه ميتًا، فإن الله حرم غيبته حيًا كما حرم أكل لحمه ميتًا “

وقال الشيخ عبدالرحمن السعديرحمه الله” فكما أنكم تكرهون أكل لحمه ، وخصوصا إذا كان ميتا ، فاقد الروح ، فكذلك ، فلتكرهوا غيبته وأكل لحمه حيا”.

والغيبة هي أن يذكر الإنسان أخاه في غير حضرته بما يكره ،كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:”أتدرون ما الغيبة”؟ قالوا: الله ورسوله أعلم،قال:”ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ “.قيل:أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟قال” إن كان فيه ما تَقُولُ فقد اغتبته،وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّهُ”.رواه مسلم ، فالغيبة تقطع أواصر الأخوة الإيمانية ، لأنها غالبا لا تبقى سرا ، فقل من الناس من يكتم حديثا، بل يصل العلم إلى من اغتيب ، وحينئذ يجد الشيطان مجاله لإفساد العلاقة والأخوة.

وأما ما يتعلق بالهمز و اللمز ، فمعناهما أن يعيب المسلم أخيه المسلم في غيبته أو حضرته بكلام جارح يطعن في النفس ، ويحرك كوامن القلب والله جل وعلا قد نهى عن ذلك يقول تعالى:(ولا تلمزوا أنفسكم) فالقرآن الكريم يعبر عن لمز الأخ لأخيه بلمز نفسه وكأنهم جسدا واحدا  قال ابن عباس ، ومجاهد ، ، وقتادة ، وغيرهم ( ولا تلمزوا أنفسكم ) أي : لا يطعن بعضكم على بعض . وقد توعد الله جل وعلا الهامز اللامز لإخوانه بالويل والثبور ( وَيْلٌ لِكُلِّ همزة لمزة ) الهمزة واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار وقيحهم,( ويل لكل همزة لمزة ) : يقول: لكل مغتاب للناس, يغتابهم ويبغضهم, كما قال زياد الأعجم:

تُــدلِي بــوُدِّي إذا لاقَيْتَنِـي كَذِبـا..وَإنْ أُغَيَّــبْ فـأنتَ الهـامِزُ اللُّمَـزَهْ

قال ابن عباس رضي الله عنهما “الذين بدأهم الله بالويل ؟ قال: هم المشاءون بالنميمة, المفرقون بين الأحبة, الباغون أكبر العيب.”

وكذلك السخرية فإن السخرية إيذاء وعدوان على كرامة المسلم وتنقص له ،وقد نهى الله تعالى عن ذلك بقوله (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ) قال الإمام الطبري رحمه الله (والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية, فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره, ولا لذنب ركبه, ولا لغير ذلك). وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله “وهذا أيضا من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، أن( لا يسخر قوم من قوم ) بكل كلام ، وقول ، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم ، فإن ذلك حرام ، لا يجوز ، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه . وعسى أن يكون المسخور به خيرا من الساخر ، وهو الغالب والواقع ، فإن السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق ، متحل بكل خلق ذميم ، متخل من كل خلق كريم”.

عباد الله : ومن مفسدات الأخوة في الله الغضب:وهو شعلة محرقة من النار تعمي صاحبها وتصمه فلا تنفع فيه الذكرى ولا ترده موعظة ،والغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم فتحمر منها عيناه ووجهه وتنتفخ منها أوداجه فيخرج بها عن نطاق السيطرة على نفسه وأركانه فيرتكب ما لا تحمد عقباه، يقول الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله  ” متى قويت نار الغضب والتهبت ، أعمت صاحبها ، وأصمته من كل موعظة ، لأن الغضب يرتفع للدماغ ، فيغطي على معادن الفكر ، وربما تعدى إلى معادن الحس ، فتظلم عينيه حتى لا يرى بعينيه “. وقد حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من هذا الخلق الذميم ، فكرر الوصية للرجل الذي طلب منه أن يوصيه فقال له  ” لا تغضب ” .رواه البخاري ،قال الحافظ ابن حجر رحمه الله ” جمع صلى الله عليه وسلم في قوله لا تغضب خير الدنيا والآخرة لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين”.

فالغضب شعلة من النار ، يحرق حبال الأخوة الإيمانية ويفسدها ، فيحدث من الفرقة والقطيعة الشيء الكثير.

ومن مفسدات الأخوة الإيمانية سوء الظن الذي ينافي الحقائق وينخر جدار الأخوة والمحبة، فإياك وسوء الظن الذي لم يُبْن على أصل وتحقيق نظر، كما قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ وقال عز وجل﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ وفي الصحيحين: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث”، فأحسن الظن يا عبد الله بأخيك المسلم ولا تبني قناعاتك إلا على حقائق ظاهرة وتثبت بين، ولا تسيء الظن بناء على أخبار كاذبة ونقولات واهنة.

ألا وإن المعاصي والذنوب شر ووبال على الفرد والمجتمع ، ولها أثر عظيم ، في إفساد الأخوة الإيمانية ، فمقارفة الذنوب سبب في فساد القلوب ، وتغير الأحوال ، وقساوة القلوب والنفوس ، وتحدث وحشة ونفرة بين الأخوة والأحبة ، مما يقطع الصلات، ويباعد بين الأبدان والقلوب ، فعن أنس رضي الله عنه يرفعه: (ما توادّ اثنان في الله عز وجل أو في الإسلام، فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما) رواه البخاري ، ألا فليتق الله كل مسلم ، ويتجافى عن الذنوب والمعاصي ، وليكن مفتاح كل خير ، مغلاق كل شر ، وليرع حقوق إخوانه ، ويحافظ على حبال الوصل ، وروابط الأخوة والإيمان ، ألا وإن النصح والتناصح بين المسلمين عامة ، وبين المتحابين في الله ، والمتآخين فيه ، أمر قرره الشرع ، وندب إليه ، فعن تميم بن أوس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه البخاري ومسلم . وإذا كانت النصيحة بين عموم المسلمين مطلوبة، فهي بين الأحبة من باب أولى.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

                        

                                            الخطبة الثانية

عباد الله:

ومن مفسدات الأخوة والمحبة في الله ، كثر ة المزاح والجدل المفضيان إلى فساد القلوب واحتقان الصدور والبغضاء والإحن، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم قليل المزاح ولا يقول إلا حقا ، كذلك الجدل العقيم الذي لا يفضي إلى فضل علم أو خير مفيد ، وإذا كان الله قد نهى عباده المؤمنين عن جدال الكفار إلا باللتي هي أحسن، فكيف والحال بين المؤمنين بعضهم من بعض لا شك أنه من باب أولى، كما قال سبحانه( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) فاتقوا الله معاشر المسلمين والتزموا بآداب الإسلام وابتعدوا عن مفسدات الأخوة وخوارم المروءة، وكونوا عباد الله إخوانا، ثم اعلموا أنكم في خير الأيام فأكثروا من الصلاة على صفوة الأنام (إن الله وملائكته يصلون…)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *