عن أبي نجيحٍ العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودعٍ، فأوصنا، قال: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبدٌ؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
العرباض بن سارية السلمي، يكنى أبا نجيح، روى عنه ابنته أم حبيبة، وعبدالرحمن بن عمرو السلمي، وجبير بن نفير، قال الذهبي: قال عتبة بن عبد: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم سبعة من بني سليم، أكبرنا العرباض بن سارية، فبايعناه وهو من أهل الصفة سكن الشام ومات بها سنة 75ه وقيل مات في فتنة عبدالله ابن الزبير.
هذا الحديث حديث جليل، يحتوي على علوم فيها الحث على التقوى، والسمع والطاعة في غير معصية، والإخبار عن اختلاف الناس في المستقبل، فيلزم من ذلك التمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين، وترك البدع المضلة.وقد اشتمل على وصية أوصاها الرسول صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه وللمسلمين عامة من بعده، وجمع فيها التقوى لله عز وجل، والسمع والطاعة لأئمة المسلمين، وفي هذا تحصيل سعادة الدنيا والآخرة، كما أوصى الأمة بما يكفل لها النجاة والهدى إذا اعتصمت بالسنة، ولزمت الجادة، وتباعدت عن الضلالات والبدع.قال ابن العطار رحمه الله: هذا الحديث معجزةٌ وعَلَمٌ من أعلام النبوة.
(وعظنا) الوعظ من أنفع الطب للقلوب ،واء كان وعظ ترغيب أم ترهيب ،بل هو من أعظم الوسائل الدعوية التي ترد المسلم إلى دينه وتبقيه في محيطه، وإذا غاب الوعظ والنصح في أمة أو مجتمع ،تفلت أبناءه من عرى الدين، ووقع في البلايا والنقم، فالوعظ في مجمله يرد القلوب الشاردة والنفوس الجامحة.
(موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) أي خافت وارتعدت منها القلوب،كما قال عز وجل(الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)، وإذا وجلت القلوب فعلى إثرها تذرف العيون الدمع خوفا من الله سبحانه ، كيف لا والواعظ محمد عليه الصلاة والسلام الذي حباه الله بقوة التأثير في القلوب والنفوس ، وفوق هذا قوة الإيمان التي يتمتع بها صحابة النبي صلى الله عليه وهم عباد بالليل وسيوف بالنهار كما قال الشار:
عباد ليل إذا جنَّ الظلام بهم … كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأُسْدُ غابٍ إذا نادى الجهاد بهم … هبوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً … يشيدون لنا مجداً أضعناه
(فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودعٍ، فأوصنا، قال: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل) وذلك من شدة تأثيرها في القلوب وفي مووعها وفي هيئة الواعظ، ومن هذا نأخذ قاعدة جليلة وهي أن الموعظة المؤثرة لا بد لها من ثلاثة أمور:
الأول: حال الواعظ ،أن يكون في حالة تفاعل وحماس مع ما يعظ به .
الثاني: موضوع الموعظة، أن يلامس الواقع والنفوس، وأن يكون في حالة من الإختصار وعدم التطويل.
الثالث: حال المتلقي للموعظة، أن يكون في حال من حب طلب العلم والإخبات واستيعاب ما تتضمنه الموعظة.
ولذلك أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم وصية مرت على مر التاريخ ،وصية خالدة ما خلدة السموات والأرض، وهي تقوى الله عز وجل، كما قال عز وجل(ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) ولأنها تضمنت الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل، فحق لها أن تكون في مطلع الوصايا والوعظ.
(والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبدٌ) أي لولاة الأمر، والسمع والطاعة لهم تقتضي أمور منها :
1- الاستماع لهم إذا تكلموا.
2- الطاعة لهم إذا أمروا في غير معصية الله، أما إذا أمروا بمعصية الله فلا طاعة لهم، والطاعة لكل ذي سلطان وإن نزل كمدير ورئيس ونحوه.
وأحق الناس بالطاعة الوالدين في غير معصية الله، ولذلك يقول ربنا جل وعلا(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) النساء 59.
(وإن تأمر عليكم عبدٌ) أي عبد مملوك فلا بد من السمع والطاعة التي فيها اجتماع الكلمة ووحدة الصف.
(فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا) أي يطول به العمر فسيرى الاختلاف في العقيدة والدين والتفلت من عرى الدين ،والإحداث في الدين ما ليس منه ،والتبدل والتغير في أحوال الناس ،وهذا موجود في أزمنتنا هذه بشكل مكثف والله المستعان، وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم قد وجدوا الاختلاف والفتن في عهدهم ،فما بالنا نحن في هذه الأزمنة الحبلى بالفتن والقلاقل والفساد وانطماس العقيدة.
(فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ) إرشاد وتوجيه منه صلى الله عليه وسلم فيما يفعله المسلم حيال هذه المتغيرات بالتمسك بالسنة ودي الخلفاء الراشدين، والبعد عن البدع والضلالات ومحدثات الأمور ،فإنها ضلال وتيه وزيغ عن الحق.